خطب ومحاضرات
مقدمات في العلوم الشرعية [23]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فقد تكلمنا على تعريف علم التاريخ الإسلامي وموضوعه، وسنتكلم عن مستمد هذا العلم، فهو مستمد من القصص التي تحصل من المشابهة والرواية، ومن الشعر والأخبار المروية.
أما فضله: فهو بحسب فائدته، ولا شك أنك إذا راجعت الذين اشتهروا بهذا العلم وجدتهم أعلاماً من أعلام الأمة مما يدلك على فضله، فلم يشتغل به إلا الأعلام المشاهير.
وكذلك فائدته: فإن من فوائده: التمييز بين الصحيح والضعيف، وبين الشريف وغيره، ولذلك فإن الخطيب البغدادي رحمه الله قد اكتشف تزوير اليهود الكتاب الذي زوروه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن فيه أنه أسقط عليهم الجزية، وأخرجوه في أيام أحد خلفاء بني العباس، فلما عرضوه على الخليفة لم يدرِ ما يصنع، فجمع العلماء فنظروا فيه فتحيروا، وهو كتاب كتب في جلد بخط قديم كخطوط الصحابة، وكتب أنه بخط علي بن أبي طالب، وعليه ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه شهادة عدد من الصحابة، حتى عرض الكتاب على الخطيب فبصق عليه، وأخبر أنه مزور، فتساءل الخليفة: من أين أخذتها؟ فقال: كتب فيه أن من شهوده سعد بن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان ولم يجتمعا في الإسلام، فإن سعداً جرح يوم الأحزاب، ومات بعد حكمه في بني قريظة في العام الخامس من الهجرة، ومعاوية ما أسلم إلا عام الفتح في العام الثامن من الهجرة، فكيف يجتمعان على كتاب واحد، فبهت الذي كفر.
وكذلك في ما يتعلق بتوثيق الرجال والطعن فيهم، ولهذا فإن الحاكم أبا عبد الله النيسابوري المعروف بـ ابن البيع حين سمع رجلاً يحدث عن هشام بن عمار سأله: متى دخل مصر؟ فأخبره بالسنة التي دخل فيها، فقال: إن هذا الشيخ لقي هشاماً، وحدثه بعد موته بإحدى عشرة سنة، فيعرف بهذا أهمية التاريخ.
وكذلك فإنه من المسليات التي تذهب الحزن عن الإنسان، فعندما يذكر قصص الماضين وما لقوا من الأذى، فما حصل في أيامهم من الفتن، يحمد الله على حاله، ولا يزدري نعمة الله عليه، وفيها: تسلية عما يصيبه هو.
وكذلك في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ففيها تثبيت للناس على طريق الحق، وقد روي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: قصص الصالحين جند من جنود الله، يثبت الله بها قلوب عباده، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[هود:120].
وكذلك فإنها مما يرفع معنويات الشعوب، عندما تتذكر أمجادها، وما حصل من تاريخها في الماضي، ولهذا فإن حضارة الفرس كادت تعود بعد هزيمتهم بسبب الشعوبية، حتى في المسلمين، ومن ذلك آل برمك ومن خلفاء بني العباس والمقربين إليهم، ومن المسلمين الذين لا يشك في دينهم، ولكنهم أصبحوا ذوي ميل إلى بني جنسهم إلى حضارة الفرس، واعتنوا بإحيائها، حتى بتجديد بعض الرسوم التي كانت للفرس، مثل رسوم مدينة إنطاكية التي كانت على سورها، فقد كان الناس يأتونها من بعيد، وكذلك رسوم الأقدمين التي كانت في مدائن كسرى وإيوان، وقد وصف البحتري الرسوم التي كانت على سور إنطاكية وقال:
صنت نفسي عما يدنس نفسي وترفعت عن ندى كل جبس
وتماسكت حين زعزعني الدهر التماساً منه لتعسي نكسي
إلى أن يقول:
وإذا ما رأيت صورة إنطا كية ارتعت بين روم وفرس
والمنايا حواضر وأنو شر وأن يزجي الصفوف تحت الدرفس
يصف المعركة كأنه حضرها، وهو مجرد رأى لوحات تثبت صورة حرب الروم مع فارس.
حتى إن الذين يسمون بالشعوبيين كان منهم طبعاً من هو من أهل الإلحاد، كالزنادقة الذين قتلهم المهدي العباسي، فقد تغلغلت الشعوبية لهم فأصبحت ميزة لهم، ومن هؤلاء الشاعر بشار بن برد الأعمى، الذين كان يقول:
هل من رسول مبلغ عني جميع العرب
من هو حي منهم ومن زوى في الترب
أبي الذي أسموا به كسرى وساسان وأبي
وقيصر خالي إذا عددت يوما نسبي
إلى أن يقول:
ولا حدا قط أبي خلف بعير جرب
يفخر على العرب.
وكذلك فإن من فوائد التاريخ: الشهادة على الناس، فإن هذه الأمة شهود الله في خلقه، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في أرضه، فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار)، والناس شهود، ولهذا إذا مات الإنسان تجدد عمره بما يحفظ عنه.
كما قال ابن دريد رحمه الله:
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى
فالتاريخ يشهد على الناس بما عملوه.
ثم بعد هذا: حكمه، وحكم تعلم هذا العلم أنه من فروض الكفايات، إلا في حق المتخصصين في الحديث ونحوه من العلوم التي تحوج إلى هذا، فيتعين في حقهم، وكذلك من يتصدى للإفتاء؛ لأنه لا بد أن يعرف الذين يفتي بأقوالهم وآرائهم، فيعرف تراجمهم حتى يأنس إلى أقوالهم واستقامة حالهم.
أما اسم هذا العلم الجامع له: فهو علم التاريخ الإسلامي، ويسمى أيضاً بعلم الأنساب، ويسمى أيضاً بعلم السير.
أما مسائله: فهي تنقسم إلى المبادئ، وهي أخبار بدايات خلق الكون، وأحاديث الأنبياء، ثم بعد ذلك قصص الدول السابقة عن الإسلام الذين عمروا الأرض أكثر مما عمرها المسلمون، ثم بعد هذا أخبار الجزيرة العربية بالخصوص، من لدن بناء إبراهيم عليه السلام البيت الحرام، ومن تداول البيت الحرام من الأمم والشعوب.
وكذلك أنساب العرب داخل الجزيرة والحروب التي قامت بينهم، سواء الحروب التي قامت فيما بينهم، وهي التي تسمى بأيام العرب، أو الحروب التي قامت بينهم وبين غيرهم، وهذه أشهرها في الجاهلية حرب اليمن التي قامت بين العرب وبين الأحباش، وهذه الحرب استعان بها العرب بالفرس، وكان سيف بن ذي يزن قائدها قد استعان بالفرس، فأتوى بأولاد كسرى، الذين اشتهروا بالأبناء، واستقروا باليمن، وكان لهم ملكها فيما بعد، ولذلك وفد الناس إلى سيف بن ذي يزن، يهنئونه، ومن الوافدين عليه عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وأمية بن أبي الصلت، وفيه يقول أمية:
اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً في رأس غمدان داراً منك محلالا
واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وحرب ذي قار، وهي بين بني بكر بن وائل والفرس، ويروى فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نصر اليوم بنو شيبان على كسرى وبي نصروا)، فقد نصر بنو شيبان على كسرى، وإنما نصروا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فرد الله الفرس عن الوصول إلى جزيرة العرب بعد ذلك تمهيداً لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد اشتهر تغلب بني بكر بن وائل على كسرى، وفراره منهم، حتى إن أحد الشعراء يقول، وقد كان بنو تميم من قبل يفخرون بأنهم بقوس حاجب.
وقد كان العرب أقحطت بلادهم فاحتاجوا إلى اليرعاء في العراق، فكان حاجب جد الفرزدق سيد بني تميم، فدخل على كسرى يستأذنه في رعايا العرب في أرضه، فسأله أن يعطيه رهناً، فأخرج له قوسه وهي قوس قبيلة بالية، فدخل العرب العراق بسبب تلك القوس، وكان بنو تميم يفخرون بها كما قال الشاعر:
تزهو علينا بقوس حاجبها زهو تميم بقوس حاجبها
حاجب كالقوس، كذلك تميم تزهو بقوس حاجبها، فقال أحد الشعراء:
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
ولذلك فقد كان لبني شيبان ذكر عظيم في الجاهلية والإسلام بسبب هذا، وفيه يقول مروان بن أبي حفصة في فتحه لـمعن بن زائدة وهو منهم:
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم أسود لهم في بطن خفان أشبل
هم يمنعون الجار حتى كأنما لجارهم بين السماكين منزل
بها ميم في الإسلام سادوا ولم يكن كأولهم في الجاهلية أول
هم القوم إن قالوا أصابوا وان دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
وما يستطيع الفاعلون فعالهم وإن أكثروا في النائبات وأجملوا
ثلاث بأمثال الجبال حباهم وأحلامهم منها لدى الوزن أثقل
تشابه يوماه علينا فأشكلا فلا نحن ندري أي يوميه أفضل
أيوم نداه الغمر أم يوم بأسه فما منهما إلا أغر محجل
وقد أعطاه معن بن زائدة مائة ألف، فدخل على الخليفة المنصور، وكان المنصور موصوفاً بالبخل، فقال له: يا معن! أعطيت مروان بن أبي حفصة مائة ألف على أن قال:
معن بن زائدة الذي زادت به شرفاً على شرف بنو شيبان
فقال: لا، ولكن على قوله:
ما زالت يوم الهاشمية معلنا بالسيف دون خليفة الرحمن
فمنعت حوزته وكنت وقاءه من وقع كل مهند وسنان
فهو يمن على الخليفة أنه دافع عنه، وكان أمامه يقاتل عنه يوم الهاشمية، وهو اليوم الذي تغلب فيه بنو هاشم على بني أمية في حربهم، فعكس القبيل.
كذلك بالإرهاصات التي ظهرت قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه وإن كانت تدرس في السير إلا أنها تدرس في التاريخ أيضاً.
ثم ما كان من تاريخ العرب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وهذا الجانب بالخصوص هو الذي تخصصت فيه السير، ثم ما بعد ذلك من الدول الإسلامية سواء كانت دولاً عظمى كالخلافة الأموية والخلافة العباسية، أو كانت دولاً تابعة لها مثل الدويلات التابعة لبني أمية ولبني العباس في الأمصار، وكذلك فتوح البلدان، وما حصل فيها من العجائب.
أما طريقة تدريس هذا العلم: فإن على مدرسه أولاً أن يتجرد حتى لا يميل وراء هواه، فإن كثيراً من الناس يعدم عفة اللسان عندما يتكلم في الآخرين، فيجعل سيفه صارماً بتاراً في أعراض المسلمين الذين قد ماتوا، وقد قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا، فلا نلوث بذكرها ألسنتنا.
وكذلك عليه أن يقارن بين الروايات، وأن يرجع إلى المراجع المختلفة حتى يرى القصة على وجهها، وكذلك التركيز على ما ينفع، وهو العبر والدروس، وألا يهتم بمجرد السرد التاريخي الذي لا فائدة فيه، وكذلك الابتعاد عن التأويلات التي تنكرها العقول، وقد أكثر منها المؤرخون، فكثير منهم يكثر من المبالغات التي لا تصدق، ومثل هذا التأني فيما يتعلق بالجرح، عندما يسمع كلام بعض الأقران في بعض، فإن ذلك لا يؤخذ بالتسليم المطلق، وبالأخص إذا كان الطاعن دون المطعون فيه، وأدنى منه منزلة في العلم والتقوى.
وينبغي للذي يدرس هذا العلم أن يكون كذلك دارساً للعلوم الشرعية الأخرى كالأصول والتفسير والحديث، فإن ذلك مما يعينه على الاستفادة من هذا العلم والعناية به، ويمكن أن يقارن الأحداث التي شهدها وعاشها، مع الأحداث الماضية ليتبين له تكرار التجارب التاريخية. هذا أهم شيء في هذا العلم.
وبالنسبة لـمحمد بن جرير الطبري، وغيره من الأئمة الذين كتبوا القصص المروية عن هؤلاء المتروكين والضعفاء، فسبب ذلك أنهم لا يجدون كثيراً من الثقات يتكلمون في هذا الباب، وقد ذكرنا من قبل في السيرة: أن أهل السنة أخطأوا في هذا الباب، فإنهم انطلقوا من مبدئهم العقدي في عدم التحدث فيما شجر بين الصحابة وأن يعرضوا عنهم، فأدى بهم ذلك إلى الإعراض عن القصص التاريخية.
أما ما يتعلق بطريقة كتابة التاريخ، فلا شك أن فيها كثيراً من المؤثرات:
منها: أن المسلمين لم يكونوا يكتبون العلم في البداية؛ لئلا يختلط ذلك بالوحي، فإن بني إسرائيل عندما كتبوا تواريخهم كتبوها في كتبهم، فكان ذلك من أسباب النهي عن الكتابة: (لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه).
وكذلك ما يتعلق بنفسيات الملوك والقادة، فإن كثيراً منهم لا يمكن أن يرضى بكتابة بعض القبائح التي ارتكبها والأحداث العظيمة التي وقع فيها، وإنما كان الشعراء يسطرون بعض ذلك في الخفية، فيستعان بالأشعار على ذلك، والشعر يحوي بعض الأمور التي قد تكون ألغازاً، وتشير إلى ما وراءها، وقد لا يفهم ما وراءها أصلاً، ولذلك فإن عنبسة وهو أحد مشاهير النحويين في الصدر الأول، وهو من تلامذة عبد الله الحضرمي الذي هو من تلامذة أبي الأسود الدؤلي، هجاه أحد الشعراء فقال:
لقد كان في عبدان والفيل رابع لعنبسة المهدي إلي القوافي
فدخل هو على سليمان بن عبد الملك فسأله فقال: ما الفيل الذي يعيرك الناس به؟ قال: ما يعيرونني بالفيل، قال: بل، ألم يقل الشاعر:
لقد كان في عبدان والفيل رابع لعنبسة المهدي إلي القوافي
فقال: ما هكذا قال الشاعر، وإنما قال:
لقد كان في عبدان واللؤم رابع..
فقال:
إن أمراً تزر منه إلى اللؤم العوي
عرف أن الفيل له قصة، لكنها مجهولة، لا يدرى ما هي، كيف اختار عنها اللؤم.
وكذلك عندما حصل الخلاف بين ثعلب والمبرد، يقال: إن المبرد هجا نفسه على لسان ثعلب لهلك نسبه، فقال:
سألنا عن ثمالة كل حي فقال القائلون ومن ثمالة؟
فقلت: محمد بن يزيد منهم فقالوا: زدتنا بهم جهالة
وقال لي المبرد خل قومي فقومي معشر فيهم نذالة
كذلك فإن الذين تصدروا لكتابة التاريخ لا يخلون من التعصب لدولة من الدول، أو لمذهب من المذاهب، فيظهر ذلك جلياً في كتبهم.
ومن يقرأ كتب السيوطي في التاريخ سيجد التحامل الشديد على بني أمية؛ لأنه كان من المقربين من البلاط العباسي، فكان يكره الأمويين كراهة شديدة، فيجمع كل ما قيل فيهم حتى لو كان ضعيفاً عندهم، وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال: ثلاث لا أصل لها، وذكرها منها: الإجماع، والملاحم، والتفسير.
ولكن ليس معنى ذلك أنها لا وجود لها، فالإمام أحمد كتب في التفسير، وقالوا: إن تفسيره على قدر المسند أو أكبر.
ولا شك أن العناية بالملوك في الصدر الأول كانت أكبر من العناية بتراجم العلماء، للتأثير؛ لأن التاريخ إنما يقصد به التأثير في الساحة وفي الشعوب، وكثير من الملوك أبلغ، ومع هذا فقد نال بعض العلماء ما لم يناله الملوك من التراجم لكثرة تأثيرهم، وبالأخص المتبوعون الذين لهم مذاهب.
أما في العصر الحديث فلا جديد في مجال التاريخ بالنسبة للماضي، وإن كان بعض المعاصرين بدأ يكتب التاريخ الإسلامي الحديث كانتشار الإسلام عن طريق الدعوة، وبعض الغزوات التي ما لها ذكر في الدواوين القديمة، وتراجم المتأخرين كذلك، وقد جاء منهم من يذيل على كتب السابقين.
والأستاذ محمود شاكر له مذهب في التاريخ الإسلامي الجديد، ومحمد قطب كتب: كيف نكتب التاريخ، وكذلك من الذين يهتمون بهذا الجانب محمود ابن الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، فقد ذيل كتاب شذرات الذهب لـابن العماد، وحققه، وفي كل بلد من البلدان اشتهر المؤرخون لذلك البلد، فجمعوا أخبار ذلك البلد بالخصوص، فقد اشتهر بالمغرب عبد الهادي التافي، واشتهر في موريتانيا المختار بن حاتم، ويسميه الناس ابن خلدون الثاني، وقد ألف كتابه حياة موريتانيا، ثلاثة عشر مجلداً ضخماً، وبعض المجلدات فيها أكثر من عشرة آلاف ورقة.
وفي نجد بعض المؤرخين الذين كتبوا فقط عن تاريخ نجد، عن بعض القبائل التي كانت فيها، وكذلك في الحجاز كثير من الكتب في تاريخ الحجاز، وبالأخص تاريخ الحرمين الشريفين، وكذلك في اليمن، عدد كبير من المؤلفين في هذا الباب.
مذهب محمود شاكر في كتابة التاريخ الإسلامي
السؤال: ماذا عن مذهب الأستاذ محمود شاكر فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي وكتابته؟
الجواب: مذهبه مذهب عصري، يعني: يهتم فقط بتنسيق الأحداث والربط بين التاريخ والجغرافيا كذلك، والكلام عن البيئة والبحث الديمغرافي، وتطبيق ما يتعلق بنظريات السكان ونحو هذا، ويربطها بتسلسل الأحداث.
الدويلات التي لديها انحرافات عقدية
السؤال: ماذا عن الدويلات التي لديها انحرافات عقدية هل من كتب متخصصة في ذلك؟
الجواب: بالنسبة للدويلات التي لديها انحرافات عقدية، وبالأخص من دول الشيعة والخوارج، فما تخصصت فيها كتب مختصة، إلا أن بعض المؤرخين اختصوا في بعض الدويلات مثل الدولة العبيدية، وقد كان لها أثر بالغ، ومكثت فترة طويلة، ونشأت في المهدية في تونس، ثم انتقلت إلى مصر، وبنت القاهرة، وقد عانى منها أهل السنة ضرراً كبيراً، فكان حكامها يذبحون العلماء ويغتالونهم ويفعلون الأفاعيل، ومثل ذلك بعض الدول الشيعية التي شيعتها معتزلة، وليس فيها ذلك التشيع الذي يؤدي إلى ضرر بأهل السنة، مثل دولة بني حمدان، فهذه الدولة كان أمراؤها لديهم تشيع، لكنهم كانوا على اعتدال وتوازن وأهل جهاد في سبيل الله، وبالأخص سيف الدولة، فقد كان سبباً في رد الصليبيين عن الشام، وعن الدولة الإسلامية كلها، وكذلك رد الروس الذين كانت لهم غارات في أيامه، فهو الذي ردها، ورد التتار، وأخرهم قروناً، ولذلك قال فيه أبو الطيب المتنبي في بناء الحدث:
وكيف يرجى الروم والروس هدمها وذا الطعن أساس لها ودعائم
وفعلاً روع الغربيين زماناً حتى قال فيه المتنبي:
شننت بها الغارات حتّى تركتها وجفن الّذي خلف الفرنجة ساهد
فلم يبق إلا من حماها من الظبا لما شفيتها والثدي النواهد
تبكي عليهن البطاريق في الدجى وهن لدينا ملقيات كواسد
وأنت أبو الهيجا ابن حمدان يا ابنه تشابه مولود كريم ووالد
وحمدان حمدون وحمدون حارث وحارث لقمان ولقمان راشد
أولئك أنياب الخلافة كلها وسائر أملاك البلاد الزوائد
ويقول فيه أيضاً في وصف ملك الروم الذي قتل ولده قسطنطين في إحدى المعارك في بلاد تركيا، خلد هذه القصيدة المشهورة:
لعينيك ما يلقى الفوائد وما لقي وللحب ما لم يبقَ مني وما بقي
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ولكن من يبصر جفونك يعشق
وبين الرضا والسخط والقرب والنوى مجال لدمع المقلة المترقرق
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي
وغضبى من الإدلال سكرى من الصبى شفعت إليها من شبابي بريق
وأشنب معسول الثنيات واضح سترت فمي عنه فقبل مفرقي
وأجياد غزلان كجيدك زرنني فلم أتبين عاطلاً من مطوق
وما كل من يهوى يعف إذا خلا عفافي ويرضى الحب والخيل تلتقي
إلى أن قال فيها:
نودعهم والبين فينا كأنه قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق
قواض مواض نسج داود عندها إذا وقعت فيه كنسج الخدرنق
هواد لأملاك الجيوش كأنها تخير أرواح الكماة وتنتقي
تقد عليهم كل درع وجوشن وتفري إليهم كل سور وخندق
إلى أن يقول:
رأى ملك الروم ارتياحك للندى فقام مقام المجتدي المتملق
وكاتب من أرض بعيد مرامها قريب على خيل حواليك سبق
وقد سار في مسراك منها رسوله فما سار إلا فوق هام مفلق
وكنت إذا كاتبته قبل هذه كتبت إليه في قذال الدمستق
والدمستق قائد من قادة الروم، وقذاله: مؤخرة رأسه، وفعلاً كان سيف الدولة يفعل، فإذا كتب إلى ملكهم كتب إليهم في عظام القتلى منهم.
مصدر التشيع
السؤال: من أين جاء التشيع؟
الجواب: كانوا شيعة من قبل، فهم من بعض القبائل العربية التي دخلها التشيع في أيام قوة التشيع في العراق، وهم من بني تغلب، وقد دخلهم التشيع قديماً.
كتب متخصصة في كتابة تواريخ الدول والإمارات الإسلامية
السؤال: هل من كتب متخصصة في كتابة تواريخ الدول والإمارات الإسلامية؟
الجواب: الغالب أن كل الإمارات الإسلامية أو الدول لها تواريخ مكتوبة، وبالأخص السلالات غير العربية، فمثلاً: الأتراك اعتنى الناس بتاريخهم كثيراً، وبالأخص في البلاد التي فتحوها، فمثلاً هذه البلاد التي فتحوها كانت من قبل تسمى بلاد الروم، والترك كانوا من قبل تركستان، ولم يكونوا أهل هذه البلاد، وهذه البلاد التي فتحوها وأصبحت اليوم تسمى تركيا، هي في الأصل بلاد الروم، وقد ألف فيها عدد من الكتب، مثل كتاب: نفائس المنظوم في تراجم أفاضل الروم، هو مطبوع، وكذلك عدد من الكتب المختصة في تراجم ملوك بني عثمان، وكذلك السلاجقة، وغيرهم من ملوك المشرق عموماً، من سلالات الفرس وغيرهم، وكذلك حتى من الشعوب ما وراء النهر، والتواريخ كثيرة التي تعتني بهؤلاء، ووصف أمصارهم ومدنهم، ومن كتب التاريخ ما يهتم فقط بوصف البلدان، مثل معجم البلدان لياقوت الحموي، وياقوت ألف كثيراً من المعاجم منها معجم الأدباء، ومعجم الشعراء، ومعجم البلدان، فمعجم البلدان يصف به كل الأمصار الإسلامية التي لها ذكر حتى البلدان التي هي مجرد قرى أو مجرد مياه، أبو بوادي، يصفها جميعاً وصفاً جغرافياً، ويذكر ما حصل فيها من القصص وما قيل فيها من الأشعار.
أصول التاريخ
السؤال: ماذا عن أصول التاريخ؟
الجواب: جاء في الحديث بعض الأصول للتاريخ والجغرافيا، في الجغرافيا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (زويت لي الأرض على هيئة طائر، فاليمن رأسه، والحجاز جؤجؤه، ومصر والعراق جناحاه، والشام زمكاه)، فهذا الحديث يصف الرقعة الإسلامية، فامتدادها كان إلى الشرق والغرب من جهة الجناحين؛ لأن الجناحين يمتدان ويرجعان، وأما الرأس فلم يتقدم شيء إلى الجنوب، حتى الحبشة ما دخلها الفتح، والزمكا كذلك يحصل فيه انتفاش وتفرق من الذي حصل في شرق أوروبا وبعض بلاد ما وراء النهر، لكن لم يقع ذلك التوسع العريض، فلهذا قال: (فاليمن رأسه، والعراق جؤجؤه -أي: صدره- ومصر والعراق جناحاه، والشام زمكاه).
أما في التاريخ فقد جاء في حديث حذيفة في مسند أحمد وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، ثم تكون خلافة على منهج النبوة ما شاء الله لها تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة، وسكت).
وهذا الحديث فيه أطوار تاريخ هذه الأمة، وبيان أحوالها، فقد بدأت بالنبوة، ثم بالخلافة الراشدة، ثم بعد ذلك بالملك العاض، الذي كان في أيام بني أمية وبني العباس الدول الإسلامية، ثم بعد هذا بدأ الملك الجبري، الذي لم يعد ملكاً للأمة فقط، بل أصبح بمثالة بالمِلك، على معنى الجبر، على وجه القسرية، وهذا الذي نحن فيه، وسيأتي بعده خلافة على منهج النبوة، وهذه كلها من الملك الجبري؛ لأن الملك العاض هو ما كان في بني أمية وبني العباس.
معنى التاريخ يعيد نفسه
السؤال: ما معنى العبارة: (التاريخ يعيد نفسه)؟
الجواب: بالنسبة للمعنى: كون التاريخ يعيد نفسه، أن الله سبحانه وتعالى جعل في هذه الدنيا نواميس، وجعلها تؤدي إلى مسببات مخصوصة، فتتطور الدنيا وتبتعد عن تلك النواميس، فيقع التغير: إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ[الرعد:11]، ثم إذا ذكرا فرفعوا عادت الأمور إلى مجاريها، وتستقيم الأحوال، ثم تعود الدورة مرة أخرى، فيستدير الزمان استدارة شديدة، وهكذا، وهذا لا بد أن يقع، وهو سنة الحياة كلها، وليس معناه: أن الإعادة تكون بنفس التفاصيل كما هي، بل المقصود بذلك فيما يتعلق بالاستقامة والاعتدال، وبما يتعلق بالميل والاضطراب، فهي دورات في التاريخ هكذا.
وهناك عبارة بعض الناس يقولون: العقائد لا تموت.
المقصود: أن الغالب أن العقائد التي ما كان منها فتنة، يبقى هناك من يقول بها دائماً، فهي فتنة وضعها الله في الأرض، فلا بد أن يبقى من يدعو إليها ومن يتأثر بها.
بعض الكتب التي كتبت عن رحلات العلماء
السؤال: لو تذكر لنا بعض الكتب التي كتبت عن رحلات العلماء.
الجواب: بالنسبة لرحلات العلماء كذلك هي من الكتب التي تعطي صورة عن البلدان والشعوب والتواريخ، وحتى عن بعض العادات والأخلاقيات التي يجهلها كثير من المؤلفين، وأيضاً فإن أصحاب الرحلات يصفون مشاهداتهم والأمور التي رأوها، لكن الذين كتبوا رحلاتهم من الثقات قلائل، وقد اشتهرت بعض الرحلات لما دار فيها من الأحداث العظيمة مثل رحلة أبي بكر بن العربي إلى المشرق، ورحلة الباجي.
وهناك رحلات أخرى اشتهرت بالمسح الجغرافي مثل رحلة ابن جبير، ومن لمس عن الشعوب وعادتها، مثل رحلة ابن بطوطة، وإن كان فيها بعض المجازفات، وأخرى اشتهرت فقط بالعناية بأهل العلم وحياتهم مثل رحلة ابن رشيد القيرواني، وهذه الرحلة اشتهرت باسم: ملء العيبة فيما جمع في طول الغيبة.
ونفس الشيء ما كتبه لسان الدين بن الخطيب في رحلته التي سماها: نفاضة الجراب فيما جمع في طول الاغتراب، ومثل رحلات بعض علمائنا الشناقطة، مثل رحلة الشيخ محمد يحيى الولاتي وهي مطبوعة طبعتها دار النظام الإسلامي، ومثل رحلة الشيخ محمد الأمين، ومثل رحلة ابن طوير الجاما، ورحلة الفضيل الورتلاني التي تضمنت وصفاً دقيقاً لكثير من المشاهد التي شاهدها، وكذلك رحلة بشير الإبراهيمي، وهو أحد مؤسسي جمعية علماء الجزائر، حين ذهب إلى المشرق.
تحريف المستشرقين للتاريخ الإسلامي
السؤال: ما مدى تأثير عمل المستشرقين في تحريف التاريخ الإسلامي؟
الجواب: بالنسبة لعمل المستشرقين وأذيالهم في تحريف التاريخ، فهو كثير جداً، وبالأخص أنهم وجدوا الأرضية الصالحة لهذا، فكثير من المسلمين يجهلون تاريخهم، وبالأخص الفتوحات في الأطراف، فجاء هؤلاء المستشرقون فاستغلوا الفرصة، وفسروا الفتوحات الإسلامية والجهاد بتفسيرات مادية، وبحثوا لها عن أسباب ما أنزل الله بها من سلطان، وما لها أي مصداقية في الواقع، وكذلك كثير من المسلسلات والأفلام التي أنتجت تعالج قضايا تاريخية كلها أكاذيب وأقاصيص غير صحيحة، وحتى تفسيرها للأحداث التاريخية الصحيحة، وكان تفسيراً كاذباً مزيفاً.
قاعدة (الناس مؤتمنون على أنسابهم)
السؤال: قول الفقهاء: (الناس مؤتمنون على أنسابهم، أو مصدقون في أنسابهم) ما مدى اعتبار هذه القاعدة في الأنساب من حيث الفقه؟
الجواب: هذه القاعدة صحيحة من الناحية الفقهية، فالنسب يحاز بما يحاز به الملك، والأملاك اختلف في الحول بها، فقيل: عشر سنين، وقيل: خمس عشرة سنة، وقيل: ثلاثين سنة، ومذهب الحنفية ثلاثون سنة، ومذهب الشافعية والحنابلة خمس عشرة سنة، ومذهب المالكية عشر سنوات، فإذا حاز فيها غير شريك والأجنبي، وتصرف، والمالك حاضر ساكت بلا عذر، لم تقبل دعواه ولا بينته بعد ذلك، وكذلك الأنساب إذا جاء شخص فزعم أنه ابن فلان، ولم ينكر ذلك أحد، ولم يأتِ ما يخالفه، وعرف ذلك أزماناً متطاولة ولم ينكره أحد، فتثبت له النسب بذلك فيرثه، وهكذا.
فليس المقصود النسب المشكوك فيه؛ أن يأتي فلان من الناس يرصد نفسه في نسب معين ادعاءً، والناس لا يصدقونه فيه، فهذا ليس هو المقصود، المقصود ما سكت عنه الناس وكلموه، فهذا الذي يحاز كما تحاز الأملاك كلها، من حاز أرضاً في الأصل لا يقال له: من أين لك هذا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مقدمات في العلوم الشرعية [18] | 3788 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [39] | 3562 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [42] | 3513 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [30] | 3438 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [16] | 3390 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [4] | 3372 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [22] | 3323 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [13] | 3261 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [6] | 3254 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [35] | 3143 استماع |