خطب ومحاضرات
مقدمات في العلوم الشرعية [14]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فلدينا الآن علم العلل، وهو علم كذلك من العلوم الخادمة للسنة، ومن العلوم المهمة، التي لا يتجاسر عليها إلا أهل العلم، ليست لعوام الناس، وقد ظهر في هذا العلم مهارة أقوام هيأهم الله سبحانه وتعالى لتحمل مسئولية الدفاع عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم الجهابذة.
وهذا العلم هو أرقى وأدق ما وصل إليه المحدثون في علوم الحديث عموماً، وهو مادة علم التخريج، التخريج كما ذكرنا يقصد به الحكم على الحديث ليعرف هل يبقى في لائحة ما تستنبط منه الأحكام أو يقصر، التخريج نتيجته هي القبول أو الرد، ومادة ذلك العلل.
وإذا أردنا تعريف علم العلل فإن ذلك مما يشق، فقد سئل عنه عدد من الأئمة، وتعريفه الجامع، فما استطاعوا أن يأتوا بذلك، فسئل أبو حاتم الرازي عن علم العلل ما هو، هذه العلل التي تقولها ما هي؟ فقال: إذا سألتني عن حديث فقلت: هو معلل، فاذهب إلى أبي زرعة فسيقول: هو معلل، ثم اذهب إلى ابن حنبل فسيقول: هو معلل، ثم اذهب إلى يحيى بن معين فسيقول: هو معلل، فإذا رأيت ذلك فاعلم أنه نور يجعله الله في قلب من شاء من عباده، هذا ليس تعريفاً للعلم، لكنه يدلنا على أن علم العلل هو من صيانة الله سبحانه وتعالى لشرعه ودينه، وأنه قناعة تحصل لدى المحدث بضعف في الحديث أو مرض فيه، هذا المرض أنواع متعددة منوعة، هذه القناعة لا تحصل إلا لمن كان متمرساً في الحديث، فالمتمرس للحديث الدارس له، يصل إلى مستوى لا يلتبس عليه أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوب غيره، مثل أصحاب الذوق البلاغي إذا تخصص أحدهم بشاعر من الشعراء عرف هل هذه الأبيات من شعره أو ليست من شعره؟ لأنه يعرف قاموسه ولغته وأسلوبه ومعانية التي يتطرق إليها، فكذلك المتخصص في الحديث إذا استوعب كثيراً من الأحاديث وانطبع بها، عرف ما كان من مشكاة النبوة مما كان مروياً بالمعنى، مما كان لا أصل له أصلاً.
ومن هنا سنجعل الحديث من باب العلل؛ لأنها لا تقصر، الحديث فعلاً مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، معناه ألفاظه من ألفاظ الرسالة، من ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: ما هو مشبه، أي: أحكامه صحيحة من أحكام الشرع، أو يمكن أن تكون صحيحة، لكن ألفاظه مروية بمعنى، ليست من ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم، فمعانيه معاني نبوية لكن ألفاظه ليست كذلك.
القسم الثالث: ما هو بعيد في اللفظ والمعنى جميعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وبهذا التقسيم يتبين أن تعريفنا الذي يمكن أن نصل إليه لعلم العلل أن يقال: هو العلم الذي يكتشف به ما يرد على الحديث مما ينقص حجيته أو يضعف روايته، وينقسم إلى قسمين: إلى ما يتعلق بالأسانيد، وما يتعلق بالمتون، فما يتعلق بالأسانيد الأمر فيه ميسور؛ لأنه من باب علم الرواية، فتعرف مثلاً أن فلاناً حدث بهذا الحديث كثيراً عن فلان، لكنه في مجلس من المجالس أدرج شخصاً بينه وبينه، قال: حدثني فلان عن فلان، تنتبه أنت حيث لم تكن مطمئناً في الأصل لهذا الحديث تماماً، فتقول: فلان هذا الحديث لم يصل فيه فلان، وأسقط فلان بين فلان وفلان.
ومن ذلك حديث: (واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم )، فهذا الحديث اختلف فيه، في عطاء هذا هل هو عطاء الخراساني أو عطاء بن أبي رباح؟ وإذا كان عطاء الخراساني فإنه إنما يتصور أن يرويه عن نافع عن ابن عمر أما عطاء بن أبي رباح فيروي عن ابن عمر مباشرة فإذاً هذه علة هنا، في تسمية الشخص، هل هو عطاء بن أبي رباح أو عطاء الخراساني؟ ومثل هذا ما يقع كثيراً من الالتباس بين الحمادين، بين حماد بن سلمة وحماد بن زيد.
وأما السفيانان فما فيه إشكال لأن السفيانين كلاهما ثقة على الشرطين، على شرط الصحيحين، ما في إشكال، لكن الحمادين، حماد بن سلمة ليس على شرط البخاري، وإنما على شرطه حماد بن زيد؛ ولذلك يقال: بينهما ما بين جديهما، حماد بن زيد بن دينار وحماد بن سلمة بن درهم، بينهما ما بين جديهما!
كذلك الإشكال في عمرو بن خالد، فهذا الاسم في طبقة واحدة اثنان، عمرو بن خالد الواسطي، عمرو بن خالد الشامي ضعيف، وعمرو بن خالد الواسطي ثقة، هو الذي يروي عنه البخاري، وكذلك في الطبقة التي فوق هذه عبد الواحد بن زيد وعبد الواحد بن زياد، وهما من طبقة واحدة وفي مكان واحد، التردد بينهما يحصل..
وكذلك عبد الله بن عمر العمري وعبيد الله بن عمر العمري، فعبيد الله ثقة ثبت من أثبت أصحاب الزهري يقارن بـمالك ومعمر بن راشد ويونس وعبد الله متكلم فيه، وهما في طبقة واحدة، فإذا تردد النقل بينهما يقع الإشكال هنا، تقع العلة.
كذلك من أنواع هذه العلل التي أفردوها وجعلوا لها باباً مستقلاً العلل الراجعة إلى المتن، وهي مثل الاضطراب في المتن ومثل المخالفة للقرآن أو القواعد الشرعية ومثل النكارة اللفظية التي تكون في لفظ الحديث فتعتبر علة، أن يكون اللفظ مستغرباً أو مستهجناً أو لا يليق صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم مثل: كل حديث فيه لفظ (يا حميراء) أو (هذه الحميراء) في نسبته لـعائشة رضي الله عنها، وكل حديث فيه هذا اللفظ فهو مستنكر، ومثل ذلك كل حديث فيه لفظ (الأرز) لأن الأرز لم يكن معروفاً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وكل حديث فيه لفظ (المصحف) لأن المصحف لم يجمع في زمانه، وكل حديث فيه لفظ (الباذنجان) لأنه لم يكن في زمانه معروفاً.
ويجعلون من هذا أيضاً ما كان فيه الوعد العظيم على العمل اليسير، وإن كانت هذه القاعدة غير مضطردة، فيها بعض أحاديث صحاح، فيها وعد عظيم على عمل يسير، لكنها قليلة إذا ما قورنت بما سواها، وعموماً ترجع إلى قاعدة أخرى وهي أن أحاديث الوعد والوعيد كلها مقيدة، فمن كان قوي الإيمان عاملاً بما علم قد يضاعف الله له إلى أضعاف كثيرة، ومن ليس كذلك فالوعد ليس ثابتاً في حقه لأن الوعد مقيد أصلاً.
هذه كبريات مسائل العلل وقد أشرنا من قبل إلى قضية الشذوذ والنكارة والاختلاف على الرواة، الاختلاف على الرواة ذكرنا أنه ممن يهتم بالعلل فيه النسائي في السنن، كثيراً ما يورد الحديث ثم يعقد بعده أبواباً للاختلاف، وقد ذكرت لكم من قبل مثالاً على ذلك وهو أنه عقد باباً فقال: (باب: الاختلاف فيه على خالد الحذاء ) ثم قال: (باب: الاختلاف فيه على أيوب بن أبي تميمة السختياني) فيذكر الاختلاف في الحديث على مشاهير الرواة، يعقد لذلك أبواباً، وبالنسبة للشذوذ اعتنى به كذلك الترمذي في السنن، فيشير إليه بالغرابة إذا أطلقها، إذا قال: حديث غريب، وسكت، فالغالب أن يكون شاذاً، وكذلك أخذ هذه الكلمة الزيلعي في كتاب (نصب الراية) فإذا قال: قلت: غريب بهذا السياق فمعناه أنه لا يصح بوجه من الوجوه، لا يوجد في شيء من دواوين السنة، هو سيذكر لك أحاديث الفقهاء فإذا أتى بحديث منها فقال بعده: قلت: غريب بهذا السياق، معناه لا تتعب فيه نفسك، هذا أهم ما يتعلق بهذا العلم ونصل بعده إلى علم آخر من هذه العلوم.
أما النكارة بسبب الركة في اللفظ فإن كثيراً من أهل الحديث يعتبرونها علة لأنهم يبيحون رواية الحديث بالمعنى، والذين يروون بالمعنى يمكن أن تكون ألفاظهم ركيكة؛ لأنهم ليسوا كلهم من الفصحاء ولا من البلغاء؛ فجمهور المحدثين على إباحة الرواية بالمعنى.
بالنسبة للربيع وغيره من الذين يقولون: هذا الحديث في إسناده مظلم أو على ألفاظه ظلمة، وهذه الكلمة كثيراً ما يقولها الذهبي، وأيضاً يقول: قلت: إسناده مظلم، في المستدرك وغيره، هذا النوع مستوى يصل إليه المحدث من الخبرة بالألفاظ النبوية حتى تكون على ذوقه، فإذا خالف شيء ذوقه عرف أنه ليس من الحديث النبوي، هذا مستوى يصل إليه المحدث من الدراية بالحديث وحفظه والتمرس به، لكن ليس لكل الناس.
بالنسبة لأهل المصطلح في بداية نشأة هذا العلم كان داخلاً فيه، كان علم العلل غير مستقل، وكان جزءً، وباباً من أبواب الضعيف عند أهل الحديث، وقد ذكرنا من قبل أن الضعيف أقسام؛ ثمانية وأربعين قسماً، فيذكرون منها المعلل، ويعدون في ذكره بعض العلل المستقلة فلا يدرجون فيها المدلس ولا الشاذ ولا المنكر، تلك لها أبواب مستقلة، لكن يذكرون فيه المعلل بعلل أخرى غير تلك، كما ذكرنا في الخفاء أو العلل الراجعة إلى المتن، يدرجونها في هذا الباب، ثم استقل هذا العلم بالدراسة فأصبح مستقلاً.
هذا العلم الجديد هو علم الرجال، ويسمى أيضاً علم الطبقات ويسمى أيضاً علم الجرح والتعديل، أو علم التعديل والجرح، بناءً على أن التعديل أشرف فيمكن أن يقدم ويمكن أن يؤخر باعتبار أهمية الجرح.
وهذا العلم إنما نشأت الحاجة إليه في أيام أتباع التابعين لأن الصحابة جميعاً معدلون بتعديل الله فلا يحتاج إلى البحث في عدالتهم، والتابعون كذلك سمعوا من الصحابة بالمباشرة، لكن عندما جاء أتباع التابعين وجدوا أنهم يروون عن التابعين فيهم العدول وغير العدول فاحتاجوا إلى البحث في طبقات التابعين ودرجاتهم وسماعهم؛ ولذلك قال ابن سيرين رحمه الله: (والله ما كنا نبالي عمن نأخذ هذا العلم حتى ركب الناس الصعب والذلول فقلنا: سموا لنا رجاله، فمن كان مقبولاً قبلناه ومن كان مردوداً رددناه) وبهذا نكون قد عرفنا اسم هذا العلم، أن اسمه علم الرجال وعلم الطبقات وعلم الجرح والتعديل.
أما تعريفه فهو العلم الذي يبحث فيه في صفات الناقلين للسنة وطبقاتهم وتاريخ وفياتهم، وغير ذلك من أخبارهم، فقولنا: العلم الذي يبحث فيه، العلم أي: الفن، الذي يبحث فيه؛ كهذه الأمور التي هي صفات ناقل السنة، يعني الذين نقلوها ورووها صفاتهم من ناحية هل هم ثقات أو متصفون بالصدق دون أن يصلوا إلى درجة الثقة، أو متصفون بنقص الضبط دون ذلك، أو متصفون بما دون ذلك من المراتب المعروفة.
وهذه الصفات في أغلبها تعود إلى ثلاثة أقسام، يعود بها الناقل إلى ثلاثة أقسام، أنه إما أن يكون من الذين وصلوا إلى مقام الثقة وحديثهم يسمى الصحيح أو من الذين هم في مقام الصدق مع نقص الضبط وحديثهم يسمى الحسن، أو من الذين فيهم طعن بأي نوع من أنواع الطعن وقد ذكرنا أنواع الطعن بأنها إما أن تكون في عقل الإنسان أو في عمله الظاهر أو في اعتقاده، أو في ضبطه ونقص تذكره؛ فهذه أنواع المطاعن، أو في جهالته أصلاً؛ فهؤلاء حديثهم هو الضعيف بمختلف أنواعه، وكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة فيه أنواع كثيرة؛ فمثلاً الذين ينقلون الصحيح درجات، فأعلى التوثيق أن يقال بصيغة أفعل التفضيل، مثل (مالك أثبت الناس) كما قال أحمد بن حنبل أو (مالك أوثق في كل شيء) فهذه صيغة أفعل التفضيل، حين سئل يحيى بن سعيد القطان ... سفيان بن عيينة: أيهما أثبت؟ فقال: مالك أثبت في كل شيء، كذلك إذا أضيفت (أفعل) إلى الناس مثل أن يقال: أوثق الناس أو أعدل الناس، فهذه أعلى الدرجات.
ثانياً: ما تكرر فيه الوصف، سواءً كان تكرر بلفظه أو بمعناه، فتكرار اللفظ مثل (ثقة ثقة) أو بمعناه (ثقة ثبت) فهذه هي الدرجة الثانية كما كانوا يقولون في سليمان بن بلال يقولون: (المصحف المصحف) لضبطه وصدقه وثقته، لا يقيسونه إلا بالمصحف، ثم بعد هذا الوصف الواحد وأبلغه أن يقال: ثقة أو ثبت أو إمام أو حجة، وهذه من مرتبة واحدة على الراجح، الثقة والثبت والإمام والحجة بدرجة واحدة.
أما الصفات المعدلة الأخرى مثل قولهم: (حاكم) أو (حافظ) فهذه إنما تتعلق بمستوى إمامته لا بثقته فقد يكون الإنسان حافظاً، ولكن فيه طعناً آخر من وجه آخر، وقد يكون إماماً في الفقه أو في غيره، وتنقص إمامته في جانب آخر كما قال أحمد بن حنبل، قال: ( مالك إمام في السنة والحديث وابن عيينة إمام في الحديث وليس إماماً في السنة) والمقصود بالسنة هنا الفقه، ابن عيينة إمام في الحديث لكنه من ناحية الفقهية ليس مثل مالك .
بعد هذا تأتي مراحل الدرجة الثانية، وأحسن ألفاظها أن يقال: صدوق، ودونها أن يقيد ذلك أن يقال: صدوق في حديثه أو صدوق في حديث أهل بلده أو صدوق في حديثه عن فلان أو أمين في حديثه عن فلان أو مأمون في النقل مثلاً، ودون ذلك أن يقال: صدوق ربما أخطأ، ثم بعدها..
صدوق ... سعة علمه هذا مثل صدوق إذا أطلق؛ لأن فيها ثناءً آخر، دونها أن يقال: مقارب الحديث أو مقارب الحديث، أي: أنه يقارب حديث من روى معه، فليس هو بتمام الضبط ولكنه مقارب لهم في الحديث؛ لأن معيارهم في ذلك أن ينظر في الطبقة فيختار مشاهير النقلة عن فلان مثلاً من الأئمة فيقاس إليهم من سواهم، مثلاً الزهري من مشاهير أصحابه؟ مالك ويونس ومعمر بن راشد وعبيد الله بن عمر العمري فإذا وجدنا ناقلاً عن الزهري نقيسه إلى هؤلاء فنقارن حديثه بحديثه مثل صالح بن كيسان فوجدناه مطابقاً لهم، إذا رووا حديثاً يرويه هو فيكون الحديث على نفس الألفاظ فنقول: هذا ثبت، تام الضبط، نجد غيره من الذين يروون عن الزهري، مثل سيف بن عمر فنجده ربما خالفهم فنذكر له ذلك المستوى ولا نوصله إلى مستوى صالح بن كيسان، وهكذا.
القسم الثالث وهم رواة الضعيف لهم في التعبير عن ذلك ألفاظ كثيرة أخسها وأدناها أن يقال: كذاب، وضاع، أو دجال، ما فيه لفظ المبالغة من الكذب ونحوه، كذاب، وضاع، دجال، ثم ما كان تقليلاً لشأنهم كأن يقال: لا يساوي فلس، أو لا يساوي شيئاً، أو ليس بشيء، ثم ما كان فيه نقص لبعض صفاته مثل: ليس بالقوي، أو ليس بالحجة أو ليس بالثبت، ثم بعد ذلك تعرف وتنكر.
ثم كذلك أن يقال: شيخ أو شييخ أو شيخ إن شاء الله، فهذا النوع لهم فيه أيضاً تعابير مختلفة، وربما اختص بعض الناس ببعضها مثل أن يقول الذهبي: ساقط بمرة، أو أن يقول: قلت بالدبوس، أو نحو هذا؛ فهذه مصطلحات خاصة؛ ولذلك فألفاظ الجرح والتعديل يختلف فيها أهل الحديث، وكل طائفة لها ألفاظ معينة؛ ولذلك حاولت طائفة من المحدثين أن يكون بعض الألفاظ متفقاً على مدلوله، لكن ألفاظ الجرح وكذلك ما كان في المرتبة الوسطى يصعب ضبطه، أما الألفاظ التي في المرتبة الأولى فهذه متفق عليها، كذلك ألفاظ كذاب، وضاع، دجال، هذه متفق عليها، ما بين ذلك من الألفاظ في المرحلة الوسطى يصعب ضبطه.
وواضع هذا العلم من الرجال موضوعه كما ذكرنا هو ناقل السنة، ما عدا الصحابة طبعاً، وهذا الأصل، لكن أهل الحديث يترجمون للصحابة من وجه آخر، وهو إثبات الصحبة؛ لأن الإنسان بعد أن تثبت صحبته لا يبحث في جرحه وتعديله، لكن المشكلة ثبوت الصحبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له ديوان يحصيهم فيه، وإن كان عزم على ذلك فقد قال: ( أحصوا لي من دخل في دين الله )، وفي رواية: ( اكتبوا لي من دخل في دين الله )، كما في الصحيح، لكن لا يمكن أن نرجع مثلاً إلى ديوان يحصر فيه كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبة الناس له متفاوتة، منهم من يراه ويحضر له الخطبة ويصلي معه صلاة أو يصحبه في السفر، ومنه من يعرف أنه من أصحابه.
ولذلك فلأهل الحديث ضوابط لمعرفة أن فلاناً من الناس من الصحابة، وأبلغ هذه الضوابط الشهرة بذلك، مثل الذين شهدوا المغازي معه، مثل المشاهير السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، مسلمة الفتح، هؤلاء مشاهير معروفون.
الضابط الثاني: أن يذكر في كلام النبي صلى الله عليه وسلم التصريح به، لا يكون هو مشهور بالصحبة لكن ذكر اسمه، ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ثبت عنه.
الضابط الثالث: أن يشهد له غيره من الصحابة بذلك، وكان ممن بايع تحت الشجرة أو وكان قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فشهادة بعضهم لبعض في هذا معتبرة.
الضابط الرابع: أن يصرح هو بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم وصحبته، وهذا الضابط فيه إشكال لأنه من القواعد المسلمة أن شهادة الإنسان على ما عمل مردودة، لكن يستثنى من ذلك أنها مقبولة في مسائل فقهية، مثل شهادة المرضعة أنها أرضعت مثلاً، وشهادة القاضي أنه قد حكم في المجال الفلاني، وشهادة الوكيل على البيع أو الشراء بأنه قد باع، فهذه مستثناة، ومثل هذا لأن ذلك الزمان لا يمكن فيه أن يدعي إنسان أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكذبه أحد وهو في الواقع كاذب، اللهم إلا في العصور المتأخرة حيث اشتهر بعض المعمرين الذين يزعمون أنهم عاشوا ثلاثمائة سنة وأنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم صحبوه، عدد من المعمرين ادعوا ذلك، طالت أعمارهم فادعوا أنهم عاشوا ثلاثمائة سنة وأنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم أو صحبوه أو سمعوه، ولكن الغالب أن تفتضح أحوال هؤلاء فيتبين ضعفهم وكذب دعواهم؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأنه من الذين على وجه الأرض في ليلته تلك لن يبقى منهم بعد مائة ذو نفس منفوسة، كما في حديث ابن عمر في صحيح البخاري.
وأيضاً فإن أبا الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه قال: (أن آخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الأرض لا يقولها بعدي إلا كاذب) أبو الطفيل عامر بن واثلة هو آخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، لا يقولها بعدي إلا كاذب، هو آخر من مات من الصحابة.
ثم واضع علم الجرح والتعديل لا يمكن تحديده بشخص بعينه لكن الذين ألفوا في الجرح والتعديل يذكرون الرجال الذين وضعوا القواعد لهذا العلم واهتموا به، وهم جميعاً من أتباع التابعين، وهم مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وهشيم الواسطي وعبد الملك بن صبيح، ونظراء هؤلاء من الذين تكلموا في الجرح والتعديل ووضعوا له القواعد، وقد ذكر منهم عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في مقدمة كتابه الجرح والتعديل عشرة فهم أول من ترجم له في مقدمة الكتاب، ذكر عشرة هم أئمة الجرح والتعديل وأول من بدأ به مالك بن أنس؛ فلذلك يمكن أن يقال تجوزاً: هؤلاء هم واضعو علم الجرح والتعديل أو أن يقال: أولهم مالك بن أنس وهؤلاء معه؛ ولذلك فقد كان مالك شديد النقد للرجال، سئل ذات يوم عن حديث حدث به فقال: (بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم ... فقيل له: يا أبا عبد الله ممن سمعته؟ قال: ما جلست سفيهاً قط) ولذلك لم يرو مالك عن ضعيف قط إلا عن أبي أمية عبد الكريم بن أبي المخارق، ولم يكن بلديه فغره بحسن صلاته، كان إذا صلى ينزل عليه الحمام يظنه جذعاً من الخشوع والثبات، فغر مالكاً بحسن صلاته فروى عنه، قد أخرج له في الموطأ: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، ووضع الرجل يده اليمنى على يده اليسرى على صدره في الصلاة، ولذلك يقول: قد أدركت أقواماً لا يدفعون عن علم ولا عن ورع ولم أنقل عنهم حرفاً من حديث النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة كلامهم لأنهم كانوا يكثرون الكلام فلم أرهم أهلاً لذلك، مجرد الكلام يسقط به الرجل فلم يره أهلاً لذلك فلم يرو عنه، وأول من ألف في هذا العلم شباب وهو خليفة بن خياط شيخ البخاري، خليفة بن خياط المشتهر بـشباب، قد ألف كتابين أحدهما سماه كتاب الطبقات والثاني سماه كتاب (التاريخ) وهما مطبوعان محققان، حققهما أكرم ضياء العمري.
ثم البخاري قد ألف أربعة كتب في هذا العلم، أهمها كتاب (التاريخ الكبير) ثم (التاريخ الصغير) ثم (الضعفاء الكبير) ثم (الضعفاء الصغير) وعندما ألف كتاب (التاريخ الكبير) رتبه على الرجال ترتيب المعاجم، وهو أول كتاب يؤلف على المعاجم على ترتيب الحروف، فعندما عرضه على إسحاق بن راهويه قال: إنه السحر! لحسن ترتيبه وصياغته، لكنه حصل فيه أوهام وأخطاء، من أهمها الجمع والتفريق، فيترجم لرجل مرتين باسمين من أسمائه، فيجعله رجلين وهو في الواقع رجل واحد أو العكس، يعقد ترجمة لرجلين يجعلهما رجلاً واحداً، زيادة تشابه، وقد تتبع ذلك ابن أبي حاتم الرازي، وتتبعه بعد ذلك الخطيب البغدادي في موضح أوهام الجمع والتفريق، وهو مطبوع مع كتاب (التاريخ الكبير) وقد يترجم البخاري لبعض الأفراد فلا يذكر شيئاً في ترجمته، يذكر الترجمة فقط ليعلم أن هذا مكانها، ولكن ليس لديه ما يضع في تلك الترجمة مما هو على شرطه، وقد يذكر بعض الأفراد ببعض أحاديثهم فلا يحكم عليهم بجرح ولا بتعديل.
ثم جاء بعده عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي فألف كتاب (الجرح والتعديل) واستوعب فيه ما ذكره البخاري في (التاريخ الكبير) وزاد عليه، فأصبح كتابه من أهم المراجع الأولى في هذا الباب، وجاء مسلم بن الحجاج فألف كتاب (الطبقات) وإن كان لم يستقص فيه وفي كثير من الأحيان لا يذكر جرحاً ولا تعديلاً وإنما يضع كل شخص في طبقته المناسبة له فقط، وجاء العقيلي فألف (تاريخ الثقات).
وكذلك جاء ابن عدي فألف ديوانه الحافل الذي هو كتاب الكامل في ضعفاء الرجال، وهذا الكتاب من أكثر كتب الحديث استيعاباً للتراجم، إلا أن له مشكلتين:
الأولى: أن الرجل غير قوي في اللغة العربية، فأسلوبه ركيك فيه كثير من اللحن، مما يقتضي خفاء مقصوده في بعض الأحيان.
الثانية: أنه اهتم كثيراً بالأحاديث الضعيفة فإذا ذكر ترجمة لشخص ذكر ما اشتهر من حديثه، وهذه يعتبرها بعض الناس منقبة لكن الواقع من ناحية الإسناد هي تطيل الكتاب وتكبر حجمه، وإذا عرف أن فلاناً ضعيف لا يحتاج إلى ذكر أحاديثه بعد ذلك، وقد طبع الكتاب قديماً طبعة فيها من الأخطاء والسقط والتحريف الشيء الذي لا يعلمه إلا، وقد حقق الكتاب الآن أو أكثره في جامعة الإمام، ولم يطبع شيء منه بعد ... على نسخة خطية.. في رسائل علمية، بعضها ماجستير وبعضها دكتوراه.
وكذلك جاء الدولابي فألف كتابه في الكنى والألقاب، وجاء الحافظ ابن حبان فألف كتابه في الثقات وكتابه في المتروكين والضعفاء، وألف النسائي كذلك كتابه في الضعفاء والمتروكين، وألف العجلي كذلك كتابه (الرجال) وقد اشتهرت الرواية عنه لاعتداله وتوازنه، ثم جاء الذين ينقلون عن الأئمة مثل أصحاب يحيى بن معين وأصحاب أحمد بن حنبل فيكتبون عنهم كلامهم في الرجال، ومن هؤلاء الذين نقلوا عن يحيى بن معين وسموا كتبهم بكتاب (التاريخ لـيحيى بن معين ) مثل الدارمي وغيره، وقد طبع اليوم ثلاثة من هذه الكتب المنسوبة إلى ابن معين، التاريخ لـيحيى بن معين طبع مما يسمى بهذا الاسم ثلاثة كتب، كذلك كتاب (العلل وأسماء الرجال) للإمام أحمد بن حنبل، وكتاب (سؤالات أبي داود) له في الرجال.
وفي الذين كتبوا المسائل عن أحمد .. وفي كتب الذين كتبوا المسائل عن أحمد أيضاً بعض الكلام في الرجال، كتب المسائل، وهذه الكتب إلى هذا الحد تعتني بكل من يروي الحديث دون أن يختص ذلك ببلد أو برواة كتاب، ثم ألف نوعان من أنواع التأليف أحدهما مختص برواة الأمصار، وهذا النوع يسمى بالتاريخ، مثل (تاريخ نيسابور) و(تاريخ أصفهان) و(تاريخ جرجان) وتاريخ الخطيب البغدادي الذي هو كتاب (تاريخ بغداد) و(تاريخ دمشق) الكبير للحافظ ابن عساكر .
ثم رجال الكتب، وهذه ألف فيها عدد من الأئمة، فألف الباجي في رجال الصحيحين كتاب الذي سماه (التعديل والجرح) وألف فيهما أيضاً الصاغاني في رجال الصحيحين، وألف الحافظ ابن حجر بعد هذا في رجال الأئمة الأربعة الذين رووا عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد كتاباً سماه (المنفعة لرجال الأئمة الأربعة) ثم جاء الإمام عبد الغني المقدسي فألف كتابه في رجال الكتب الستة، سماه (الكمال). وهذا الكتاب كان عمدة لمن وراءه فأكمله عدد من الأئمة كـابن ماكولا وغيره ثم هذبه الحافظ المزي بتهذيب الكمال وقد أتقن وأبدع فيأتي برجال الكتب الستة وإذا أشبه اسم أحدهم اسم رجل ليس من رجال الستة يذكره تمييزاً فيكتب أمامه كلمة التمييز، ويرمز للرواية في الكتاب، إذا كان روى عنه البخاري في الصحيح أو مسلم في الصحيح فلذلك رمز وإذا كان روى عنه البخاري في غير الصحيح لذلك رمز، بحسب الكتاب ولـمسلم بحسب الكتاب، ولـأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بحسب الكتاب، ويذكر من روى عنه ومن روى هو عنه، والقصص الواردة فيه، وكلام الناس فيه عموماً، وهذا الكتاب أصبح المرجع الأعظم لرجال الكتب الستة، وقد اعتنى الناس به في المشرق والمغرب عناية فائقة، فكان بعض الناس يحفظه عن ظهر قلب، وقد طبع الكتاب طبعات منها الطبعة الأولى تصوير لمخطوطة، وطبعتان أخريان محققتان، لا.. ثلاث طبعات الآن محققة، الطبعة الكبيرة هذه التي حققها بشار معروف ثم اختصرها هو في الطبعة الأخرى التي هي في ست مجلدات، حذف كثيراً من تخريج الأحاديث وغيره، ثم الطبعة الجديدة هذه لواحد آخر أخرجه أيضاً، وقد اختصره الذهبي بكتابه الذي سماه (تذهيب التهذيب) وهذا الكتاب اختصره أيضاً الخزرجي بكتابه (خلاصة التذهيب) والتذهيب غير مطبوع لكن الخلاصة مطبوعات منتشرة، وأحسن طبعاتها الطبعة التي اعتنى بها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمة الله عليه..
ثم جاء الحافظ ابن حجر فلخص التهذيب وإضافات الذهبي في التذهيب في كتابه (تهذيب التهذيب) وقد طبع أيضاً عدداً كبيراً من الطبعات، ثم اختصره في كتابه (تقريب التهذيب) الذي أضاف إليه جديداً وهو الاقتصار على الحكم، وأيضاً تعريف الطبقات وجعل كل إنسان في طبقته بالاختصار، يقول: فلان ثقة من الثالثة مثلاً أو من الخامسة أو كذا، ويذكر ما اشتهر به كلام الناس فيه خلاصة لما قال الناس فيه؛ ولهذا اعتمد الناس عليه فيما بعد الحافظ ابن حجر، اعتمدوا عليه اعتماداً مطلقاً فيما يتعلق باختصار الحكم.
وقد اشتهر الإمام الذهبي بالعناية بهذا العلم، وله فيه عدد كبير من المؤلفات منها كتاب (الكاشف) وهو ملخص في عدد كبير من التراجم احتوت على أكثر رجال الكتب الستة، وقد وضع له ذيلاً سماه (ذيل الكاشف) وألف كتاباً آخر سماه (المعجم المختص) في رجال الحديث وكتاباً آخر سماه (معجم الشيوخ) لشيوخه هو، وكتاباً سماه (المدرج لرجال ابن ماجه) ... وكتاب (المعين) كذلك في الضعفاء، وكتاب (المغني) في الضعفاء أيضاً، وكتاب (من تكلم فيهم بما لا يقتضي الجرح) وكتاب (ذيل تاريخ بغداد) الخطيب، وكتاب (ميزان الاعتدال) أورد فيه ثلاثة آلاف وستمائة رجل متكلم فيه، وكتاب (تاريخ الإسلام) وغير هذا من الكتب مثل كتاب (العبر) في التاريخ، يذكر فيه أيضاً الكلام في الأسانيد ومثل كتاب (تذكرة الحفاظ) وفيه الأئمة المشاهير، فيقال: إن الذهبي هو فارس هذا الميدان في الواقع، إمام في هذا الباب.
ومن الكتب التي هي عمدة في هذا الباب من الكتب القديمة التي كان محلها متقدماً على هذا كتاب (الطبقات) للإمام محمد بن سعد كاتب الواقدي، وهو إمام لا شك، وقد استوعب تراجم الصحابة وذكر كثيراً من أحاديثهم والآثار الموقوفة كذلك المتعلقة بتراجمهم، والمشكلة فيه فقط أن كثيراً من مروياته إنما هو من طريق محمد بن عمر الواقدي، ومحمد بن عمر متروك.
ثم جاء المتأخرون بعد هذا فكان منهم من يختصر أو يعقب كالحافظ ابن حجر، الذي اشتهر بالاختصار والتعقيب على من سبقه، فمثلاً ألف كتاب (لسان الميزان) لتلخيص ميزان الاعتدال ونقده، وله مؤلفات كثيرة جداً في الرجال، وكذلك ابن الملقن وكذلك البلقيني، وبعد ابن حجر جاء تلميذه السخاوي فاشتهر في هذا الباب وألف عدداً من الرسائل فيه، واعتنى كذلك بالتاريخ.
أما تراجم المتأخرين فقل منها من سلك طريقة المحدثين في مثل الجرح والتعديل؛ ولذلك يندر أن تجد في كتب التاريخ المتأخرة كلاماً يقتضي ما يقتضيه كلام السابقين في درجة الإنسان ومستواه وطبقته، وذلك أنهم استغنوا بأن الكتب أصبحت مدونة والإسناد عند أهل الحديث كما ذكرنا من قبل ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
إسناد منك إلى صاحب الثبت وإسناد من صاحب الثبت إلى صاحب الكتاب وإسناد من صاحب الكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فما بعد تأليف الكتاب ونقله أصبح الكتاب في درجة المتواتر تقريباً، ولهذا لا يعتنى كثيراً بالجرح والتعديل فيمن دون صاحب الكتاب، وإن كان كتاب (التقييد) وذيله كذلك (ذيل التقييد) فيهما عناية بهذا الباب في رواة السند والمسانيد، أما الكتب المؤلفة على التاريخ أو طبقات المذاهب فهذه إنما تعتني بالمدائح والفضائل والمناقب دون أن يكون فيها تدقيق في درجة الثقة والضبط وهل اختلط أو احترقت كتبه أو يقبل التلقين أو غير ذلك مما يعتني به أهل الحديث وهذه الكتب أنواع منها طبقات الفقهاء، وهذه مختلفة باختلاف المذاهب، فمثلاً في المذهب الحنفي كتاب (الطبقات السنية) وكتاب (الجواهر المضيئة) وكتاب (تاج التراجم) هذه من مشاهير كتب الحنفية فيما يتعلق بتراجم الأئمة.
وفي المذهب المالكي كتاب (ترتيب المدارك) للقاضي عياض، وكتاب (الديباج) لـابن فرحون، وهذا الكتاب اعتنوا به كثيراً فذيله القرافي الصغير في كتابه (توشيح الديباج)، وذيله كذلك أحمد بابا التنبكتي بكتابه (نيل الابتهاج بتطريز الديباج) بذيل الديباج أقصد ... الديباج هذا كتاب القرافي في التوشيح.
وفي المذهب الشافعي طبقات الشافعية الكبرى لـابن السبكي هي من أهم كتبهم، وطبقات الشافعية لـابن قاضي شهبة، وطبقات الشافعية للأسنوي.
وفي المذهب الحنبلي كتاب (طبقات الحنابلة).
... يمكن أن لا يكون الشخص سمع هذا الحديث ممن رواه عنه؛ فتبقى لديك أنت شبهة في النص، فترى أن فلاناً لم يسمع من فلان أصلاً، أو أنه سمع منه الحديث الفلاني وهذا الحديث لا تطمئن لسماعه منه فتعتمد في ذلك على القرائن والاستقصاء؛ ولذلك كان أهل الحديث إذا افتتح المحدث المجلس يكتبون من هو في المجلس، كل من حضر، من الكبار والصغار، فإذا جاء طارق في وسط المجلس يقولون: عندما قال الشيخ كذا دخل فلان، فإذا روى ما كان قبل مجيئه هذه علة وما حضره له الحق في أن يرويه لأنه مثبت في دفاتر جميع الحاضرين أنه حضر معهم من هنا.
وقد كانوا ينتهزون الدقة في هذا الباب دقة شديدة؛ ولذلك فإن النسائي رحمه الله عندما أخرجه الحارث بن مسلم من مجلسه في حديث ... كان يختفي، ويسمع الحارث يحدث، وإذا حدث هو بهذا في كتابه يقول: وحدث الحارث بن مسلم وأنا أسمع، قال: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم عن مالك، ولا يذكر أنه سمع من الحارث بن مسلم ولا أنه حدثه لكن يقول: حدثني وأنا أسمع، الدقة! ولهذا اجتهدوا كذلك في أداء صيغ الأداء، فرق بين (حدثنا) و(حدثني) وبين (أخبرنا) و(أخبرني) وبين (أنبأنا) و(أخبرنا) وبين (سمعت) و(قال) و(أن) و(عن) صيغ الأداء هذه كلها بالغوا في التفريق بينها بمصطلحاتهم الخاصة، وحالوا كذلك عدم الجمع بين ألفاظ الرواة؛ ولهذا تجدون الدقة في الصحيحين، مسلم رحمه الله يقول: حدثنا ابن نمير وأبو بكر بن أبي شيبة، قال: ابن نمير حدثنا وقال أبو بكر عن فلان، عن حفص بن أبي ... ويأتي في غاية الدقة بألفاظ الذين روى عنهم، والبخاري نفس الشيء، مع أن البخاري لا يفرق أصلاً بين (حدثنا) و(أخبرنا) كلها واحدة عنده، ليس مثل مسلم لكن مع ذلك يجتهد في اللفظ الذي سمعه من شيخه.
والعلل المتعلقة بالأسانيد منها أيضاً ما يطرأ على الشيخ من التغير، بعض المشايخ قد يطرأ عليهم تغير ونقص في العقل وهذا يأتي بالتدريج، مثل النسيان، يستشعر الإنسان من نفسه أنه في هذه السنة أكثر نسياناً من السنة التي قبلها، لكن لا يدري متى ابتدأ هذا، ولذلك قالوا: ينبغي ... الهرم ... ابن خلاد قال: لا ينبغي لمن بلغ ثمانين سنة أن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينبغي أن يتهم عقله.
وكذلك البحث بما يتعلق بما يعرض في قراءة ما يكتبه الشيخ إذا كان الشيخ يحدث من كتابه، فالكتاب يقع فيه وبالأخص إذا كان إملاءً، كثيراً ما يملي عليك إنسان كلاماً فتسقط منه كلمة أو حرفاً أو تنقص نقطة في غير موضعها، ولذلك يجتهدون أيضاً في الدقة في هذا يقول: حدثنا كذا ووجدت في كتابي هنا كذا، وفي كتابه هو كتبه بيده، لكن كتبه من صوت ... ومن صوت الشيخ، وشك في كلمة، وكانوا يضعون التضبيب على الكلمات التي شكوا فيها، كل كلمة شكوا فيها يضعوا فوقها (ص) شك في سماعها أو في طريقة نطقها أو في الضبط أو حتى في النقط يضعوا فوقها (ص) وبعد ... نقاط قبلها ... نقاط بعدها ... هذه الكلمة مضبب عليها.
وكذلك فإن كثيراً من المحدثين يشترطون في ثبوت اللقي في التحديث حتى لو كان مع التصريح بالسماع، ومسلم رحمه الله لا يشترط ذلك وعدد أيضاً معه، البخاري يشترط ثبوت اللقي حتى لو صرح بالسماع، ومسلم لا يشترط ثبوت اللقي لكن يشترط إمكانه، لو كان دخل المدينة الفلانية وفلان فيها يحدث، يكفي هذا إذا قال: سمعت أو حدثنا، يقبل هذا السماع، البخاري لا حتى يعلم أنه جلس بمجلسه وحدثه.
أما القسم الثاني وهو العلل المتعلقة بالمتون وهو أدق وأصعب بكثير هو الذي يصعب عليك أن تجد الحديث الذي رواته كالجبال، وظاهره الاتصال وحكم عليه الأئمة بالتضعيف ولكن نظراً للنكارة في ألفاظه أو لغرابته معانيه تحكم عليه بأنه معلل، هذه تحتاج إلى كثير من الجراءة والقوة، وقد وضع فيها أهل العلم قواعد معينة يعرف بها الضعف، منها الركة فليست من ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم هو أفصح الناس، لكن هذا القيد لا يمكن أن تجعله على الإطلاق لأن كثيراً من المحدثين يجيزون الرواية بالمعنى، وكثير منهم أعاجم، فقد تكون الركة من قبل الراوي، ومثلها اللحن وقد رأى الإمام أحمد وجوب إصلاح اللحن لمن يروي الحديث مفهوماً، رأى وجوب إصلاحه لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ينطق باللحن.
ومنها كذلك الثواب الكثير على العمل اليسير، وهذه القاعدة يستثنى منها كثير من الأحاديث التي فيها ثواب عظيم في حق من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ... وغير ذلك، من المسائل التي جاء (غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر) فهذا النوع ثواب كثير على عمل يسير، لكن صحيح، ما يستثنى من القاعدة، والمقصود بهذا أن أحاديث القصاصين غالباً يكون فيها الضعف، وكثير من الأجور على عمل يسير جداً، وذلك العمل قد لا يكون ذا بال من ناحية المقصد الشرعي، قد يكون العمل قليلاً جداً، ولا له بال من ناحية المقصد الشرعي، فإذا كان من أحاديث القصاصين فهذا علة فيه، تدل على أنه غير صحيح.
ومثل ذلك ما كان فيه ألفاظ لم تكن في العهد النبوي مثل كل حديث فيه لفظ الأرز أو الباذنجان، هذه لم تكن معروفة في العصر النبوي، في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك ألفاظ اشتهرت وألقاب اشتهر بها بعض الصحابة أو لم تكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كتسمية عائشة بالحميراء وكذلك مثل حديث جاء فيه علة، إما أن يكون لا أصل له أو مروي المعنى، علة يعني، أياً كانت، وهكذا.
فهذه هي القواعد المتعلقة بضعف الحديث ومن أعظمها التعارض مع المعلوم من الشرع مثل صريح الآيات أو الأحاديث الصحيحة، وهذا التعارض ليس كل الناس يستطيع الحكم فيه لأنك بالإمكان أن تقرأ أنت آيتين فتظن بينهما تعارضاً أو حديثين فتظن بينهما تعارضاً، فإذا سألت أهل العلم أزالوا عنك ذلك التعارض هذا يدلنا على أنه ليس كل إنسان مؤهل لهذا المستوى الحكم بالتعارض.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مقدمات في العلوم الشرعية [18] | 3788 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [39] | 3562 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [42] | 3514 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [30] | 3438 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [16] | 3390 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [4] | 3373 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [22] | 3324 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [13] | 3262 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [6] | 3254 استماع |
مقدمات في العلوم الشرعية [35] | 3145 استماع |