حكم مشروعية الحج وآثاره الإيمانية


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن رحلة الحج هي أقدس رحلة يخرج فيها الإنسان من بيته، فهو متجه إلى الدار الآخرة، ومنطلق من متاع هذه الحياة الدنيا بكل تجرد إلى الله سبحانه وتعالى، يريد استقالة العثرات، وغفران وتكفير السيئات، وما هو إلا بمثابة المتوفى الذي يُنقل إلى الدار الآخرة، فيُغسل كما تُغسل الجنازة، ويُحنط كما تُحنط، ويُكفن كما تُكفن، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الدار الآخرة، وهكذا حال المحرم بهذه الرحلة المباركة.

إن الحج ركن من أركان الإسلام، فرضه الله على العباد، ولا يتم إسلام أحدٍ إلا به، وهذا الإسلام جعله الله بمثابة بيت له خمسة أركان، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، فحج هذا البيت ركن من أركان الإسلام، ولا يستطيع أحد منا أن يسكن في بيت قد هُدم جانب من جوانبه، أو اختل ركن من أركانه، فالبيت الذي قد انهدم جانب من جوانبه لا تُحصن فيه الممتلكات، ولا يكون حرزاً للأنفس والأرواح، ولهذا كان لزاماً على الإنسان أن يبادر لإكمال أركان إسلامه، وقد بين الله ذلك في كتابه بقوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ [البقرة:196]، وبقوله تعالى: وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الحض على المبادرة بالحج، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من استطاع منكم الحج فليبادر؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة)، وروي عنه أنه قال: (حجوا قبل ألا تحجوا، قالوا: وما بال الحج يا رسول الله؟ قال: يجلس أعرابها على أذناب أوديتها، فلا يصل إلى البيت أحد).

وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال على المنبر: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هؤلاء الأنصار، فلينظروا من فيه ممن استطاع الحج فلم يحج فليفرضوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين)، وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال على المنبر: (من استطاع الحج فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً، فقد قال الله تعالى: وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97])، فجعل المقابل لأداء الحج كفراً.

وقصد بيت الله الحرام لأداء هذا النسك العظيم أمر مؤثر في النفوس يزيد الإيمان، ويشجع على تقصي أركانه وتتبع أكارعه، وهو معينٌ على الانتصار على النفس، فإن هذا الإنسان محفوف بخمس جبهات مفتوحة عليه، وهي:

الجبهة الأولى: جبهة الشيطان، وقد بين الله خطرها في قوله: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6].

الجبهة الثانية: جبهة النفس الأمارة بالسوء، وقد بين الله خطرها في قوله: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53].

الجبهة الثالثة: جبهة إخوان السوء الذين يشغلون الإنسان عن طاعة الله، فلا يعينونه إذا ذكر، ولا يذكرونه إذا نسي، وهؤلاء هم الذين بين الله خطرهم في قوله: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ [الزخرف:67]، وفي قوله: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان:27-29].

الجبهة الرابعة: جبهة مفاتن هذه الدنيا وشهواتها، فهي دار الغرور كما سماها الله بذلك، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت، ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعم منها الفقير والمسكين وابن السبيل).

الجبهة الخامسة: هي الأهل والأولاد، فهم فتنة على الإنسان تشغله، ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9]، وكما قال تعالى: سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا [الفتح:11]، وكما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:14-15].

وهذه الجبهات الخمس المفتوحة على الإنسان يحتاج إلى مساعد له عليها ليتغلب عليها، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بمجاهدة شاقة، ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، وإنما يتم هذا بمجاهدة الإنسان نفسه لينتصر على هذه الجبهات كلها، وإذا انتصر عليها سلك طريق الحق، وإذا سلك طريق الحق وصل إلى مرضات الله عز وجل.

وهذا الحج قد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وخليله إبراهيم أن ينادي في الناس به، ونادى، فأمر الله الجبال أن تتضعضع، وانطلق صوته في الآفاق حتى أسمع، فقال إبراهيم: أيها الناس! إني بينت لله بيتاً فحجوه، فكل من سمع ذلك النداء ممن أراد الله بهم الحج لبى، ولبى الأحمال في البطون ولبت الوفيات في الظهور، فكل من لبى فسيحج هذا البيت.

وما من نبي بعد إبراهيم إلا وقد حج هذا البيت وجاء ملبياً، ولذك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين خرج من المدينة في حجة الوداع مر ببيت رخاء، فرأى وادياً فقال: (ما اسم هذا الوادي؟ فقيل: الأزرق، فقال: لكأني بموسى بن عمران يهبط بطن هذا الوادي له عجيج بالتلبية)، ومر بثرية فقال: (ما اسم هذه الثنية؟ فقيل: ثنية كذا وكذا، فقال: لكأني بـيونس بن متى قد قطع بطن هذه الثنية على ناقة له حمراء خطامها من ليف). وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين في ما أخرجه ابن ماجه في سننه من حديث ابن عباس أن الأنبياء جميعاً حجوا هذا البيت.

ولهذا فإن الإنسان إذا اختير لحجه فقد أنعم الله عليه بنعمة خاصة، والذين يشهدون الحج يناديهم الله لمغفرة ذنوبهم ولتوفيقهم ولأداء نسكهم على الوجه المرضي لله عز وجل، ولذلك (فإن الله يباهي بالحجاج يوم عرفة ملائكته في السماء، يقول: هؤلاء عبادي أتوني شعثاً غبراً، أشهدكم أني قد غفرت لهم)، فالذين يحضرون في كل عام لم يأتوا عن توفيق من أنفسهم ولا عن طواعية، وإنما اختارهم الله اختياراً، فنزلت اللوائح موقعة بأسمائهم من السماء من عند الله أنهم من عند الله في هذه السنة قد اُختيروا لأداء هذه المهمة.

وهذا الحج المبرور له فوائد كثيرة، من أعظمها أنه سبب لدخول الجنة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ما لم تغش الكبائر، والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ما لم تُغش الكبائر، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما لم تغش الكبائر، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، والحج المبرور ليس له جزاء عند الله يقابله إلا الجنة.

ومن فوائد الحج أنه سبب لتكفير الذنوب ليستطيع الإنسان الإقبال على الله في بقية عمره، فإن أكثرنا يريد التوجه إلى الله بقلوب صادقة، ويريدون عبادته ويحبون العابدين ويحبون المنافسين في الخير، ولكنهم حالت ذنوبهم بينهم وبين الالتحاق بذلك الركب، وهذه الذنوب هي التي تقف لنا عن أداء ما يرضي ضمائرنا من عبادة الله ومن الخيرات كلها.

ولا شك أن كل واحد منا حريص على أن يكون من أقرب العباد إلى الله ومن أشدهم عبادة له ومن أكثرهم طاعة له ومن المنافسين في الخير، ومن الصالحين الأولياء العابدين، لكن الذي يحول بيننا وبين ذلك هو سيئاتنا، فهي التي تكدرنا عن هذا الطريق.

والحج سبب لإزالة السيئات، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، فيخرج كيوم ولدته أمه، فكل ما ارتكبه من سيئات يمحى، ولهذا قال الله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، فشرط ذلك أن يكون الإنسان متقياً، فسواءً تعجل أو تأخر، فبشارته عند الله أنه لا إثم عليه.

ومن فوائد الحج أنه سبب أيضاً لقضاء الحوائج الدنيوية، وسبب لقضاء الديون، وسبب للحصول على الأموال والأرزاق، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير صدأ الحديد)، فهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير صدأ الحديد.

ومن فوائد الحج أنه معين للإنسان على تذكر الدار الآخرة، فالإنسان في هذه الحياة تغمره الغفلة، وتحيط به من كل جانب، ولا يزال مشغولاً بهمومه وشؤونه حتى يصل إلى أحد المصيرين، إما إلى الهرم المفند وإما إلى الموت المجهز، فهما أمران، هما المصير الذي يحول بين الإنسان والانهماك في الدنيا والاجتهاد في جمعها وتحصيلها، إما موت مجهز أو هرم مفند، فإذا كان الإنسان يريد التخلص من أغلال الدنيا، ولأن تكون الدنيا خادمة له، وألا يكون هو خادماً لها، فمما يعينه على ذلك هذه المنة الميمونة المباركة التي يتجرد فيها من كل وظائفه وأعماله حتى من ملابسه، فيخلع كل ملابسه بكل تجرد لله عز وجل وحده.

ومن فوائد هذا الحج أن الإنسان فيه لا بد أن يشهد منافع، كما قال الله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:28]، ومن هذه المنافع ما يستفيده الإنسان من علمٍ أو تجربةٍ أو اكتشافٍ أو اطلاعٍ على أحوال الناس، ومن ذلك تقوية الصلات بين المسلمين، وهذه الأمة أمة واحدة، والإنسان ما لم يشعر بحق إخوانه لا يمكن أن يتحقق له حصول شرف الانتماء إلى هذه الأمة التي هي كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وما دام الإنسان محصوراً في بلده وبيئته فإنه لا يشعر بأن الأمة إلا المحيط الخاص الذي يحيط به هو، فإذا حج ورأى المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها يلبون نداء الملك الديان ويجتمعون في هذه البقاع المقدسة، أدى ذلك منه إلى الشعور بحقوق الأمة، وإلى أنه ينتمي إلى أمة عظيمة، وأن هذه الأمة غير محصورة في بلدٍ واحدٍ أو مكان واحدٍ أو بيئة أو جنسية أو غير ذلك.

هذه بعض فوائد الحج، وما سواها كثير.

والناس في الحج يتفاوتون تفاوتاً عظيماً، فما من شيءٍ أشد تفاوتاً من أحوال الناس في الحج، وقديماً كان أهل الجاهلية يضربون المثل بتفاوت أحوال الناس في الحج ويقصدون بذلك الظاهر فقط، كما قال امرؤ القيس :

ولله عينا من رأى من تشتتٍ أشت وأنأى من فراق المحصبِ

فريقان منهم جازع بطن نخلةٍ وآخر منهم سالك فج كبكبِ

أحوال الحجاج في الحج

لكن مع هذا في الباطن لا شك أن أحوال الحجاج متباينة متفاوتة، فحاج تقبل الله منه حجه وكتبه من المبرورين المقبولين، ويرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ويقبل على بقية عمره بتكفير سيئاته الماضية، ويعان على التوفيق والسداد، واختير لأن يكون من وفد الله الذين يباهي بهم ملائكته، وكان نهاية عمره وآخره خيراً من أوله. وحاج آخر حظه التعب والنصب وزيادة الأدران والذنوب، ومضايقة ضيوف الرحمن وأذاهم.

وقد أخرج الطبراني في الأوسط أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا كان زاده من حلال وراحلته من حلال، ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه ملك من السماء: لبيك وسعديك، حجك مبرور وسعيك مشكور، وذنبك مغفور، زادك حلال وراحلتك حلال، وإن كان زاده من حرام وراحلته من حرام، ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادي من السماء أو ملك من السماء: لا لبيك ولا سعديك، حجك غير مبرور وسعيك غير مشكور، وذنبك غير مغفور، زادك حرام وراحلتك حرام).

علامات قبول الحج

إن كل هذا يقتضي منا أن نحرص على أن نكون من الصنف الأول المقبولين المرضيين عند الله، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، ولا يمكن أن نعرف ذلك بالاطلاع على الصحف فهي غيبية، ولم يكن الله ليطلعكم على الغيب فكيف تعرفون أن حجكم مبرور؟ إنما يكون ذلك بالعلامات والأمارات، وعلامات الحج المبرور ثلاثة:

العلامة الأولى: أن يكون الإنسان وفق فيه للحلال، فإذا كان الإنسان جاء بكسب حلال ووفق لاختيار ذلك، فالنفقة الحلال دليل على القبول، وقد أخرج البخاري في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فما كان طيباً فهو أدعى للقبول، وما تصدق عبد بصدقة من كسب طيب إلا كأنما وضعها في يمين الرحمن، (فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل)، والفلو هو ولد الفرس، والفصيل هو ولد الناقة.

العلامة الثانية: أن يوفق الإنسان في حجته أن يؤديها على وفق ما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين؛ إذ قال: (خذوا عني مناسككم)، فإذا وفق الإنسان لأن يأتي بالحج على وفق ما شرع لم يقع في محظور محرم، ولم يقع في مخالفة شرعية في حجته، فهذا دليل على أن تلك الحجة قد اختيرت أن تكون حجة مبرورة.

العلامة الثالثة: أن يتغير حال الإنسان بعد الحج، فنحن نعلم كثيراً من الخواء والخطر والضرر في تعاملنا مع الله وفي تعاملنا مع الناس، وما منا أحد يرضى عن تعامله مع ربه ولا مع أحد من الناس، وما منا أحد إلا وهو يشكو جمود دمعته إذا سمع القرآن، وما منا أحد إلا وهو يشكو نقصاً في توكله على الله، وما منا أحد إلا وهو يشكو أن نفسه منساقة وراء الشهوة مسرعة إلى المعصية، وأنها كثيراً ما تتلجلج وتتأخر عن القيام بالطاعة، فإذا استيقظ في جوف الليل جاهد نفسه من أجل قيام الليل، وإذا أراد أن يصوم في الصيف صوم النفل حاولت نفسه أن تأتيه بالأعذار لتحول بين ذلك، وهذه الأمور التي نشكوها إذا تغيرت بعد الحج؛ فجاء الإنسان فوجد نفسه منساقة وراء الطاعة ذات نفور من المعصية، مثلاً كان يشكو من سوء الخلق مع أهله فتغير حاله، كان يشكو جفوة بينه وبين الناس وزالت تلك الجفوة، كان يشكو حسداً للناس فزال ذلك الحسد، كان يشكو طمعاً وهلعاً ومحبة للدنيا فزال عنه ذلك، كان يشكو تأخراً عن أداء الفرائض في المساجد فكان من الذين يلبون نداء الله، ويأتون قبل الإقامة، كان يشكو عجزاً عن الطهارة والوضوء، فكان من الذين يتطهرون في أول الوقت ويزيد على ذلك، كان من الذين يقعون في الربا فتاب منه وخرج منه بالكلية ولم تعد نفسه مقبلة عليه، كان من الذين يغمطون الناس حقوقهم فحسن خلقه واستجاب لنداء الله، فهذا دليل على أن حجه مبرور؛ لأن الحج مدرسة تهذيب؛ تهذب النفوس وتزيل كل ما فيها من الأدران.

وقد شاهدنا عدداً من الحجاج الذين كنا نعرفهم في بلادنا مقبلين على بعض الأمور غير المرضية، وجاءوا هنا، ولما خرجوا من حجتهم خرجوا من كل ما كان الناس يلحظونه عليهم، وتحسنت أحوالهم وتغيرت بالكلية، حتى إن بعضهم يرى بعض الناس أنه بُدل شخصاً آخر غير الشخص الذي يعرفونه، فلم يكن أحد يقتنع بقوله وصدقه، ولم يكن أحد يثق بوعده ولا ببيعه، ولم يكن أحد يخالطه بطمأنينة، فانقلب وأصبح شخصاً آخر موثوقاً به لدى الجميع، إن هذا دليل واضح على أن الحج مبرور.

وهذا الحج لا بد قبله من العناية به، وأن يكون الإنسان فعلاً ما جاء تسلياً ولا جاء مقارنة للآخرين، فرأى الناس يحجون فحج، ولا جاء أيضاً للتسميع والشهرة ليقال: الحاج، وإنما جاء طائعاً لله مستقيلاً لعذرته، باكياً على ما فرط فيه في جنب الله، يريد إصلاح ما بقي من عمره، وهذا الذي ينفعه الحج.

لكن مع هذا في الباطن لا شك أن أحوال الحجاج متباينة متفاوتة، فحاج تقبل الله منه حجه وكتبه من المبرورين المقبولين، ويرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ويقبل على بقية عمره بتكفير سيئاته الماضية، ويعان على التوفيق والسداد، واختير لأن يكون من وفد الله الذين يباهي بهم ملائكته، وكان نهاية عمره وآخره خيراً من أوله. وحاج آخر حظه التعب والنصب وزيادة الأدران والذنوب، ومضايقة ضيوف الرحمن وأذاهم.

وقد أخرج الطبراني في الأوسط أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا كان زاده من حلال وراحلته من حلال، ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه ملك من السماء: لبيك وسعديك، حجك مبرور وسعيك مشكور، وذنبك مغفور، زادك حلال وراحلتك حلال، وإن كان زاده من حرام وراحلته من حرام، ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادي من السماء أو ملك من السماء: لا لبيك ولا سعديك، حجك غير مبرور وسعيك غير مشكور، وذنبك غير مغفور، زادك حرام وراحلتك حرام).

إن كل هذا يقتضي منا أن نحرص على أن نكون من الصنف الأول المقبولين المرضيين عند الله، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، ولا يمكن أن نعرف ذلك بالاطلاع على الصحف فهي غيبية، ولم يكن الله ليطلعكم على الغيب فكيف تعرفون أن حجكم مبرور؟ إنما يكون ذلك بالعلامات والأمارات، وعلامات الحج المبرور ثلاثة:

العلامة الأولى: أن يكون الإنسان وفق فيه للحلال، فإذا كان الإنسان جاء بكسب حلال ووفق لاختيار ذلك، فالنفقة الحلال دليل على القبول، وقد أخرج البخاري في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فما كان طيباً فهو أدعى للقبول، وما تصدق عبد بصدقة من كسب طيب إلا كأنما وضعها في يمين الرحمن، (فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل)، والفلو هو ولد الفرس، والفصيل هو ولد الناقة.

العلامة الثانية: أن يوفق الإنسان في حجته أن يؤديها على وفق ما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين؛ إذ قال: (خذوا عني مناسككم)، فإذا وفق الإنسان لأن يأتي بالحج على وفق ما شرع لم يقع في محظور محرم، ولم يقع في مخالفة شرعية في حجته، فهذا دليل على أن تلك الحجة قد اختيرت أن تكون حجة مبرورة.

العلامة الثالثة: أن يتغير حال الإنسان بعد الحج، فنحن نعلم كثيراً من الخواء والخطر والضرر في تعاملنا مع الله وفي تعاملنا مع الناس، وما منا أحد يرضى عن تعامله مع ربه ولا مع أحد من الناس، وما منا أحد إلا وهو يشكو جمود دمعته إذا سمع القرآن، وما منا أحد إلا وهو يشكو نقصاً في توكله على الله، وما منا أحد إلا وهو يشكو أن نفسه منساقة وراء الشهوة مسرعة إلى المعصية، وأنها كثيراً ما تتلجلج وتتأخر عن القيام بالطاعة، فإذا استيقظ في جوف الليل جاهد نفسه من أجل قيام الليل، وإذا أراد أن يصوم في الصيف صوم النفل حاولت نفسه أن تأتيه بالأعذار لتحول بين ذلك، وهذه الأمور التي نشكوها إذا تغيرت بعد الحج؛ فجاء الإنسان فوجد نفسه منساقة وراء الطاعة ذات نفور من المعصية، مثلاً كان يشكو من سوء الخلق مع أهله فتغير حاله، كان يشكو جفوة بينه وبين الناس وزالت تلك الجفوة، كان يشكو حسداً للناس فزال ذلك الحسد، كان يشكو طمعاً وهلعاً ومحبة للدنيا فزال عنه ذلك، كان يشكو تأخراً عن أداء الفرائض في المساجد فكان من الذين يلبون نداء الله، ويأتون قبل الإقامة، كان يشكو عجزاً عن الطهارة والوضوء، فكان من الذين يتطهرون في أول الوقت ويزيد على ذلك، كان من الذين يقعون في الربا فتاب منه وخرج منه بالكلية ولم تعد نفسه مقبلة عليه، كان من الذين يغمطون الناس حقوقهم فحسن خلقه واستجاب لنداء الله، فهذا دليل على أن حجه مبرور؛ لأن الحج مدرسة تهذيب؛ تهذب النفوس وتزيل كل ما فيها من الأدران.

وقد شاهدنا عدداً من الحجاج الذين كنا نعرفهم في بلادنا مقبلين على بعض الأمور غير المرضية، وجاءوا هنا، ولما خرجوا من حجتهم خرجوا من كل ما كان الناس يلحظونه عليهم، وتحسنت أحوالهم وتغيرت بالكلية، حتى إن بعضهم يرى بعض الناس أنه بُدل شخصاً آخر غير الشخص الذي يعرفونه، فلم يكن أحد يقتنع بقوله وصدقه، ولم يكن أحد يثق بوعده ولا ببيعه، ولم يكن أحد يخالطه بطمأنينة، فانقلب وأصبح شخصاً آخر موثوقاً به لدى الجميع، إن هذا دليل واضح على أن الحج مبرور.

وهذا الحج لا بد قبله من العناية به، وأن يكون الإنسان فعلاً ما جاء تسلياً ولا جاء مقارنة للآخرين، فرأى الناس يحجون فحج، ولا جاء أيضاً للتسميع والشهرة ليقال: الحاج، وإنما جاء طائعاً لله مستقيلاً لعذرته، باكياً على ما فرط فيه في جنب الله، يريد إصلاح ما بقي من عمره، وهذا الذي ينفعه الحج.

ثم بعد هذا لا بد قبل الإقدام على هذا المشروع العظيم الذي هو مشروع العمر، ولا يجب إلا مرة واحدة في العمر أن يعرف الإنسان أحكامه وأن يتقنها، وأن يبادر لامتثالها امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى، ومنافسة أهل الخير.

ولذلك علينا أن نعلم كيف حج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ونحاول أن نأتسي به ونقتدي به كما شرع الله لنا، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، (خذوا عني مناسككم).

وقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن الحج فُرض بعد فتح مكة في العام التاسع فلم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك العام، وإنما أمر أبا بكر فحج بالناس، وكان الحج في ذلك العام في شهر ذي القعدة، ولم يكن في شهر ذي الحجة، بسبب النسيء الذي كان أهل الجاهلية يعملونه، فقد كانوا يقدمون الأشهر الحرم ويؤخرونها من أجل القتال، ولما عادت الأمور إلى نصابها، ورجع الحج في وقته، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسل في رمضان إلى الأمصار: (إني حاج عامي هذا، فمن استطاع منكم أن يحج معي فليفعل)، فجاء الناس من كل الأمصار حتى امتلأت المدينة وأزقتها وما حولها.

الخروج من المدينة ودخول مكة

قال جابر: (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في المدينة، ثم ركب فنزل في ذي طوى، فصلى بها العصر في وقتها والمغرب والعشاء والصبح، ثم اغتسل في وقت الضحى، ثم صلى ركعتين وخرج إلى ناقته، وكنت ممن يليه، فكانت ركبتي تمس ركبته، فلما وضع رجله في الغرز قال: لبيك اللهم حجاً، ثم انطلقت به ناقته وهو يلبي بالتوحيد، يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، فلما استقلته ناقته نظرت بين يديه، فإذا مد البصر وعن يمينه، فإذا مد البصر وعن شماله، فإذا مد البصر ومن خلفه، فإذا مد البصر)، أي: من الناس لكثرة الذين خرجوا معه في حجته.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي ويرفع صوته بالتلبية، وقد بين أن الأنبياء من قبله هكذا كانوا يفعلون، فاستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلبيته حتى نزل بذي طوى، وهو قريب من الحرم، وإنما استراح بذي طوى، وهو الآن في مكة، فصلى فيه حتى كان في وقت الضحى فاغتسل، ثم انطلق فدخل مكة من أعلاها، أي: من كداء، وهي مكان مقبرة مكة الآن، ثم هبط بالوادي ودخل من باب بني شيبة، أي: دخل الحرم في جهة باب الكعبة، وهو المكان الذي يسمى بباب بني شيبة.

الطواف بالكعبة

ثم بعد ذلك بدأ بالطواف، فبدأ بالحجر الأسود واستلمه، ثم جعل الكعبة عن يساره حتى أتم سبعة أشواط، ورمل في الأشواط في الثلاثة الأولى، يعني: أسرع فيها قليلاً، ثم لما أكمل الأشواط السبعة ذهب إلى مقام إبراهيم فقال: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، ثم صلى ركعتين، قرأ في الأولى بعد الفاتحة بـ(الكافرون) وفي الثانية بعد الفاتحة بسورة الإخلاص، ثم رجع إلى الكعبة فوقف في الملتزم فدعا، ثم استلم الحجر مرة أخرى، ثم مر على زمزم، وبنو هاشم يجلبون الماء، أي: يسقون الناس، فقال: (اسقوا، ولولا أن يزاحمكم الناس على سقياكم لدفعت معكم).

السعي بين الصفا والمروة

ثم انطلق إلى الصفا، فلما رأى الكعبة وصعد على أعلى الجبل كبر ثلاثا ثم قال: (أبدأ بما بدأ الله به، إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، ثم قال: لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده)، ودعا، ثم انطلق إلى المروة، وأسرع بين العمودين، أي: في وسط الوادي، فلما وصل المروة وقف عليها وقال مثلما قال على الصفا، وعد ذلك شوطاً حتى أكمل سبعة أشواط، وابتدأها بالصفا وانتهى بالمروة.

يوم التروية

ثم رجع يلبي إلى منزله وقد بنيت له قبة من أدم بالحجول، واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتلبية حتى خرج في وقت الضحى بعد أن ارتفع النهار إلى منى في اليوم الثامن وهو يوم التروية، فقد خطب الناس بمكة، وبين لهم مناسكهم، فلما أتى منىً صلى بها الظهر، ووجد منزله قد أعد وهو المسجد المسمى اليوم بمسجد الخير، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار بمقدمته، وجعل مسلمة الفتح في أوسطه، وجعل الأعراب في آخره، وهذا ترتيب لمنازل الناس في الإسلام وفضلهم فيه.

فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في وقتها ركعتين والعصر في وقتها ركعتين، والمغرب في وقتها ثلاثاً والعشاء في وقتها ركعتين، والصبح في وقتها ركعتين، فلما صار في وقت الضحى انطلق ملبياً إلى عرفات، فلم يدخلها بل نزل بقبة قد بنيت له في جانب الوادي.

يوم عرفة

ولما كان أول وقت الزوال جيء بالناقة فركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل أول عرفة، ثم خطب الناس خطبة طويلة بين لهم فيها أحكام الحج، ووعظهم فيها، وذكرهم، وأطال الخطبة، وكان يقف في الغرزون، أي: في غرز الناقة ليسمع الناس، فلما كان في آخر خطبته أمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جمعاً وقصراً بأذان واحد وإقامتين، ثم انطلق إلى جهة الجبل، فلما بلغ الصخرات دونه صرف ناقته إلى جهة القبلة ولم يصعد الجبل فقال: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف).

ثم بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء والذكر والتكبير، وكان خلال ذلك يذكر الناس ويعلمهم، فقد أمر جرير بن عبد الله البجلي أن يستنصت الناس، فاستنصتهم جرير وقال: (أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، فكان يعلمهم أحكامهم ويعظهم ويذكرهم ثم يدخل من الدعاء والتكبير، فقد قال: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، فخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، حتى غربت الشمس.

المبيت بمزدلفة

فلما غربت الشمس قال له بلال: (الصلاة الصلاة، قال: إن الصلاة أمامك)، فمكث هنيهة بعد الغروب، ثم جعل حبل المشاة بين يديه وانطلق إلى مزدلفة، وكان بلال يذكرهم الصلاة فيقول: (إن الصلاة أمامك) حتى بلغوا مزدلفة، فنزل فيها فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى المغرب ثلاثاً، وأقام فصلى العشاء ركعتين، ثم نام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم العجزة والضعفاء، فأذن لسودة بنت زمعة أم المؤمنين في أن تخرج لمزدلفة في الليل، وكان معها صبية من بني هاشم منهم عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، قال: فأتانا ونحن على وتد لنا نركبها، فظهر يلطخ أفخاذنا أي: يضربنا أو يمسحنا على الأفخاذ، ويقول: (أي بني! لا ترموا الجمرة حتى ترووا الشمس)، فهذا بداية وقت الرمي، فهو أرسلهم من الليل لتفوتهم الحطمة، ولئلا يزيد الزحمة، لكن لم يأذن لهم بالرمي إلا بعد أن تطلع الشمس، قال: (أي بني! لا ترموا الجمرة حتى ترووا الشمس).

فلما أصبح لأول طلوع الفجر أمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ركعتين في أول وقتها وغلس بها، ثم وقف في مصلاه، وأطال التكبير والذكر والدعاء، ثم انطلق إلى المشعر الحرام مكان المسجد وكلم الناس فيه وقال: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف)، والجمع هي مزدلفة كلها موقف وأي مكان منها.

أعمال يوم النحر

وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقت الإسفار الأعلى، ثم انطلق إلى منى فبدأ بجمرة العقبة، وتجاوز الجمرتين قبلها وتجاوزها هي حتى كان بينها وبين مكة، ثم رد الناقة إليها فرماها بسبع حصيات من فوقها وهو على ناقته يكبر مع كل حصاة، ثم نزل عن الناقة وجيء بالهدي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى من كل أنواع الحيوان، من كل أنواع الأنعام، فأهدى مائة ناقة فنحر بيده ثلاثاً وستين ناقة، ووكل علياً فنحر بقيتها، فقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث وستين سنة على قدر البدن التي نحرها، فذبح كبشين أقرنين وأمر بذبح بقية الغنم، وأهدى عن نسائه البقر، ولم يرو عنه أنه ذبح البقر بيده ذلك اليوم.

ثم نادى أبا طلحة الأنصاري فأمره أن يحلق شق رأسه الأيمن فحلقه، فأمره أن يوزعه بين أصحابه ليتبركوا به ففعل، ثم أمره أن يحلق شقه الأيسر فحلقه، فأعطاه إياه وخصه به.

ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته ووقف الناس يسألونه، فما سئل عن شيء في ذلك اليوم قدم ولا أخر إلا قال: (افعل ولا حرج).

ثم انطلق إلى مكة فطاف طواف الإفاضة مثل طواف القدوم، لكنه على ناقته يستلم الحجر بمحجن أو بعصا قصيرة عنده ولم يقبله، بل كان يطوف على الناقة كما سعى عليها أيضاً.

أعمال يوم الحادي عشر

وبعد أن أكمل الطواف نزل فصلى ركعتين خلف المقام ثم انطلق إلى منىً راجعاً، وبقي فيها بقية يومه ذلك، صلى الظهر في وقتها مقصورة، والعصر في وقتها مقصورة، والمغرب في وقتها ثلاثاً، والعشاء في وقتها مقصورة، وكان يعلم الناس بين ذلك، وبات بها ليلته تلك، ثم صلى فيها الصبح، ثم انطلق إلى الجمرة الوسطى فرماها بسبع حصيات مستقبل القبلة مكبراً مع كل حصاة، ثم تياسر قليلاً ووقف للدعاء قدر قراءة سورة البقرة أيضاً، وأكثر من الضراعة والبكاء والدعاء.

ثم انطلق إلى جمرة العقبة فتعداها حتى كان بينها وبين مكة، أي: جعل منىً عن يمينه ومكة عن شماله، واستقبل الجمرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ولم يقف بعدها للدعاء، بل رجع إلى مصلاه، فأذن بلال وأقام فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين، ثم صلى العصر كذلك في وقتها وخطب الناس وذكرهم في ذلك اليوم وهو يوم الحادي عشر خطبة بليغة حفظها عدد كبير من أصحابه.

ثم بعد ذلك أقام كما فعل في اليوم الأول.

أعمال يوم الثاني عشر والثالث عشر

فلما كان اليوم الثاني عشر ورمى الجمرات قال للناس: (إنا نازلون غداً إن شاء الله بمحصب بني كنانة حيث تحالفوا على حرب الله ورسوله).

ولما رمى الجمرات في اليوم الأخير من أيام الرمي انطلق إلى مكة، وصلوا المغرب والعشاء بالمحصب محصب بني كنانة، ولما كان من جوف الليل خرج إلى الكعبة فطاف طواف الوداع، وأمر بالرحيل، فجاء فوجد صفية بنت حيي أم المؤمنين تبكي، فقال: (ما بالها؟ فقيل: نفست أو حاضت، فقال: حلقى عقرى أحابستنا هي) أي: أمؤخرة هي؟ (فقيل: إنها قد أفاضت، فقال: فلتنفذ إذاً)، ولم يتأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق وما صلى الصبح إلا خارج مكة وقد خرج من أسفلها، دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها، أي من المسفلة، ثم انطلق راجعاً إلى المدينة، وكان آخر عهده بمكة طوافه بالبيت، أي: طواف الوداع.

هكذا كانت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حرص خلالها أن يودع الناس وأن يخبرهم بشؤون دينهم ودنياهم، ولم يعش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقوفه بعرفة إلا اثنين وثمانين يوماً، وقد كان هذا الموقف في اليوم التاسع من الشهر الثاني عشر من العام العاشر من الهجرة، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وهو الشهر الثالث من العام الحادي عشر من الهجرة.

ولهذه الحجة كما وصفها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تضمنت كثيراً من الأحكام وكثيراً من المواقف المؤثرة التي لا بد من استقرائها وتتبعها، ولا يمكن أن نأتي بها جزافاً في مثل هذا المشهد وحده.

قال جابر: (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر في المدينة، ثم ركب فنزل في ذي طوى، فصلى بها العصر في وقتها والمغرب والعشاء والصبح، ثم اغتسل في وقت الضحى، ثم صلى ركعتين وخرج إلى ناقته، وكنت ممن يليه، فكانت ركبتي تمس ركبته، فلما وضع رجله في الغرز قال: لبيك اللهم حجاً، ثم انطلقت به ناقته وهو يلبي بالتوحيد، يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، فلما استقلته ناقته نظرت بين يديه، فإذا مد البصر وعن يمينه، فإذا مد البصر وعن شماله، فإذا مد البصر ومن خلفه، فإذا مد البصر)، أي: من الناس لكثرة الذين خرجوا معه في حجته.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي ويرفع صوته بالتلبية، وقد بين أن الأنبياء من قبله هكذا كانوا يفعلون، فاستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلبيته حتى نزل بذي طوى، وهو قريب من الحرم، وإنما استراح بذي طوى، وهو الآن في مكة، فصلى فيه حتى كان في وقت الضحى فاغتسل، ثم انطلق فدخل مكة من أعلاها، أي: من كداء، وهي مكان مقبرة مكة الآن، ثم هبط بالوادي ودخل من باب بني شيبة، أي: دخل الحرم في جهة باب الكعبة، وهو المكان الذي يسمى بباب بني شيبة.

ثم بعد ذلك بدأ بالطواف، فبدأ بالحجر الأسود واستلمه، ثم جعل الكعبة عن يساره حتى أتم سبعة أشواط، ورمل في الأشواط في الثلاثة الأولى، يعني: أسرع فيها قليلاً، ثم لما أكمل الأشواط السبعة ذهب إلى مقام إبراهيم فقال: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، ثم صلى ركعتين، قرأ في الأولى بعد الفاتحة بـ(الكافرون) وفي الثانية بعد الفاتحة بسورة الإخلاص، ثم رجع إلى الكعبة فوقف في الملتزم فدعا، ثم استلم الحجر مرة أخرى، ثم مر على زمزم، وبنو هاشم يجلبون الماء، أي: يسقون الناس، فقال: (اسقوا، ولولا أن يزاحمكم الناس على سقياكم لدفعت معكم).


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4132 استماع
المسؤولية في الإسلام 4060 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3907 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع