لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم اللهقال أبو داود (صاحب السنن) عن إبراهيم بن ميمون المروزي - أحد الدعاة المحدِّثين الثِّقَات، وكانت مهنته الصياغة وطرق الذهب والفضة -: "كان إبراهيم الصائغ رجلًا صالحًا"، قال: "وكان إذا رفع المطرقة فسمع النداء سيَّبها"؛ فهذا الرجل الصالح لما كان حيَّ القلب، لم تمنَعْه مهنتُه من المسارعة إلى فعل الخيرات، فكان إذا سمع المؤذِّنَ ترَكَ عمله على الفور، فأين نحن من أمثال هؤلاء؟
لقد أمَرَنا ربُّنا بالمسارعة للخيرات في عدَّة مواضعَ من القرآن، فقال:
﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران:133].
وقال: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الحديد: 21].
وقال: ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات ﴾ [البقرة: 148].
وقال: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [المائدة:48].
فأين نحن من هذا الأمر الربانيِّ الذي استجاب له الأوَّلون؟ أم أين نحن من آخِر وصيةٍ لنبيِّنا التي قال عنها عليٌّ رضي الله عنه: كان آخر كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((الصلاةَ الصلاةَ، اتقوا اللهَ فيما مَلَكَت أيمانُكم))؛ صحيح أبي داود، وفي رواية: ((اتقوا اللهَ في الصلاة وما ملكت أيمانكم))؛ الصحيحة، فهل اتقينا الله حقَّ التقوى في الصلاة؟ وهل استجبنا لله ولرسوله إذا دعانا لما يُحْيينا؟
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصفِّ الأوَّل، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهَموا، ولو يعلمون ما في التهجير، لاستبَقوا إليه، ولو يعلمون ما في العَتَمَة والصبح، لأتَوْهما ولو حَبْوًا))؛ رواه البخاري ومسلم، و(التهجير): هو التبكير إلى الصلاة.
وكما أنَّ الله وملائكته يصلُّون على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنهم يصلُّون على الصفِّ الأوَّل؛ إذ إنَّ هذا السبق هو مطلوب الشرع، لأنَّ الله يحبُّ معاليَ الأمور ويكره سفسافَها؛ فعن أبي أُمامَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اللهَ وملائكتَه يصلُّون على الصفِّ الأوَّلِ))؛ صحيح الترغيب والترهيب.
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأَخُّرًا، قال لهم: ((لا يَزالُ قومٌ يتأَخَّرُون حتى يُؤَخِّرَهُمُ الله))؛ رواه مسلم.
ورسولنا صلى الله عليه وسلم قد أُوتي جوامعَ الكَلِم، ولما ذكر التأخُّر فإنه تأخُّرٌ بجميع معاني هذه الكلمة: تأخُّر في العِلم، تأخُّر في العمل، تأخر في الحساب، تأخر في دخول الجنة، تأخر في درجات الجنة، بل تأخُّر في النار؛ فيُعرف أصحابها بآثار السجود التي حرَّم الله على النار أن تأكلها؛ لأن هذا التأخُّر لَدَليلٌ على زهد العبد في الثواب، وعدم تعظيمه لشعائر الله، وفيه تشبُّه بالمنافقين الذين قال فيهم سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء:142]، ومن كان على شاكلة هؤلاء، فلا جرم أن لا تُقبل أعمالُه الصالحة؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54]، فلو قال الله لنا: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ﴾ [التوبة: 54]، كان يكفينا أن نعلم أنَّ حسناتِ المنافق مردودةٌ، ولكن زادنا: ﴿ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54]؛ ليُعلمنا أنَّ التهاون في مثل هذه العبادات يؤدِّي إلى عدم قَبول العمل، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة:27].
فالتأخُّر لا نهاية له، قد يتأخَّر أول الأمر عن الصفِّ الأول، ثم عن تكبيرة الإحرام، ثم يتأخَّر عن الركعة الأولى، ثم يتكاسل عن الثانية، وهكذا يُستدرَج باتباع خطوات الشيطان، والنفسُ تعتاد الشيء، فإذا اعتادته أصبح وصفًا لها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الكذب: ((وما يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب؛ حتى يُكْتَب عند الله كذَّابًا))؛ متفق عليه.
فهل ترضى لنفسك أيها المسلم أن تكون في شرِّ الصفوف مع تمكُّنِك من أوَّلها؟
هل ترضى لنفسك أن تعرِّضَها للعقوبة بالتأخُّر عن مقدَّم الصفوف، حتى يؤخِّرَك الله في جميع المواقف؟
هل ترضى لنفسك ألا تَصُفَّ بين يدي ربِّك كما تصُفُّ الملائكة عند ربِّها ويكملون الصفوف الأولى؟
هل ترضى لنفسك ألا يصليَ الله عليك هو وملائكته في كلِّ صلاة جماعة؟
﴿ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة:38].
ما من إنسانٍ يَرضَى لنفسه بذلك إلا وقد رضي لها بالخسران؛ فمَن أراد أن يقدِّمه الله على غيره، ويجتنب عقابه، فليُسابق إلى طاعته، والعمل بمرضاته، والتقرُّب إليه بما استطاع من محبوباته.
وقد ضرب لنا سلفُنا الصالح خيرَ مثال في المبادرة والمرابطة، وترك الأعمال فورًا عندما يسمعون النداء للصلاة.
قال سعيد بن المسيب: "ما فاتتني الصلاة في جماعة، وقال: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين، وما نظرتُ في قفا رجلٍ في الصلاة منذ خمسين سنة".
وعن عثمان بن حكيم قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: "ما أذَّن المؤذِّن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد".
وقال أبو المواهب بن صَصْرَى عن الإمام ابن عساكر: "لم أرَ مثله، ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه مِن لزوم طريقةٍ واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الصلوات في الصفِّ الأوَّل إلا من عذر، والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة...".
وكان المحدِّث "بشر بن الحسن" يقال له: "الصَّفِّي"؛ لأنه كان يلزم الصفَّ الأوَّل في مسجد البصرة خمسين سنة.
وعن وكيع قال: "كان الأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تَفُتْه التكبيرةُ الأولى، واختلفتُ إليه أكثر من ستين سنة، فما رأَيْتُه يقضي ركعةً".
وكان يحيى بن القطَّان إذا ذكر الأعمش قال: كان من النُّسَّاك، وكان محافظًا على الصلاة في الجماعة، وعلى الصفِّ الأول"؛ قال يحيى: "وهو علَامة الإسلام"، فأين نحن من هذه العلَامة؟
وقال أسيد بن جعفر: "بشر بن منصور ما فاتَتْه التكبيرةُ الأولى قط".
وقال مصعب بن عبدالله: "سمع عامر بن عبدالله بن الزبير المؤذِّن ينادي بالصلاة وهو يُحتضر وينازع الموت - وكان منزله قريبًا من المسجد - فقال لمن عنده: خذوا بيدي إلى المسجد، فقيل له: إنك عليلٌ، فقال: أسمَعُ داعي الله فلا أجيبُه؟! فأخذوا بيده فدخل في صلاة المغرب، فركع مع الإمام ركعةً، ثم مات وهو في الصلاة".
وقال وكيع بن الجراح: "من لم يأخذ أهبة الصلاة قبل وقتها، لم يكن قد وقَّرَها، ومَن تهاون بالتكبيرة الأولى، فاغسل يدك منه".
وقال إبراهيم التيمي: "إذا رأيت الرجلَ يتهاون في التكبيرة الأولى، فاغسل يدك منه".
فلو عاش أمثال هؤلاء في عصرنا، كم سيغسلون أيديهم منا؟
وكان منهم مَن يبكي عندما تفوته تكبيرةُ الإحرام مع الجماعة، ومنهم الذي يمرض إذا فاتتْه الصلاةُ مع الجماعة.
قد يقول قائل: وهل نبكي لفوات تكبيرة الإحرام؟ نقول: نعم، نبكي على تأخُّرنا عن الصلاة حتى أصبحنا في مؤخِّرة الأُمَم، فقد قال سبحانه عن الذين كانت تفوتهم الطاعات فيحزنون لها: ﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 92]، وبذلك ملكوا مشارقَ الأرض ومغاربَها، ودانت لهم الأمم.
نسأل الله العظيم ربَّ العرش أن يوقظ قلوبَنا مِن غفلتها، وأن يجدِّد الإيمان في قلوبنا؛ إنه سميع قريب، وصلِّ اللهم وبارك على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وسلِّم تسليمًا كثيرًا.