الهجرة- الوقائع والعبر [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد: فقد وعدناكم في الدرس الماضي بالعودة إلى الدروس والعبر المأخوذة من الهجرية النبوية، وبما أن الهجرة النبوية كانت مبدأ تاريخ هذه الأمة، واللبنة الأولى لبناء دولة الإسلام، وبما أنها من أكبر الأحداث التي غيرت مجرى التاريخ، وغيرت شأن العالم كله، فإن الدروس المأخوذة منها كثيرة جداً، وهي قابلة للتكرار دائماً كسنن الله سبحانه وتعالى الكونية، فالله تعالى سير هذا الكون كله على وفق سنن ونواميس لا تخلف، فهي من سنة الله السائرة، وهذه السنن من كبرياتها: سنة التدافع بين الحق والباطل، فقد بنى الله هذه الدنيا على صراع أبدي مستمر بين الحق والباطل، ولابد أن يبقى هذا الصراع دائماً, وسيوجد أنصار في كلا الطرفين، فلابد أن يجد حزب الله في كل بلد ووقت أنصاراً، ولابد أن يجد حزب الشيطان في كل وقت وبلد أنصاراً، ويقع التدافع بين الحزبين بصفة مضطردة مستمرة.

وكذلك من سنن الله الكونية التي يسير على وفقها هذا العالم: أنه ينصر المستضعفين من أهل الحق، فضعفاء الناس هم أتباع الرسل، كما سأل هرقل أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، فقال: هم أتباع الرسل.

وهذه السنة متعدية لمجرد هذا الصراع البشري، فهي واصلة إلى جميع ما في الأرض، وقد ثبت في صحيح البخاري: ( أن القصواء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لا تسبقها راحلة، حتى جاء أعرابي على جمل له أحمر فسبقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان حقاً على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه ). فما من شيء في هذه الحياة الدنيا يرتفع رفعاً دنيوياً مستمراً؛ بل لابد أن يوضع ويتراجع، وانظروا في هذه السنة في خلق الإنسان فإنه إذا بلغ أشده وتتام خلقه وقوته وتم السمع والبصر والقامة، ووصل إلى منتهاه بدأ في النقص والضعف، وانظروا إلى القمر عندما تكمل استدارته، ويتم ضوؤه، ويعم الآفاق جميعاً يبدأ في النقص، فالليلة الرابعة عشرة من الهلال ليلة تمامه، ثم بعد ذلك في الليلة الخامسة عشرة يبدأ النقص كما قال الحكيم:

ألا رب مولود وليس له أب وذي ولد لم يلده أبوان

وذي شامة سوداء في حر وجهه مخلدة لا تنتهي لأوان

ويكمل في ست وسبع شبابه ويهرم في سبع معاً وثمان

فيتتام شبابه في الليلة الثالثة عشرة، وتتم رجولته وتمامه في الليلة الرابعة عشرة، ثم يبدأ النقص في الخامسة عشرة، وهي الليالي البيض، وهذه السنة اتضحت في الهجرة النبوية، فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وليس على وجه الأرض إذ ذاك من يعبد الله عبادةً صحيحة على وفق منهج الله إلا قليل جداً من بقايا أهل الكتاب في الأديرة وقد اعتزلوا الناس، ولم يشاركوا في شأن العالم، ولم يكن لهم أمر ولا نهي ولا مشاركة سياسية ولا إعلامية ولا دعوية، ليس لهم أي مشاركة في شأن الحياة، اعتزلوا الناس فسكنوا في الأديرة، ولم يتزوجوا ولم يخالطوا الناس، فهؤلاء لا يمكن أن يغيروا شأن الناس، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فعادت السنة فاختلف الناس فيه بين مصدق له ومكذب، والنهاية هي ما حكم الله به بصفة دائمة، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14].

من الدروس والعبر المهمة التي نأخذها من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الأخذ بالاحتياط، والأخذ بالحذر هو من العقل ومن التدبير، وليس منافياً للإيمان بالقدر، وليس منافياً للأخذ بالتوكل على الله، فأنتم تعلمون أن أتم الناس إيماناً هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أشد الناس توكلاً على الله سبحانه وتعالى وأخشاهم له، كما قال هو: ( إن أعلمكم بالله وأخشاكم بالله أنا )، ومع ذلك أخذ بالأسباب، فإنه أخذ بالحذر.

الآيات الدالة على أهمية الأخذ بالحذر والاحتياط

وقد أمره الله به في أربع آيات من كتابه، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً [النساء:71]، وهذا يدل على أن الواحد وحده شيطان، فهو عرضة للاخترام والأخذ؛ ولذلك قال: فَانفِرُوا ثُبَاتٍ [النساء:71] أي: مجموعات، أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً [النساء:71]، ولم يقل: انفروا فرادى، فالفرد لا يستطيع أن يصنع شيئاً، فالفرد لا يقيم دولةً، ولا ينصر مظلوماً، ولا يقيم حداً من حدود الله، ولا يستطيع إقامة أي مشروع ناجح، بل العمل الناجح لابد أن يكون جماعياً؛ ولذلك جاءت الآية صريحةً في هذا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71] وفسر ذلك بقوله: فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً [النساء:71]، فهذا من الأخذ بالحذر.

والآية الثانية هي في سورة النساء, وهي قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، فهنا أمر بأخذ الحذر، وهذا يقتضي أن يكون الإنسان دائماً على حذر فذلك من تمام العقل ومن تمام التدبير.

والآية الثالثة هي قوله تعالى في سورة المائدة: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [المائدة:92]، فهذا أمر مطلق بالحذر في كل الأحوال.

والآية الرابعة هي في سورة المنافقين, وهي قول الله تعالى: هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4]، فقد أمر الله بالحذر من المنافقين بالخصوص، فقد رأيتم أن الآية الأولى جاء فيها الأمر بالحذر مطلقاً وهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71].

وأما الآية الثانية جاء فيها الأمر بالحذر من المشركين: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102]، فدل هذا على أن الحذر هنا مقيد بالحذر من الكفار وهم المشركون.

والآية الثالثة جاء فيها الأمر بالحذر مطلقاً كالآية الأولى وهي: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [المائدة:92].

والآية الرابعة جاء فيها الحذر مقيداً بالحذر من المنافقين: هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].

أعداء المسلمين الذين يجب الحذر منهم

وهذا يدل على أن للمسلمين نوعين من الأعداء:

النوع الأول: هم الكافرون، وهذا يشمل أهل الديانات الأخرى، ويشمل اللادينيين أي: الذين ينكرون الدين أصلاً، فهؤلاء عدو للمؤمنين دائماً، وهم متفاوتون في عداوتهم، فأشد الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود، ثم بعدهم المشركون والنصارى، ثم بعد ذلك اللادينيون.. وهكذا، فهم درجات متفاوتة في العداوة؛ لكن تجمعهم جميعاً العداوة للمؤمنين.

ثم بعد ذلك العدو الثاني: هم المنافقون، وهم الذين يرون مع المؤمنين من جلدتهم، ومن أبناء قومهم، ويتكلمون بألسنتهم، وربما شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيمون الصلاة مع الناس، ولكنهم مع ذلك إذا وعدوا أخلفوا، وإذا حدثوا كذبوا، وإذا ائتمنوا خانوا، فهم يخونون عهد الله وميثاقه، ولا يؤمنون في أي أمر من الأمور، وما أكثر هؤلاء في إطار الشعوب المسلمة، فهم في كل زمان ذووا عدد كثير، ويكثرون عند ضعف الدين، وعند ضعف الدعوة، وغالبهم إنما هم أهل مصالح يبحثون عما يكفل لهم مصالحهم العاجلة الدنيوية، فهم يؤثرون العافية العاجلة على العاقبة الآجلة، فالعاقبة الآجلة ما عند الله في الدار الآخرة، والعافية الآجلة أي: أن يأخذوا شيئاً عفواً ليس فيه كدر في هذه الحياة الدنيا وهو حضهم، وهؤلاء هم الذين يريدون حرث الدنيا، وقد قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء:18-19].

وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20].

وقال تعالى: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:200-202].

وهذا الدرس مهم؛ لأنك تعرف به أن المنافق في قرارة نفسه يؤمن بالله؛ لأنهم يقولون: (ربنا آتنا في الدنيا)، فهم يدعونه ويسألونه، وهذا دليل على أنهم يؤمنون به، لكنهم يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، فهي أهم لديهم منها، ولذلك لا خلاق لهم في الآخرة، وهم مع المؤمنين في هذه الحياة وليسوا من جملة الكافرين، بل هذا النفاق العملي ليس مثل النفاق العقدي المخرج من الملة، ولذلك تقرءون في سورة الحديد قول الله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحديد:13-15]، وهذا صريح في أنهم ليسوا من الذين كفروا؛ لأنه قال: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحديد:15]، والعطف يقتضي المغايرة، مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:15].

ومن أراد ألا يكون من هذا الجنس من الناس فليعلم أن ذلك ليس راجعاً إلى نسب ولا حسب ولا إلى مستوى اجتماعي أو ثقافي، بل إنما هو راجع إلى أن يؤثر الإنسان في قرارة نفسه الآخرة على الأولى، وأن يحب الله والدار الآخرة وما عند الله، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].

صور من أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحيطة والحذر في الهجرة النبوية

والأخذ بالحذر أخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة في مواطن كثيرة، ففي بيعته للأنصار في العقبة أخذ بالحذر، فأخذ مكاناً آمناً من الرقابة الخارجية، واختار مكاناً خارجاً عن الزحام في الشعب الذي خلف الجمرة، واختار وقتاً مناسباً في الليلة الوسطى من ليالي التشريق، وعندما بايعوه جاءوا يتسللون فرادى ثم انصرفوا كما أتوا، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ملأ من المؤمنين؛ بل جاء وليس معه إلا عمه العباس بن عبد المطلب.

كذلك في أمره للمؤمنين بالهجرة، فقد أمرهم بذلك فخرجوا فرادى، فأول من خرج مصعب بن عمير، ثم بعده عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، ثم خرج عدد من المستضعفين المعذبين من المسلمين من مكة، وعندما أذن الله بالهجرة لرسوله صلى الله عليه وسلم أخذ بالاحتياط والحذر أيضاً، فاتجه إلى الاتجاه المعاكس، فذهب إلى غار ثور في الجنوب الشرقي من مكة، والهجرة هي إلى المدينة في الشمال الغربي، ومكث فيه ثلاثة أيام، وعادة الهارب ألا يبقى في المكان القريب، بل لابد أن يأخذ فرصته في غفلة الناس عنه فيقطع المسافة في وقت سريع، وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً أخذ طريقاً مغايراً للطريق المعهود الذي تسلكه القوافل بين مكة والمدينة فاستأجر ابن الأريقط فسلك به طريقاً غير معهود، فطريق القوافل كان يمشي مع الساحل مع شاطئ البحر حتى يصل إلى قريب من ينبع، ثم يذهب إلى عسفان، ثم يدخل مكة من جهة مدخلها من جهة سرف والتنعيم، أما الطريق الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أوغل في الحرار والصحراء، فمر بوادي قديد فسلكه، ومر بثنية هرشاء, وانطلق من ذلك الوجه حتى دخل المدينة من جهة ذي الحليفة، فلم يمر على الطريق المعهود الذي تمر به القوافل عادة، كذلك في هجرته لم يشأ أن يذهب معه عدد كبير؛ لما في ذلك من الكلفة والعناء؛ لأنه إذا كان معه عدد من المسافرين ربما مرض أحدهم أو تعطل أو تعطلت راحلته أو ضاعت فأدى ذلك إلى التخلف وهو مناف للحذر، فلذلك خرج مع أبي بكر رضي الله عنه وعامر بن فهيرة رضي الله عنه وليس معهم إلا هذا الدليل وهو عبد الله بن أريقط.

صور من أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحيطة والحذر في غزواته

وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحذر في كثير من مواقفه، فقد ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال: ( ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوةً إلا ورى بغيرها إلا ما كان من غزوة تبوك )، فكان إذا أراد أن يغزو إلى جهة نجد وقف على المنبر فهدد قوماً في جهة الساحل في الغرب، فيظن أولئك أنه سيغزوهم فيفرون ويتفرقون, ويظن أهل نجد أنهم آمنون وأنه سيغزو غيرهم فيأمنون حتى يغشاهم في عقر دارهم، وهذا من سياسته صلى الله عليه وسلم وأخذه بالحذر.

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم عندما أراد أن يغزو مكة لفتحها قال: ( اللهم خذ الأسماع والأخبار عن قريش حتى نبغتها في عقر دارها ).

وكذلك ( فإنه في غزوة بدر عندما مر برجل سأله قال: من أنت؟ فنسب له الرجل نفسه حتى عرفه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن أنت؟ فقال: نحن من ماء، فجعل الرجل يقول: أمن ماء العراق أم من ماء اليمن؟ ) لم يدر ما معنى (نحن من ماء)، والمقصود بها هو قول الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]، فالبشر وسواهم من الأحياء في الأرض جميعاً من ماء

وهنا درس آخر وهو الحذر من الكذب، فرسول الله صلى الله عليه وسلم رغم كل هذا الحذر لم يؤثر عنه كذب قط، ولكنه يقول كلمةً موهمة يفهم منها الإنسان شيئاً لا يريده النبي صلى الله عليه وسلم، كتحذيره لأهل الساحل وهو يريد غزو نجد مثلاً وتهديده لهم، وكقوله: ( نحن من ماء )، فليس في هذا كذب، وقد أخرج أبو داود في السنن بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( في المعاريض مندوحة عن الكذب )، والمندوحة معناها: المكان الذي يخرج الإنسان منه، والمعاريض هي: الكلام غير الواضح، فهو الكلام الذي يعرض دونه خفاء؛ ولهذا سمي بالمعاريض، فيعرض للإنسان دونه خفاء في الدلالة، فيفهمه على وجه غير مقصود؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للسعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة حين أرسلهما إلى بني قريظة في غزوة الأحزاب يعرفان: ( هل نقضوا العهد أو بقوا عليه؟ قال: إذا وجدتموهم على العهد فأعلنا ذلك للناس، وإن وجدتموهم قد نقضوا فلا تفتا في أعضاد الناس، وألحنا لي لحناً أفهمه )، واللحن هو: الكلام الخفي الذي لا يفهمه كل الناس، قال: ( فلما رجعا وجدا بني قريظة قد نقضوا العهد، فقالا: عضل والقارة )، وعضل والقارة قبيلتان من العرب معروفتان بالإخاء لا يغزو من واحدة منهما بعث إلا غزا معه بعث من الأخرى، وبينهما من الصداقة والصلة الشيء الكثير المعروف، لكن القبيلتين نقضتا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغدرتا بأصحاب الرجيع، فلما قالا: عضل والقارة. وهما مضرب المثل في الإخاء والمحبة والمودة فهم الناس أن علاقة بني قريظة مع النبي صلى الله عليه وسلم كما هي علاقة عضل مع القارة، وفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم نقضوا العهد كما نقضت عضل والقارة.

الأنبياء عليهم السلام ومبدأ أخذ الحيطة والحذر في دعوتهم

وهذا الأخذ بالحذر هو سنة الأنبياء من قبل، فما من نبي من أنبياء الله بعث بهذه الدعوة المباركة إلا أخذ بالحذر في بداية دعوته، فكان يأخذ بالسرية والاحتياط، فنوح عليه السلام قال: إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً [نوح:9]، وذكر أنه استغل كل الظروف، قال نوح: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:5-14].

وهذا درس بليغ في نذارة نوح عليه السلام، وهو أول الرسل إلى أهل الأرض، ثم بعده نجد هذا الدرس يتكرر مع إبراهيم خليل الرحمن، فإنه قال: وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57]، فقد قرر تحطيم هذه الأصنام، ولكنه علم أنه إن فعل ذلك بين أيديهم قتلوه ولم يستطع أن ينجز مهمته، فقرر أن يفعل ذلك بعد أن يولوا مدبرين، فاختفى عنهم واستتر حتى ولوا مدبرين، فقام على الأصنام فكسرها، وكان من احتياطه أيضاً أن ترك صنماً واحداً وهو الصنم الكبير، فتركه لإقامة الحجة عليهم، فجاءوا فوجدوا الأصنام جذاذاً قد تكسرت إلا صنماً واحداً هو الصنم الكبير، فقالوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الأنبياء:59-60]. (يذكرهم) أي: يعيبهم، لكن من شدة أدبهم مع الأصنام لم يقولوا: يسبهم أو يشتمهم، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60]، وانظروا إلى الفرق في السياق: ففي الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر وليست حية مع ذلك يرجع عليها ضمير المعرفة (يذكرهم), و(هم) من خصائص العاقل، فهناك ثلاثة علامات للعاقلين هي: من والواو وهم، وأما في الكلام عن إبراهيم الذي هو ابن أسرة كريمة معروفة وهو من عقلائهم وخيرة شبابهم مع ذلك نكروه وقالوا: فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:60-61]، يخرجون صورته في التلفزيون، يعلنونه على الناس لعلهم يشهدون على أذاه وإهانته، فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:61]، وهنا كان هؤلاء الكفرة الفجرة أعدل من كثير من الحكام؛ لأنهم لم يقيموا عليه الحكم، ولم يسجنوه قبل المحاكمة، فكثير من الحكام يظلمون الناس فيسجنونهم دون محاكمة، وهؤلاء الكفار جاءوا بإبراهيم ليحاكموه أولاً قبل أن يوقعوا عليه العقوبة، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:61]، فعاتبوه: قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:62-63]، وهنا نكتة عجيبة جداً، وهي أنه يريد أن يشبههم بالأصنام من حيث لا يشعرون، فهم لهم كبير وهو ملكهم وطاغوتهم يتصرف فيهم ولا يعترضون على تصرفه، فإذا أخذ أموالهم فلا اعتراض على ذلك، وإذا أخذ نساءهم فلا اعتراض على ذلك، فهم لا يعترضون على شيء من تصرفاته، فلما كان هذا قناعةً لديهم وفي عقولهم ضرب لهم إبراهيم مثلاً بهذا الصنم الكبير، قال: فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63]، كما لا تعترضون على تصرفات كبيركم وملككم فكذلك هذا الصنم الكبير هو الذي كسر الأصنام، فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63]، ثم أراد أن يقنعهم؛ لأن هذا من المستغرب، فأراد أن يقنعهم، فقال: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63].

وكذلك نجد هذا الدرس أيضاً في نذارة لوط عليه السلام، فقد أمره الله أن يخرج بأهل بيته إلا امرأته في قطع من الليل، وأن يتبع أدبارهم فيكون آخرهم، وألا يلتفت منهم أحد، قال الله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر:65].

وكذلك نجد هذا الدرس يتكرر مع يعقوب عليه السلام، فإنه لما قص عليه ابنه الحبيب الذي هو أحب أولاده إليه وهو يوسف عليه السلام رؤياه، وقد رأى رؤيا عجيبةً جداً؛ هذا الولد الصغير رأى أنه يسجد له الشمس والقمر وأحدى عشر كوكباً من أكبر الكواكب، فعرف أبوه تأويل الرؤيا، وفسرها له تفسيراً مجملاً، ولكن بما أن الرؤيا تسر ولا تضر، مع أن مرائي الأنبياء وحي، فإن يعقوب أمره بأخذ الحذر: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف:5]، ثم فسر له الرؤيا فقال: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [يوسف:6].

فيعقوب أمره أن يسر بهذه الرؤيا عن إخوته؛ لئلا يحسدوه عليها، وهو قد شعر ببداية تغير النفوس وحصول الحسد، فخاف أن يزيد هذا الحسد بسبب هذه الرؤيا، فقال: يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً [يوسف:5].

وكذلك يقول لأولاده لما أرسلهم لتقصي أخبار يوسف فقط قال: لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ [يوسف:67]، وأهل التفسير لهم وجهان في تفسير هذا القصد، فهو هنا أمرهم بذلك لحاجة في نفس يعقوب قضاها، ولا تغير شيئاً من قدر الله، وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، لكن لماذا يقول لهم: يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ [يوسف:67]؟ قال أهل التفسير: خاف عليهم من العين، فقد كانوا ذوي عدد وجمال وقامات، وهم من سلالة الأنبياء الطاهرة، فلهم قامات وأشكال وهم ذوو عدد، فخاف عليهم من العين، وهذا درس آخر أن العين حق كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( العين حق )، وقد حذر الله منها في كتابه، فقال: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [القلم:51-52].

والوجه الثاني في التفسير: أنه خاف عليهم أن يؤخذوا دفعةً واحدة، فجعل تفرقتهم حزماً وحذراً، فإذا أخذ بعضهم نجا البعض الآخر، وهذا من فلسفة الإغريق قديماً، فقد كان للإغريق تاجر يسافر إلى قبرص فيشتري البضائع فيرسلها في السفن، ومعه صديق له تاجر آخر، فكان التاجر الأول يشتري البضائع وكل يوم يشتري بضاعةً خفيفة، فيذهب إلى سفينة مسافرة فيرسلها معها، فقال له التاجر الجديد: إن هذا غبن، فالأحسن أن تستأجر سفينةً واحدة تجعل فيها كل بضائعك، فبدلاً من أن تستأجر في كل يوم جزءاً من سفينة استأجر سفينةً واحدة بأقل بكثير من الأجرة، واجعل فيها تجارتك جميعاً، فقال: أرأيت لو غرقت السفينة وفيها كل تجارتي أليست مصيبة؟ فالأفضل إذاً أن أرسل كل يوم جزءاً من تجارتي في سفينة ولو كان أغلى، وقد أخذ بهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه في قواعده في تحصيل المال وهي خمس قواعد ذكرها لتحصيل المال عندما سئل رضي الله عنه فقيل له: يا أمير المؤمنين! إنك هاجرت كإخوانك المهاجرين، فجئت إلى المدينة فقيراً لا تملك إلا سيفاً، فكيف أصبحت أغنى المهاجرين؟ فقال: كنت أعالج وأنمي ولا أزدري ربحاً، ولا أشتري شيخاً، وأجعل الرأس رأسين، خمس قواعد كانت سر غنى عثمان بن عفان، فكثير من الشباب الآن يريدون أن يكونوا كـعثمان بن عفان ولهم الحق في ذلك، وانظروا إلى سر غنى عثمان بن عفان خمس نقاط: كنت أعالج، فلم يكن ييئس ولا يقنط، فإذا حصل ضرر في أي جزء من ماله عالجه، وسعى لاستصلاحه باستطاعته، (وأنمي) كان يسعى لنمائه وزيادته ولو كان ذلك بالشيء اليسير، ولا أزدري ربحاً؛ فإذا أراد أن يبيع فإن سر التجارة في الحركة، فعجلت التجارة لابد أن تكون متحركة، فالإنسان الذي يمسك بضاعته ولا يبيعها إلا بثمن غال أكثر بأضعاف مضاعفة مما اشتراها به هذا لا يمكن أن يربح أبداً، لكن الذي يبيع بأي ثمن عرض عليه فوق الثمن الذي اشترى به هذا لابد أن يربح؛ لأن العجلة متحركة، ويمكن أن يكون ربحه في غير هذه البضاعة في نوع آخر من أنواع البضاعات، والتاجر العاقل يريد أن يقدم خدمةً للإنسانية أيضاً من خلال حاجات الناس وما يقدمه لهم من الحاجات، فلذلك يريد أن يبيع تجارته كل يوم ثم يشتري تجارةً جديدةً فيها خدمة للبشرية، فلذلك قال: ولا أزدري ربحاً.

والقاعدة الرابعة: ولا أشتري شيخاً، فكل ما هو قديم ولم يعد له مستقبل لا يشتريه، فالبضاعة التي لم تعد رائجةً في السوق، وقد أدبر عنها الشراء، وكالكبير من الحيوان الذي لم يعد له المستقبل، وكالسيارة القديمة التي نصف وقتها تمضيه في الإصلاح، هذه لا يشتريها عثمان بن عفان أبداً، فلذلك قال: ولا أشتري شيخاً.

القاعدة الخامسة وهي محل الاستشهاد هي قوله: وأجعل الرأس رأسين، فبدلاً من أن يشتري الشيء الواحد غال بثمن كبير يشتري شيئين، فإذا جاءت المصيبة في أحدهما بقي الآخر، فلذلك قال: وأجعل الرأس رأسين، وكل هذا من الحذر والحزم.

كذلك نجد هذا الدرس يتكرر مع يوسف عليه السلام، فإن الله حكى عنه معاملته لإخوته عندما أمر فتيانه فجعلوا صواع الملك في متاع أخيه، وعندما خرجت القافلة نادى المنادي في أثرها: إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70]، فرجعوا وأنكروا ذلك فسألهم, كاد الله له لم يطبق عليهم قانون الملك الذي عنده؛ لأن فيه قتل السارق وهو لا يريد أن يقتل أخاه، لكن سألهم عن قانونهم هم أي: عن الشريعة التي يعملون بها، وهو يعرف ملة إبراهيم، ويعرف ما عليه يعقوب من الدين؛ وهو يقتضي أن السارق يملك بدل سرقته، قال: قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ [يوسف:74]، هذا سؤاله لهم: السارق ما جزاؤه؟ أي: بماذا تجازونه عندكم إن كنتم كاذبين؟ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ [يوسف:75] يملك بدله، وبين الله أنها مكيدة، كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76] أي: في قانونه، وهذا درس آخر؛ وهو أن القانون الوضعي يسمى ديناً، فهو دين غير الدين المنزل، في دين الملك إلا أن يشاء الله، ثم قال بعد ذلك لما تفاجأ إخوانه هو أولاً بدأ بأوعيته قبل وعاء أخيه، حتى جعل أخاه آخر واحد منهم يفتش متاعه فبدأ بالأكبر فالأكبر، الأكبر فالذي يليه حتى وصل إلى أصغرهم سناً وهو أخوه الشقيق، فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ [يوسف:76]، فترك أخاه آخر من يفتش متاعه، وهذا كله أخذ بالاحتياط.

ثم بعد ذلك (استخرجها من وعاء أخيه)، وهنا لغز بلاغي وهو أن الله سبحانه وتعالى عودنا في كتابه على أسلوب الاختصار وعدم التكرار، وفي هذه الآية جاء: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ [يوسف:76]، فلماذا يتكرر هذا الأسلوب في آية واحدة بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ [يوسف:76]؟ وهذا اللغز قد ألغز به أحد علمائنا هنا وهو الشيخ سيدي عبد الله رزاقة إلى علماء المغرب، فلم يستطيعوا جوابه، فأجابه الشيخ محمد بن السعيد اليدالي جواباً عجيباً، مقتضاه: أنه لو قال: فاستخرجها منه لكان هذا إهانةً لأخيه أي: أن يفهم الناس أنه استخرجها من جسد أخيه، ولو قال: فاستخرجها من وعائه لاحتمل أن يكون من وعاء يوسف، فيكون هذا ظلماً ليوسف، فلم تأت عبارة مؤدية للمعنى إلا هذه العبارة وهي: (استخرجها من وعاء أخيه)، وهذا الجواب هو الذي بدأه محمد بن السعيد اليدالي رحمة الله عليه بقوله:

سؤال غريب دون شنقيط أرضه من البعد تيه يتصلن بتيه

إذا شبه الهادي بها وجه مرشد تشابه في عينيه وجه متيه

إلى آخر القصيدتين المعروفتين لدى بعضكم, وهما في الوسيط.

كذلك نجد هذا الدرس يتكرر مع موسى بن عمران عليه السلام، فـموسى بن عمران عليه السلام أمره الله أن يسري ببني إسرائيل من مصر في جوف الليل بعدما تغلق أسوار المدينة، فيخرج بهم إلى جهة المشرق وهي جهة الشام للهجرة، فلما نام حراس الأبواب فتح موسى باب السور وخرج مع بني إسرائيل مهاجرين ليلاً، فلما أصبحوا أصبحت ديارهم خالية ليس فيها إلا من كان من المنافقين منهم ومن أنصار فرعون، فحينئذ تدخلت الصحافة, فجاءوا فأعلنوا وهم الحاشرون الذين أرسلهم فرعون في المدائن، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشعراء:53-57].

وهذا السراء كان ليلاً، فلو أراد موسى أن يخرج ببني إسرائيل نهاراً أو عشيةً أو ضحىً لمنعه فرعون من ذلك، ولذلك قال الله له: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ [الدخان:23-24]، فلما وقف على شاطئ البحر التفت بنوا إسرائيل فرأوا فرعون وجنوده وراءهم فقالوا: البحر من أمامنا، والعدو من ورائنا إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فقال موسى بكل ثقة: كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فأمره الله أن يضرب البحر بعصاه فضربه فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]، فمر موسى وبنوا إسرائيل من أرض يبس لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى [طه:77]، لم تظهر عليها الشمس في الدنيا إلا يوماً واحداً وهو ذلك اليوم، فيبست فيهم، فمروا منها، ثم ترك البحر مفتوحاً حتى إذا جاء فرعون وجندوه فتوسطوا في البحر التطم فعاد كما كان، فلم تبق منهم باقية، لم يبق إلا بعض ما كان معهم من الحلي والمال قذف به البحر إلى بني إسرائيل فأخذوه وقد نهاهم موسى عن ذلك، ومن المعلوم أن الغنائم لم تحل لأحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فجميع أنبياء الله كانوا يجاهدون في سبيل الله, ويقاتلون أعداءهم، لكن لم تحل الغنائم لأحد منهم قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك ثبت في الصحيح أنه قال: ( أوتيت ستاً لم يعطهن نبي قبلي، ومن هذه الست قال: وأحلت لي الغنائم )، فكانت الغنائم تجمع، فإذا جمعت جاءت نار من عند الله فأكلتها، وإذا كان فيها غلول -أي: سرق بعض الغزاة بعضها وغلوه، والغلول هو الأخذ من الغنيمة قبل أن تقسم- فإن النار لا تأكلها، وقد ثبت في الصحيح: ( أن نبياً غزا فغنم، فجمع الغنائم فجاءت النار فلم تأكلها، فعرف أن في أصحابه غلولاً، فجعلهم بطوناً، كل بطن يبايعونه في يده، فالبطن الذي فيه الغلول ستلصق أيديهم بيده، فبايعه البطون حتى بايعه رجل من البطن الذي فيه الغلول فلصقت يده بيد ذلك النبي، فأمرهم أن يخرجوا ما فيهم من الغلول، فجاءوا بمثل رأس البقرة من الذهب، فرماه في الغنيمة فجاءت النار فأكلتها ).

وهنا تنبيه مهم إلى أن الأنبياء من قبلنا كانت هذه الأمور تجري على أيديهم عياناً بياناً يراها الناس، فالذنب لا يمهل صاحبه ولا يؤخر، والقتيل إذا لم يعرف قاتله أمروا بذبح بقرة فضرب القتيل بفخذها أو بلسانها فتكلم بلسان فصيح وقال: قتلني فلان، فكانت تأتيهم هذه الأمور عياناً، فلا يقع فيها الاختلاف، وهذه الأمة لا يوجد فيها هذا، فنحن الآن نرى كثيراً من أصحاب الذنوب لا يعرف ما ارتكبوه، ولا يكشف في الحياة الدنيا، وكثير من الجرائم ترتكب فلا يعرف مرتكبها، فما السر في ذلك؟ السر فيه أن الله رحم هذه الأمة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فرفع عنها الإصر والعذاب، فكل ما كان من العذاب في الأمم السابقة فهو مرفوع؛ لأن الآيات لا تأتي إلا تهديداً وتخويفاً كما قال الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً [الإسراء:59]، وسنة الله بالماضين أنه إذا جاءت آية مثل هذه الآيات لابد أن يأتي بعدها عذاب، وهذه الأمة شفع لها محمد صلى الله عليه وسلم ألا يأخذها الله بعذاب شامل، فاستجاب الله دعاءه فرفع عنها البلاء، فلم تكن لتظهر فيها هذه الآيات عياناً بياناً، نعم يحصل شيء من خوارق العادات، ويطلع على بعض الأمور، لكن لم يكن ذلك عياناً بياناً كما كان في الأمم السابقة.

مبدأ الحذر والاحتياط عند أصحاب الكهف

نجد هذا الدرس يتكرر أيضاً مع أصحاب الكهف، فأولئك الفتية الصغار الذين كانوا في مقتبل العمر، وكانوا من أسر غنية، وكانوا مقربين من الملك والحكم، ولكن الله هداهم للإسلام، وكان آباؤهم من أعداء الله، المنكرين للدين، المناصرين له العداء، فهؤلاء الفتية الصغار ملأ الله قلوبهم من الإيمان والهدى؛ لأنهم أقدموا على الله بصدق فزادهم الله يقيناً، قال الله تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، ومع ذلك أخذوا بالحذر؛ لأنهم لما استيقظوا فتشاوروا فيما بينهم قال الله تعالى حكايةً عنهم: وَكَ

وقد أمره الله به في أربع آيات من كتابه، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً [النساء:71]، وهذا يدل على أن الواحد وحده شيطان، فهو عرضة للاخترام والأخذ؛ ولذلك قال: فَانفِرُوا ثُبَاتٍ [النساء:71] أي: مجموعات، أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً [النساء:71]، ولم يقل: انفروا فرادى، فالفرد لا يستطيع أن يصنع شيئاً، فالفرد لا يقيم دولةً، ولا ينصر مظلوماً، ولا يقيم حداً من حدود الله، ولا يستطيع إقامة أي مشروع ناجح، بل العمل الناجح لابد أن يكون جماعياً؛ ولذلك جاءت الآية صريحةً في هذا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71] وفسر ذلك بقوله: فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً [النساء:71]، فهذا من الأخذ بالحذر.

والآية الثانية هي في سورة النساء, وهي قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، فهنا أمر بأخذ الحذر، وهذا يقتضي أن يكون الإنسان دائماً على حذر فذلك من تمام العقل ومن تمام التدبير.

والآية الثالثة هي قوله تعالى في سورة المائدة: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [المائدة:92]، فهذا أمر مطلق بالحذر في كل الأحوال.

والآية الرابعة هي في سورة المنافقين, وهي قول الله تعالى: هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4]، فقد أمر الله بالحذر من المنافقين بالخصوص، فقد رأيتم أن الآية الأولى جاء فيها الأمر بالحذر مطلقاً وهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71].

وأما الآية الثانية جاء فيها الأمر بالحذر من المشركين: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102]، فدل هذا على أن الحذر هنا مقيد بالحذر من الكفار وهم المشركون.

والآية الثالثة جاء فيها الأمر بالحذر مطلقاً كالآية الأولى وهي: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [المائدة:92].

والآية الرابعة جاء فيها الحذر مقيداً بالحذر من المنافقين: هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].

وهذا يدل على أن للمسلمين نوعين من الأعداء:

النوع الأول: هم الكافرون، وهذا يشمل أهل الديانات الأخرى، ويشمل اللادينيين أي: الذين ينكرون الدين أصلاً، فهؤلاء عدو للمؤمنين دائماً، وهم متفاوتون في عداوتهم، فأشد الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود، ثم بعدهم المشركون والنصارى، ثم بعد ذلك اللادينيون.. وهكذا، فهم درجات متفاوتة في العداوة؛ لكن تجمعهم جميعاً العداوة للمؤمنين.

ثم بعد ذلك العدو الثاني: هم المنافقون، وهم الذين يرون مع المؤمنين من جلدتهم، ومن أبناء قومهم، ويتكلمون بألسنتهم، وربما شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيمون الصلاة مع الناس، ولكنهم مع ذلك إذا وعدوا أخلفوا، وإذا حدثوا كذبوا، وإذا ائتمنوا خانوا، فهم يخونون عهد الله وميثاقه، ولا يؤمنون في أي أمر من الأمور، وما أكثر هؤلاء في إطار الشعوب المسلمة، فهم في كل زمان ذووا عدد كثير، ويكثرون عند ضعف الدين، وعند ضعف الدعوة، وغالبهم إنما هم أهل مصالح يبحثون عما يكفل لهم مصالحهم العاجلة الدنيوية، فهم يؤثرون العافية العاجلة على العاقبة الآجلة، فالعاقبة الآجلة ما عند الله في الدار الآخرة، والعافية الآجلة أي: أن يأخذوا شيئاً عفواً ليس فيه كدر في هذه الحياة الدنيا وهو حضهم، وهؤلاء هم الذين يريدون حرث الدنيا، وقد قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء:18-19].

وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20].

وقال تعالى: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:200-202].

وهذا الدرس مهم؛ لأنك تعرف به أن المنافق في قرارة نفسه يؤمن بالله؛ لأنهم يقولون: (ربنا آتنا في الدنيا)، فهم يدعونه ويسألونه، وهذا دليل على أنهم يؤمنون به، لكنهم يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، فهي أهم لديهم منها، ولذلك لا خلاق لهم في الآخرة، وهم مع المؤمنين في هذه الحياة وليسوا من جملة الكافرين، بل هذا النفاق العملي ليس مثل النفاق العقدي المخرج من الملة، ولذلك تقرءون في سورة الحديد قول الله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحديد:13-15]، وهذا صريح في أنهم ليسوا من الذين كفروا؛ لأنه قال: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحديد:15]، والعطف يقتضي المغايرة، مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:15].

ومن أراد ألا يكون من هذا الجنس من الناس فليعلم أن ذلك ليس راجعاً إلى نسب ولا حسب ولا إلى مستوى اجتماعي أو ثقافي، بل إنما هو راجع إلى أن يؤثر الإنسان في قرارة نفسه الآخرة على الأولى، وأن يحب الله والدار الآخرة وما عند الله، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].

والأخذ بالحذر أخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة في مواطن كثيرة، ففي بيعته للأنصار في العقبة أخذ بالحذر، فأخذ مكاناً آمناً من الرقابة الخارجية، واختار مكاناً خارجاً عن الزحام في الشعب الذي خلف الجمرة، واختار وقتاً مناسباً في الليلة الوسطى من ليالي التشريق، وعندما بايعوه جاءوا يتسللون فرادى ثم انصرفوا كما أتوا، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ملأ من المؤمنين؛ بل جاء وليس معه إلا عمه العباس بن عبد المطلب.

كذلك في أمره للمؤمنين بالهجرة، فقد أمرهم بذلك فخرجوا فرادى، فأول من خرج مصعب بن عمير، ثم بعده عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، ثم خرج عدد من المستضعفين المعذبين من المسلمين من مكة، وعندما أذن الله بالهجرة لرسوله صلى الله عليه وسلم أخذ بالاحتياط والحذر أيضاً، فاتجه إلى الاتجاه المعاكس، فذهب إلى غار ثور في الجنوب الشرقي من مكة، والهجرة هي إلى المدينة في الشمال الغربي، ومكث فيه ثلاثة أيام، وعادة الهارب ألا يبقى في المكان القريب، بل لابد أن يأخذ فرصته في غفلة الناس عنه فيقطع المسافة في وقت سريع، وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً أخذ طريقاً مغايراً للطريق المعهود الذي تسلكه القوافل بين مكة والمدينة فاستأجر ابن الأريقط فسلك به طريقاً غير معهود، فطريق القوافل كان يمشي مع الساحل مع شاطئ البحر حتى يصل إلى قريب من ينبع، ثم يذهب إلى عسفان، ثم يدخل مكة من جهة مدخلها من جهة سرف والتنعيم، أما الطريق الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أوغل في الحرار والصحراء، فمر بوادي قديد فسلكه، ومر بثنية هرشاء, وانطلق من ذلك الوجه حتى دخل المدينة من جهة ذي الحليفة، فلم يمر على الطريق المعهود الذي تمر به القوافل عادة، كذلك في هجرته لم يشأ أن يذهب معه عدد كبير؛ لما في ذلك من الكلفة والعناء؛ لأنه إذا كان معه عدد من المسافرين ربما مرض أحدهم أو تعطل أو تعطلت راحلته أو ضاعت فأدى ذلك إلى التخلف وهو مناف للحذر، فلذلك خرج مع أبي بكر رضي الله عنه وعامر بن فهيرة رضي الله عنه وليس معهم إلا هذا الدليل وهو عبد الله بن أريقط.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4132 استماع
المسؤولية في الإسلام 4060 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3907 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع