آداب الصيام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين, وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى جعل الأدب ملاك الأمر, وجعله قيمة الإنسان، فشرع كثيراً من الأحكام المتعلقة بالآداب التي بها يتزين المحسن فيزداد عمله كمالاً, وبها كذلك يحسن العمل، فيدخل في قبيل الإحسان الذي هو العنصر الثالث من عناصر الدين.

وهذه الآداب يجهلها كثير من الناس، ويتركها بعض من علمها منهم, وكل ذلك مما لا ينبغي، فما شرعها الشارع إلا ليؤخذ بها، وقد قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

فلذلك لا بد أن نأخذ بالأدب الذي جاء به رسول صلى الله عليه وسلم من عند الله, وأن نعلم أن الإسلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله مطلوب منا جميعاً, ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ حين أرسله إلى أهل اليمن: ( ادعهم إلى كبير الإسلام وصغيره ), فكبير الإسلام فرائضه, وصغيره ما دون الفرائض من السنن والمندوبات.

فلذلك لا بد من الحفاظ عليها وهي الآداب التي تزيد العمل ثواباً وأجراً, ولا شك أن الإنسان يمكن أن يؤدي الصلاة فيقتصر على فرائضها مثلاً, وعلى ما لا تتم إلا به, ويمكن أن يؤدي الصوم فيؤدي فرضه فقط، ويقتصر على ذلك, لكن إذا فعل فإن الفرض منقوص.

ولهذا فإن الشارع رتب الأمور ترتيباً دقيقاً, فجذع الشجرة هو أصل الإيمان, واللحاء الذي يحيط به هو فرائض الله سبحانه وتعالى التي كتبها, وما زاد على ذلك مما يزيد الشجرة نماءً ويزيد أغصانها تمدداً هو السنن والمندوبات, وإذا هانت هذه على الإنسان هانت عليه الفرائض, وإذا هانت عليه الفرائض هان عليه أصل الإيمان.

ولذلك قال أهل العلم: إن من يرتكب المكروهات لا بد أن يقع في الصغائر, ومن يرتكب الصغائر لا بد أن يقع في الكبائر, ومن وقع في الكبائر فإن أصل إيمانه مهدد, ولهذا قال العلامة محمد مولود جواد رحمه الله: فالمتهاون بها يبلى بأن يئول أمره إلى ترك السنن, والمستخف بأداء السنن عمداً بإهمال الفرائض ملي, ملي أي: بلي, بمعنى يبتلى بذلك.

فالله سبحانه وتعالى درج الأحكام هذا التدريج بهذه الحكمة العجيبة, فلذلك لا بد أن نتعلم آداب الشرع في كل الأمور, وبالأخص في أركان الإسلام العظيمة ومنها: الصيام.

فللشارع آداب تختص بأداء هذه الشريعة العظيمة, فمنها:

تبييت النية من الليل

أولاً: تبييت النية من الليل فهو من أدب الصيام, وقد صح في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له), وأفضل ذلك أن يكون من أول الليل؛ ليزداد عزم الإنسان على أداء الفرض, وليكون ذلك أيضاً شغلاً للوقت بالواجب, وقد ذكر الحنابلة أن الإنسان إذا أراد تأخير الصلاة عن أول وقتها فعليه أن ينوي من أول الوقت أنه سيؤديها في الوقت, ليشتغل الفرض كله بالنية وهي واجبة حينئذ.

وأشار السيوطي أيضاً إلى هذا الخلاف لدى الشافعية فقال:

جميع وقت الظهر قال الأكثر وقت أداء وعليه الأظهر

لا يجب العزم على المؤخر وقد عزي وجوبه للأكثر

أي: وجوب العزم على أداء العبادة في الوقت, (عزي للأكثر) أي: أكثر الشافعية.

وعلى هذا فعلى الإنسان أن يبيت النية من أول الليل، ومذهب مالك : أن الصوم عبادة واحدة، فنية واحدة تكفيه إذا كان تتابعه واجباً بخلاف من قطع تتابعه, كما إذا سافر الإنسان في أثناء رمضان أو حاضت المرأة، فإن التتابع لم يعد واجباً, وحينئذٍ لا بد من تجديد النية عند بداية الصوم.

لكن الأفضل والأحوط وهو من الأدب في الصوم: أن يجدد الإنسان كل ليلة النية، فيعقد العزم على أنه سيصوم امتثالاً لأمر الله تعالى غداً إن عاش إلى أن يبلغ ذلك.

كذلك من هذه الآداب المتعلقة بالنية: مراجعة عقدها, فالمقصود بها: إشراك القلب في عمل البدن, فلا بد أن يجدد الإنسان عقد العزم على طاعة الله, وأن يجدد العزم على التوبة من معاصي الله, وأن يعاهد الله سبحانه وتعالى على طاعة أوامره واجتناب نواهيه.

فهذا هو فائدة النية وفائدة إشراك القلب في العمل كله, ولذلك فإن أهل العلم يذكرون: أن كل عبادة ليس فيها خشوع فهي جثة ميتة تستحق أن ترمى في القمامة, الصلاة إذا لم يكن فيها حضور ولا خشوع لم يكن لها أجر, وقد أخرج أبو داود في السنن بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليصلي الصلاة وما كتب له نصفها، ثلثها، ربعها), حتى انتهى إلى العشر, وقال شراح هذا الحديث: المقصود بذلك من لم يحضر فيها, أما من حضر فيها ونوى ما يفعل، فإنه يكتب له ثواب ما حضر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ).

فلذلك لا بد أن يستحضر الإنسان أن النية تزكي هذا العمل وتنميه, وهي التي تحول بين العادة والعبادة, فالعادة والعبادة كثيراً ما يكون شكلهما واحداً, وإنما يتميزان بالنية, وكذلك فهي التي تميز بين أنواع العبادة، فالعبادة قد تكون واجبةً أو ركناً من أركان الإسلام كصوم رمضان, وقد تكون واجبة دون ذلك كصيام النذر وكفارة اليمين, وغير ذلك من الكفارات, وقد تكون مندوبةً فقط كصيام يوم الإثنين ويوم الخميس.

والذي يفرق بين ذلك هو نية الإنسان، وهي أبلغ من عمله، وبها يثقل عمله في كفة الحسنات يوم القيامة, فنحن جميعاً نعلم أن كل إنسان منا سيوقف بين يدي الله وبين يديه الميزان، له كفتان ولسان, توضع في الكفة اليمنى أعماله الصالحات، وفي الكفة اليسرى أعماله السيئات, وهذه الأعمال وزنها يتأثر بوزن الذرة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

فمن المؤسف أن يعمل الإنسان عملاً طائلاً كبيراً ولكنه يكون كالجثة المنتفخة وزنها خفيف والذي فيها هو رياح, فهذا النوع لا فائدة فيه, لكن إذا كان العمل في شكله صغيراً وكان ثقيلاً في كفة الحسنات بالإخلاص فيه لله والصدق وحسن المعاملة, فهذا الذي يرجح بكفة الحسنات يوم القيامة.

تعجيل الفطر وتأخير السحور

كذلك من هذه الآداب: أن يعجل الإنسان فطره وأن يؤخر سحوره, فقد أرشد إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد أخذه بعض أهل العلم من التفسير من قول الله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187], فإنه جعل للصيام بداية ونهاية, فبدايته تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر, والمقصود بذلك: أن يتبين الإنسان أن الفجر الأحمر قد دخل وهو المستطير المعترض بالضياء, ولا عبرة بالفجر الكاذب الذي هو ارتفاع ضوء المجرة فهو المستطيل, ولا يحرم شيئاً ولا يحل شيئاً، أي: لا يحرم أكلاً ولا شرباً ولا يحل الصلاة, فلذلك لا اعتبار له, والاعتبار إنما هو بالفجر الأحمر كما في الحديث الصحيح حيث صرح النبي صلى الله عليه وسلم باشتراط الحمرة فيه, وكذلك سماه المستطير أي: الذي يشبه جناحي الطائر في الاعتراض بالضياء.

وكذلك عرفه ابن عمر : بأنه الذي يرى فوق رءوس الجبال والتلال, أي: الذي يرتفع, فهذا هو الفجر المتبين, وكثير من الناس يشك فيه ويتردد ويرتاب إلى أن يسفر الفجر, وهؤلاء لا عبرة برأيهم؛ لأنهم لا يعرفون الفجر, ومن لا يعرف أمراً لا يؤخذ رأيه فيه, ولذلك من لم يكن من أهل العلم لا يؤخذ قوله في الإجماع, ولا يعتبر خارقاً له ولا ناقضاً له, فلذلك لا بد أن يكون الإنسان عارفاً بالأوقات، عارفاً بعلاماتها فهذا الذي يعتبر.

وأهل كل مسجد يجزئهم التقليد، فإذا قلدوا إمامهم أو مؤذنهم العارف بأوقات الصلاة فتقليده كافٍ مجزئ في معرفة الوقت؛ لأن هذا من الأمور التي لا يطلب من كل إنسان معرفتها, ولا يستطيع كل إنسان متابعتها في كثير من الأوقات, وبالأخص الناس منهم العميان ومنهم المشتغلون بأمورهم, فينوب بعضهم عن بعض في هذا في الصلاة والصيام, وقد قال العلامة محمد مولود رحمه الله:

وجاز في الصيام والصلاة تقليد عدل عارف الأوقات

ودليل هذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقول: ( لا يمنعنكم أذان بلال من طعامكم وشرابكم حتى يؤذن ابن أم مكتوم فإنه رجل ضرير لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت ), فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يحل كل إنسان منهم إلى رؤيته, لم يقل: انظروا ولا تنتظروا أذان ابن أم مكتوم ، بل قال: ( حتى يؤذن ابن أم مكتوم ), فهذا دليل على أنهم يقلدون أذان ابن أم مكتوم ويعتمدون عليه, فدل هذا على جواز التقليد في دخول الأوقات والاعتبار بذلك.

والأدب هنا هو مبادرة الفطر؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم خفايا الأمور, وهو الذي يعلم أسرارها, ولو شاء لفرض الصيام في الليل مع النهار, وقد فرض بعض ذلك على من سبقنا من الأمم, ولكنه افترض علينا أن نصوم من طلوع الفجر وتبينه إلى غروب الشمس, فهذا القدر على الإنسان أن يصومه وعليه أن يبادر الفطر بعد أن يتحقق غروب الشمس, فإذا غربت فقد دخل الليل، والليل لا يطلب صومه؛ لأن الصوم إنما هو في الأيام كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:183-184].

والصوم لا يكون إلا في يوم, واليوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس, ولذلك صح في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم ), (فقد أفطر الصائم) أي: هذا الوقت المناسب لفطره, وهذا هو الوقت الأكمل لفطر الصائم, وتأخير الإفطار لاشتباك النجوم هو من عمل اليهود, وقد أمرنا بمخالفتهم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خالفوا اليهود والنصارى ), وقد كان يعجل الفطر بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك تأخير السحور فهو أيضاً مناسب للتحديد الشرعي الذي حدده الشارع، وقد ذكر أهل العلم أنه من شأن الكبراء إذا حدوا حداً أن يعد الزائد عليه مسيئاً تاركاً للأدب, فالشارع حد حداً معيناً وبين أنه من حدوده, وحدوده لا يحل تعديها, ولذلك لا بد أن نعلم أن حدود الله في القرآن تطلق على ثلاثة أمور:

الأمر الأول: ما حدده من الأحكام, وهذه هي التي جاء فيها: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229], فما حدده الشارع من الأحكام لا يحل تعديه, بل يجب أن يقف الإنسان عنده.

الأمر الثاني: بمعنى محرماته, أي: ما حرمه الشارع، فهو حد من حدود الله، محرم من محرمات الله, وهذه التي جاء فيها: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187].

الأمر الثالث: حدود الله بمعنى: الزواجر التي تردع الإنسان عن الوقوع فيما حرم الله عليه كحد السرقة, وحد الزنا, وحد قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, فهذه حدود الله، والمقصود بها: زواجره التي يزجر بها عن ارتكاب الكبائر.

فإذاً: هذا معنى الحدود في القرآن, وعلى هذا فحد الصيام الأول هو طلوع الفجر, فيحل للإنسان أن يستمر على مأكولاته ومشروباته وكل أموره حتى يطلع الفجر ويتبين, ولهذا فإن الإمام مالك رحمه الله أخذ من قول الله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187], جواز أن يصبح الصائم جنباً, قال: فقد أحل الله الأكل والشرب والجماع حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، فلم يترك وقتاً للاغتسال؛ لأنه قال: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187], فدل هذا على أن الصائم يجوز أن يصبح جنباً.

وقد صح ذلك في الصحيحين من حديث عائشة و أم سلمة رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام فيصبح صائماً ), لكن من الأدب الشرعي في تأخير السحور أن يجعل الإنسان فاصلاً بين إمساكه وبين تناوله لهذه الوجبة المباركة وهي وجبة السحور, فهي في حد ذاتها عبادة وقد أرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في السحور: ( هو الغداء المبارك ), وقال فيه: ( تسحروا فإن في السحور بركة ), وأرشد إلى سحور التمر، فبين الفائدة التي فيه, وقد سأل أنس بن مالك رضي الله عنه عدداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تسحروا معه عما يحصل بين السحور وبين طلوع الفجر؟ فاتفقوا على أنه قدر ما يقرأ القارئ فيه خمسين آية, هذا ما حدث به زيد بن ثابت ، أنس بن مالك عن سحور رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( يا زيد ! تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكم كان بين سحوره وطلوع الفجر؟ قال: قدر ما يقرأ القارئ خمسين آية ).

وفي بعض الأحاديث كذلك: ( قدر ثلاثين آية ), وهذا متقارب؛ لأن آيات القرآن متفاوتة في الطول، فمن سور القرآن ما تكون آياتها قصيرة كسورة الشعراء وسورة الصافات مثلاً فآياتها قصيرة, ومنها ما تكون آياتها مقاطع طويلة كالسور الطوال كالبقرة وآل عمران, فالبقرة فيها مثلاً آية الدين, أطول آية في كتاب الله, وآل عمران فيها آية: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [آل عمران:154], وهي الآية التي تجمع حروف المعجم جميعاً هي وآية سورة الفتح, وهي: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29], آيتان في القرآن اجتمع فيهما حروف المعجم, ولم تجتمع حروف المعجم في غيرها من القرآن.

فلذلك تتفاوت آيات القرآن، فإذا قال زيد بن ثابت وهو قارئ هذه الأمة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال, إذا ذكر خمسين آية فالعبرة بأواسط الآيات, ولذلك يمكن الجمع -بين الحديثين بين ثلاثين آيةً وخمسين آية- بأن خمسين من القصار تعدل ثلاثين من الطوال, وعلى هذا فثلاثون آية هي مثل سورة السجدة وسورة الملك فكلتاهما ثلاثون آية, فإذا قرأ القارئ هذا القدر ولو كان من سور مختلفة فعددها فهذا المقصود, وإذا كانت الآيات طوالاً فقرأ مثلاً أربعاً وعشرين آية كسورة الطلاق وسورة التحريم كلتاهما اثنتا عشرة آية, وآياتهما من الطوال أو من الوسط.

وكذلك إذا قرأ اثنتي عشرة من الوسط كسورة الجمعة وسورة المنافقين فكلتاهما إحدى عشرة آية, وبذلك يكون هذا على وجه التقريب, وكذلك إذا قرأ سورة التغابن وهي ثماني عشرة آية، لكن آياتها من المتوسط, فمثل هذا النوع هو مما يعتمد فيه على التقريب.

فالمقصود بذلك أن يترك الإنسان بين تسحره وبين استعداه للصلاة قدر عشر دقائق أو أقل من ذلك قليلاً أو أكثر قليلاً, فهذا القدر هو الفاصل, وإذا أخر السحور عن ذلك فلا حرج, ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد من حمل القدح إلى فيه أن يشرب إذا سمع أذان بلال فلا يحل ذلك بينه وبين شربه؛ لأن الفجر لم يتبين بعد, وبعض الناس يفهم من هذا: أنه يمكنه أن يشرب حتى لو سمع أذان المؤذن بطلوع الفجر، وهذا الفهم غير صحيح.

وقد ذكر ابن جرير الطبري عن بعض أهل العلم: أنهم يرون ذلك، واستنكر عليهم عدد من العلماء، ومنهم: ابن كثير و ابن تيمية وغيرهما، فقالوا: لا يمكن أن يصح هذا، فقد حدد الله هذا الحد وهو تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر, فلا يمكن أن يشرب الإنسان بعد تبينه لذلك.

وإذا كان في داخل بيته ولا يستطيع تبين ذلك فهو مقلد فيكفيه الأذان، فلا يحل له استعمال المفطرات بعد سماع الأذان, وإذا سمع الأذان المؤذن بدخول الوقت وفي فمه شيء فإن عليه ألا يبتلعه، بل يرد ما في فيه؛ لأنه الفجر قد دخل وليس له هو طريق لمعرفة دخول الفجر إلا هذا.

تقليل الكلام إلا بذكر الله

كذلك من آداب الصوم: تقليل الكلام فيه إلا بذكر الله, فالله تعالى خلق للإنسان عينين وخلق له أذنين ويدين ورجلين, ولم يخلق له إلا لساناً واحداً, وهذا يدل أن عليه أن يكون ما يسمعه ويراه أكثر مما يتلفظ به؛ ولهذا قال العلامة محمد بن فال المتالي رحمه الله:

وليكن ما تسمعه أكثر من ما أنت قائل له تكن فطن

بذاك لا ازدواج للسان وازدوج العينان والأذنان

فلهذا على الإنسان أن يكون كلامه أقل مما يسمعه, وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى تقليل الكلام, وكانت عائشة رضي الله عنها إذا سمعت الكلام في بيوت جيرانها بعد صلاة العشاء ترسل إليهم: ألا تريحون الكتاب؟

وقد أخرج مالك في الموطأ و أحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري : أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم, فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون, ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد, وإنما الناس مبتلىً ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.

وقد ورد بعض هذا الحديث من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال فيه ابن القيم : خرج هذا الحديث قطعاً من مشكاة النبوة سواء كان من كلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو من كلام عيسى بن مريم فهو صدق ومضمونه حق, فلذلك لا بد أن يحاول الإنسان أن يأطر نفسه على تقليل الكلام, فكثرة الكلام تزيد اللغو والسقط, والكلام ثلاثة أقسام:

القسم الأول: كلام في كفة الحسنات، وهو المرضي عند الله, ومثاله قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:65-66].

والقسم الثاني: هو الكلام الذي في كفة السيئات, وهو الزور أي: كل كلام لا نفع فيه، سواء كان كذباً وباطلاً أو كان غيبةً أو نميمة أو غير ذلك مما لا يرضي الله من الكلام, وهذا الذي يقول الله فيه: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72].

والقسم الثالث: هو الكلام الذي بينهما، وهو اللغو الذي لا نفع فيه ولا ضرر, ولكنه ينقص عمر الإنسان، فيذهب جزء منه في غير طائل, فالطاقة التي في الإنسان تذهب في غير طائل، فلا يجدها في كفة الحسنات يوم القيامة, وحينئذٍ سيندم عليها, ولهذا يقول الله تعالى لأهل النار يوم القيامة: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].

وقد اختلف أهل التفسير في النذير، فقالت طائفة منهم: هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقالت طائفة: هو الشيب, وقالت طائفة: هو العمر؛ لأنه قال: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ [فاطر:37], فعمر الإنسان منذر له, ولهذا على الإنسان أن يستغله جميعاً فيما يرضي الله سبحانه وتعالى, وقد قال العلامة سيدي محمد ولد الشيخ الدو سليمان رحمة الله عليهم:

خسر لذي عقل لبيب مؤمن وقت يمر ولم يزد حسناته

فالعمر مدته كمثل دراهم بيد الفتى يقضي بها حاجاته

فلذلك يندم الإنسان غاية الندم إذا مضى جزء من وقته وجزء من طاقته في غير طائل, ذهب سدىً، فهو يتمنى عند الموت أن يعود لهذه الحياة ولو لدقيقة واحدة حتى يقول: لا إله إلا الله وقد حيل بينه وبينها, كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].

فلهذا لا خير في اللغو, فعلى الإنسان أن يكف نفسه عنه, وبالأخص أنه ليس من حسن إسلام الإنسان؛ لأنه ليس فيما يعنيه من الكلام, وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه), وقد قال الغزالي رحمه الله: أبلغ زاجر عن اللغو: أنه شغل للكرام الكاتبين بما لا نفع فيه, الملائكة الكرام الكاتبون هم جيرانك, وأنت مأمور بالإحسان إلى الجار، وبالأخص إذا كان ملكاً مقرباً, النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الجار المؤمن له حقان, والجار الكافر له حق ), وقال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ), وقال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ), والملكان الكاتبان هما جاراك، فعليك ألا تؤذيهما, ومن إيذائهما شغلهما بما لا خير فيه.

وكذلك فأن اللغو هو كتاب ترسله إلى الله تعالى، فكل أعمالك تعرض على الله, وأنت تشغل الملائكة بكتاب ترسله إلى الله وتعلم أنه سيصل إليه ويقرؤه, وإذا كان مما لا خير فيه فهذا مما ينبغي أن يستحي منه الإنسان, ولذلك قال ابن المتالي رحمه الله: شغل الكرام الكاتبين بالذي لا خير فيه، أي: من أخطار اللغو أن فيه شغل الكرام الكاتبين بالذي لا خير فيه.

وكذلك ذكر أنه كتاب توجهه إلى الله سبحانه وتعالى، فلا بد أن تعرف ما تجعل فيه, فقد قال الله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18], وقال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12], وقال تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ [الرعد:11], فلذلك لا بد يا أخي أن تحفظ لسانك من اللغو وبالأخص في الصوم, فالصوم له خاصية، فأنت قد دخلت في العبادة وحيزها, فعليك أن تكف جوارحك عن المعصية، وأن تكف لسانك عن الإكثار من اللغو طيلة وقت الصوم, فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ), إذا كان يترك الطعام والشراب اللذان هما في الأصل من حيز المباح، فمن باب أولى أن يترك اللغو, ومن باب أولى أن يترك الحرام زيادةً على ذلك, ولذلك يقول أحد العلماء:

إذا لم يكن في السمع مني تصامم وفي بصري غض وفي منطقي صمت

فحسبي إذاً من صومي الجوع والظمأ وإن قلت إني صمت يوماً فما صمت

ويقول آخر:

لا تجعلن رمضان شهر فكاهة تلهيك فيه من القبيح فنونه

واعلم بأنك لن تقوم بحقه حتى تكون تصومه وتصونه

وهذه الصيانة هي التي يفقدها كثير من الناس, فنحن نعلم أن كثيراً من الشباب يقولون: نريد أن نقصر الوقت، ونريد أن نقتل الوقت، كأن الوقت عدو لهم, فيقصرونه تارةً بالنوم الذي يذهب بوقت الصلاة حتى تصلى كصلاة المنافقين خارج الوقت أو في آخره, والصلاة أعظم من الصوم.

وكذلك اللغو من الكلام ومن التصرفات والأفعال, ومن اللعب الذي فيه ضياع للوقت والعمر، وبالأخص في هذه الأيام والليالي الفاضلة, هذه الأيام والليالي الفاضلة فرصة قد لا تتكرر، فرب صائمه لن يصومه، ويا رب قائمه لن يقومه.

فإذا أتيحت للإنسان هذه الفرصة فعليه ألا يضيعها, وإذا ضيعها فسيندم غاية الندم.

كذلك من آداب الصوم أيضاً: الإكثار فيه من الخير في أوجهه المختلفة, فهو مجال للتسابق في فعل الخيرات، ومنها: الإكثار من قراءة القرآن فقد أنزل في هذا الشهر، وأنزلت كل الكتب السماوية فيه كما في حديث ابن عباس : ( أن صحف إبراهيم أنزلت في أول ليلة من ليالي رمضان, وأن التوراة أنزلت في الليلة السادسة من رمضان, وأن الإنجيل أنزل في الليلة الثالثة عشرة منه, وأن الزبور أنزل في الليلة الثانية عشرة منه, وأن القرآن أنزل لأربع وعشرين خلت من شهر رمضان ), وقد جاء في حديث آخر موافق لما ذكر إلا أن فيه: ( أن الزبور أنزل ليلة الثامن عشر من رمضان ).

وعلى هذا فهذا الشهر له خاصية عظيمة وهي: إنزال الكتب السماوية فيه, وإنزال الوحي الذي خاطب الله به أهل الأرض وشرفهم به, فلذلك علينا أن نجعله موسماً لتدارس القرآن وتذاكره, وعلينا أن نعلم أن هذا القرآن لم يكن الله ليجعله بدار هوان, ولم يكن ليأتمن عليه المفلسين, فهو أعظم لدى الله من ذلك, لا يمكن أن يؤتمن عليه من كان مفلساً لا يؤتمن على مالٍ ولا عرض ولا غير ذلك, الإنسان الذي لا نستطيع أن نأتمنه على أمورنا لا يمكن أن يؤتمن على وحي الله, فلا يأتمن الله على وحيه إلا من كان أهلاً للثقة.

ولذلك فإن حملة القرآن الذين يحفظون حروفه وحدوده، ولا يضيعون شيئاً منه هم أهل الله وخاصته من خلقه, وبذلك لا بد أن يراجعوه وأن يتعهدوه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعاهده، فقال: (تعاهدوا القرآن فلهو أشد تفلتاً من صدور الرجال من الإبل في عقلها), وهذا أمره لأصحابه في ذلك الزمان الأول الذي القرآن فيه مقبل, ونحن اليوم في وقتنا القرآن فيه مدبر, قد وقف بثنية الوداع، وهم قبل يوم مزنه بالإقلاع, ونحن ننتظر الفتن في آخر الزمان, ومنها: الليلة التي يسرى فيها على القرآن فيمحى من الصحف والمصاحف والصدور في ليلة واحدة: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا [الإسراء:86-87], فسيسرى عليه ويمحى من المصاحف والألواح والصدور.

وعلى هذا فعلينا أن نتعاهده، وأن نجعل هذا الموسم الشريف موسماً له, فقد كان جبريل يدارس رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان, ولا شك أن كثيراً من الناس يظنون أن هذا التدارس ينبغي أن يختص بالنهار؛ لأنه بالنهار يجدون سبحاً طويلاً من الوقت, فيجلسون في المسجد يتدارسون القرآن, لكن الليل يتركونه لشهواتهم وملذاتهم, وهذا مخالف للحكمة، فجبريل إنما كان يدارس رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن في الليل؛ لتشغل الليل والنهار معاً بطاعة الله, فالليل وقت القيام وقراءة القرآن، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64], والنهار وقت الصيام, وكذلك لا حرج باستغلاله في قراءة القرآن والذكر وغيره, لكن قراءته في الليل أفضل، ولهذا قال أهل العلم: ليالي رمضان أفضل من أيامه, وأيام عشر الحجة أفضل من لياليها؛ لأن أيام عشر الحجة فيها يوم عرفة, وليالي رمضان فيها ليلة القدر, فكانت ليالي رمضان أفضل من أيامه وكانت أيام عشر ذي الحجة أفضل من لياليها.

فعلى كل إنسان منا أن يخصص جزءاً من ليله, ولو كان بين المغرب والعشاء أو كان أي وقت من الليل يتدارس فيه القرآن, ولاحظوا أن هذا التدارس لا يحصل بمجرد أن يقرأه الإنسان عن قلب غافل لاه، فليس هذا من آداب القرآن, فقد قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29], وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24], وقال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2], فلذلك لا بد أن يستشعر الإنسان عند قراءته للقرآن هذا الثقل العظيم الذي فيه: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5].

لا بد أن يتدارسه مع نفسه, وأن يراجع معلوماته فيه, وأن يراجع حفظه, وأن يسأل أهل العلم عما أشكل عليه منه فهذا موسم للسؤال, وقد كان من عادات أهل هذا البلد السؤال عن التفسير والإكثار من ذلك في شهر رمضان, وقد أدركنا ذلك, فأعرف سنوات مضت تخلل التراويح في كل مسجد بالسؤال عن التفسير, وكل إنسان من أهل المسجد يحرص على أن يفهم ما لم يفهمه من القرآن, والغريب أني لا أشهد ذلك في هذا الشهر الآن, لا أسمع من يسأل كثيراً عن التفسير, ولا من يراجع الإمام في بعض ما قرأ منه, وأنا أخاف من هذا الاختفاء لأمر كان معهوداً وهو مذاكرة القرآن, وقد أدركنا بعض المشايخ إذا سلم الإمام فسروا ما قرأ به في الركعتين، فإذا صلى ركعتين أخريين فسروا ما قرأ فيهما بين التراويح حتى تنتهي بذلك.

وهذا ما يحتاج الناس إليه, وقد كانت عادة دائبة لدى الشيخ محمد علي رحمة الله عليه, فكان يفسر بين التراويح كل ما قرأ الإمام حتى يأتي على القرآن كاملاً, وكان كثيراً ما يقول: ظهر لي في هذه الآية كذا وكذا من الوجوه فابحثوا عنه في التفسير, فنذهب فنرجع إلى ثلاثين تفسيراً، وقلما نأتي بتلك الوجوه كاملةً التي يأتي بها هو من تدبره وتفهمه.

فلذلك لا بد من تدبر القرآن في ليالي رمضان, وبالأخص من أتيحت له فرصة سماعه في المساجد، وبالأخص بالصوت الندي الخاشع, فعلى الإنسان أن يخشع معه وأن يتدبره وأن يسأل عن معانيه وأن يتفهم فيه, وأن يأخذ معه تفسيراً من تفاسير القرآن في هذا الشهر، يرجع فيه إلى ما أشكل عليه ويرتبط بالقرآن, فهذه الكتب لها تأثير بليغ ومن لا يتحمل أكدار الناس والإلحاح بأسئلتهم جعل الله له فسحةً في هذه الكتب, فنحن نعلم أن بعض الناس لا يتحمل الثقلاء, ويمكن أن يكون منهم الشيخ محمد فهو لا يتحمل الثقلاء, لكن الكتب فيها فرصة؛ لأنها خالية من هؤلاء الثقلاء, ولذلك يقول فيها ابن هلال رحمه الله:

لنا جلساء ما يمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا

يفيدوننا من علمهم علم من مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا

فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا

فإن قلت أحياء فلست بكاذب وإن قلت أموات فلست مفندا

الحرص على المشاركة في جميع أبواب الخير

من آداب الصوم أيضاً: أن يحرص الإنسان على المشاركة في كل أبواب الخيرات المفتحة, فالناس الآن يسهل عليهم الصيام؛ لأن الرجل لو أتى إلى بيته ووجد كل من في البيت صائماً، ولو كان هو جاء من سفر فيشق عليه أن يفطر وحده, فهذا عون إذاً على الطاعة.

وكذلك إذا رأى إقبال الناس على المساجد في الليل لقيام رمضان، فهذا عون له على الطاعة؛ لأنه حتى لو رجع لم يجد أصحابه ولم يجد من يشتغل معه فيما يشتغل فيه من توافه الأمور, فلذلك يأتي إلى المسجد فيشهد الصلاة, فكذلك أبواب الخير المفتحة الأخرى على كل إنسانٍ منا أن يحرص على المشاركة فيها، فهذا من آداب الصوم وبالأخص في شهر رمضان.

كذلك من آداب الصوم: أن يحرص الإنسان أيضاً فيه على التأدب بآداب الشرع في تعلم الأحكام وتطبيقها على الوجه الصحيح, فكثير من الناس صومهم إنما هو تقليد, عندما كانوا صغاراً قبل إدراكهم للأمور أمرهم الوالدان بالصيام ولم تزدد معلوماتهم عن الصيام بعد ذلك, يعرفون فقط: أن الإنسان يشرب ويأكل عند الإفطار وعند السحور, وأنه خلال النهار ينام وينقطع عن هذه الأمور, هذه معلوماتهم عن الصوم, وهذا النوع هو من الخلل البين, فمن أدب الصوم أن يتعلم الإنسان آدابه, وأن يحرص على حلقات الذكر والعلم حتى يتعلم الهدي النبوي في ذلك, والحمد لله أن الأستاذ عبد الرحمن قد جمع بعض آداب النبي صلى الله عليه وسلم في صيامه وفي غيرها من تعبداته وهي ميسورة متيسرة, فبالإمكان الرجوع إليها، وبالأخص أنه اقتصر على الأحاديث الصحيحة الواضحة.

الحرص من استغلال الصيام في تكفير السيئات

كذلك فإن من آداب الصوم أيضاً: أن يحرص الإنسان في صيامه أن يكون تكفيراً لسيئاته، فهو جنة كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك, ولا يكون هذا إلا لأهل التقوى؛ لأن من سواهم ترد عليهم أعمالهم.

من لم يكن من أهل التقوى يطوى صومه فيرد عليه, وتطوى صلاته كما يطوى الثوب الخلق البالي, فيصفع بها على وجهه وترد عليه, وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ [المائدة:27].

فلذلك لا بد يا إخواني! إذا حرصنا على قبول العمل أن نجتهد في أن نكون من المتقين، حتى يتقبل الله أعمالنا، وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:60-61].

الحذر من التضجر من شهر رمضان واستطالته

وكذلك من آداب الصوم: ألا يستطيل الإنسان شهر الصيام, وألا يذكر بلسانه استطالة صلاته وصيامه, فهذا النوع هو من التسميع: (ومن سمع سمع الله به), وعلى الإنسان أن يعلم أن لله عليه من النعم أكثر مما قدمه هو من العمل.

من نعمة الله عليك أن أحياك حتى شهدت رمضان, ومن نعمة الله عليك: أن وفقك للخير, ولذلك قال ابن رواحة رضي الله عنه:

تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا

إن أولاء قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا

فلا بد يا إخواني أن نتذكر نعمة الله علينا, وأن تهون علينا الطاعات, وقد قال الله تعالى في الصلاة: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45], فمن كان خاشعاً سهلت عليه الصلاة, ومثل ذلك من كان خاشعاً في الصوم سهل عليه الصوم, فالصوم مثل غيره من الطاعات له خشوعه وعبادته.

الحرص على أداء فرائض الإسلام مع الصيام

كذلك من هذه الآداب التي لا بد منها في الصيام: أن يحرص الإنسان في صيامه أن يكون مؤدياً للأحكام الأخرى السابقة عليه, فالذي يصوم ولكنه في نفس الوقت يفرط في الصلاة أو في الزكاة, قد أفرد الصوم وحده وعزله عن جنسه فعذب صومه, فأنتم تعرفون أن كثيراً من أهل التفسير فسروا -وقد روي ذلك عن ابن عباس - قول الله تعالى في قصة سليمان عليه السلام وفي الهدهد: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:21], قالوا: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا [النمل:21], هو الحبس مع غير الجنس.

فكذلك الصوم إذا حبس مع غير الجنس، كأن يصوم الإنسان، ولكنه مع ذلك يفعل الفواحش والمنكرات ويفرط في الواجبات, فقد حبس صومه مع غير جنسه فعذب صومه عذاباً شديداً, فلذلك لا بد يا إخواني! قبل الصوم أن نحافظ على الصلاة, وأن نحافظ على الزكاة, وأن نحافظ على أركان الإسلام الأخرى التي هي مع الصوم, وأن نستعد لها في كل موسم، فهو تهيئة لما بعده, فالصوم مباشرةً عندما ينتهي شهره ندخل في أشهر الحج, وعندما يمضي شهر واحد من أشهر الحج تأتي الأشهر الحرم, وهكذا في مواسم الخير النافعة العجيبة.

إن هذه الآداب منها ما يختص برمضان، ومنها ما هو عام في كل صيام, ومنها ما هو مختص بصيام بعض أيام السنة دون بعض.

الاهتمام بصيام النوافل طوال العام


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4839 استماع
بشائر النصر 4290 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4062 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4003 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3935 استماع
اللغة العربية 3932 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3898 استماع