تجديد الصلة بالله


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن كل من يحتاج إليه الشخص يحاول أن يربط به الصلة، وأن تكون علاقته به متينة قوية، وتزداد حاجة الإنسان إلى ربط العلاقات وتقويتها بحسب حاجته واستفادته ممن يربط معه تلك العلاقة. والله سبحانه وتعالى هو الغني، ووصفه بالغنى يخالف وصف المخلوقين، فالغني من المخلوقين محتاج دائماً إلى غيره، والله سبحانه وتعالى هو الغني الغنى المطلق، لا حاجة به إلى أحد من خلقه، والخلق كلهم محتاجون إليه سبحانه وتعالى، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].

لذلك فإن الناس محتاجون إلى أن يتعاهدوا علاقتهم بالله سبحانه وتعالى، وأن يجددوا الصلة به في كل الأحيان وفي كل الأوقات، سواءً كان ذلك في أوقات السراء أو في أوقات الضراء؛ ولهذا نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه عبد الله بن عباس بقوله: ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة )، فالتعرف إلى الله سبحانه وتعالى في أوقات الرخاء معين على التعرف إليه في أوقات الشدة، وبئس العبد الذي لا يعرف الله إلا وقت حاجته ووقت اضطراره! والعبد الذي لا يرفع حاجته إلى الله ولا يعرفه ولا يناديه إلا إذا اضطر يسلك طريق المشركين؛ لأن المشركين هم الذين يدعون الله في وقت الضراء، ولا يدعونه في وقت السراء، لا يعرفونه إلا في وقت الضرورة والحاجة؛ ولذلك قال الله تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء:67]، فالمشركون يدعونه ما داموا في أعماق البحر إذا خافوا على أنفسهم، فإذا وصلوا إلى البر عادوا إلى ما كانوا فيه من الشرك، ونسوا حاجتهم وفقرهم إلى الله سبحانه وتعالى. وينبغي للمؤمنين أن يخالفوا المشركين في هذا، وأن يجددوا علاقتهم بالله سبحانه وتعالى، ويقووا صلتهم به، حتى تكون هذه الصلة أركز في نفوسهم وأقوى من كل الصلات، فابن آدم سيرد إلى الله سبحانه وتعالى فرداً، ويحشر إليه فرداً ليس معه إلا عمله، في ذلك الوقت الذي يفر فيه من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه يرد فرداً إلى بارئه سبحانه وتعالى الذي خلقه وسواه، وكذلك عندما تقبض روحه فإن أهل بيته يسوءهم أن يستقر في بيته أربعاً وعشرين ساعة، لا يريدون إلا إخراجه إلى المقابر، وإلى تلك الحفرة الضيقة التي يبقى فيها وحيداً مع عمله.

ولذلك إذا مات ابن آدم صحبه ثلاثة: عمله وأهله وماله، فإن وضع في قبره رجع اثنان ويبقى واحد، عندما يبقى في قبره لا يصل إليه من الخير إلا روح الله ورحمته إن كان مرحوماً، تنقطع عنه الأسباب وينقطع الرجاء إلا من الله سبحانه وتعالى؛ لذلك فإن الموقن بتلك الضجعة وحيداً فريداً، يجاور الموتى ولا يلقاهم؛ فهم أهل قرب لا يتزاورون، وأهل سجن لا ينفكون، وهو بينهم وحيد غريب، من كان يعرف هذا ويؤمن به حق المعرفة؛ فعليه أن يقوي علاقته بالله، وأن يجدد الصلة به سبحانه وتعالى، وليعلم أن هذا لمصلحته هو، وأنه لا ينفع الله سبحانه وتعالى ولا يضره شيئاً.

لذلك فإن الداعي إلى العلاقة بين الناس إنما هو الخوف أو الطمع أو المحبة، وهذه الصفات الثلاث يجد فيها كل شخص منا نفسه مضطراً إلى ربط العلاقة مع من يخافه أو فيمن يرغب في ما عنده أو من يحبه، نجد ذلك بالضرورة.

المخوفات في الآخرة

والخوف دافعه هو ما لدى المخوف مما يمكن أن يسلطه على الخائف، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يملك وسائل الترويع والتخويف، سواءً منها ما كان في هذه الدار أو ما كان في الدار الآخرة، أما في الدار الآخرة فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحشر الناس إليه فيأتونه حفاة عراة غرلاً، ويجمعهم في ذلك الموقف الذي لا يتأبى ملك جحجاح، ولا ذو سلطة وجنود، وإذا أتاه الداعي لا يستطيع أن يتأخر عنه؛ فيجتمعون جميعاً إلى البارئ سبحانه وتعالى، ويحشرهم في ذلك الموقف الذي ليس لأحد به سلطة، يحشر فيه الأنبياء والصالحون، والكفرة والملحدون والفجار، والكبار والصغار، يجتمعون جميعاً في ذلك الطبق الأرضي، الذي تحفه النار تقودها الملائكة، يرون أن الملك يومئذ لله وحده؛ فهو الذي يقبض السموات والأرض بيمينه، ويهزهن ويقول: ( أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ).

هو الذي إذا أمر بشخص أن يسحب على وجهه في النار وأن يلقى فيها فإنه لا تنفعه شفاعة الشافعين. هو الذي إذا أمر بإسقاط شخص من علو الصراط؛ فأول ما يصل إلى قعر جهنم منه ناصيته التي يجذب بها وهو يتردى من مسيرة سبعين ألف خريف في قعر جهنم، لا يستطيع أحد أن يشفع له.

هو الذي إذا أمر بإخراج عبد قد امتحش واسود من عذاب النار، وأن يجعل في مكان يتجدد فيه جلده، وينبت فيه لحمه؛ ليتجدد عذابه مرة أخرى لا يستطيع أحد أن يعقب على ذلك.

هو الذي يأمر بمن أنعم عليهم بالنعم السابغة في هذه الدنيا فلم يشكروا نعمته ولم يعرفوا حقه، يؤمر بأحدهم فيؤتى به وقد كان من الأغنياء في هذه الدنيا، وقد ملك المئين من الأبل؛ فيبطح لها في قاع قرقر، فيمر عليه أولها وآخرها، لا يفقد فيها صغيراً ولا كبيراً، تدوسه بأقدامها وتنهشه بأسنانها، كلما مر عليه آخرها أعيد إليه أولها، هو الذي يأمر بالغني الذي كان يملك البقر فيبطح في قاع قرقر، فيمر عليه البقر من أوله إلى آخره لا يفقد منه عجلاً ولا كبيراً ولا صغيراً، وليس فيها عقصاء ولا مقطوعة قرن ولا مكسورة، فيمر عليه ذلك البقر من أوله إلى آخره، ضربه بأظلافه وقرونه، كلما مر عليه آخره أعيد إليه أوله، هو الذي يقتص حتى للشاة الجماء من الشاة القرناء، وهو الذي يحاسب ذلك الحساب العسير الذي يوقف فيه الشخص على كل ما أسلف.

هو الذي إذا أمر بعبد من عباده أن يحبس وهو يرى عذاب الآخرين ولا يؤذن له أن يصرف وجهه عن تلقاء ذلك العذاب، لا يستطيع أحد أن يمنعه.

هو الذي يأمر بالموت ( فيأتي في صورة كبش أقرن، فيعرض على أهل الجنة، فيقال: أعرفتموه؟ فيقولون: نعم، هو الموت، ويشمئزون منه، ثم يعرض على أهل النار، فيقال: أعرفتموه؟ فيقولون: نعم، هو الموت، ويشمئزون منه، فيضجع على مرتفع بين الجنة والنار ويذبح وينادي المنادي: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت )، من يستطيع أن يتمنع من ملك الموت في الدنيا ويماطله في تأخير روحه لحظة واحدة؟! إذا كان البشر جميعاً لا يستطيعون ذلك، فإن الله هو الذي يأتي به ويذبحه على هذا التل بين الجنة والنار وينادى به على أهل الجنة والنار: يا أهل النار خلود فلا موت، يا أهل الجنة خلود فلا موت.

إن الله هو الجبار، المتكبر، القهار، المنتقم، وكل ذلك مدعاة لأن يخاف منه، وإن من يخاف من العباد الفقراء الضعاف الذين لا يملك أحد منهم لأحد حياة ولا موتاً ولا نشوراً، ولا يستطيع أن يرفع عنه أي ضرر، ولا يستطيع أن يعيد إليه أية نعمة قد فقدها، ولا أن يرد عنه أية مصيبة قد نزلت به لا يمكن إلا أن يخاف من الباري الذي كل السموات والأرضين في قبضته.

مخوفات البرزخ

هذا من مخوفات الآخرة، فضلاً عن مخوفات البرزخ الذي يختبئ فيه من المخوفات ما لا يعلمه إلا الله، ( فإن العبد إذا قبضت روحه لا تمكث في كف ملك الموت لحظة واحدة، بل يسلمها إلى ملائكة قد نزلوا من السماء وهم باسطو أيديهم: أخرجوا أنفسكم، فتسلم إليهم تلك الروح، فإن كانت طيبة وضعوها في كفن من لباس الجنة، وارتفعوا بها فاستأذنوا لها، فتفتح لها أبواب السماء، ويقال: مرحباً بالنفس الطيبة! يعرف أهل السماء عملها حيث يرتفع في الصباح والمساء، فتخر ساجدة تحت العرش، ثم يؤذن لها أن ترجع من حيث أتت، فإذا وضع الشخص في القبر أتاه الملكان فأقعداه فقالا: من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد.. هو محمد.. هو محمد، ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى؛ فآمنا واتبعنا، وأما المنافق أو المرتاب أو الكافر، فإن روحه إذا قبضها أولئك الملائكة يجعلونها في سفط من لباس النار، فيرتفعون بها إلى السماء فلا تفتح لهم أبواب السماء، ويقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة! ارجعي من حيث أتيت، فترجع تلك الروح، ويأتي الملكان فيسألان هذه الأسئلة الثلاثة، ويكون الجواب عليها مخزياً، حيث يقول: هاه.. هاه! لا أدري! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته ).

وسيختلف جواب الملائكة لهذا الصنفين من الناس، أما الصنف الأول الموقن المؤمن، فيقولان له: ( صدقت وبررت، قد علمنا إن كنت لموقناً به، ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، ويفتحان بينه وبين مقامه من الجنة باباً يصل إليه هواؤه وروحه، ويعرض عليه مقعده من النار، ويقال: هذا مقعدك من النار قد أبدلك الله خيراً منه، ويعرض عليه مقعده من الجنة فيقال: هذا مقعدك من الجنة، قد خبأه الله لك، فيبقى في قبره بروح وريحان، ويقابل رباً غير غضبان، ويتعجل وينتظر الساعة بفارغ الصبر؛ ليدخل ما يراه مما أعد له في الجنة. وأما الآخر فيقولان له: لا دريت ولا تليت! ويضربانه بمرزبة معها لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها )، وفي رواية أخرى في حديث أسماء في الصحيحين: ( أنهما يضربانه بمطارق بين أذنيه؛ فيصيح صيحة يسمعها كل من يليه، إلا الإنس والجن )، ويملآن عليه قبره من العذاب المعجل الذي يقول الله تعالى فيه: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ [السجدة:21]، فيملأ عليه قبره بالتنانين والحيات والعقارب والسموم، وأنواع الروائح الكريهة، ويبقى في ذلك العذاب، بحيث لا يشعر الناس إلا من أطلعه الله على ذلك، ويستمر هكذا وهو يرى مقعده من النار، ويعرض عليه مقعده من الجنة، فيقال: ( هذا مقعدك من الجنة، لو آمنت واتقيت، وقد أعطي لغيرك، وهذا مقعدك من النار وهو مهيأ لك )؛ فيرث المؤمنون مقاعد الكافرين من الجنة التي أعدت لهم فتكون توسعة عليهم وزيادة في نعيمهم.

إننا لا نستطيع أن نصل إلى مجرد أخبار هؤلاء وما هم فيه إلا عن طريق الوحي، فإذا كان الأمر كذلك وكان الذاهب إلى تلك الجهة تنقطع أخباره؛ فلماذا لا يجدد صلته بالله قبل أن يكون في ذلك المكان؟!

المخوفات في الحياة الدنيا

كذلك مما دون هذا ما هو في هذه الدنيا، مما خبأ الله لأهلها من أنواع المخوفات؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، فإن الشخص إذا أصبح وقد طلع الفجر عليه وهو في هذه الدنيا فإنه عرضة للأعراض والأمراض من يمينه وشماله، إما أن يبتلى في دينه وشر البلاءِ البلاءُ في الدين، يستلب إيمانه ويختم له بسوء الخاتمة، أو يبتلى بتقصير في صلاته التي هي أول ما يسأل عنه يوم القيامة، أو يبتلى بغضب يؤدي به إلى عقوق والديه، أو إساءة عشرة زوجه، أو غير ذلك من إفساد العلاقات الدنيوية، أو يبتلى بتقصير في فرض قد فرضه الله عليه سيسأله عنه على رءوس الأشهاد، أو يبتلى بأن تؤخذ أمانته من قلبه فيستيقظ وفي قلبه وكت كجمر دحرجته على رجلك فنفط وانتفخ، وليس فيه شيء؛ فكثير من الناس ينامون على أماناتهم وهي في قلوبهم، ويستيقظون وقد استل الله هذه الأمانات من قلوبهم؛ ولذلك سترفع الأمانة حتى يقال: في بني فلان رجل أمين! أو يبتلى في بدنه فيصاب بأنواع الأمراض والأعراض، التي هي مخوفة مروعة، كم يسوء الإنسان أن يصبح بعد قوة فيعرض نفسه على طبيب أو يجرى له فحص فيرى على وجه الطبيب السآمة والنكد، فيسأله إن صدقه فيقول: أنت مصاب بسرطان الكبد، أو أنت مصاب بسرطان في القلب، أو أنت مصاب بسرطان في الدم، أو أنت مصاب بمرض الزهري، أو أنت مصاب بمرض الإيدز، أو غير ذلك من الأمراض التي ما بينها وبين أن تصيب الشخص إلا أن يؤذن لها أن يقول الله: (كن).

كذلك كم بين الإنسان وبين أن يسلط الله عليه داءً يشل أعضاءه ويشل جهازه العصبي، فيكون لقىً محمولاً على الأكتاف، يمله أقرب الناس إليه، لا يستطيع أن يتصرف في بدنه شيئاً، يمله أقاربه من طول ما يعالجونه، ينفقون عليه من ماله الذي جمعه بكد وشق نفس، ومع ذلك يعدونه عليه ويتضجرون منه، وهو الذي جمعه لهم وأسعدهم به، وهو لا يستطيع أن يرد هذا عن نفسه، فلماذا لا يقوي الصلة بالله الذي هو أرحم الراحمين؟!

كذلك يمكن أن يبتلى في أهله بفقد أقاربه وأحبته، الذين يمضون ليل نهار؛ فإنه في ليلة من السنة يفرق كل أمر حكيم، أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا [الدخان:5]، فمن أمر الله بقبض روحه في تلك السنة لا يمكن أن يتأخر، وكم رأينا من الذين كان الناس يتعلقون بهم تعلقاً بالغاً، من أقاربهم وأحبتهم وأزواجهم وأولادهم، وقد انقطعت العلاقات بينهم وانقطعت الصلة ولا يدرون هل هم في جنة أو في نار، ينظرون إلى قبورهم من بعيد؛ فلا يستطيع أحد منهم أن يجزم بأن هذا القبر روضة من رياض الجنة، ولا أن يجزم بأنه من حفر النار، كم رأينا ممن فقدنا من الآباء والأمهات والأجداد والإخوة والأخوات قد انقطعت أخبارهم، واتصلت أسفارهم، ورحلوا عن هذه الدنيا وودعوها إلى غير رجعة، وتركوا ديارهم وآثارهم، وبقي من خلفهم متمتعاً بما أحرزوه ويعيش فيما تركوه، وقد نسيهم وغفل عنهم، وهم في أحوج الحاجة إلى أن تكون صلتهم به دائمة، وأفقر أحوالهم وأحوجها إلى من يصلهم ويقدم لهم معروفاً حال فقرهم في قبورهم؛ فلماذا لا يجددون الصلة بالله قبل أن يكونوا في ذلك الحال؟!

كذلك كم شاهدنا ممن أتاه الله بسطة في المال؛ فبينما هو يتمتع به ويتصرف فيه في اليمين والشمال تأتيه جائحة من السماء فتأتي على أغلى أملاكه وأعلى أمواله ويعود فقيراً بعد أن كان من الأغنياء، ويرجع إلى حال المذلة والمسكنة بعد أن كان في حال يحسد عليها.

كم رأينا من الذين ضربت عليهم القيود، وضرب عليهم الحجر، وفلست أموالهم، وبقيت الديون متراكمة عليهم بعد غنىً وتصرف! كم رأينا بين ظهرانينا من الذين يجدون في بعض السنوات أنهم خلال هذه السنة قد ائتمنهم الله تعالى على أموال طائلة! وفي السنة التي تليها كانت أملاكهم أقل من ذلك وما وصل دخلهم إلى ما وصل إليه من قبل، ألا يتعظ هؤلاء بأنهم محتاجون إلى أن يجددوا صلتهم بالله، وأن يحسنوا علاقتهم بديان السماوات والأرض، المجازي على كل الأعمال.

والخوف دافعه هو ما لدى المخوف مما يمكن أن يسلطه على الخائف، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يملك وسائل الترويع والتخويف، سواءً منها ما كان في هذه الدار أو ما كان في الدار الآخرة، أما في الدار الآخرة فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحشر الناس إليه فيأتونه حفاة عراة غرلاً، ويجمعهم في ذلك الموقف الذي لا يتأبى ملك جحجاح، ولا ذو سلطة وجنود، وإذا أتاه الداعي لا يستطيع أن يتأخر عنه؛ فيجتمعون جميعاً إلى البارئ سبحانه وتعالى، ويحشرهم في ذلك الموقف الذي ليس لأحد به سلطة، يحشر فيه الأنبياء والصالحون، والكفرة والملحدون والفجار، والكبار والصغار، يجتمعون جميعاً في ذلك الطبق الأرضي، الذي تحفه النار تقودها الملائكة، يرون أن الملك يومئذ لله وحده؛ فهو الذي يقبض السموات والأرض بيمينه، ويهزهن ويقول: ( أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ).

هو الذي إذا أمر بشخص أن يسحب على وجهه في النار وأن يلقى فيها فإنه لا تنفعه شفاعة الشافعين. هو الذي إذا أمر بإسقاط شخص من علو الصراط؛ فأول ما يصل إلى قعر جهنم منه ناصيته التي يجذب بها وهو يتردى من مسيرة سبعين ألف خريف في قعر جهنم، لا يستطيع أحد أن يشفع له.

هو الذي إذا أمر بإخراج عبد قد امتحش واسود من عذاب النار، وأن يجعل في مكان يتجدد فيه جلده، وينبت فيه لحمه؛ ليتجدد عذابه مرة أخرى لا يستطيع أحد أن يعقب على ذلك.

هو الذي يأمر بمن أنعم عليهم بالنعم السابغة في هذه الدنيا فلم يشكروا نعمته ولم يعرفوا حقه، يؤمر بأحدهم فيؤتى به وقد كان من الأغنياء في هذه الدنيا، وقد ملك المئين من الأبل؛ فيبطح لها في قاع قرقر، فيمر عليه أولها وآخرها، لا يفقد فيها صغيراً ولا كبيراً، تدوسه بأقدامها وتنهشه بأسنانها، كلما مر عليه آخرها أعيد إليه أولها، هو الذي يأمر بالغني الذي كان يملك البقر فيبطح في قاع قرقر، فيمر عليه البقر من أوله إلى آخره لا يفقد منه عجلاً ولا كبيراً ولا صغيراً، وليس فيها عقصاء ولا مقطوعة قرن ولا مكسورة، فيمر عليه ذلك البقر من أوله إلى آخره، ضربه بأظلافه وقرونه، كلما مر عليه آخره أعيد إليه أوله، هو الذي يقتص حتى للشاة الجماء من الشاة القرناء، وهو الذي يحاسب ذلك الحساب العسير الذي يوقف فيه الشخص على كل ما أسلف.

هو الذي إذا أمر بعبد من عباده أن يحبس وهو يرى عذاب الآخرين ولا يؤذن له أن يصرف وجهه عن تلقاء ذلك العذاب، لا يستطيع أحد أن يمنعه.

هو الذي يأمر بالموت ( فيأتي في صورة كبش أقرن، فيعرض على أهل الجنة، فيقال: أعرفتموه؟ فيقولون: نعم، هو الموت، ويشمئزون منه، ثم يعرض على أهل النار، فيقال: أعرفتموه؟ فيقولون: نعم، هو الموت، ويشمئزون منه، فيضجع على مرتفع بين الجنة والنار ويذبح وينادي المنادي: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت )، من يستطيع أن يتمنع من ملك الموت في الدنيا ويماطله في تأخير روحه لحظة واحدة؟! إذا كان البشر جميعاً لا يستطيعون ذلك، فإن الله هو الذي يأتي به ويذبحه على هذا التل بين الجنة والنار وينادى به على أهل الجنة والنار: يا أهل النار خلود فلا موت، يا أهل الجنة خلود فلا موت.

إن الله هو الجبار، المتكبر، القهار، المنتقم، وكل ذلك مدعاة لأن يخاف منه، وإن من يخاف من العباد الفقراء الضعاف الذين لا يملك أحد منهم لأحد حياة ولا موتاً ولا نشوراً، ولا يستطيع أن يرفع عنه أي ضرر، ولا يستطيع أن يعيد إليه أية نعمة قد فقدها، ولا أن يرد عنه أية مصيبة قد نزلت به لا يمكن إلا أن يخاف من الباري الذي كل السموات والأرضين في قبضته.

هذا من مخوفات الآخرة، فضلاً عن مخوفات البرزخ الذي يختبئ فيه من المخوفات ما لا يعلمه إلا الله، ( فإن العبد إذا قبضت روحه لا تمكث في كف ملك الموت لحظة واحدة، بل يسلمها إلى ملائكة قد نزلوا من السماء وهم باسطو أيديهم: أخرجوا أنفسكم، فتسلم إليهم تلك الروح، فإن كانت طيبة وضعوها في كفن من لباس الجنة، وارتفعوا بها فاستأذنوا لها، فتفتح لها أبواب السماء، ويقال: مرحباً بالنفس الطيبة! يعرف أهل السماء عملها حيث يرتفع في الصباح والمساء، فتخر ساجدة تحت العرش، ثم يؤذن لها أن ترجع من حيث أتت، فإذا وضع الشخص في القبر أتاه الملكان فأقعداه فقالا: من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد.. هو محمد.. هو محمد، ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى؛ فآمنا واتبعنا، وأما المنافق أو المرتاب أو الكافر، فإن روحه إذا قبضها أولئك الملائكة يجعلونها في سفط من لباس النار، فيرتفعون بها إلى السماء فلا تفتح لهم أبواب السماء، ويقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة! ارجعي من حيث أتيت، فترجع تلك الروح، ويأتي الملكان فيسألان هذه الأسئلة الثلاثة، ويكون الجواب عليها مخزياً، حيث يقول: هاه.. هاه! لا أدري! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته ).

وسيختلف جواب الملائكة لهذا الصنفين من الناس، أما الصنف الأول الموقن المؤمن، فيقولان له: ( صدقت وبررت، قد علمنا إن كنت لموقناً به، ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، ويفتحان بينه وبين مقامه من الجنة باباً يصل إليه هواؤه وروحه، ويعرض عليه مقعده من النار، ويقال: هذا مقعدك من النار قد أبدلك الله خيراً منه، ويعرض عليه مقعده من الجنة فيقال: هذا مقعدك من الجنة، قد خبأه الله لك، فيبقى في قبره بروح وريحان، ويقابل رباً غير غضبان، ويتعجل وينتظر الساعة بفارغ الصبر؛ ليدخل ما يراه مما أعد له في الجنة. وأما الآخر فيقولان له: لا دريت ولا تليت! ويضربانه بمرزبة معها لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها )، وفي رواية أخرى في حديث أسماء في الصحيحين: ( أنهما يضربانه بمطارق بين أذنيه؛ فيصيح صيحة يسمعها كل من يليه، إلا الإنس والجن )، ويملآن عليه قبره من العذاب المعجل الذي يقول الله تعالى فيه: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ [السجدة:21]، فيملأ عليه قبره بالتنانين والحيات والعقارب والسموم، وأنواع الروائح الكريهة، ويبقى في ذلك العذاب، بحيث لا يشعر الناس إلا من أطلعه الله على ذلك، ويستمر هكذا وهو يرى مقعده من النار، ويعرض عليه مقعده من الجنة، فيقال: ( هذا مقعدك من الجنة، لو آمنت واتقيت، وقد أعطي لغيرك، وهذا مقعدك من النار وهو مهيأ لك )؛ فيرث المؤمنون مقاعد الكافرين من الجنة التي أعدت لهم فتكون توسعة عليهم وزيادة في نعيمهم.

إننا لا نستطيع أن نصل إلى مجرد أخبار هؤلاء وما هم فيه إلا عن طريق الوحي، فإذا كان الأمر كذلك وكان الذاهب إلى تلك الجهة تنقطع أخباره؛ فلماذا لا يجدد صلته بالله قبل أن يكون في ذلك المكان؟!

كذلك مما دون هذا ما هو في هذه الدنيا، مما خبأ الله لأهلها من أنواع المخوفات؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، فإن الشخص إذا أصبح وقد طلع الفجر عليه وهو في هذه الدنيا فإنه عرضة للأعراض والأمراض من يمينه وشماله، إما أن يبتلى في دينه وشر البلاءِ البلاءُ في الدين، يستلب إيمانه ويختم له بسوء الخاتمة، أو يبتلى بتقصير في صلاته التي هي أول ما يسأل عنه يوم القيامة، أو يبتلى بغضب يؤدي به إلى عقوق والديه، أو إساءة عشرة زوجه، أو غير ذلك من إفساد العلاقات الدنيوية، أو يبتلى بتقصير في فرض قد فرضه الله عليه سيسأله عنه على رءوس الأشهاد، أو يبتلى بأن تؤخذ أمانته من قلبه فيستيقظ وفي قلبه وكت كجمر دحرجته على رجلك فنفط وانتفخ، وليس فيه شيء؛ فكثير من الناس ينامون على أماناتهم وهي في قلوبهم، ويستيقظون وقد استل الله هذه الأمانات من قلوبهم؛ ولذلك سترفع الأمانة حتى يقال: في بني فلان رجل أمين! أو يبتلى في بدنه فيصاب بأنواع الأمراض والأعراض، التي هي مخوفة مروعة، كم يسوء الإنسان أن يصبح بعد قوة فيعرض نفسه على طبيب أو يجرى له فحص فيرى على وجه الطبيب السآمة والنكد، فيسأله إن صدقه فيقول: أنت مصاب بسرطان الكبد، أو أنت مصاب بسرطان في القلب، أو أنت مصاب بسرطان في الدم، أو أنت مصاب بمرض الزهري، أو أنت مصاب بمرض الإيدز، أو غير ذلك من الأمراض التي ما بينها وبين أن تصيب الشخص إلا أن يؤذن لها أن يقول الله: (كن).

كذلك كم بين الإنسان وبين أن يسلط الله عليه داءً يشل أعضاءه ويشل جهازه العصبي، فيكون لقىً محمولاً على الأكتاف، يمله أقرب الناس إليه، لا يستطيع أن يتصرف في بدنه شيئاً، يمله أقاربه من طول ما يعالجونه، ينفقون عليه من ماله الذي جمعه بكد وشق نفس، ومع ذلك يعدونه عليه ويتضجرون منه، وهو الذي جمعه لهم وأسعدهم به، وهو لا يستطيع أن يرد هذا عن نفسه، فلماذا لا يقوي الصلة بالله الذي هو أرحم الراحمين؟!

كذلك يمكن أن يبتلى في أهله بفقد أقاربه وأحبته، الذين يمضون ليل نهار؛ فإنه في ليلة من السنة يفرق كل أمر حكيم، أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا [الدخان:5]، فمن أمر الله بقبض روحه في تلك السنة لا يمكن أن يتأخر، وكم رأينا من الذين كان الناس يتعلقون بهم تعلقاً بالغاً، من أقاربهم وأحبتهم وأزواجهم وأولادهم، وقد انقطعت العلاقات بينهم وانقطعت الصلة ولا يدرون هل هم في جنة أو في نار، ينظرون إلى قبورهم من بعيد؛ فلا يستطيع أحد منهم أن يجزم بأن هذا القبر روضة من رياض الجنة، ولا أن يجزم بأنه من حفر النار، كم رأينا ممن فقدنا من الآباء والأمهات والأجداد والإخوة والأخوات قد انقطعت أخبارهم، واتصلت أسفارهم، ورحلوا عن هذه الدنيا وودعوها إلى غير رجعة، وتركوا ديارهم وآثارهم، وبقي من خلفهم متمتعاً بما أحرزوه ويعيش فيما تركوه، وقد نسيهم وغفل عنهم، وهم في أحوج الحاجة إلى أن تكون صلتهم به دائمة، وأفقر أحوالهم وأحوجها إلى من يصلهم ويقدم لهم معروفاً حال فقرهم في قبورهم؛ فلماذا لا يجددون الصلة بالله قبل أن يكونوا في ذلك الحال؟!

كذلك كم شاهدنا ممن أتاه الله بسطة في المال؛ فبينما هو يتمتع به ويتصرف فيه في اليمين والشمال تأتيه جائحة من السماء فتأتي على أغلى أملاكه وأعلى أمواله ويعود فقيراً بعد أن كان من الأغنياء، ويرجع إلى حال المذلة والمسكنة بعد أن كان في حال يحسد عليها.

كم رأينا من الذين ضربت عليهم القيود، وضرب عليهم الحجر، وفلست أموالهم، وبقيت الديون متراكمة عليهم بعد غنىً وتصرف! كم رأينا بين ظهرانينا من الذين يجدون في بعض السنوات أنهم خلال هذه السنة قد ائتمنهم الله تعالى على أموال طائلة! وفي السنة التي تليها كانت أملاكهم أقل من ذلك وما وصل دخلهم إلى ما وصل إليه من قبل، ألا يتعظ هؤلاء بأنهم محتاجون إلى أن يجددوا صلتهم بالله، وأن يحسنوا علاقتهم بديان السماوات والأرض، المجازي على كل الأعمال.

رحمة الله وتوبته على عباده

إن الله سبحانه وتعالى، وهو الذي خلق لنا ما في الأرض جميعاً قد اتصف بالرحمة التامة الكاملة، فله مائة رحمة، وزع رحمة واحدة منها بين أهل الدنيا؛ فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها، وادخر عنده تسعة وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وهو الذي يجازي أهل الجنة بما وصفه بأنه: ( لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، وهو الذي يحل رضاه الأكبر بمن شاء من عباده؛ فلا يضره ما فعل أبداً، وهو الذي يحل مغفرته وستره على من شاء من عباده؛ فلا يُطْلِع الكرام الكاتبين على ذنبه، وهو الذي يحل توبته على من تاب عليه ليتوب، ولا يتوب أحد إلا إذا تاب الله عليه ليتوب، كما قال تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة:118].

إجابة الله دعاء عبده

وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وإذا انقطعت الأسباب وظهر العجز على من كان يدعي القدرة، وزال السلطان عمن كان يتصرف وكان لسان حاله يقول: هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:29]، إذا دعا الله حينئذ مخلصاً، ورفع إليه أيدي الضراعة؛ فإن الله يستحي أن يردهما صفراً، فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وهو الذي يبسط الفضل قبل المسألة، يبادر عباده بالفضل قبل أن يسألوه، ويضاعف لهم إذا سألوه وهو الذي يغضب إذا لم يسأل، ويجيب إذا سئل ويعطي أكثر مما سئل.

إن منا من إذا سأله أحدنا شيئاً يعلم أنه سيعطيه إياه وهو شيء بسيط من أعراض الدنيا؛ فإنه يتعلق به ويحاول أن يحسن علاقته به دائماً، ومع ذلك فهو يعلم أنه سيمله، فوجه صاحب الحاجة مملول مسئوم، وإن ابن آدم يغضب إذا تعددت مسألته، كما قال الحكيم:

لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب

فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب

كذلك فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي يرفع السوء إذا حل بعباده ومن أمثلة ذلك ما ينزل بهم من البؤس عندما يقحطون، وعندما يظهر في هذه الأرض الفساد بما كسبت أيدي الناس وعندما يظهر البؤس وتنقطع الأرزاق، وتضن السماء بمائها وتضن الأرض بزرعها، وتنقطع المساعدات ولا يبقى إلا أن يمد الناس أيدي الضراعة إلى الله؛ فهو الذي يغيثهم حينئذ، هو الذي ينزل الغيث، فهو سبحانه وتعالى وحده الذي يملك ذلك ويتصرف فيه، وهو الذي يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وهو الذي يبسط كنفه على عبده إذا حشره إليه، فيقول: ( يا عبدي! أتذكر يوم كذا إذ فعلت كذا وكنت قد نهيتك عنه؟! فيقول: يا ربي! أذكره وكنت قد نسيته، فيقول: لكنني لم أنسه! )، ثم يغفر له ويتجاوز عما لديه، هو الذي يحشر أقواماً فينصب لهم كراسيَّ من نور عن يمين الرحمن -وكلتا يديه يمين- لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ [الأنبياء:103].

هو الذي يمن بفضله على من لا يظن ذلك، فكثير من الناس يصبح جاهلاً ناقص الإيمان لا صلة له بالله ولا معرفة له بالله، فيصب الله الإيمان في قلبه صباً؛ فيتوجه قلبه إلى الله وحده وتنتفض جوارحه مما سوى الله، ويكون حينئذ في الملأ الأعلى وتكون نفسه من النفوس الطيبة المختارة، وهو الذي يكتب بين عيني الشخص: أنه سعيد من أهل الجنة وهو لم يتسبب في ذلك وكان قبل أن يكتب ذلك بين عينيه لا يدري هل هو شقي أم سعيد، هو الذي يمن على عباده بالتوفيق والهداية إلى العمل الصالح والمثمر الذي يتنافسون فيه وينالون به الدرجات العلى، وهو الذي يمن عليهم بعد أن يوفقهم لذلك العمل بقبول ما عملوه؛ فيقبل منهم اليسير، ويتجاوز عنهم في الكثير، ( يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم )، هو الذي إذا أتاه العبد بقراب الأرض خطايا وأتاه لا يشرك به شيئاً أتاه بقرابها مغفرة، هو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، وهو الذي يرفع الشدة النازلة بالأفراد والمجتمعات، وهو الذي يمنع الزلازل والمحن التي يكتبها على من شاء ويرفعها عمن شاء، وهو الذي ينزل الصواعق فيصيب بها من يشاء ويصرفها عمن يشاء، وهو الذي ينزل البرد، فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء، فهو إذاً الذي لديه ما يرجى وما يخاف؛ فلماذا لا نجدد الصلة به ونحسن العلاقة به؟!

إن الله سبحانه وتعالى، وهو الذي خلق لنا ما في الأرض جميعاً قد اتصف بالرحمة التامة الكاملة، فله مائة رحمة، وزع رحمة واحدة منها بين أهل الدنيا؛ فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها، وادخر عنده تسعة وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وهو الذي يجازي أهل الجنة بما وصفه بأنه: ( لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، وهو الذي يحل رضاه الأكبر بمن شاء من عباده؛ فلا يضره ما فعل أبداً، وهو الذي يحل مغفرته وستره على من شاء من عباده؛ فلا يُطْلِع الكرام الكاتبين على ذنبه، وهو الذي يحل توبته على من تاب عليه ليتوب، ولا يتوب أحد إلا إذا تاب الله عليه ليتوب، كما قال تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة:118].