الطاقات المهدرة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى خلق للإنسان ما في الأرض جميعاً، فجعل ابن آدم نقطة العالم، من أجله خلق الله كل ما في هذه الأرض، وذلك لثلاثة أوجه: إما انتفاعاً وإما اعتباراً وإما اختباراً.

الانتفاع بما خلق الله

فالانتفاع يتجه إليه ما ينتفع به الإنسان من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات، وهذه الأربع هي أصول المنافع؛ لذلك تكفل الله بها لـآدم في الجنة فقال: إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى[طه:118-119]، ثم ما يكملها من محسناتها وحاجيتها الملحقة بها.

الاعتبار بما خلق الله

ثم بعد ذلك ما كان اعتباراً يغذي القلوب، فإن هذه القلوب لها تغذية، وتغذيتها إنما هي بالذكرى، وإذا عدمتها فإنها ستموت أو تمرض.

والقلب كله على ثلاثة أقسام: إما أن يكون سليماً، وإما أن يكون سقيماً، وإما أن يكون ميتاً.

فالقلب السليم هو الذي على الفطرة، يقبل الحق ويسمعه ويستجيب له، والقلب المريض هو الذي يسمع الحق، ولكن لا يستجيب له، والقلب الميت هو الذي لا يقبل سماع الحق أصلاً.

ويحتاج الإنسان إلى تغذيةٍ لقلبه حتى لو كان سليماً فـإبراهيم عليه السلام أخبر الله أنه رزقه قلباً سليماً، ومع ذلك قال: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[البقرة:260]، فهو يحب أن يرى المواعظ ليزداد إيماناً ويقيناً، أما مرضى القلوب فهم أحوج الناس إلى العلاج قبل التغذية لقلوبهم، وأما موتى القلوب فهم أحوج كذلك إلى ما يحيي موات هذه القلوب، وينشرها بعد موتها لعلها تئوب إلى بارئها فيتوب عليها.

وقد جعل الله في هذه الأرض كثيراً من المواعظ التي ينتفع الإنسان من مشاهدتها والتفكر فيها، لكن ذلك مختص بالذين يؤمنون بالله سبحانه وتعالى ويعتبرون في آلائه، كما قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[آل عمران:190-191]، فهؤلاء هم الذين ينتفعون بهذه الآيات، فتتكاثر لديهم الآيات المسطورة والآيات المنظورة فيزدادون إيماناً ويقيناً، فأنتم تعلمون أن الآيات المستورة هي ما أنزله الله في كتابه من الآيات والمواعظ والذكرى، والآيات المنظورة هي ما في هذا الكون من إبداع الله ودلائل قدرته:

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

وهذه الآيات المنظورة تقوم بها الحجة في تصديق الآيات المسطورة، فهي تأكيد لما جاء في القرآن وبيان له، كما قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ[فصلت:53]، (حتى يتبين) أي: يتضح بما لا يدع مجالاً للشك، (أنه) أي: أن القرآن هو الحق من عند الله، وهذا ما لا نزال نشهده في كل يوم من عجائب هذا الكون، ومن معجزات الله فيه التي تشهد بصدق الرسالة وبصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وبصدق ما جاء في هذا القرآن، ولا يزال الناس يزدادون يقيناً أن هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، وأنه لا يمكن أن يساويه شيء من كلام الخلوقين، لا إعجازاً، ولا ترتيباً، ولا معنىً، ولا علماً، فهو المحيط بكل ذلك.

ما خلقه الله للإنسان اختباراً له

كذلك القسم الثالث: هو ما خلقه الله لمصلحة ابن آدم اختباراً يبتليه به، وذلك مثل السموم والأوبئة والأسلحة الفتاكة، وغيرها مما هو مجهز على الأعمار، أو مضر بالأبدان أو بالقلوب أو بالمنافع، فذلك كله ما خلقه الله عبثاً، وإنما خلقه ابتلاء لخلقه، وفيه منافع خفية أخرى، فلولا الموت لما حملت هذه الأرض بني آدم لكثرتهم، ولولا الموت لما استطاعت أرزاقها أن تكفيهم ولا مياهها؛ فلذلك كان الموت نعمة عظيمة على البشرية، لكن مع هذا ستر الله الآجال ليستقروا، وجعل لهم الآمال ليرغبوا في المستقبل، وكل ذلك من فضله ولطفه.

فقد جعل الله سبحانه وتعالى كل ذلك لمصلحة ابن آدم.

فالانتفاع يتجه إليه ما ينتفع به الإنسان من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات، وهذه الأربع هي أصول المنافع؛ لذلك تكفل الله بها لـآدم في الجنة فقال: إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى[طه:118-119]، ثم ما يكملها من محسناتها وحاجيتها الملحقة بها.

ثم بعد ذلك ما كان اعتباراً يغذي القلوب، فإن هذه القلوب لها تغذية، وتغذيتها إنما هي بالذكرى، وإذا عدمتها فإنها ستموت أو تمرض.

والقلب كله على ثلاثة أقسام: إما أن يكون سليماً، وإما أن يكون سقيماً، وإما أن يكون ميتاً.

فالقلب السليم هو الذي على الفطرة، يقبل الحق ويسمعه ويستجيب له، والقلب المريض هو الذي يسمع الحق، ولكن لا يستجيب له، والقلب الميت هو الذي لا يقبل سماع الحق أصلاً.

ويحتاج الإنسان إلى تغذيةٍ لقلبه حتى لو كان سليماً فـإبراهيم عليه السلام أخبر الله أنه رزقه قلباً سليماً، ومع ذلك قال: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[البقرة:260]، فهو يحب أن يرى المواعظ ليزداد إيماناً ويقيناً، أما مرضى القلوب فهم أحوج الناس إلى العلاج قبل التغذية لقلوبهم، وأما موتى القلوب فهم أحوج كذلك إلى ما يحيي موات هذه القلوب، وينشرها بعد موتها لعلها تئوب إلى بارئها فيتوب عليها.

وقد جعل الله في هذه الأرض كثيراً من المواعظ التي ينتفع الإنسان من مشاهدتها والتفكر فيها، لكن ذلك مختص بالذين يؤمنون بالله سبحانه وتعالى ويعتبرون في آلائه، كما قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[آل عمران:190-191]، فهؤلاء هم الذين ينتفعون بهذه الآيات، فتتكاثر لديهم الآيات المسطورة والآيات المنظورة فيزدادون إيماناً ويقيناً، فأنتم تعلمون أن الآيات المستورة هي ما أنزله الله في كتابه من الآيات والمواعظ والذكرى، والآيات المنظورة هي ما في هذا الكون من إبداع الله ودلائل قدرته:

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

وهذه الآيات المنظورة تقوم بها الحجة في تصديق الآيات المسطورة، فهي تأكيد لما جاء في القرآن وبيان له، كما قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ[فصلت:53]، (حتى يتبين) أي: يتضح بما لا يدع مجالاً للشك، (أنه) أي: أن القرآن هو الحق من عند الله، وهذا ما لا نزال نشهده في كل يوم من عجائب هذا الكون، ومن معجزات الله فيه التي تشهد بصدق الرسالة وبصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وبصدق ما جاء في هذا القرآن، ولا يزال الناس يزدادون يقيناً أن هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، وأنه لا يمكن أن يساويه شيء من كلام الخلوقين، لا إعجازاً، ولا ترتيباً، ولا معنىً، ولا علماً، فهو المحيط بكل ذلك.

كذلك القسم الثالث: هو ما خلقه الله لمصلحة ابن آدم اختباراً يبتليه به، وذلك مثل السموم والأوبئة والأسلحة الفتاكة، وغيرها مما هو مجهز على الأعمار، أو مضر بالأبدان أو بالقلوب أو بالمنافع، فذلك كله ما خلقه الله عبثاً، وإنما خلقه ابتلاء لخلقه، وفيه منافع خفية أخرى، فلولا الموت لما حملت هذه الأرض بني آدم لكثرتهم، ولولا الموت لما استطاعت أرزاقها أن تكفيهم ولا مياهها؛ فلذلك كان الموت نعمة عظيمة على البشرية، لكن مع هذا ستر الله الآجال ليستقروا، وجعل لهم الآمال ليرغبوا في المستقبل، وكل ذلك من فضله ولطفه.

فقد جعل الله سبحانه وتعالى كل ذلك لمصلحة ابن آدم.

ابن آدم كريم على الله سبحانه وتعالى، هيأ له وسائل الراحة، ففي خلقه جعله على أكمل صورة وأتمها، وقومه فجعل العين اليمنى على مقاس العين اليسرى دون أن يفرق بينهما أي فارق، واليد اليمنى على مقاس اليد اليسرى، والساعد على طول الساعد، والعضد على طول العضد، والكتف على قدر الكتف، والفخذ على قدر الفخذ، والساق على قدر الساق، والقدم على قدر القدم، وهكذا بتعديل عجيب: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[الانفطار:8]، فهذا التعديل الذي عدل الله عليه الإنسان وجعله متساوياً يدل على أن هذا الإنسان كريم على الله؛ ولذلك جعله في أحسن تقويم، وفي أحسن صورة.

ثم بعد هذا أعطاه وسائل الإدراك ووسائل التمكين في هذه الأرض، فأنتم تعلمون أن الإبل أقوى من ابن آدم، وأن الفيلة لا تقارن بقوتها بالإنسان ولا بضخامتها أو جسامتها، لكن مع ذلك ذلل الله هذه الحيوانات لابن آدم، فهو يتصرف فيها كيف يشاء، ترى الطفل الصغير يقود الجمل الضخم ويتصرف فيه، وترى راعي الحيوانات البهيمية المفترسة في حديقة الحيوانات يتصرف في الفيلة والسباع والكركدن ووحيد القرن وغيرها، كل ذلك بتذليل الله سبحانه وتعالى لهذه البهائم لابن آدم ، مما يدل على أن هذا الإنسان هو سيد هذه الأرض.

ولذلك جعله الله خليفة فيها، وهذا الاستخلاف حكمة عظيمة وأمر جسيم من عند الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك أخبر به ملائكته قبل أن يخلق آدم ، و آدم منجدل في طينته فقال: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[البقرة:30]، لكن كثيراً من الناس لا يستشعرون هذه الأهمية لهذا الجنس البشري، ولا يستشعرون هذه الوظيفة العظيمة التي هي وظيفة الاستخلاف في الأرض، ولا يستشعرون ما خصهم الله به مما يسر لهم، ومما مكنهم فيه من هذه الأرض، فيهملون هذه الطاقات العظيمة التي امتن الله بها عليهم، فتذهب هدراً، فيولد أحدهم ميلاداً عادياً في مستشفى عادي، فيعيش حياة عادية ويموت موتة عادية ويبعث بعثاً عادياً، فهذا لم يترك أثراً ولا بصمة في هذه الأرض فكيف يوصف بالخلافة؟! ولم يحقق شيئًا مما خلق له، لكن الذي يحدث ضجيجاً ويغير، فإذا ولد ميلاداً عادياً لم تكن حياته حياة عادية، ولم يرضَ أن يكون كالحيوانات البهيمية التي تعيش من أجل طلب رزقها وتطلب رزقها من أجل عيشها، بل لا بد أن يدرك الإنسان كرامته على الله، وأن يدرك أن الكون مذلل له، وأن هذه الأرض الواسعة الفيحاء جعلها الله له قراراً وخيره في مناطقها، أنى أراد أن يذهب ووزع الأرزاق فيها، فإذا سد باب فتحت مئات آلاف الأبواب، وإذا ضاق على الإنسان محل اتسعت له آلاف المحلات، وإذا عالج نوعاً من أنواع الاكتساب فلم يقدر عليه ولم يستطعه تجاوزه فوجد آلاف الأبواب مفتوحة أمامه؛ لذلك يقول أهل الإدارة: إذا أغلق في وجهك باب فلا تحاول فتحه، وابحث عن باب مفتوح فادخل منه؛ لأن الوقت الذي تمضيه في محاولة فتح الباب تقطع به مسافة داخل الباب المفتوح، لكن من لا يدرك هذا التكريم وهذا التشريف يبقى يدور في مكانه، فإذا سدت عليه الأبواب أخذه اليأس والإحباط، وتغيرت خلقته قبل أن يتغير خلقه، ثم بعد ذلك يسوء خلقه ويسوء تدبيره، ويتصف بأوصاف الحيوانات المفترسة والوحوش الكاسرة، فيعتدي على إخوانه في الأرض، إما بالنهب، وإما بالسلب، وإما بالقتل، وإما بغير ذلك، والسبب أنه أغلق أمامه باب واحد فوقف مكتوف الأيدي أمام ذلك الباب.

وأهل التاريخ يذكرون نكتةً لا أتعرض لإثباتها ولا لنفيها، يذكرون أن أهل حمص كان لديهم نزغ وخفة في العقول في وقت مضى، وهذا لا يقتضي جحد ما لأهل حمص من الفضائل، ففيهم العلماء الربانيون وفيهم الخير الكثير، والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرجه الترمذي في السنن بإسناد حسن: ( إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)، فلا يزال الخير في الشام، ولكن يذكر أهل التاريخ أنهم كانت فيهم خفة، فجاء سارق إلى عامل يعمل الأبواب، أي: نجار يعمل الأبواب وعنده باب قد أكمله وحسنه وجمله، فأخذه السارق واصطحبه معه، فصاح به النجار فلم يستجب له السارق، فتبعه يجري فوضع الباب بينه وبينه، وقال: الباب مغلق، فقال له النجار: لو كان الباب مفتوحاً لأريتك يتهدده، ورجع حين رأى الباب موصداً.

هذا الحال ليس حال النجار الذي في حمص فحسب، بل حال كثير من شباب هذه الأمة ورجالها مع الأسف، فكثير من الناس يبقى متردداً حيث لا يليق به التردد، ويبقى حائراً حيث لا تناسبه الحيرة، ويبقى مكتوف اليدين في الحال الذي يمكن أن يتصرف فيه التصرف المفيد، والأكثر من ذلك أن هذا الإنسان في أصل فطرته مجبول على المخاطرة والمغامرة والاستكشاف، لكن هذه الفطرة غيرت لدى كثير من هذه الأمة، فأصبح كثير منهم من المقلدين يحاكون محاكاة الببغاء؛ ولذلك تجدون مثلاً في المجالات الحيوية التي ينبغي أن تكون مفتوحة أمام الجميع، ويمكن أن ينتج فيها كل إنسان، مجال التوظيف ومجال التجارة، تجدون في مجال التوظيف كثيراً من الموظفين تعبوا في الحصول على الشهادة، ثم تعبوا بالواسطات والرشاوى حتى وصلوا إلى الوظيفة، لكن سرعان ما يملون هذه الوظيفة ويريدون التخلص بالتفريغ ليبقى أحدهم حلس بيته من الأحلاس، لا ينفع أمته ولا يغني عنها شيئاً، ولا يتورع عن أن يأخذ راتباً من بيت مالها المفلس الذي لا يستطيع تسديد الحقوق التي عليه، فتجد كثيراً من الأساتذة وكثيراً من المهندسين، وكثيراً من البحارين، وكثيراً من الأطباء قد تخلصوا من مهنهم الأصلية، وكلما نجح أحدهم في مجال إذا هو يتخلص منه ويمله، ويرى أن هذا الطريق الذي سلك طويل، لكنه ما انتبه لطول الطريق إلا في النهايات، فهو يبحث عن طريق آخر يسلكه للتحصيل، وسبب ذلك التقليد أنه رأى أقواماً كانوا أهل احتيال وخداع، فوصلت أيديهم إلى مال الله فتمولوه لأنفسهم، واستطالوا فيه على عباد الله، فهم سراق لا يجدون من يقطع أيمانهم، ولا من يحسمها، فهو يرى هؤلاء بين عشية وضحاها أصبحوا أهل ثروة، ويرى هو أنه سلك طريقاً غير صحيح؛ لأنه ما خطر في باله مهمته في الاستخلاف، ولا خطر في باله أنه يقدم خدمةً لأمته، بل خطر في باله أنه في سباق مع المتسابقين في مجال الحرص على المال وجمعه، وأن أقواماً سبقوه ليسوا أذكى منه ولا أعلى مستوىً، وهو يريد أن يتدارك قبل أن يفوت الأوان.

هذا الحال من تعطيل الطاقات يؤدي إلى تراجع الأمم وإلى أن تكون ذنباً في أذيال الأمم، وألا يكون لها أي اعتبار ولا أي وزن.

وهذا الحال نظيره لدى التجار، فتجدونهم يتصرفون على أساس من التبعية والتقليد عجيب، إذا رأوا من فتح محلاً على هيئة محددة ووضع فيه البضاعات على أسلوب، ليس يناسب هذا العصر ولا تقنياته ولا تنظيمه جعلوا محلاتهم جميعا ًعلى ذلك النمط، فيفسدون على هذا الأخ الذي سبق فرصته؛ لأنه كان له زبائن في هذه المنطقة، فوجد من يضايقه في زبائنه، بينما كان بالإمكان أن يلج أولئك من الأبواب الواسعة الأخرى، ونظير هذا إذا فتح أحدهم مثلاً مخبزاً أو محطةً لبيع المحروقات تجد الآخر يأتي إلى القطعة المجاورة فيشتريها ويجعل فيها محلاً مثل هذا تماماً، نسخة طبق الأصل وكأنهما توأمان، وهذا التقليد لا يأتي بخير إنما هو تضييق.

ومن هنا فقد ذكر أحد الغربيين أن العرب جبلوا على التقليد، فلا يستطيع أحد منهم أن ينتفع؛ لأنه إذا كان فيهم عقلية تجارية واحدة فيكون الآخرون جميعاً عالة عليها.

فالفكرة لدى الغربيين ملك لصاحبها يعطى عليها براعة اختراع، وتكون مملوكة لديه، أما في بلادنا الإسلامية فإذا فكر أحد الناس وأنتج فبدلاً من أن يشجعه الناس يفسدون عليه فكرته بأن يأتوا جميعاً لمزاحمته لتلك الفكرة، وهذا الواقع المرير ليس مختصاً ببلادنا وحدها، بل هو موجود في البلاد كلها في شرقها وغربها.

ونظير هذا التقليد مع الأسف التقليد في أنماط المأكولات والمشروبات والملبوسات، فالناس يقلدون فيها تقليداً عجيباً، فأنا أعرف أن عدداً كثيراً من الناس لا يحبون السرف، وليست لديهم إمكانيات له أصلاً، لكن مع ذلك تجد أحدهم يلبس دراعة عشرة أمتار، ويحملها على منكبيه، وإذا لم يفعل فسيجرها جراً يساعد به البلدية المحتاج إلى المساعدة.

إذاً: هذا تقليد في الملابس نحن في غنىً عنه، فقد جعلنا الله على مقاسات متباينة في الطول والعرض، ولم يفرض علينا جميعاً أن نأخذ مقاساً واحداً في الملابس أو هيئة واحدة في ذلك.