أرشيف المقالات

الرحمة المهداة

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
الرحمة المهداة

إن الأمم كالأفراد تصاب بالضعف بعد القوة، وينتابُها العجزُ بعد القدرة، وفي حالة ضعفها أو عجزِها لا ينبغي لها أن تركَن إلى الاستسلام وترضى بالتَّبعية، بل ينبغي عليها أن تعيش في نورٍ متجدِّد، يسطَعُ من تاريخِها الماضي، فيبعث فيها روح الأمل، وحسن الثقة والعمل.
 
وجديرٌ بالمسلمين - وهم يحاولون إزالة العثرات عن طريقهم، وينهضون لإصلاح أحوالهم - أن يلتمسوا نماذجَ من سيرة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وحينذاك تتوثَّق صلة حاضرهم بماضيهم.
 
وتاريخ البشرية لم يعرف مُصلحًا غيرَ محمد صلى الله عليه وسلم استطاع أن يُغيِّر وجه الدنيا، ويُحوِّل مجرى التاريخ في فترة وجيزة، لا تعدُّ زمنًا بالنسبة إلى عمرِ الأمم وحركات التاريخ، مما يثبتُ أن هذا النبي مؤيَّد بقدرة الله ورعايته.
 
ولكن يبقى عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مقدَّر قدره الصحيح عند بعض الناس؛ لفقدِهم التصوُّر السليم لأحوال الناس واهتماماتِهم قبل الإسلام؛ ولذلك كان لا بد من بيانِ حال العالَم قبل ميلادِ النبي صلى الله عليه وسلم، عندئذٍ تظهرُ ضخامة المهمة التي تحمَّلها رسول الله، وتنحني الرؤوسُ أمام تلك النتائج التي أسفرت بها دعوة الإسلام.
 
كان العالَم قبل البعثةِ النبوية يعيش جاهلية؛ جاهلية العقائد والمبادئ والخلق، وجاء لفظ الجاهلية في القرآن الكريم ليُصوِّر الظلام الذي انتشر قبل ظهور الرسول الكريم في شتى مجالات الحياة، ففي سورة آل عمران يقول تعالى عن المنافقين: ﴿ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ [آل عمران: 154]؛ حيث فقَدوا الثقة بالله، ففرغت قلوبُهم من الإيمان، فعاشوا في تخبُّط وضلال.
 
وفي سورة الأحزاب قولُه تعالى لنساء النبي مرشدًا وهاديًا: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33]، والجاهلية الأولى - كما يقول كثير من العلماء - ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ حيث كانت المرأة تلبَس قميصًا شفَّافًا غير مَخِيط الجانبينِ، لتُظهِر جسمَها وفتنتَها للناس، وقد أدرك أصحاب رسول الله بقيَّةً من الجاهلية، فهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يُخاطِب النجاشي مَلِك الحبشة قائلاً: "أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية؛ نعبُدُ الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف..."، وإن المتأمل في هذه الصفات يجدها قد جَمَعت فسادَ العقل، وانحراف السلوك، وشذوذ الطبع الإنساني.
 
والتبسُّط في شرحِ لفظةِ الجاهليةِ يحتاجُ إلى صفحاتٍ، لكن الصورةَ التي رسَمَتها آياتُ القرآن الكريم تُمثِّل حالةَ الانحطاط التي تردَّى فيها الوثنيُّون العرب مع بقيَّة الأمم من يهود ونصارى، بل إن مدينة الفُرس وحضارة الروم لم تنجُ من الفساد والضياع.
 
ولعل سببَ ارتكاس البشرية في حَمْأة الجاهلية تطاول الزمن على الناس، وابتعادهم عن عهد الرسالات، فغدا التفلُّت من شعائر الشرائع السماوية أمرًا سهلاً ومألوفًا، حتى انتهى القوم إلى الفساد الذي ظهر في البحر والبر: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].
 
لقد كانت نصرانيةُ القرن السابع متداعيةً، عُطِّلت بعدَّة فلسفات متنازعة، فاستبدَلَت بإيمانِ العصور الأولى السَّمحِ صغيراتِ الخرافة، إضافة إلى ذلك، فقد انتشرت في العالَم المسيحي آثامٌ وشرور لم تجد مَن يُنكِرها.
 
أما الديانة اليهودية، فقد اقتَبَس أصحابُها كثيرًا من عقائد الأمم الوثنية، وصوَّروا ذات الله شخصيةً تعملُ فتتعب فتستريح، وهكذا حُجِب نور التوحيد وراء الأباطيل والأوهام، وتسلط الأحبار على الناس يُحلُّون ويُحرِّمون بأهوائهم ومطامِعهم، حتى لو بُعِث أصحاب هذه الديانة لأنكروها وتجاهلوها، مما أصابها من عبث وتغيير.
 
وفي الأطراف الشرقية والمناطق الوسطى من قارَّة آسيا عاش الناس يسجُدون للأوثان ويُعظِّمون التماثيل، ويستقبلون الشمسَ والنيرانَ في صلواتِهم، أو يعبدون إلهَ النور طمعًا في ضيائه، ويخشون إله الظلام مخافة انتقامِه.
 
وإذا كانت هذه هي الحالةَ الدينية، فليست الحياةُ الاجتماعية أو الخُلقية أفضلَ منها؛ لأن الاستبداد قد شاع في عَلاقاتِ الناس مع بعضِهم، وانتشر الجهلُ حتى قام الناسُ في أوروبا الغربيَّة يبحثون في أمر المرأة: هل هي إنسان كامل، أو روح حيوانية شريرة في صورة إنسان؟ وهل يحق لها أن تمتَلِك وتبيع وتشتري أم لا؟
 
وهكذا عاش الناس في ظلمٍ وقهر، فلم يجدوا ما يُنفِّسون به عن أنفسهم سوى ألعاب العنف والهمجيَّة والمصارعة، التي انتشرت في الدولة الرُّومانية.
 
وجزيرة العرب لم تكن الحياةُ فيها أسعدَ حظًّا من حياة الأمم والشعوب، فمع أن العرب عبدوا الله سبحانه واحترموا البيت العتيق، فقد كان إيمانهم ضحلاً؛ لأن حياتهم العملية تُكذِّب ذلك الإقرار الشفوي غير النابع من القلب: ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ﴾ [الرعد: 16]، إنهم آمنوا بآلهة وأوثان دعَوْها لتشفيَ مرضاهم، وتُوقِف مجاعاتِهم، وتردَّ كوارثهم، فكلما باشروا عملاً أو عزموا على أمر، قصدوها يلتمسون بركاتِها، ويطلُبون عونَها.
 
وحياة العرب الاجتماعية كانت متفسِّخةً هزيلة؛ انتشر فيها حب الثأر، وشدة البطش، ونصرة القريب ولو كان ظالمًا، فضلاً عن انحطاطِ قيمة المرأة التي أباحوا لها تعدُّد الأزواج، بل أكرَهوها على الزنا، طلبًا لمالٍ يناله السيد من مملوكتِه البَغِيِّ، وكثيرًا ما سمح بعض الأزواج لزوجاتِهم أن يتَّصِلن بمشاهيرِ الرجال ليحملن منهم أبناءً من صنفٍ ممتاز، كما كانوا يزعمون.
 
أخرج البخاري وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء:
• فنكاحٌ منها نكاحُ الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل ابنتَه، فيُصدقُها ثم ينكحها.
 
• ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهُرت من طمثِها: أرسلي إلى فلان فاستبضِعي منه، ويعتزلها زوجُها حتى يتبيَّن حملُها من ذلك الرجل، ثم يصيبها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبةً في نجابة الولد.
 
• ونكاح آخر يجتمعُ الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبُها، فإذا حملت ووضعت، أرسَلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يتخلَّف، حتى إذا اجتمعوا عندها، قالت لهم: قد عرَفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدتُ، فهو ابنك يا فلان - لواحدٍ منهم - وتلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع الرجل.
 
• ونكاح رابع يجتمع الناس فيدخلون على المرأة البَغِيِّ التي يكون لها عَلَم أو راية، فإذا حَمَلت أُلحِق ولدُها بمن يريده، ولا يمتنعون من ذلك".
 
أضِف إلى هذا عادة وَأْد البنات، وقطع الطريق، وشن الغارات، وإسالة الدماء بغير حساب.
 
في هذا العالَم الذي وصفنا أحوالَه بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام بجهودٍ عظيمة لإحلال النور مكان الظلام، وإشاعة الأمن مكان الخوف، ونشر الوحدة بدل الفُرْقة، حتى سطَّر لشعب - بل لأمم متفسِّخة - موازين الإصلاح بعد أن كانت تتردَّى في دركات الانحطاط.
 
ولم تكن بعثته صلى الله عليه وسلم مفاجِئةً لنواميس الحياة، بل إن الديانات السابقة بشَّرت به، فحملت الكتبُ المقدسة السالفة أنباءً تتصلُ بظهور خاتم النبيين، وكانت هذه البشارات منتشرةً بين أهل الكتاب من يهود ونصارى، بل إن الكتب المقدَّسة ذكرت اسمه وموطنه وسجاياه وصفات أصحابه رضي الله عنهم؛ ففي سورة الفتح: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ﴾ [الفتح: 29].
 
ولعل تلك البشارات كانت السببَ الذي أغرى طوائف اليهود والنصارى بالسكنِ في بلاد العرب، يتطلَّعون إلى ذلك اليوم الذي يُبعَث فيه خاتم النبيين؛ ليعلِّمهم الكتاب والحكمة، فلقد أخذ الله العهد على أنبيائه: لئن جاءهم محمدٌ لينصُرُنَّه ويتَّبِعُنَّه، وبهذا نزلت التوراة على موسى والإنجيلُ على عيسى عليهما السلام، واشتملا على وصايا تحثُّ أتباعَهما على الإيمان بالرسول النبي الأمِّي.
 
ومع أنه جرى التغيير والتبديل في أجزاءٍ من تلك الكتب السماوية، فإن البشارات لم تُمحَ منها كليَّةً؛ طمعًا في أن يكون النبي المرسل مواليًا لجماعة منهم.
 
على أنه لا بد من القول بأن نبوَّة رسول الله ما كانت تستمدُّ من شهادات الأمم السابقة، وإنما تستمد قوتها وصحتها من ذاتها؛ لأنها تحمِلُ في نفسها الشَّهادة على صدقها، والبيِّنات الناطقة بأنها من عند الله العزيز الحكيم.
 
ثَمَّة بشارةٌ في سفر "تثنية الاشتراع" من الكتاب المقدَّس الذي بيدِ اليهود، وفيها:
"جاء الرب من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من فاران"، وما مجيء الرب في العبارة السابقة إلا تباشير بانتشار رسالاته، وظهور أوامره على لسان رسله الثلاثة: موسى الذي سار من سيناء، وعيسى الذي بعث في فلسطين، ومحمد الذي ظهر في مكة حيث الجبال محيطة بها، حتى لقبت في القديم بفاران؛ لإحاطة الجبال بها.
 
وفي الأناجيل الحاضرة نصوصٌ تُبشِّر بالفارقليط، وهو لفظٌ مقابله في العربية: لفظ أحمد، الذي بشَّر به عيسى عليه السلام، ففي سورة الصف قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6].
 
ومن المتَّفق عليه عند البخاري ومسلم أن أحمدَ من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنه لم يأتِ بعد عيسى مَن تسمَّى بأحمد وحَمَل النبوة غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
 
وقد كانت هذه البشارات بخاتم النبيِّين منتشرةً في القرن السادس الميلادي، زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، بل ومسطورة في كتب السابقين.
 
روى البخاريُّ عن عطاءِ بن يسار قال: لقيتُ عبدالله بن عمرو بن العاص - وكان قد وقَعَ على حِمْلَيْ بعيرٍ مِن كُتب أهل الكتاب - فقلت: أخبِرْني عن صفة رسول الله، قال: أجل، والله إنه لَموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، ثم قرأ عليه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45]، وحِرْزًا للأمِّيين، أنت عبدي ورسولي، سميتُك المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح".
 
أما استمرار البشارة بخاتم النبيين عند النصارى، فروى البيهقي عن ابن عباس أن الجارود بن عبدالله - كان نصرانيًّا - قدِم على رسولِ الله فأسلَمَ وقال: "والذي بعثك بالحق، لقد وجدتُ وصفك في الإنجيل، ولقد بشَّر بك ابن البتول"؛ يعني: عيسى ابنَ مريم.
 
وقد تأثَّر الأحبارُ والرهبان بهذه البشارات؛ فالتمسوا تفسيرها الصحيحَ، فوجدوه في اتِّباعِ محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمانِ بما أنزل الله إليه من نورٍ وحكمة؛ فهذا عبدالله بن سلام - سيد قومِه من اليهود - ينضمُّ إلى المسلمين ويُؤمِن بالنبي لَمَّا تبين له أنه الحق، وكذلك فعل زيد بن سَعْنَة الصحابيُّ الكريم، وكان على دين اليهود، ومن بعدِهما أسلم كعب الأحبار، ووهب بن منبِّه، وقبل هؤلاء آمَن نجاشيُّ الحبشةِ حينما علِم بدعوة رسول الله من جعفر بن أبي طالب في هجرة المسلمين إلى الحبشة.
 
ومن الجدير بالذكرِ أن العربَ كانت تسمع أخبار النبي المنتظر من أهل الكتاب، وكانوا يطمَعون أن تتحقَّق النبوءة في أبنائهم، فراحوا يُسمُّونهم باسم محمد، ومن هؤلاء محمد بن سفيان جدُّ الفَرَزدق، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وغيرهما؛ أخرج البيهقي والطبراني أن رجلاً سأل محمد بن عدي بن ربيعة: كيف سمَّاك أبوك في الجاهلية محمدًا؟ قال: أما إني سألت أبي عما سألتني عنه، فقال: خرجتُ في نفر من قومي، فلما وردنا الشام نزلنا على غديرٍ عليه شجرات، فأشرف علينا راهب، فقال: مَن أنتم؟ قلنا: قومٌ من مُضَر، قال: أمَا إنه سوف يُبعَث فيكم نبي، فسارِعوا إليه، وخُذوا بحظِّكم منه ترشُدوا؛ فإنه خاتَم النبيين، فقلنا: ما اسمه؟ قال: محمد، فلما صرنا إلى أهلنا وولد لكل واحد منا ولدٌ، سماه محمدًا.
 
وهكذا عاش الناس على أملِ النجاة مما هم فيه من شقاء وضلال وفساد، وأراد هؤلاء النبوةَ لأبنائهم، لكن الله أرادها لصفوته من خَلْقه، فصلوات الله وسلامه عليه.
 
لقد انفرد محمدٌ صلى الله عليه وسلم من بين جيلِه - بل الأجيال كلها - بميزاتٍ جِسمية وخُلقية ليست في سائر الناس، وإن كان هو من الناس؛ ولهذا لم يكن بِدعًا من الأمر أن يكون تكوينُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مُستَرعيًا للأنظار؛ فهو جميلٌ في جِسمِه، كما هو حَسَنٌ في خُلقه، ولا شك أن ذلك التناسق له أثرٌ في الاستجابة لدعوته.
 
رُوِي أن أعرابيًّا رأى رسول الله، فراعه منظرُه وحُسن هيئته، فسأله: مَن أنت؟ فقال: ((محمد بن عبدالله))، قال الرجل: أنت الذي تقول عنه قريش: إنه كذاب؟ فقال رسول الله: ((نعم))، قال الأعرابي: والله ليس هذا بوجه كذَّابٍ، فما الذي تدعو إليه؟ فعرَّفه رسول الله حقيقة الإسلام فأسلَم.
 
لقد أكثر الواصفون وصفَهم لرسول الله وإعجابَهم بتكوينِه، وقام أصحابه يصِفون دقائقَ جسمه.
 
أخرج الترمذي والبيهقي والطبراني عن الحسن بن علي قال: سألتُ خالي هندَ بن أبي هالة عن حِلية رسول الله، وكان رجلاً وصَّافًا: فقال: "كان رسول الله فخمًا، يتلألأُ وجهُه تلألؤَ القمر ليلة البدر، ليس بالطويل ولا بالقصير، عظيم الهامة، رَجِل الشَّعر، يجاوز شعرُه شحمةَ أذنِه إذا هو وفَّره، أزهر اللون، واسع الجَبين، كث اللحية، سهل الخدَّينِ، ضليع الفمِ، معتدل الخَلْق، بادنًا متماسكًا، سواءَ البطنِ والصدرِ، بعيدَ ما بين المَنْكِبَيْنِ، موصول ما بين اللَّبَّة والسُّرَّة بشعرٍ يجري كالخطِّ، مسيح القدمينِ، ينبو عنهما الماء، إذا مشى كأنما ينحطُّ من صبب، وإذا التفتَ التفت جميعًا، خافض الطَّرْفِ، نظرُه إلى الأرض أطول من نظرِه إلى السماء، جلُّ نظرِه الملاحظة، يبدأ مَن لقيه بالسلام".
 
كان منظرُ رسول الله يشدُّ الأنظار إليه؛ لأنه الجمال والكمال، جمال الرجولة وكمال الإنسان، ومن أجلِ ذلك أحبه كلُّ مَن رآه، فكل شيء في رسول الله يعلنُ قوَّته وجمالَه وكماله، وها هو قد بلغ السِّتين من عُمُرِه وشكله شابٌّ تجتمع فيه وفرةُ العافية؛ فشعره أسود، بل إن الذين عدوا شعرات شَيبِه لم يرقَوْا بها إلى العشرين.
 
أخرج البيهقي عن أنسٍ خادمِ رسول الله أنه عدَّ عشرات شيبِ رسول الله ثم قال: ما كان في رأسِه ولا لحيتِه إلا سبع عشرة أو ثماني عشرة شعرةً بيضاء.
 
وفي جسم رسولِ الله كان خاتم النبوة، وهو جزء من لحمِه، كان بين كتفَيْه، ومن مجموع الروايات التي وصفته يظهر أنه كان ناتئًا نتوءًا واضحًا، غير أن حجمه كان صغيرًا بحيث لا يظهر من وراء الثوب.
 
أخرج مسلم عن جابر قال: "رأيت خاتم النبوة بين كتِفَي رسول الله مثل بيضةِ الحمامةِ، يُشبِه جسده"، وقد خلَق الله هذا الخاتم اللحمي وصفًا جسديًّا لذات الرسول؛ كيلا يماريَ فيه مَن رآه، وكانت الكتب السماوية من قبلُ ذكرَتْ أنه سيُبعَث نبيٌّ بين كتفيه خاتم النبوة.
 
وهكذا، فإن معرفة بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم والاطلاع على صفات رسول الله لا يتركانِ مجالاً للناس بأن يتساءلوا عن سر اختيار الله تعالى لمحمد بن عبدالله دون غيره.
 
وبعد هذا لا يستطيع أحد أن يقول: لمَ اختير محمدٌ دون الصِّدِّيق، أو دون عمر، أو دون علي، أو دون غيرهم وهم الأطهار الأبرار الشجعان؟!
 
لا يستطيع أحد أن يسأل ذلك؛ لأن صفات محمد صلى الله عليه وسلم الخُلُقية والجِسمية لم تكن في أحد من هؤلاء ولا في غيرهم، وصدق الله القائل: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124].
 
والحمد لله رب العالمين.

شارك الخبر

المرئيات-١