الزواج بين الشرع والمجتمع


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فإن الله عز وجل حرم السفاح، وأباح النكاح، وجعله سبباً لانتشار البشر، ولبقاء النسل، ورتب عليه كثيراً من الأحكام، وجعل هذا العقد الشريف ميثاقاً مغلظاً، فهو جامع بين التعبد والمعاملة، فيه جانب في العلاقة بالله سبحانه وتعالى، يتعبد الله به، وفيه جانب من المعاملات بين الناس؛ ولذلك كان كالعقود له طرفان: إيجاب وقبول، وأركانه على هذا، هي: الأهل، والمحل، والصداق، والولي، والصيغة، فهذه خمسة أركان.

أما الأهل فهو: الزوج، الذي يصدر منه، أو من وليه الإيجاب.

وكذلك المحل، وهي: الزوجة التي يصدر منها أو من وليها القبول، أقصد هذا بالنسبة للعقد.

وأما الصداق المشروط بينهما، فهو: ما تعوضه الزوجة في مقابل الاستمتاع، وقيل: في مقابل نفس العقد؛ لأن العقد أصلاً مقتضٍ لمال.

ثم الصيغة، وهي إحدى صيغتين مبينتين في كتاب الله هما: أنكحت، أو زوجت.

وكذلك يشترط له الشهادة، وهي: حضور عدلين يشهدان بإيقاعه.

والولي الذي هو ركن من أركانه، فيشترط له شروط أخرى، منها: العقل، والتدبير، والقرابة من المرأة، أو القيومية عليها، وإن كانت دنية فيتولى أمرها القاضي، أو الوالي، أو أي رجل من المسلمين يتولى بعض أمورهم.

وحكمه الشرعي يختلف باختلاف الأحوال، فتعتريه أحكام الشرع، فيكون واجباً في حق من يخشى على نفسه الوقوع في العنت -الوقوع في الزنا- سواء رجا نسلاً أو لم يرجه، وكان قادراً عليه مادياً، وجسمياً. وكذلك يجب نكاح الأيامى، اللواتي يخاف عليهن الفساد، فالبنت التي يخشى عليها الفساد، إذا لم تتزوج يجب على وليها إذا خطبت إليه أن يزوجها، ويحرم عليه أن يؤخر ذلك.

ويكون سنة، وذلك فيما إذا لم يخف الشخص على نفسه العنت، ولكنه يرجو النسل، أو يمكن أن يحصن بعض النساء المسلمات المحتاجات، فيسن له أن يتزوج اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وكذلك قد يكون مندوباً فقط في حق من لا يرجو النسل، ولا يخاف على نفسه العنت، ولكنه يمكن أن يبني بيتاً إسلامياً يعيش فيه مع غيره ممن يدخل تحت يديه، وقد يكون مكروهاً في حق من يحول بينه وبين بعض التعبدات التي تعود عليها.

وقد يكون محرماً في حق من يشغله عن الواجبات، أو من لا يطيق حقوقه وأداءها، وقد تعتريه الحرمة لعامل خارجي، وذلك مثل عقد العفيف على المنبوزة التي حصل منها الزنا، أو قاربته، أو رميت به، وكذلك الزواج، تزوج الفاسق من العدل، والعدل يوصف به المذكر والمؤنث في هذا اللفظ.

هذه أحكامه من ناحية التعبد.

أما من ناحية المعاملة فهو عقد يترتب عليه أثر، وأثره الأول: إباحة التمتع لكل واحد منهما بالآخر، ولزوم الحقوق المشتركة.

حقوق الزوج على الزوجة

وحقوق الزوج على الزوجة هي: احترامه، وألا توطئ فراشه أحداً بغير إذنه، وألا تأذن في دخول بيته بغير إذنه، وأن تحافظ على ما في بيتها من ماله، وأن تحافظ على دينه ومروءته ما استطاعت، وأن تحسن إلى ذويه وأقاربه، وأن تعظمه هو في أوامره، وتسعى في إرضاء خاطره؛ ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم:( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها ).

حقوق الزوجة على الزوج

وحقوق الزوجة على الزوج هي: السكنى والنفقة، والكسوة بالمعروف، وكذلك القوامة الصالحة، بأن يمنعها مما حرم الله عليها؛ لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] وكذلك الإحسان إلى ذويها، وألا يزري بها، وألا يأتي ما لا يحسن وقوعه منه بالنسبة إليها ديناً أو مروءة.

وهذه الحقوق واجبة مترتبة في الذمة، من فرط في شيء منها فقد اعتدى على حق غيره، وهي من حقوق الآخرين، حقوق الآدميين التي لا تغفر، ولا تترك، وإنما يأتي أصحابها مطالبين بها يوم القيامة، فيفصل الباري سبحانه وتعالى بينهم يوم فصل الخصام.

والله عز وجل جعل ما في هذه الدنيا منقسماً إلى قسمين: إلى ماديات ومعنويات، فالماديات أشرف ما فيها الذهب والفضة والحرير، وقد أحل هذه للنساء، وحرمها على الرجال، والمعنويات أشرف ما فيها: القوامة، ورئاسة البيت، وهذه أعطاها الله تعالى للرجال، أو منعها عن النساء؛ ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:( إنما الطلاق بيد من يضع الساق )، والزوج هو الذي يطوي العقد، وهو الذي بيده حله، ولا ينبغي أن يفرط في عقدة ائتمنه الله تعالى عليها، وجعله موقعاً لها.

اشتراط أن يكون الطلاق بيد المرأة

ولذلك فإن كثيراً من الناس يتنازل عن هذا الحق الذي شرفه الله به، ويشرط للزوجة أن تكون صاحبة التصرف، وكذلك بعض النساء لا ترضى إلا أن تشترط في العقد: أنه متى فعل كذا فأمرها بيدها، أو تشترط الخيار، أو التمليك على الزوج، وهذا مخالف للفطرة الشرعية؛ لأن الله ما جعل الطلاق أبداً إلى النساء، وإنما جعله إلى الرجال، والتنازل عن هذا الحق ليس من شيمة الرجال، فليس من الرجولة أن يتنازل الشخص عن الحق الذي شرفه الله تعالى به، وخص به الرجال دون النساء، فلا ينبغي أبداً أن يشترط الرجل على المرأة أن يكون طلاقها بيدها؛ لأن الهدف من هذا الشرط، والغرض منه هو: رفع الضرر، والواقع أن الضرر مرفوع شرعاً، فالمرأة لا تحتاج إلى هذا الشرط، وإذا تضررت من أجل شيء يخالف ديناً أو مروءة، فإن لها الرفع إلى القاضي، والقاضي يباشر صلاحيته برفع الضرر عنها، ويجب عليه ذلك، فإن كانت في مكان لا قاضي فيه، فإن جماعة المسلمين، وأهل العلم منهم والعدول، يقومون في كل ذلك مقام السلطان والقاضي، وهذا محل اتفاق بين المسلمين.

فإذاً: لا يحتاج إلى هذا الشرط أصلاً؛ لأن الضرر مرفوع، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:( لا ضرر ولا ضرار )، ومن القواعد الشرعية: الضرر يزال؛ فلذلك لا تحتاج إلى اشتراط أن يكون أمرها بيدها إذا أضر بها، بل إذا حصل الضرر عليها أن ترفع إلى القاضي إن كان بحوزتها، وإن لم يكن كذلك فعليها أن ترفع إلى جماعة المسلمين التي تقوم مقام القاضي والوالي عند عدمه، وحينئذ سيزال الضرر على الوجه الصحيح؛ لأن الذين يزيلون هذا الضرر هم من الرجال، أما النساء فلم يأتمنهن الله تعالى على إزالة النكاح؛ لأنهن ذوات غيرة وعاطفة، فإذا أرادت الواحدة الإصلاح فقد تتعدى، فإن كان الإصلاح يحصل بطلقة واحدة، فقد تتعدى إلى اثنتين أو ثلاث، ويكون حينئذ العلاج قد خرج من يد الزوج إلى الزوجة، أما إن عاد الأمر إلى نصابه، وكان الزوج هو المتصرف، فإنه لا يحل له شرعاً أن يجمع طلقتين أو ثلاثاً في مجلس واحد، بل السنة في الطلاق كما ذكر الشيخ: أن يطلق طلقة واحدة ولا يزيد عليها، وأن تكون في طهر، وأن يكون لم يمس في ذلك الطهر، ثم إذا انقضى ذلك المجلس له أن يردف طلقة أخرى.

والأفضل له ألا يردفها حتى يرتجع زوجته، ثم إن لم يرض منها خلقاً، أي ديناً بعد ذلك فله الحق أن يطلق طلقة أخرى في طهر لم يمس فيه، وهكذا. كذلك إن رفع الأمر إلى القاضي، والقاضي أيضاً رجل، ولا يصلح للقضاء النساء، وإن رفع الأمر إليه فإنه يصلحه في مقتضى المصلحة والشرع، ولا يحل له أن يعتدي في ذلك، ولا أن يتجاوز، وعليه أن يسعى لمصلحة الزوجين جميعاً؛ ولذلك لا يفرق القاضي بثلاث طلقات أبداً، إنما يفرق بطلقة واحدة بائنة، وهذا هو كل طلاق يوقعه القاضي لا يكون إلا بطلقة واحدة بائنة، إلا الطلاق بالإعسار بالنفقة، فإن له الحق في الارتجاع، أي: للزوج الحق في الارتجاع ما دامت في العدة.

وحقوق الزوج على الزوجة هي: احترامه، وألا توطئ فراشه أحداً بغير إذنه، وألا تأذن في دخول بيته بغير إذنه، وأن تحافظ على ما في بيتها من ماله، وأن تحافظ على دينه ومروءته ما استطاعت، وأن تحسن إلى ذويه وأقاربه، وأن تعظمه هو في أوامره، وتسعى في إرضاء خاطره؛ ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم:( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها ).

وحقوق الزوجة على الزوج هي: السكنى والنفقة، والكسوة بالمعروف، وكذلك القوامة الصالحة، بأن يمنعها مما حرم الله عليها؛ لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] وكذلك الإحسان إلى ذويها، وألا يزري بها، وألا يأتي ما لا يحسن وقوعه منه بالنسبة إليها ديناً أو مروءة.

وهذه الحقوق واجبة مترتبة في الذمة، من فرط في شيء منها فقد اعتدى على حق غيره، وهي من حقوق الآخرين، حقوق الآدميين التي لا تغفر، ولا تترك، وإنما يأتي أصحابها مطالبين بها يوم القيامة، فيفصل الباري سبحانه وتعالى بينهم يوم فصل الخصام.

والله عز وجل جعل ما في هذه الدنيا منقسماً إلى قسمين: إلى ماديات ومعنويات، فالماديات أشرف ما فيها الذهب والفضة والحرير، وقد أحل هذه للنساء، وحرمها على الرجال، والمعنويات أشرف ما فيها: القوامة، ورئاسة البيت، وهذه أعطاها الله تعالى للرجال، أو منعها عن النساء؛ ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:( إنما الطلاق بيد من يضع الساق )، والزوج هو الذي يطوي العقد، وهو الذي بيده حله، ولا ينبغي أن يفرط في عقدة ائتمنه الله تعالى عليها، وجعله موقعاً لها.

ولذلك فإن كثيراً من الناس يتنازل عن هذا الحق الذي شرفه الله به، ويشرط للزوجة أن تكون صاحبة التصرف، وكذلك بعض النساء لا ترضى إلا أن تشترط في العقد: أنه متى فعل كذا فأمرها بيدها، أو تشترط الخيار، أو التمليك على الزوج، وهذا مخالف للفطرة الشرعية؛ لأن الله ما جعل الطلاق أبداً إلى النساء، وإنما جعله إلى الرجال، والتنازل عن هذا الحق ليس من شيمة الرجال، فليس من الرجولة أن يتنازل الشخص عن الحق الذي شرفه الله تعالى به، وخص به الرجال دون النساء، فلا ينبغي أبداً أن يشترط الرجل على المرأة أن يكون طلاقها بيدها؛ لأن الهدف من هذا الشرط، والغرض منه هو: رفع الضرر، والواقع أن الضرر مرفوع شرعاً، فالمرأة لا تحتاج إلى هذا الشرط، وإذا تضررت من أجل شيء يخالف ديناً أو مروءة، فإن لها الرفع إلى القاضي، والقاضي يباشر صلاحيته برفع الضرر عنها، ويجب عليه ذلك، فإن كانت في مكان لا قاضي فيه، فإن جماعة المسلمين، وأهل العلم منهم والعدول، يقومون في كل ذلك مقام السلطان والقاضي، وهذا محل اتفاق بين المسلمين.

فإذاً: لا يحتاج إلى هذا الشرط أصلاً؛ لأن الضرر مرفوع، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:( لا ضرر ولا ضرار )، ومن القواعد الشرعية: الضرر يزال؛ فلذلك لا تحتاج إلى اشتراط أن يكون أمرها بيدها إذا أضر بها، بل إذا حصل الضرر عليها أن ترفع إلى القاضي إن كان بحوزتها، وإن لم يكن كذلك فعليها أن ترفع إلى جماعة المسلمين التي تقوم مقام القاضي والوالي عند عدمه، وحينئذ سيزال الضرر على الوجه الصحيح؛ لأن الذين يزيلون هذا الضرر هم من الرجال، أما النساء فلم يأتمنهن الله تعالى على إزالة النكاح؛ لأنهن ذوات غيرة وعاطفة، فإذا أرادت الواحدة الإصلاح فقد تتعدى، فإن كان الإصلاح يحصل بطلقة واحدة، فقد تتعدى إلى اثنتين أو ثلاث، ويكون حينئذ العلاج قد خرج من يد الزوج إلى الزوجة، أما إن عاد الأمر إلى نصابه، وكان الزوج هو المتصرف، فإنه لا يحل له شرعاً أن يجمع طلقتين أو ثلاثاً في مجلس واحد، بل السنة في الطلاق كما ذكر الشيخ: أن يطلق طلقة واحدة ولا يزيد عليها، وأن تكون في طهر، وأن يكون لم يمس في ذلك الطهر، ثم إذا انقضى ذلك المجلس له أن يردف طلقة أخرى.

والأفضل له ألا يردفها حتى يرتجع زوجته، ثم إن لم يرض منها خلقاً، أي ديناً بعد ذلك فله الحق أن يطلق طلقة أخرى في طهر لم يمس فيه، وهكذا. كذلك إن رفع الأمر إلى القاضي، والقاضي أيضاً رجل، ولا يصلح للقضاء النساء، وإن رفع الأمر إليه فإنه يصلحه في مقتضى المصلحة والشرع، ولا يحل له أن يعتدي في ذلك، ولا أن يتجاوز، وعليه أن يسعى لمصلحة الزوجين جميعاً؛ ولذلك لا يفرق القاضي بثلاث طلقات أبداً، إنما يفرق بطلقة واحدة بائنة، وهذا هو كل طلاق يوقعه القاضي لا يكون إلا بطلقة واحدة بائنة، إلا الطلاق بالإعسار بالنفقة، فإن له الحق في الارتجاع، أي: للزوج الحق في الارتجاع ما دامت في العدة.

وهذا العقد موثق وقد سماه الله تعالى ميثاقاً غليظاً، وله حكم شرعية معتبرة، هي التي من أجلها أمر الله تعالى بالزواج، ومن أهمها: بقاء النسل، والإحصان، والعفة، وبناء البيت المسلم الذي تؤدى فيه الحقوق، ويقام الواجبات، وكذلك قيام الرجل على المرأة الضعيفة التي تحتاج إلى من يقوم عليها، وكذلك قيام الزوجين جميعاً بتربية الأولاد على الوجه الصحيح، وكذلك امتحان الرجل لرجولته؛ لأن الرجل لا يكون رجلاً إلا إذا كثرت عليه المسئوليات، وأداها على وجهها الصحيح، أما إن كان الرجل لم يمتحن رجولته بقيامه بالمصالح، أو امتحنها، فلم ينجح فيها، فمعناه أنه ناقص التصرف.

ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين اقترح عليه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل عبد الله بن عمر من أهل الشورى، قال: أهذا الذي لا يحسن طلاق زوجته؟! رجل لا يحسن طلاق زوجته لا يمكن أن يولى أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقصد قصة حصلت لـابن عمر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير؛ لأن ابن عمر هاجر به أبوه وهو بالحادية عشرة من عمره، واستصغر يوم أحد، ومع ذلك تزوج في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وطلق زوجته وهي حائض، فجاء عمر فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( مره فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم ليطلقها إن شاء )، وجعل عمر هذا حجة ودليلاً على أن ابن عمر لا يحسن طلاق زوجته، فكيف يتولى أمر العامة؟ وهذا دليل على أن الرجل ممتحن بالقيام بمصالح البيت، ثم بعد هذا يتعدى نفعه إلى جيرانه الأدنين، ثم بعد ذلك يتعدى نفعه إلى مجتمعه ما استطاع، كل ذلك تجارب.

فالله عز وجل جعل التربية ثلاثة أقسام:

القسم الأول منها: يجب على الوالدين، وذلك فيما قبل بلوغ الولد، ويجب على والديه أن يربياه أحسن تربية، وأن يقرباه من الفطرة والدين والمروءة؛ ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه هما اللذان يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه ).

وبعد ذلك يأتي القسم الثاني من أقسام التربية وهو: تربية الشخص لنفسه، فقد أصبح مسئولاً عن نفسه في هذه المرحلة، وهي مرحلة البلوغ، وعليه أن يسعى باستكمال النواقص التي فيه، ويمتحنه وليه في ذلك؛ ولهذا قال الله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، فيمتحن الولي البالغ في أول بلوغه في وضع جزء قليل من المال تحت يده، فلو أتلفه لم يكن ذلك ضرراً عظيماً، وإن أحسن فيه التصرف دل ذلك على رشده، فإن رشد سلم إليه ماله، وأصبح رجلاً محترماً من رجال المسلمين.

ثم بعد ذلك يأتي القسم الثالث من أقسام التربية وهو: تربية المجتمع أو جماعة المسلمين لأفرادها، ويجب على المسلمين جميعاً أن يتآمروا بالمعروف، ويتناهوا عن المنكر، وأن يقوم بعضهم على بعض؛ ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً )، وكذلك يقول الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].

وهذه مسئولية بعض المؤمنين عن بعض، فيجب عليهم جميعاً أن ينصح بعضهم بعضاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( الدين النصيحة )، وهذا يشمل النصيحة في أمور الدين، والنصيحة في أمور الدنيا، فيجب عليهم أن ينصح بعضهم بعضاً في أمور الدنيا، وفي أمور الدين، فإذا رآه مقبلاً على مضيعة في دينه، فيجب عليه أن ينبهه بالتي هي أحسن، وأن يحاول أن يكون ذلك بالشفقة عليه، حتى لا تأخذه العزة بالإثم، وكذلك في مصالح الدنيا، إذا رآه مقبلاً لا يصلح له في الدنيا، فيجب عليه أن يحاول أن يبين له بالتي هي أحسن أن هذا ليس من المصلحة؛ ولذلك شرعت أيضاً المشورة في كل أمر.

المشورة مشروعة في كل الأمور من الزواج وغيره، وقد بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عشر خصال في المشورة، يترتب عليها عشر خصال:

أولاً: طاعة الله ورسوله؛ لأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، ويصف عباده المؤمنين بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالمشاورة في أحاديث كثيرة، إذاً هذا الأمر الأول.

الأمر الثاني: أنها تؤدي إلى الاشتراك في المسئولية، فالشخص إذا تصرف عن اجتهاده هو، وإعمال عقله، ووقع في خطأ، فإنه ربما يتأثر عاطفياً؛ لأنه قد وقع في هذا الخطأ، وبقيت مسئوليته عليه وحده، لكن لو استشار الآخرين، ولم يقدم على الأمر إلا بعد مشورة ذوي العقول، والعلم من الناس، فإنه يعلم بعد ذلك أن ما جاء بعد ذلك بقدر الله، ولم يكن ليخطئه، وحينئذ لا يأسف ولا يحزن على المصائب التي بذل الجهد قبل وقوعها في دفعها؛ ولذلك قال الشاعر:

فلا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يوصيك أو يتوجع

كذلك الحكمة الثالثة: أن المشورة تقتضي تزاحم العقول، وإذا تزاحمت العقول خرج الصواب، كل شخص يأتي برأي قد يكون محجوباً عن غيره، والناس متفاوتون في مقتضى العقل، وفي مقتضى ما تعلموه من الشرع، وربما يأتي بعضهم برأي كان غامضاً على من سواه؛ ولذلك قال عامر بن الظرب : فرجت يا سخيلة ! عامر بن الظرب من حكماء العرب وعقلائهم، وقد سئل عن ميراث الخنثى، فبات ليلة مهموماً يفكر في طريقة ميراث الخنثى، فرأته أمته، وكانت ناقصة العقل، فقالت: يا سيدي! ما لك لا تنام؟ فقال: لأمر سئلت عنه، ولم أجد جوابه، فقالت: وما هو؟ فقال: ميراث الخنثى، فقالت: اتبع المال المبال، فقال: فرجت يا سخيلة !

وكذلك من حكمه، وهي الحكمة الرابعة: أن من شارك في اتخاذ القرار يجد نفسه مضطراً لأن يبذل لك النصح، ومقتض لأن يسعى، ويبذل جهده من أجل حصولك على المصلحة؛ لأنك قد رغبت في ما عنده من خير، ولن يبخل عليك به.

الحكمة السادسة من هذه الحكم: أنها مقتضية أيضاً لزوال المشاحنات والضغائن بين الناس، فكثير من الناس يحصل بينهم كثير من الخلافات التي لو جئت تريد إصلاحها، واقتضى ذلك الرجوع إلى الماضي، ونبش بعض الأمور التي لا ترضي، ولكن من وسائل إصلاحها: أن تأتي فتشاور من بينك وبينه ضغينة في كل الأمور، حتى تكون قد تخلصت من تلك الضغائن الماضية، وأتيت وراءها بما يربط الصلات، ويقوي الوسائل، وإذا أتيته تستشيره في كل أمر فإنك قد دفعت السيئة بالتي هي أحسن، وبذلك تزول الضغائن.

ثم الحكمة السابعة من هذه الحكم- حكم المشورة -: أنها تقضي- أيضاً - أن المشاور الذي تستشيره تعلمه هو أن يشاور الآخرين، والتعليم دعوة، وكثير من الناس لا يدعو بلسانه، ولكن يدعو بهيئته وصورته، والقدوة الحسنة التي يقوم بها، وإذا رأينا إمام المسجد، أو شيخاً كبيراً أشيب، أو عالماً يستشير في كل الأمور، فإن ذلك مدعاة أن نستشير نحن الذين ننظر إليهم على أنهم أعلى منا مستوى، وأكبر عقولاً، وأكبر علماً، وأكبر ديناً، فإذا رأيناه يستشيرنا من هو دونهم في كل الأمور، كان ذلك داعياً لأن نستشير نحن، وهذا من وسائل التعليم اللطيفة.

كذلك منها، وهي الثامنة: تعويد المستشار الذي تستشيره في أمورك، تعويده على هيئة اتخاذا القرار، وإعمال العقل، وكثير من الناس عاقل جداً في تصرفه، ولكن لأن الناس لا يستشيرونه في الأمور، يعرف كثيراً من المداخل، ولا يذكرها إلا حين فوات الأوان، فيعود على بذل النصيحة والمشاورة، فإنه سيبذل هو النصيحة قبل الاستشارة في الوقت المناسب، وإذا رأى أمراً فيه خلل جاء وأبدى النصيحة في الوقت المناسب قبل أن يكون ذلك.

التاسعة: أن في الاستشارة تربية للنفس؛ لأن هذه النفوس ضعيفة، والشخص الذي هو معتز برأيه دائماً، ويظن أنه لا يحتاج إلى رأي الآخرين، ولا إلى عقولهم، بليد وناقص العقل، فعليه أن يعود نفسه على حاجته إلى الآخرين حتى في العقل، يستشيرهم في كل الأمور؛ وبذلك يتغلب على شيطانه، وتنهزم أمامه نفسه، وينتصر عليها؛ لأنه استطاع أن يعود نفسه على الحاجة إلى الآخرين في العقل، وهذا دليل على أنه يشعر بالنقص في عقله، وفي دينه، ومن كان كذلك فإنه يتهم نفسه، ويكون حينئذ ناجياً من النفاق؛ لأن كل من اتهم نفسه فهو ناج من النفاق إن شاء الله، ومن لا يتهم نفسه أبداً فإنه واقع في خصلة من خصال النفاق.

الخصلة العاشرة من هذه الخصال: أن فيها تعويد المستشار على تحمل المسئولية، ولأن يكون قائداً في المستقبل؛ لأنه رأى نفسه آمراً وامتثل أمره، فأدى إلى مصلحة، وستأتيه أنت وتشكره على النصيحة التي قدم لك، أو على المشورة التي أشار بها عليك، فجاءت ناجحة، فيتعود حينئذ على إعمال عقله في الآراء النيرة المستقيمة، ويتعود على إعطاء الأوامر للغير، والشرع متشوف لربط العلاقات بين الناس.

إن من حكم النكاح: أنه يربط العلاقات بين الأسر، كما يربط العلاقات بين الأفراد، وله علاقة في الأصل بين اثنين، إلا أنه مع ذلك مقتض لمثل هذه العلاقة، فهي علاقة متعدية؛ ولذلك يقول النابغة الجعدي رضي الله عنه:

تشاركنا قريشاً في سقاها وفي أحسابها تلك العنان

بما ولدت نساء بني حبيب وما ولدت نساء بني أبان

فهذا من ربط الوشائج بين الناس.

بعض الحكم من وراء زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين

الرسول صلى الله عليه وسلم عدد الزوجات، وتزوج دفعة واحدة بتسع نسوة، فقد أذن الله له في ذلك، لما يترتب عليه من المصالح العامة من أمته، فمثلاً حينما تزوج خديجة بنت خوليد في بداية العهد، ولم يتزوج عليها سواها، فإن خديجة كانت أهلاً لذلك في بداية الدعوة، وهذه الدعوة في بداية أمرها محتاجة إلى مثل خديجة التي هي راجحة العقل، وذات مكانة في قريش، وذات مال يمكن أن تساعد به الدعوة، وذات بيت حصين، قد تربت فيه هذه الدعوة في بداية نشأتها، وقد قامت خديجة بهذا الدور على أحسن وجه.

ثم لما توفاها الله كان أبو بكر الصديق مؤازر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه في الجاهلية، وصديقه في الإسلام، فاحتاج الأمر إلى تقوية تلك الصلة، فأذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يصاهر أبا بكر فتزوج عائشة ، وكان من حكم ذلك أنها من أحفظ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد حفظت على هذه الأمة كثيراً من أحكام دينها، وردت على الصحابة في كثير من الأمور التي اختلفوا فيها.

وقد جمعه الزركشي في كتابه بالإجابة فيما ردت به عائشة على الصحابة، وكذلك لما توفيت خديجة احتاج بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاضنة تحضنهن، وكانت سودة بنت زمعة قد أسلمت في بداية الدعوة، وأسلم زوجها ومات عنها بمكة، وكانت امرأة كبيرة، قد تجاوزت الخمسين، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقوم عليها، ولتقوم بحضانة بناته.

ثم تزوج بعد ذلك حفصة بنت عمر بأمر الله سبحانه وتعالى؛ لأن أباها كان وزيره، وسيكون الخليفة الثاني من بعده، وهي ذات مكانة في قريش من جهة أبيها وأمها، فأبوها عمر بن الخطاب بن عمرو بن نفيل بن عبد الله بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب ، وأمها زينب بنت مظعون من بني جمع أيضاً، وهم أهل بيت وعدد في قريش، وأيضاً كانت حفصة صوامة قوامة، وكانت تحت ابن عمها الذي هو من أخوالها، وهو: قبيس بن خيانة بن قيس فقتل شهيداً يوم أحد، وهي في دار الهجرة، وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، فتزوجها، وقامت بمصالح أيضاً للمسلمين عامة، منها: أنها التي وكل إليها حفظ المصحف بعد أبيها عمر بن الخطاب ، وكانت وصية عمر بن الخطاب فيما يتعلق بأوقافه التي وقفها في سبيل الله.

وكذلك تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بنت أبي أمية بأمر الله تعالى، وهي من أسرة كريمة من قريش من بني مخزوم، وأقاربها كانوا أشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان زوجها من السابقين الأولين في الإسلام، وهو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة، وقد هاجر الهجرتين إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة ومات بها، وهو أول من يأخذ كتابه بيمينه، وترك صبية فقراء أيتاماً لهذه المرأة المجاهدة الصابرة، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى، وقامت- أيضاً - بمصالح للمسلمين عجيبة، منها: أنها أنقذت الموقف يوم الحديبية حين لم يبادر المسلمون إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشارت عليه بالرأي الصواب، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، ونحر بدنه، فبادر المسلمون إلى ذلك، ومنها: أنها شفعت شفاعات بالغة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحققت، ومنها: أنها كان الخلفاء يستشيرونها في كل الأمور، وكانت من أخوال عمر بن الخطاب ؛ لأن عمر أمه: حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وهي ابنت عم أم سلمة فكان يعتقد أن أم سلمة خالته، وكان يستشيرها في كل الأمور، ويصدر عن رأيها.

وكذلك تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة وهي امرأة ليست من قريش، وإنما هي من بني هلال ، وكانت تحت عبد الله بن جحش ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل يوم أحد، وجدع أنفه، وأذناه، وبقر بطنه في سبيل الله، وهو من السابقين الأولين من المهاجرين، ومن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقيت هذه المرأة في دار الغربة- دار الهجرة - فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم جبراً لخاطرها، ولم تمكث عنده إلا ستة أشهر، فماتت في حياته.

ثم تزوج زينب بنت جحش وهي ابنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بيت محترم من بيوتات حلفاء بني أمية، ولكنها عندما أسلمت كانت من النساء اللواتي يعتدن على حسن الهيئة وحسن الحال، وذلك لما رزقها الله تعالى من حسن المنظر.

فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يزوجها مولى من الموالي، وذلك لتربية نفسها، ولتحطيم الكبر لديها، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ زيد بن حارثة بن شراحيل ، ولكن الله تعالى لم يؤلف بين قلوبهما، فبقيا فترة طويلة، ولم ينجح هذا النكاح بينهما، فحينئذ طلقت هذه المرأة في دار الغربة، طلقها هذا المولى الذي زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وبقيت في دار الهجرة ليس لها زوج بعد أن كانت زوجة لمولى، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وزوجه إياها من فوق سبع سموات، فكان العقد من ربنا سبحانه وتعالى، والشهود من الملائكة، وكان ذلك فوق عرش الله سبحانه وتعالى، وجبر المالك أمته عبداً بلا أجر، المالك: الرب سبحانه وتعالى، والأمة: زينب ، والعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجر، وهذا العقد صحيح.

كذلك تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية بعد أن غزا بني المصطلق وهم أهلها، فأتاهم وهم غارون، فأخذ رجالهم وسبى نساءهم وذراريهم وأموالهم، وأصيبوا بنكبة عظيمة؛ لأن القوم قد أتوا على حين غرة، ولم ينج منهم أحد، ولم يفلت، وأخذوا عن بكرة أبيهم، ولكنهم دخلوا في الإسلام، فكان لا بد من جبر خواطرهم، فجبر الله خواطرهم بأن أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يتزوج ابنة سيدهم، فلما تزوجها أعتق المسلمون جميع بني المصطلق، فلم تغرب الشمس على أحد مسترق منهم، وكان ذلك حكمة بالغة لزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه المرأة المسلمة.

ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب بعد أن سباها، وجعل عتقها صداقها، وهي امرأة من بني النضير، وأبوها كان سيدهم، وهي من ذرية هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام، وكانت من الصالحات من النساء في الجاهلية، فرأت في النوم أن قمر السماء قد سقط في حجرها، فلما قصت هذه الرؤيا على زوجها لطم وجهها، وقال: إنك تتمنين أن يتزوجك هذا النبي، فقتل زوجها، وأقاربها بخيبر، وكان بقايا اليهود الذين أسلم كثير منهم، ودخلوا في الدين، بقوا على حال انكسار وذلة بين المسلمين، فأراد الله تعالى أن يعيد عليهم نعمته فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بمصاهرتهم، وصاهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوج هذه المرأة الصالحة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعظمها، وقد أتته وهو معتكف في العشر الأواخر من رمضان في المسجد، فخرج يقلبها إلى بيتها، خرج معها من المعتكف حتى يوصلها إلى حجرتها.

وكذلك تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث الهلالية وهي امرأة كانت في حجر العباس بن عبد المطلب ، كان ينفق عليها، وكانت فقيرة بمكة، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء، وكانت مناسبة حسنة ليولم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليمة يدخل السرور على المسلمين؛ لأنه قد نصره الله على المشركين، وأخرجهم عنه، وتركوا لهم مكة، ودخلها هو وأصحابه وفاء من الله بما عهد، في قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27]، شرع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بهذه المرأة وأن يولم وليمة عظيمة بمكة، وأن يدعو إليها المسلمين والمشركين جميعاً، إظهاراً لعلو منزلة الإسلام، وإعزازاً له، وهي مناسبة سارة للمسلمين، وأيضاً فيها إدخال السرور على أقارب هذه المرأة، وأخواتها ذوات بيوت رفيعة في مكة، فابن أختها: خالد بن الوليد ، وقد أسلم في تلك السنة السابقة؛ لأنه أسلم بعد الحديبية وهي تزوجها رسول صلى الله عليه وسلم في عام عمرة القضاء، وكذلك أخت لزوجة العباس بن عبد المطلب فهي خالة عبد الله بن عباس وستة من إخوته، وكذلك هي أخت لـأسماء بنت عميس التي هي إذ ذاك زوجة لـجعفر بن أبي طالب ثم كانت زوجة أبي بكر الصديق ، ثم كانت زوجة علي بن أبي طالب ، وهي أخت سلمى بنت عميس التي هي زوجة حمزة بن عبد المطلب ، وأمها هند بنت عوف التي كانت تفخر بأصهارها، فصاهرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعلي والعباس وحمزة بن عبد المطلب وكذلك كان ابن بنتها خالد بن الوليد .

فهذه النساء التي تزوجهن رسول الله صلى الله عليه وسلم والحكمة من زواجهن هي مشهورة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب ، وحكمة زواجه منها بارزة ظاهرة؛ لأنها ابنت سيد قريش، وكانت في دار الهجرة في الحبشة، وقد اختارت الإسلام عن أبيها، فهاجرت مع زوجها فمات بالحبشة، فبقيت في دار الغربة، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها بالحبشة، وكان وليها عثمان بن عفان رضي الله عنه، ودفع النجاشي الصداق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فإن الله عز وجل عوض هذه المرأة عن اختيارها للإسلام وهجرتها من بين أبويها، وما فقدت من زوجها الأول بزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وبما آتاها من الإيمان، فإن أبا سفيان حين جاء يطلب الصلح بعد صلح الحديبية أراد تمديده حين اعتدى هو وأصحابه على خزاعة الذين دخلوا في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء إلى أم حبيبة فأراد أن يجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفعته عنه، وطوت الفراش ورفعته، فقال: يا بنيتي! أضناً بي عن الفراش، أو ضناً بالفراش عني، فقالت: بل ضناً بالفراش، فهو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت امرؤ مشرك، فقال: يا بنيتي! لقد أصابك شر بعدي، فقالت: لا والله. ولذلك كانت بعد هذا صهارتها مدعاة لربط الوشائج والصلات بين بني أمية وبني هاشم، فهي أم المؤمنين، وأخوها معاوية بن أبي سفيان الذي سيتولى إمرة المؤمنين فيما بعد، وهي التي كانت تفك الحصار عن عثمان رضي الله عنه وهو محاصر في داره، فلا يجرؤ أحد أن يدخل عليه الماء إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان وحدها؛ لأن الناس يهابون أمهات المؤمنين، فتدخل بالماء إلى عثمان ومن معه في الدار.

بعض حكم المصاهرات التي عقدها رسول الله مع أصحابه

كذلك الصهارات التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بارزة في هذا المجال، فالرسول صلى الله عليه وسلم صاهره عثمان مرتين من جهة واحدة، زوجه أولاً رقية ، ثم لما ماتت عنده زوجه أم كلثوم ثم قال: ( لو كانت لنا ثالثة لزوجناكها ).

وقد زوج أيضاً علي بن أبي طالب فاطمة بأمر الله تعالى له، فقد أمره الله أن يزوجه فاطمة ففعل، وقد صاهر علي رسول الله صلى الله عليه وسلم المرتين من جهة واحدة مثل عثمان ، فـعلي مثل عثمان صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين على اثنتين من بناته، الأولى: فاطمة التي هي سيدة نساء العالمين، والثانية: أمامة بنت أبي العاص بن الربيع وهي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تركب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وكان يحملها فيها، وقد رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن تربية، وهي التي تزوجها علي بعد وفاة فاطمة .

وكذلك عمر بن الخطاب صاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين من جهتين، فصاهره الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تزوج حفصة ابنته، وصاهر هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ، وأم كلثوم أمها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عمر صهراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهتين جميعاً، وهكذا فإن هذه الصهارات تؤدي إلى الرحمة المتبادلة؛ ولذلك قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21] وهذه المودة، لم يقل: وجعل بينكما، أو بينهما، أو بين الزوج والزوجة، وإنما قال: وجعل بينكم مودة ورحمة، والخطاب هنا بضمير الجمع يدل على المودة والرحمة المتعدية للزوجين، وهي تصل إلى ربط الصلات بين أفراد المجتمع جميعاً، وهذه من الحكم البارزة للنكاح.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع