أرشيف المقالات

المناسبة بين الفواصل القرآنية وآياتها (نماذج تطبيقية من سورة الرعد)

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
المناسبة بين الفواصل القرآنية وآياتها
نماذج تطبيقية من سورة الرعد


النموذج الأول:
قال تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ [الرعد: 7].
 
أولاً: التفسير الإجمالي للآية:
يقول الشيخ الجزائري: "يُخبر تعالى رسوله والمؤمنين عن قول الكافرين بالتوحيد والبعث والنبوة: ﴿ لولا ﴾؛ أي: هلاَّ أُنزِل على محمد - صلى الله عليه وسلم - آية من ربه كعصا موسى وناقة صالح؛ حتى نؤمن بنبوَّته ونُصدِّق رسالته، فيرد تعالى عليهم بقوله: ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ ﴾، والمنذر المخوِّف من العذاب، وليس لازمًا أن تنزل معه الآيات، وعليه فلا تَلتفت إلى ما يطالبون به من الآيات، واستمِرَّ على دعوتك؛ فإن لكل قوم هاديًا وأنت هادٍ هذه الأمة، وداعيها إلى ربها، فادعُ واصْبِر"[1].
 
ثانيًا: التحليل النحوي للفاصلة:
﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾: (إنما) كافة ومكفوفة، (أنت) ضمير منفصل مبني في محل رفع مبتدأ، (منذر) خبر مرفوع، (الواو) عاطفة، (لكل) جار ومجرور متعلق بخبر مقدم، (قوم) مضاف إليه مجرور، (هاد) مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة الرفع الضمة المقدرة على الياء المحذوفة، فهو اسم منقوص، و(هاد) في أصلها نعت لمنعوت محذوف؛ أي: لكل قوم نبي هاد، فلما حُذِف المنعوت أُقيم النعت مقامه، وأخَذ إعرابه، وقال العكبري: "قوله تعالى: ﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾: فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها أنه جملة مستأنفة؛ أي: ولكل قوم نبي هاد، والثاني: أن المبتدأ محذوف تقديره وهو لكل قوم هاد، والثالث: تقديره: إنما أنت منذر وهاد لكل قوم، وهذا فصل بين حرف العطف والمعطوف"[2].
 
ومن الجدير بالذكر أن جملة (إنما أنت منذر) جملة اسمية أكَّدت أن النبي وظيفته محصورة في إنذار قومه فحسب، أما الهداية والإيمان، فالله يَهَبُهما مَن يشاء من عباده.
 
ثالثًا: مناسبة الفاصلة:
يقول البقاعي: "ولَمَّا كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم راغبًا في إجابة مقترحاتهم لشدة التفاته إلى إيمانهم، كان كأنه سأل في ذلك لتَحصُل لهم النجاةُ، فأُجيب بقوله تعالى: - مقدِّمًا ما السياق أَولَى به؛ لأنه لبيان أن الأكثر لا يُؤمن - ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ ﴾؛ أي: نبي منذر هادٍ لهم، تهديهم ببيان ما أنزله عليك مما يُوقع في الهلاك، أو يُوصِّل إلى النجاة، لا أنك مُثبت للإيمان في الصدور، ولكل قوم داعٍ يُبين لهم ما أرسلنا به من النذارة والبشارة"[3].
 
النموذج الثاني:
قال تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11].
 
أولاً: التفسير الإجمالي للآية:
ذكر الشيخ محمد محمود الحجازي تفسيرًا ميسرًا لهذه الآية، مفاده أن لكل إنسان منا حَفَظَةً يحفظونه من بأس الله وعذابه، فإذا أُعلِم أنه ما يَلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، راقَبَ ربَّه وخَشِي حسابَه، فاستقام أمره، وإذا كان الله قد جعل للإنسان حَفَظَة يحفظونه بأمر الله، فكيف يُصاب بسوء؟ نعم يصاب إذا قُدِّر له ذلك، فهم يَحفظونه من أمر الله؛ بمعنى: أن ذلك مما أمرهم به؛ لأنهم لا يَقدِرون أن يَدفعوا أمر الله، وإن الله لا يُغيِّر ما بقوم من نعمة وعافية وعز واستقلال، حتى يُغيروا ما بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة التي تُرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتُثبت دعائم الدولة، ولقد أثبت التاريخ الإسلامي صدق هذه النظرية القرآنية، فالله لم يُغير ما كان عند الأمة الإسلامية - من عز ورفاهية، وعلم واقتصاد - حتى غيَّروا ما بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة التي تُرضي الله ورسوله، وتُثبت ما بأنفسهم؛ حيث حكَموا بغير القرآن، وتركوا دينهم، وقلَّدوا غيرهم، وشاعت بينهم المُوبقات، وانحلَّت أخلاقهم، ونأمُل الآن أن يُحوِّل الله ضَعفنا إلى قوة، وذُلَّنا إلى عزة، وفقرنا إلى غِنى، واحتلالنا إلى استقلال، وإذا أراد الله بقوم سوءًا - من احتلال أو ذلٍّ، أو مرض أو فقر، أو نحو ذلك من أسباب البلاء التي تكون بسبب أعمالهم وما كسبته أيديهم - فلا رادَّ له ولا مُعقِّب لحُكمه، وفي هذا إيماء إلى أنه ينبغي ألا يَستعجلوا السيئةَ قبل الحسنة؛ فإن ذلك كله مرجعه إلى عالم خبير لا يُرَدُّ له قضاءٌ، وما لهم من دونه من وال وناصر[4].
 
ثانيًا: التحليل النحوي للفاصلة:
﴿ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾: (الواو) عاطفة، (ما) حرف نافٍ، (لهم) جار ومجرور متعلِّق بخبر مقدَّم، (من دونه) جار ومجرور متعلق بحال من وال، والتقدير: ما لهم من وال حالة كونه من دونه، و(من) حرف جر زائد، (وال) مجرور لفظًا مرفوع محلاًّ مبتدأ مؤخر، وعلامة الجر الكسرة المقدرة على الياء المحذوفة، فهو اسم منقوص، وجملة: (ما لهم من دونه من وال): لا محل لها معطوفة على جملة جواب الشرط: (فَلا مَرَدَّ لَه)، وقد ذكر (الدعاس) أن الواو مستأنفة، وعلى ذلك تكون جملة (ما لهم من دونه من وال) غير معطوفة، وفي كلا الحالين لا محل لها من الإعراب.
 
ثالثًا: مناسبة الفاصلة:
يقول الطاهر بن عاشور: "هذا تصريح بمفهوم الغاية المستفاد من (حتى يُغيروا ما بأنفسهم)، تأكيدًا للتحذير؛ لأن المقام لكونه مقام خوفٍ ووجلٍ، يقتضي التصريح دون التعريض، ولا ما يَقرُب منه؛ أي: إذا أراد الله أن يُغير ما بقوم حين يُغيرون ما بأنفسهم، لا يردُّ إرادته شيءٌ، وذلك تحذير من الغرور أن يقولوا: سنَسترسل على ما نحن فيه، فإذا رأينا العذاب آمَنَّا، وجملة: (وما لهم من دونه من وال) زيادة في التحذير من الغرور؛ لئلا يَحسَبوا أن أصنامهم شفعاؤهم عند الله"[5].



[1] أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير؛ للجزائري، ج3، ص 11.


[2] إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات؛ للعكبري، ج 2، ص 61.


[3] نظم الدرر؛ للبقاعي، ج10، ص 286.


[4] التفسير الواضح؛ للشيخ محمد محمود حجازي، ج2، ص 220، بتصرف يسير.


[5] تفسير التحرير والتنوير؛ للطاهر بن عاشور، ج13، ص 102.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن