شرح صحيح ابن حبان كتاب العلم [1]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب العلم.

ذكر إثبات النصرة لأصحاب الحديث إلى قيام الساعة.

أخبرنا عمر بن محمد الهمداني ].

الهمداني نسبة إلى قبيلة همدان، أما بالذال: همذان فهو نسبة إلى بلدة الشرق همذان.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم خذلان من خذلهم حتى تقوم الساعة) ].

وهذا رواه مسلم في صحيحه: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله).

قوله في الترجمة: [ ذكر إثبات النصرة لأصحاب الحديث إلى قيام الساعة ]، قيل للإمام أحمد : من هم الطائفة المنصورة؟ قال: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم، وقوله: (لا تزال طائفة من أمتي)، المعنى: أن الطائفة المنصورة هم المستقيمون على طاعة الله، المؤدون لفرائض الله، وفي مقدمتهم العلماء والمحدثون، وقد يكونوا مجتمعين وقد يكونوا متفرقين، منهم المزارع والنجار.

والصحابة في المقدمة، والتابعون والمحدثون والعلماء ثم أشباههم كلهم داخل في عموم هذا الطائفة المنصورة.

والفرقة الناجية والطائفة المنصورة واحدة.

والحديث أخرجه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي.

قال المصنف رحمه الله: [ ذكر الإخبار عن سماع المسلمين السنن خلفاً عن سلف

أخبرنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا عبد الله بن جعفر البرمكي قال: حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم) عبد الله بن عبد الله الرازي ثقة كوفي ].

هذا الحديث إسناده صحيح، أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي وأحمد .

وفيه الحث على سماع السنن، وأنه ينبغي للعلماء أن يحدثوا، وأن يسمع منهم من بعدهم، ومن بعدهم يسمعوه إلى من بعدهم.

قال رحمه الله: [ ذكر الإخبار عما يستحب للمرء كثرة سماع العلم ثم الاقتفاء والتسليم:

أخبرنا أبو يعلى قال: حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا أبو عامر العقدي قال: حدثنا سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الملك بن سعيد بن سويد عن أبي حميد وأبي أسيد رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه) ].

لعله: (وتُرون) يعني: تظنون، أما (تَرون) بالفتح تعلمون.

قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم ، وأخرجه أحمد والبزار ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح.

هذا الحديث يحتاج إلى تأمل في صحة هذا المعنى؛ لأن فيه فتح باب أن الإنسان يقول: هذا الحديث مناسب، لكن لو صح فهو محمول على أهل العلم والفقه.

قال رحمه الله تعالى:[ باب الزجر عن كتبة المرء السنن مخافة أن يتكل عليها دون الحفظ لها:

أخبرنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا كثير بن يحيى صاحب البصري قال: حدثنا همام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي لله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني إلا القرآن؛ فمن كتب عني شيئاً فليمحه).

قال أبو حاتم رضي الله عنه: زجره صلى الله عليه وسلم عن الكتبة عنه سوى القرآن أراد به الحث على حفظ السنن دون الاتكال على كتبتها وترك حفظها والتفقه فيها، والدليل على صحة هذا إباحته صلى الله عليه وسلم لـأبي شاه كتب الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذنه صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمرو بالكتبة ].

هذا ما ذهب إليه المصنف رحمه الله، ولكن جاء ما يدل على أن النهي إنما كان لأجل ألا يختلط بالقرآن غيره، فلما استقر الأمر وزال الإشكال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة، وأذن صلى الله عليه وسلم بالكتابة؛ فلهذا قال: (اكتبوا لـأبي شاه)، كان عبد الله بن عمرو يكتب، قال أبو هريرة : إني من أكثر الناس حديثاً إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه يكتب ولا أكتب، المقصود أن النهي عن الكتابة لئلا يختلط بالقرآن غيره، لا لأجل أن يتكلوا على الكتابة، والمعنى الذي ذكره ابن حبان رحمه الله فيه نظر، بل جاء ما يدل على أن النهي إنما هو لئلا يختلط بالقرآن في أول الأمر، ثم رخص بعد ذلك.

وهذا الحديث إسناده قوي، وأخرجه أحمد ومسلم والدارمي والنسائي في فضل القرآن.

وورد النهي في حديث النسائي أنه خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والنهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد، والإذن في تفريقهما، أو النهي متقدم والأذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس وهو أقربها مع أنه لا ينافيها، وقيل: النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك، ومنهم من أعل حديث أبي سعيد ، وقال الصواب: وقفه على أبي سعيد .

الأقرب أنه خشية الالتباس بالقرآن كما سبق.

قال رحمه الله تعالى:[ أخبرنا الحسين بن أحمد بن بسطام بالأبلة حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد حدثنا سفيان عن فطر عن أبي الطفيل عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير بجناحيه إلا عندنا منه علم).

قال أبو حاتم : معنى (عندنا منه) يعني: بأوامره ونواهيه وأخباره وأفعاله وإباحاته صلى الله عليه وسلم.

قال المؤلف رحمه الله: [ ذكر دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم لمن أدى من أمته حديثاً سمعه:

أخبرنا محمد بن عمر بن يوسف قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال: حدثنا عبد الله بن داود عن علي بن صالح عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه؛ فرب مبلغ أوعى من سامع) ].

يعني: دعا له بالنضارة، وأن يجعل الله وجهه نضراً (فرب مُبلغ) الذي يبلغه الحديث (أوعى له من سامع)، وفي اللفظ الآخر: (ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)، فقد يكون الذي بلغ ليس بفقيه، والذي يبلغه فقيه يستنبط منه أحكامه وفوائده.

والحديث إسناده حسن من أجل سماك بن حرب ، قال الحافظ في التقريب: صدوق، وقد تغير بآخره، فكان ربما تلقن، فمثله لا يرقى حديثه إلى الصحة، وأخرجه أبو نعيم وأحمد والترمذي وابن ماجة .

قال المؤلف رحمه الله: [ذكر رحمة الله جل وعلا من بلغ أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم حديثاً صحيحاً عنه:

أخبرنا أبو خليفة قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال: حدثني عمر بن سليمان - هو ابن عاصم بن عمر بن الخطاب - عن عبد الرحمن بن أبان -هو ابن عثمان بن عفان -عن أبيه قال: خرج زيد بن ثابت عند مروان قريباً من نصف النهار، فقلت: ما بعث إليه إلا لشيء سأله، فقمت إليه فسألته، فقال: أجل سألنا عن أشياء سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأ سمع مني حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم) ].

والحديث إسناده صحيح أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والطبراني .

وفيه بيان مشروعية التبليغ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن علم شيئاً وتأكد منه عليه أن يبلغه.

ومعنى: (لا يغل عليهن قلب مسلم): الغلول: هو الإخفاء، يعني: لا يخفي هذا ويترك هذا الشيء وإنما يلزم الجماعة، وينصح ولاة الأمور ويحب الخير لهم.

وإخلاص العمل لله، يعني: أن يعتقد الإخلاص، ويصرف عمله لله، وكذلك أيضاً ينصح لولاة الأمور.

وقوله: (يغل) بتشديد اللام، قال ابن الأثير : معنى الغل وهو الحقد والشحناء، أي: لا يدخله حقد يزيله عن الحق، وروي: يغل بالتخفيف من الوغول الدخول في الشر، ويروى بضم الياء من الإغلال وهو الخيانة، والمعنى: أن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر، انظر النهاية ].

قال رحمه الله: [ ذكر البيان بأن هذا الفضل إنما يكون لمن أدى ما وصفنا كما سمعه سواء من غير تغيير ولا تبديل فيه ].

يعني: تبليغ الحديث لابد أن يكون من غير زيادة ولا نقصان.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا صفوان بن صالح قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا شيبان قال: حدثني سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله من سمع مني حديثاً فبلغه كما سمعه؛ فرب مبلغ أوعى له من سامع) ].

إسناده حسن.

قال رحمه الله تعالى: [ ذكر إثبات نضارة الوجه في القيامة من بلغ للمصطفى صلى الله عليه وسلم سنة صحيحة كما سمعها.

أخبرنا ابن خزيمة قال: حدثنا محمد بن عثمان العجلي قال: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع) ].

قوله: (نضر الله) هذا خبر بمعنى الدعاء، والمعنى: دعاء له بالنضارة، والنضارة الحسن والبهاء والبهجة، وهذا يكون سببه السرور؛ لأن الله ينعمه يوم القيامة، فهو دعاء بأن ينعمه الله في الجنة حتى تحصل له النضارة والبهجة والسرور.

قال رحمه الله تعالى:[ ذكر عدد الأشياء التي استأثر الله تعالى بعلمها دون خلقه.

أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف حدثنا أبو عمر الدوري حفص بن عمر حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مفاتيح الغيب خمس: لا يعلم ما تضع الأرحام أحد إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة) ].

وهذه مفاتيح الغيب ذكرها الله تعالى في آخر سورة لقمان: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]، ففي الآية: وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ [لقمان:34]، وفي الحديث يقول: (لا يدري متى تضع).

وهو حديث صحيح أخرجه البخاري في التفسير من طريق مالك ، وأخرجه أحمد في المسند.

لكن بهذا اللفظ (متى تضع) الآن الأطباء يعلمون الأجنة بعد أن تخلق، لكن قبل أن تخلق لا يعلمها إلا الله، ولهذا يقول الملك: (يا رب ذكر أو أنثى؟ أشقي أم سعيد).


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح صحيح ابن حبان كتاب الإيمان [1] 2779 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب الإيمان [4] 2496 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب الإيمان [2] 1891 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب العلم [2] 1730 استماع
شرح صحيح ابن حبان المقدمة 1568 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب الوحي 1451 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب العلم [3] 1381 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب الإسراء 1295 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب الإيمان [3] 949 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب الإيمان [5] 717 استماع