شرح صحيح ابن حبان المقدمة


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ما جاء في الابتداء بحمد الله تعالى.

ذكر الإخبار عما يجب على المرء من ابتداء الحمد لله جل وعلا في أوائل كلامه عند بغية مقاصده.

أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان : قال: حدثنا هشام بن عمار ، قال: حدثنا عبد الحميد بن أبي العشرين قال: حدثنا الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله، فهو أقطع) ].

قال شعيب الأرنؤوط: [ قال إسناده ضعيف؛ لضعف قرة -وهو ابن عبد الرحمن ابن حويئل المعافري المصري ضعفه ابن معين وأحمد وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وأخرجه أحمد من طريق عبد الله المبارك والنسائي في عمل اليوم والليلة، وأبو داود في الأدب.

ضعف قرة في الحديث ليس شرطاً لضعف الحديث لكن له طرق متعددة، وقد يكون له شواهد، وقد يشهد له ما بعده.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر الأمر للمرء أن تكون فواتح أسبابه بحمد الله جل وعلا لئلا تكون أسبابه بترا.

أخبرنا الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان أبو علي بالرقة قال: حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا شعيب ابن إسحاق عن الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع) ].

قال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف، وهو مكرر ما قبله.

أي: أن إسناده ضعيف لـقرة كذلك.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب الاعتصام بالسنة وما يتعلق بها نقلا وأمرا وزجرا.

أخبرنا أبو يعلى حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة حدثنا بريد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش، وإني أنا النذير، فأطاعه طائفة من قومه، فانطلقوا على مهلهم فنجو وكذبه طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش وأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثلي ومثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق) ].

قال شعيب الأرنؤوط: [ إسناده صحيح على شرط الشيخين.

وفي لفظ (أنا النذير العريان) والنذير العريان هو الرجل البعيد عن قومه، وقد رأى جيش العدو يجتاح قومه فأراد أن يخبرهم بأمر الجيش فجعل يلوح بيده، وخلع ثوبه من شدة المبالغة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا النذير العريان) فشبه نفسه عليه الصلاة والسلام بالنذير الناصح، كالرجل الذي خلع ثوبه وصار عرياناً من شدة نصحه وتحذيره لقومه، فهذا المثل يبين ضرورة الاعتصام بالسنة وبالكتاب وأن من تمسك بها فقد نجا، ومن ترك السنة والكتاب فقد هلك.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال صلى الله عليه وسلم: (إن مثل ما آتاني الله من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت ذلك، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها، وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعمل ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).

وقد رواه البخاري من حديث أبي موسى بلفظ: (فعلم وعلم).

فطائفة كالأرض الطيبة التي تقبل الماء فتنبت الكلأ والعشب، قال العلماء: وهذا مثل العلماء الذين تعلموا وتفقهوا وفجروا ينابيع النصوص وحفظوا الأحاديث فانتفعوا في أنفسهم ونفعوا، وقد شبههم الرسول الكريم بالأرض التي تمسك الماء فيأتي الناس وينتفعون بها.

والطائفة الثانية: وصفها الرسول عليه الصلاة والسلام بقيعان لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ فلا تستفيد لنفسها ولا تفيد غيرها، وكذلك مثل من لم يستفد ولم يقبل هدى الله وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام.

والرسول صلى الله عليه وسلم شبه الإنسان في قبوله الحق بالأرض، وهي ثلاثة أنواع فصلها عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري : (مثل ما بعثني الله به من العلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الماء والعشب الكثير، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً) ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع وكذلك الناس، فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر فيحيا بعد أن كان ميتاً، وينبت الكلأ، فتنتفع بها الناس والدواب وغيرها، وكذا النوع الأول من الناس فيبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيا قلبه، ويحيا به، ويعلمه غيره، بعد أن يعمل به، فينتفع وينفع.

والنوع الثاني من الأرض هو ما لا يقبل أن ينفع نفسه ولكنه ينفع الناس والدواب وغيرهما بأن يحفظ لهما الماء على سطحه، وهذا مثل أهل القلوب الحافظة، لكن ليس لهم أفهام ثاقبة، فيحفظون الأحاديث ليأتي بعد ذلك طالب متعطش لما عندهم من الحفظ فيستخرج فوائده، وينتفع به.

والنوع الثالث هي الأرض الجدباء لا تنبت فهي لا تنتفع بالماء ولا تملكه لينتفع به غيرها، وهذا مثل من يسمع العلم فلا ينتفع به، ولا يحفظه لغيره.

وصف الفرقة الناجية

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر وصف الفرقة الناجية من بين الفرق التي تفترق عليها أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

أخبرنا أحمد بن مكرم بن خالد البرتي حدثنا علي بن المديني حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ثور بن يزيد حدثني خالد بن معدان حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر الكلاعي قالا: أتينا العرباض بن سارية - وهو ممن نزل فيه وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [التوبة:92]- فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين ومقتبسين، فقال العرباض : (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً مجدعاً فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ].

هذا الحديث يحث على لزوم الكتاب والسنة وفيه السمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله وفي الأمور المباحة أما المعاصي فلا طاعة لهم فيها، وهذا مقيد في حديث آخر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة بالمعروف) وإن كان عبداً حبشياً فيجب السمع والطاعة له مادام ولي الأمر قد ثبتت له البيعة بالانتخاب أو بولاية العهد أو بالغلبة والقوة؛ لأن هذا فيه استتباب الأمن، واجتماع الكلمة، أما الخروج على ولاة الأمور فهو مدعاة للفوضى والاضطراب، وإراقة الدماء، وتربص العدو بالبلاد ولهذا كان الخروج عليه من كبائر الذنوب، إلا إذا كفر كفراً صريحاً واضحاً، ووجد البرهان على ذلك، ووجد البديل واستطاع الناس أن يغيروه فهذا جائز.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال أبو حاتم : في قوله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي) عند ذكر الاختلاف الذي يكون في أمته بيان واضح أن من واظب على السنن، قال بها، ولم يعرج على غيرها من الآراء من الفرق الناجية في القيامة، جعلنا الله منهم بمنه ].

ذكر الأحاديث الدالة على وجوب لزوم السنة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر الإخبار عما يجب على المرء من لزوم سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحفظ نفسه عن كل من يأباها من أهل البدع وإن حسنوا ذلك في عينه وزينوه.

أخبرنا إبراهيم بن علي بن عبد العزيز العمري بالموصل حدثنا معلى بن مهدي حدثنا حماد بن زيد عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً فقال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا [الأنعام:153] إلى آخر الآية).

قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن ومعلى بن مهدي هو الموصلي، قال فيه أبو حاتم في الجرح والتعديل: شيخ يحدث أحياناً بالحديث المنكر.

وفي هذا الحديث دليل على أن الإنسان يجب أن يستقيم على صراط الله وهو الحق، وأن يلزم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو دين الله الإسلام، وما جاء في الإسلام وهو الطريق المستقيم فمن استقام عليه استقام على الصراط الحسي يوم القيامة وعبر الصراط، والخطوط المتعرجة عن اليمين وعن الشمال التي خطها عليه الصلاة والسلام هي سبل الضلال.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر ما يجب على المرء من ترك تتبع السبل دون لزوم الطريق، الذي هو الصراط المستقيم.

أخبرنا علي بن حسين بن سليمان المعدل بالفسطاط قال: حدثنا الحارث بن مسكين حدثنا ابن وهب حدثني حماد بن زيد عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطوطاً عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو له، ثم قرأ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] الآية كلها) ].

إن المحب لمن يحب مطيع

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر البيان بأن من أحب الله جل وعلا، وصفيه صلى الله عليه وسلم، بإيثار أمرهما وابتغاء مرضاتهما على رضى من سواهما يكون في الجنة مع المصطفى صلى الله عليه وسلم ].

إن من آثر محبة الله ومحبة صفيه -أي: النبي عليه الصلاة والسلام- العمل بأوامر الله ورسوله والانتهاء عما نهى الله أو نها عنه رسوله، هذا هو دليل المحبة، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] ومن أحب الله ورسوله امتثل لأوامرهما.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أنس بن مالك : (أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم -وكانوا هم أجدر أن يسألوه من أصحابه- فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله، قال: فإنك مع من أحببت) قال أنس : فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام أشد من فرحهم بقوله ].

وهذا حديث صحيح، وفيه بشارة لكل مؤمن يحب الله ورسوله، والمحب الصادق في محبته هو الذي يجتهد في العمل الذي كان يعمل به محبوبه حتى يلحق به، فإذا حصل تقصير فإن المحبة تجبر هذا النقص، أما من يدعي المحبة ولا يعمل فليس صادقاً في محبته، وإنما الصادق في محبته هو الذي يبذل وسعه ويجتهد بأن يقتدي بمن يحبه ويعمل به، فالصادق في محبة النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يقتدي به ويتأسى به في أقواله وأفعاله، فإذا حصل نقص جبرت المحبة هذا النقص لكنه يبذل وسعه في العمل واللحاق بمحبوبه.

حكم ترك الإنسان لما أباح الله له

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر الإخبار عما يجب على المرء من لزوم هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم بترك الانزعاج عما أبيح من هذه الدنيا بإغضائه.

أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال: حدثنا ابن أبي السري قال: حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت امرأة عثمان بن مظعون -واسمها خولة بنت حكيم - على عائشة رضي الله عنها وهي بذة الهيئة فسألتها عائشة : ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل، ويصوم النهار، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت عائشة ذلك له، فلقي النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون فقال: (يا عثمان ! إن الرهبانية لم تكتب علينا، أما لك فيّ أسوة حسنة؟! فو الله! إني لأخشاكم لله وأحفظكم لحدوده) صلى الله عليه وسلم ]

ينبغي للإنسان ألا يترك ما أباح الله له من المباحات، وهذا مثل حديث الرهط الذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنهم استقلوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الثاني: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: فأما أنا فلا أتزوج النساء، فلما علم النبي عليه الصلاة والسلام بأمرهم قال: (ما بال رجال يقولون كذا وكذا؟! والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فينبغي للإنسان أن يلزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وألا يترك ما أباح الله له فينفذ نوع من العبادة بتكلف ويقصر في الأنواع الأخرى؛ لأن الإنسان إذا انصرف مثلاً إلى صلاة الليل وبالغ فيها أخل بالواجبات الأخرى كالكسب له ولأولاده والتقصير في حق أهله، والضيوف، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لـسلمان لما زار أبا الدرداء وقد آخى بينه وبين أبا الدرداء ، فكانت أم الدرداء متبذلة فسألها أخاها سلمان فقالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فزار أبو الدرداء سلمان ، فقدم له طعام، قال أبو الدرداء : كل فإني صائم، فقال: لا آكل حتى تأكل فأصر عليه حتى أكل ثم نام من أول الليل، فلما أراد أبو الدرداء أن يقوم قال له سلمان : نم فلما كان ثلث الليل أراد أن يقوم، فقال له سلمان : نم، فلما مضى نصف الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم، فقال له سلمان : نم، فلما كان آخر الليل قال: قم الآن، فقاما فصليا، ثم قال له سلمان : إن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، فاعط كل ذي حق حقه، فلما ذهب أبو الدرداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم صدق سلمان.

الأمر بتحري السنة واجتناب البدعة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ذكر الإخبار عما يجب على المرء من تحري استعمال السنن في أفعاله، ومجانبة كل بدعة تباينها وتضادها.

أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال: حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب أحمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه نذير جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين يفرق بين السبابة والوسطى ويقول: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، ثم يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك دينا أو ضيعة، فإلي وعليَّ) ].

وهذا من أصح الأحاديث وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب ألقى الخطبة بشجاعة وحماس، ولا يلقيها بتماوت مثل بعض الخطباء الذين إذا ألقى الخطبة فإنه يلقيها وكأنه ميت، فالخطبة تحتاج إلى شجاعة وحماس، فكان عليه الصلاة والسلام إذا خطب أحمر وجهه وعلا صوته، كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم؛ وبهذا يكون كلامه أوقع في نفوس السامعين.

وكان يقول في خطبة الجمعة: (أما بعد: -وهو أولى من قول بعضهم وبعد- فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) والشاهد في الحديث أنه ينبغي لزوم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن خير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تحريم البدع وأنها كلها ظلالات، وما قاله بعض العلماء من تقسيم البدع إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة ليس بجيد، بل الصواب أن البدع كلها سيئة، وكلها ضلالة، ولا يوجد في البدع شيء حسن.

فلاح من كانت شرته إلى السنة

الملقي: [ذكر إثبات الفلاح لمن كانت شِرَّته إلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى حدثنا أبو خيثمة حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا شعبة عن حصين بن عبد الرحمن عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة وإن لكل شرة فترة، فمن كانت شرته إلى سنتي، فقد أفلح، ومن كانت شرته إلى غير ذلك فقد هلك). قال في شعيب الأرنؤوط: إسناده الصحيح على شرطهما ]

ومعنى (شرة) أي: قوة ونشاطاً، وقد يعتري هذا النشاط فترة أي: خمول، وهذا فيه حث على لزوم السنن وأنه ينبغي أن يجعل النشاط والقوة في العمل بالسنة.

قال الطحاوي : فوقفنا بذلك على أن هذه الشدة في الأمور التي يريدها المسلمون من أنفسهم في أعمالهم التي يتقربون بها إلى ربهم عز وجل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب منهم فيها ما دون الشدة التي لابد من القصر عنها والخروج منها إلى غيرها، وأمرهم بالتمسك من الأعمال الصالحة بما قد يجوز دوامهم عليه ولزومهم إياه حتى يلقوا ربهم.

سنن المصطفى كلها متلقاة عن الله

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر الخبر المصرح بأن سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم كلها عن الله لا من تلقاء نفسه.

أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الفضل الكلاعي بحمص حدثنا كثير بن عبيد المذحجي حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي عن مروان بن رؤبة عن ابن أبي عوف عن المقداد بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني أوتيت الكتاب وما يعدله، يوشك شعبان على أريكته أن يقول: بيني وبينكم هذا الكتاب فما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه، ألا وإنه ليس كذلك) ].

وهذا فيه بيان بأن السنة وحي من الله عز وجل، وأنه لابد من الأخذ بالسنة، ومن لم يأخذ بالسنة فهو كافر، قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) وهي السنة، يوشك شعبان متكئ على أريكته أي: على سريره، وينكر السنة ويقول بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، أي: ولا يعمل بالسنة وبقول الرسول عليه الصلاة والسلام.

والحديث إسناده قوي، أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد والطبراني والبيهقي .

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن علي بن المثنى حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن سهم قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن مالك بن أنس عن سالم أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أعرفن الرجل يأتيه الأمر من أمري، إما أمرت به، وإما نهيت عنه، فيقول: ما ندري ما هذا، عندنا كتاب الله ليس هذا فيه) ].

وهذا تحذير من رد كلام الرسول عليه الصلاة والسلام بحجة أنه لا يوجد في كتاب الله وهذا خطأ، فالسنة وحي من الله من أنكرها كفر.

الزجر عن الرغبة عن سنة المصطفى بغرض زيادة ما ليس فيها

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر الزجر عن الرغبة عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله جميعاً.

أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا محمد بن أبي صفوان الثقفي حدثنا بهز بن أسد قال: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ].

رواه الشيخان في الحث على لزوم السنة والعمل بها، وأن السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم هو أكمل الهدي وأن ما يفعله بعض الناس من زعم أحدهم أنه يعمل عملاً زائداً عن السنة فهذا ضلال، لكن هؤلاء الصحابة دفعهم باب الاجتهاد فزجرهم النبي صلى الله عليه وسلم.

أمر رسول الله أمته بما يحتاجون إليه من أمر دينهم

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فصل ذكر البيان بأن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يأمر أمته بما يحتاجون إليه من أمر دينهم قولاً وفعلاً معاً.

أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الدغولي حدثنا محمد بن يحيى الذهلي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير حدثني إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه، فقال: (يعمد أحدهم إلى جمرة من النار، فيجعلها في يده) فقيل للرجل بعدما ذهب خذ خاتمك، فانتفع به، فقال: لا والله، لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ].

وهذا فيه تحريم الذهب على الرجال فلا يجوز للرجل أن يلبس الذهب، لكن يجوز له أن يتختم بخاتم من الفضة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر كان يلبس خاتماً من ذهب والصحابة كذلك ثم جاء النهي فنزعه النبي صلى الله عليه وسلم، ونزع الصحابة خواتمهم، وحرم بذلك الذهب على الرجال.

وقد نهى عليه الصلاة والسلام هذا الرجل عن التختم بالذهب، وهو نهي للأمة كلها؛ لأن الشريعة عامة.

بطلان قول من زعم أن أمر النبي لا يجوز إلا أن يكون مفسراً يعقل من ظاهر خطابه

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالشيء لا يجوز إلا أن يكون مفسراً يعقل من ظاهر خطابه.

أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن يحيى بن أبي كثير حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نودي بالأذان أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضي الأذان، أقبل فإذا ثوِّب بها أدبر، فإذا قضي التثويب، أقبل يخطر بين المرء ونفسه: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر) ].

وهذا فيه حرص الشيطان على افساد عبادة ابن آدم، وفيه أن ذكر الله يضايق الشيطان وأنه لا يطيقه، فإذا نودي بالأذان أدبرُ له ضراط حتى يشوش على نفسه فلا يسمع الأذان، ثم يقبل، فإذا سمع التثويب وهو الإقامة -وقيل بأن التثويب: رجوع إلى الإقامة- هرب ثم يقبل فيوحي للإنسان ويقول له: اذكر كذا اذكر كذا، فلا يزال يذكره حتى لا يدري كم صلى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى، فإذا لم يدر كم صلى، فليسجد سجدتين وهو جالس) ].

إذا شك في صلاته فيسجد سجود سهو وطالما أن عنده غالب الظن فإنه يسجد سجدتين قبل السلام، فإن لم يغلب عليه الظن فإنه يتم صلاته ثم يسجد سجدتين ثم يسلم، وجاء هذا في حديث ابن مسعود .

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال أبو حاتم رضي الله عنه: أمره صلى الله عليه وسلم لمن شك في صلاته، فلم يدر كم صلى، فليسجد سجدتين وهو جالس أمر مجمل تفسيره أفعاله التي ذكرناها، لا يجوز لأحد أن يأخذ الأخبار التي فيها ذكر سجدتي السهو قبل السلام، فيستعمله بكل الأحوال، ويترك سائر الأخبار التي فيها ذكره بعد السلام، وكذلك لا يجوز لأحد أن يأخذ الأخبار التي فيها ذكر سجدتي السهو بعد السلام، فيستعمله في كل الأحوال، ويترك الأخبار الأخر التي فيها ذكره قبل السلام ].

أي: لابد من ضم الأدلة بعضها إلى بعض.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ونحن نقول: إن هذه أخبار أربع يجب أن تستعمل، ولا يترك شيء منها، فيفعل في كل حالة مثلما وردت السنة فيها سواء، فإن سلم من الاثنتين أو الثلاث من صلاته ساهياً، أتم صلاته، وسجد سجدتي السهو بعد السلام، على خبر أبي هريرة وعمران بن حصين اللذين ذكرناهما، وإن قام من اثنتين ولم يجلس، أتم صلاته، وسجد سجدتي السهو قبل السلام، على خبر ابن بحينة وإن شك في الثلاث أو الأربع يبني على اليقين على ما وصفنا، وسجد سجدتي السهو قبل السلام، على خبر أبي سعيد الخدري وعبد الرحمن بن عوف وإن شك ولم يدر كم صلى أصلاً، تحرى على الأغلب عنده، وأتم صلاته، وسجد سجدتي السهو بعد السلام، على خبر ابن مسعود الذي ذكرناه حتى يكون مستعملاً للأخبار التي وصفناها كلها، فإن وردت عليه حالة غير هذه الأربع في صلاته، ردها إلى ما يشبهها من الأحوال الأربع التي ذكرناها ].

وجوب الجنة لمن أطاع الله ورسوله فيما أمر به ونهى عنه

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر إيجاب الجنة لمن أطاع الله ورسوله فيما أمر ونهى.

أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل ببست ومحمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف بنيسابور قال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا خلف بن خليفة عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى وشرد على الله كشراد البعير قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) قال أبو حاتم: طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الانقياد لسنته بترك الكيفية والكمية فيها، مع رفض قول كل من قال شيئاً في دين الله جل وعلا بخلاف سنته، دون الاحتيال في دفع السنن بالتأويلات المضمحلة، والمخترعات الداحضة ].

أي: أن الإنسان عندما يتلى عليه آيات الله وأحاديث رسوله المحتوية على الأوامر والنواهي فعليه أن يقبل الأوامر والنواهي ولا يتأول تأويلات باطلة.

وجوب اجتناب المنهيات وإتيان الأوامر بقدر الاستطاعة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر البيان بأن المناهي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم والأوامر فرض على حسب الطاقة على أمته، لا يسعهم ال