عنوان الفتوى : إنكار نبوة يوشع بن نون، ودرجة حديث حبس الشمس له
السؤال
ورد في صحيح البخاري أن فتى موسى هو يوشع بن نون، دون أن يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوشع كان نبيًّا، ونجد حديثًا أيضًا يتكلّم عن حبس الشمس، فيقول: (غزا نبي من الأنبياء ...)، ولم يذكر أنه يوشع، ولم يذكر أن يوشع هو من حبست له الشمس صراحةً إلا في رواية عند الإمام أحمد كلها تدور على أبي هريرة، ورواية أخرى قرأت أنها عن خالد الجهني بنفس اللفظ، ولكني لم أجدها حتى الآن، ومعلوم أن أبا هريرة كان يروي الكثير عن كعب الأحبار، وربما يكون قد روى أن من حبست له الشمس هو يوشع بناءً على ما فهمه هو من كعب الأحبار، وأن (بجلا)؟ يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو من قال ذلك، وعلى هذا؛ فهل يجب علينا التوقّف في كون يوشع بن نون نبيًّا أم لا؟ وما حكم المتوقّف في ذلك؟ وما حكم من يتوقف في ذلك بناءً على أن الدليل على نبوته قد يتطرق إليه الشك والاحتمال، خصوصًا أنه حديث آحاد؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فحديث: غزا نبي من الأنبياء ... ثابت في الصحيحين من صحيفة همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد استدل أهل العلم على أن هذا النبي هو يوشع بن نون، بما رواه أحمد، وغيره: عن أسود بن عامر، أخبرنا أبو بكر - يعني ابن عياش - عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس.
ورواه الخطيب البغدادي في «الأسماء المبهمة»، وقال: النبي الذي حبست عليه الشمس يوشع بن نون -عليه السلام-. الحجة في ذلك ... اهـ. ثم أسند الحديث السابق.
وقال الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية»: وهذا النبي هو يوشع بن نون، بدليل ما رواه الإمام أحمد، وذكر الحديث، وقال: تفرد به أحمد، وإسناده على شرط البخاري. اهـ.
وصححه أيضًا الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» فقال: هذا النبي هو يوشع بن نون، كما رواه الحاكم من طريق كعب الأحبار .. وقد ورد أصله من طريق مرفوعة صحيحة، أخرجها أحمد، وذكر الحديث السابق. اهـ.
وقد أورد الشيخ الألباني هذا الحديث من عدة طرق في (السلسلة الصحيحة)، منها الطريق السابق عند الإمام أحمد. ومنها ما أخرجها الحاكم عن مبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وزاد في آخره: فقال كعب: صدق الله ورسوله، هكذا -والله- في كتاب الله - يعني في التوراة - ثم قال: يا أبا هريرة، أحدثكم النبي صلى الله عليه وسلم أي نبي كان؟ قال: لا. قال كعب: هو يوشع بن نون، قال: فحدثكم أي قرية هي؟ قال: لا، قال: هي مدينة أريحا. وقال الحاكم: حديث غريب صحيح. ووافقه الذهبي!
قال الألباني: كذا قالا، ومبارك بن فضالة مدلس، وقد عنعنه، فليس إسناده صحيحًا، بل ولا حسنًا .. ثم إن في هذه الطريق نكارة واضحة، وهي في هذه الزيادة، فإن فيها تسميته النبي بـ (يوشع) موقوفًا على كعب، وهي في الرواية الأولى مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وفيها تسمية المدينة بـ (أريحا)، وفي الرواية الأولى أنها بيت المقدس. اهـ.
ومع ذلك؛ فقد أعلَّ الإمام أحمد نفسه الرواية المرفوعة التي صرحت باسم يوشع بن نون، أعلَّها باضطراب أبي بكر بن عياش؛ لأنه انفرد بها من روايته عن صغار شيوخه، وكان قد ساء حفظه لما كبر، فقد سئل الإمام أحمد عن هذا الحديث -كما في المنتخب من علل الخلال-: هل رواه أحد غير الأسود عن أبي بكر؟ فقال: لم أسمعه إلا عن الأسود .. أبو بكر بن عياش كان يضطرب في حديث هؤلاء الصغار، فأما عن أولئك الكبار ما أقربه. اهـ.
وقال الدكتور بشير علي عمر في أطروحته للدكتوراه «منهج الإمام أحمد في إعلال الأحاديث»: الذي يظهر أن ذلك راجع إلى تفرّد أبي بكر بن عياش برواية الحديث من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة بهذا اللفظ الذي تضمّن ذكر يوشع بن نون، فالحديث قد روي من طريق همام بن منبه، عن أبي هريرة بغير هذا اللفظ. أخرجه الشيخان من هذا الوجه ... وروي أيضًا من حديث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة؛ رواه النسائي، وأبو عوانة، وابن أبي عاصم، وابن حبان، كلهم من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن سعيد به بمثل لفظ حديث همام بن منبه. فليس في الروايتين تسمية النبي الذي حبست له الشمس، وإنما ورد هذا من رواية أبي بكر بن عياش، عن هشام، عن ابن سيرين، وكذلك ورد في حديث سعيد المقبري، عن أبي هريرة، لكنه من قول كعب الأحبار، وليس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه الطبراني، والحاكم، بمثل حديث همام، وابن المسيب، وفيه في آخر الحديث: [فقال كعب -وهو عند أبي هريرة-: صدق الله ورسوله، هكذا في كتاب الله -يا أبا هريرة-، هل حدثكم نبي الله صلى الله عليه وسلم أي نبي كان؟ قال: لا، قال كعب: يوشع بن نون، صاحب موسى، فأخبركم أي مدينة هي؟ قال: لا، قال: هي مدينة أَريحا]. فإضافة تسمية النبي صاحب القصة إلى كعب الأحبار أولى من إضافتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يرد ذلك من طريق سالم من العلة، فأبو بكر بن عياش -وإن كان ثقة-، فإنه يضطرب في حديثه عن صغار شيوخه، مثل هشام بن حسان شيخه في هذا الحديث، ولا يضبطه جيدًا، فلا يقبل ما يتفرّد به، وخاصة أن ما ذكره معروفٌ من وجه آخر أنه ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في نظري هو وجه إعلال الإمام أحمد لحديث أبي بكر بن عياش، حيث جعل ما كان أصله قولًا لكعب مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ... اهـ.
ثم ذكر تصحيح ابن كثير، وابن حجر، ثم تصحيح الألباني اعتمادًا على قول ابن حبان في أبي بكر بن عياش: والصواب في أمره مجانبة ما علم أنه أخطأ فيه، والاحتجاج بما يرويه، سواء وافق الثقات أو خالفهم. ثم قال: لكن الإمام أحمد بسبره لحديث أبي بكر بن عياش عن شيوخه قد ذكر جرحًا مفسرًا، فيقدّم على هذا التعديل المبهم. اهـ.
وأما قول السائل: (ورواية أخرى قرأت أنها عن خالد الجهني بنفس اللفظ، ولكني لم أجدها حتى الآن)! فلا ندري ما هي؟!، ونخشى أن يكون ذلك وهمًا؛ فإن الإمام أحمد قد أسند قبل هذا الحديث حديثا آخر عن أبي هريرة من طريق أسامة بن زيد، حدثني عبد الله بن أبي لبيد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، قال: سمعت أبا هريرة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرني جبريل برفع الصوت في الإهلال، فإنه من شعار الحج. فقال محققو المسند -الشيخ شعيب الأرناؤوط، ومن معه-: متن الحديث صحيح، لكن من حديث زيد بن خالد الجهني، فقد أخطأ أسامة بن زيد في هذا الحديث، فجعله من حديث أبي هريرة، وخالفه الثقة الحجة سفيان الثوري، فجعله من حديث زيد بن خالد الجهني. اهـ.
فقد يكون كلام محققي المسند قد اختلط على أحد، فظنه عن حديث حبس الشمس.
وأما بخصوص نبوة يوشع بن نون -عليه السلام-، فمن صحّح رواية أبي بكر بن عياش، أثبتها، وكذلك من اعتمد قول كعب الأحبار، ووافق المنقول عن أهل الكتاب في التوراة، فقد قال ابن كثير في قصص الأنبياء: يوشع بن نون متفق على نبوته عند أهل الكتاب، فإن طائفة منهم -وهم السامرة-، لا يقرّون بنبوة أحد بعد موسى إلا يوشع بن نون؛ لأنه مصرح به في التوراة. اهـ.
وأما من لم يثبت عنده شيء من ذلك، فاقتصر على إثبات صحبة يوشع لموسى -عليه السلام، وأنه فتاه وخادمه، فمثل هذا لا يكون له حكم من أنكر شيئًا من النبوات؛ لأن مذهبه مبني على اجتهاد، له وجهه، كحال من اختلف في نبوتهم، كالخضر، وذي الكفل، والأسباط، وراجع فيهم الفتاوى: 53396، 1655، 129157.
والله أعلم.