شرح صحيح ابن حبان كتاب الإيمان [2]


الحلقة مفرغة

قال ابن حبان رحمه الله تعالى: [ باب التكليف.

ذكر الإخبار عن نفي تكليف الله عباده ما لا يطيقون ].

هذه الترجمة أنكرها شيخ الإسلام ابن تيمية ، فلا يرى أنها تكليف؛ وإنما هذا حق الله تعالى لكن لا يسمى تكليفاً؛ لأن ليس فيه كلفة ولا مشقة، وإن كان أصل الكلفة موجوداً، لكن لا يسمى كلفة.

قال: [ أخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا محمد بن منهال الضرير حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: (لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284]، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجثوا على الركب، وقالوا: لا نطيق، لا نستطيع، كلفنا من العمل ما لا نطيق ولا نستطيع، فأنزل الله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة:285].. إلى قوله: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولون كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، فأنزل الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] قال: نعم، رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] قال: نعم، رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] قال: نعم) ].

وهذا رواه مسلم في الصحيح، وفيه: أن الله تعالى نسخ الآية الأولى بالآية التي بعدها.

في مسلم : أن الصحابة جاءوا إلى النبي وجثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق؛ الصلاة والصيام.. وأنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ [البقرة:284] من يستطيع أن يزيل ما في نفسه؟ لا أحد يستطيع ذلك، فقال النبي: (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [البقرة:93]، بل قولوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285]، فقالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ، فلما قرأها القوم وذلت لها أنفسهم وألسنتهم أنزل الله في إثرها: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]). رواه مسلم في الصحيح.

يعني: أن الصحابة سموا هذا تكليفاً، وقالوا: كلفنا، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وشيخ الإسلام يعارض في تسميتها تكليفاً، وقد يقال: إن الصحابة قالوا للنبي: (كلفنا يا رسول الله من العمل ما نطيق)، ولم ينكر قول: كلفنا، نعم الله كلف العباد وألزمهم بأن يعبدوه ويسجدوا له؛ لأن العباد مخلوقون لهذا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

قال: أخرجه مسلم في صحيحه في باب الإيمان.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر الإخبار عن الحالة التي من أجلها أنزل جل وعلا: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256].

أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل ببست قال: حدثنا حسن بن علي الحلواني حدثنا وهب بن جرير حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، قال: كانت المرأة من الأنصار لا يكاد يعيش لها ولد؛ فتحلف لئن عاش لها ولد لتهودنه، فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم ناس من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار: يا رسول الله! أبناؤنا؛ فأنزل الله هذه الآية: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]. قال سعيد بن جبير : فمن شاء لحق بهم، ومن شاء دخل في الإسلام ].

هذا موقوف على ابن عباس ، قال في تخريجه: إسناده صحيح على شرطهما وأبو بشر هو جعفر بن إياس بن أبي وحشية ، وأخرجه أبو داود والبيهقي .

هذا موقوف على ابن عباس ، قال: كانت المرأة من الأنصار لا يأتي لها ولد، فتنذر أو تحلف لئن عاش لتهودنه، فلما أجليت بنو النضير، قالوا: أبناؤنا الذين نذروا وحلفوا ليهودونهم معهم، فأنزل الله: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر البيان بأن الفرض الذي جعله الله جل وعلا نفلاً جائز أن يفرض ثانياً، فيكون ذلك الفعل الذي كان فرضاً في البداية فرضاً ثانياً في النهاية ].

أي: إذا كان الأمر فرضاً ثم خفف فصار نفلاً قد يفرض مرة أخرى.

[ أخبرنا عمر بن سعيد بن سنان الطائي بمنبج قال: حدثنا سعيد بن حفص النفيلي قال: قرأنا على معقل بن عبيد الله عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها أخبرته: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة في رمضان فصلى في المسجد، فصلى رجال وراءه بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا بذلك، فاجتمع أكثر منهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية فصلوا بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا بذلك، فاجتمع أهل المسجد الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لصلاة الفجر، فلما قضيت صلاة الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: أما بعد: فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتقعدوا عنها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغبهم في قيام شهر رمضان من غير أن يأمرهم بقضاء أمر فيه، يقول: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ].

وكان هذا في رمضان، صلى بهم ثلاث ليال، ثم ترك خشية أن يفرض عليه، وبقيت صلاة الناس أوزاعاً في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر ، يصلي الرجل وحده، ويصلي الرجل ومعه الرجلان، ثم جمعهم عمر على إمام واحد.

قال أبو حاتم: [ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر ، وصدراً من خلافة عمر رضوان الله عليهم أجمعين ].

التخريج: إسناده حسن، معقل بن عبيد الله حديثه لا يرقى إلى الصحة، وأخرجه مسلم في صلاة المسافرين.

وجه الدلالة: أن الأمر الذي كان واجباً، ثم كان مستحباً، قد يكون فرضاً، يعني: أنه كان يخشى أن تفرض عليهم صلاة الليل، وكأن المؤلف رحمه الله رأى أن قيام الليل كان واجباً على الأمة، ثم نسخ فصار نفلاً، ثم يمكن أن يكون فرضاً آخر، ولهذا خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يفرض عليهم قيام الليل مرة ثانية، فلهذا ترك القيام معهم، وهذا على القول بأن قيام الليل كان واجباً في أول الإسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأمة، ثم نسخ فصار نفلاً في حق الأمة، ويمكن أن يعود الفرض مرة أخرى، ولهذا خاف النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فلم يخرج في الليلة الرابعة لئلا يفرض عليهم مرة أخرى.

قال: [ ذكر البيان بأن الفرض الذي جعله الله جل وعلا نفلاً ].

يعني قيام الليل صار نفلاً بعد أن كان فرضاً.

قال: [ جائز أن يفرض ثانياً ].

فيكون واجباً مرة ثانية.

قال ابن حبان رحمه الله تعالى في صحيحه: [ ذكر الإخبار عن العلة التي من أجلها إذا عدمت رفعت الأقلام عن الناس في كتبة الشيء عليهم.

أخبرنا أبو يعلى حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا حماد بن سلمة عن حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الغلام حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق) ].

حتى يحتلم يعني: يبلغ، فإنه يرفع عنه القلم، (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يبلغ).

قال: إسناده صحيح على شرط مسلم ، وحماد هو ابن أبي سليمان الأشعري مولاهم أبو إسماعيل الكوفي الإمام الثقة المجتهد، وأخرجه أحمد والدارمي وأبو داود والنسائي ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

[ ذكر الإخبار عن العلة التي من أجلها إذا عدمت رفعت الأقلام عن الناس في كتبة الشيء عليهم ].

الكلام الآن على التكليف ورفع قلم التكليف، والنائم رفع عنه القلم، فلو انقلب على شخص وقتله لا يأثم، لكن عليه الدية؛ أو أتلف شيئاً وهو نائم فعليه أن يغرم لكن لا يأثم؛ لأنه ليس بوعيه، لكن المتلفات لابد من عزمها، ومثل ذلك المرأة لو انقلبت على طفلها فمات لا تأثم، لكن عليها الدية والكفارة، وكذلك المجنون لو قتل شخصاً لا يأثم؛ لأنه لا عقل له، لكن عاقلته تلزمهم الدية، وكذلك الصبي الصغير لو قتل شخصاً أو أتلف شيئاً لا يأثم؛ لأنه رفع عنه القلم، لكن يغرم ما أتلفه من ماله أو من عاقلته، وعلى العاقلة دية المقتول، وهكذا الصبي لو قتل شخصاً أو أتلف شيئاً لا يأثم؛ لأنه مرفوع عنه القلم لكن يغرم ما أتلفه من ماله أو من عاقلته، وكذا لو كان المرء في غيبوبة فإنه مرفوع عنه القلم في غيبوبته وليس عليه تكليف.

وللزوج أن يتنازل عن دية الطفل الذي مات بسبب أمه، لكن لا تسقط عنها الكفارة، وإن لم تستطع فتبقى في ذمتها حتى تستطيع.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال ذكر خبر ثان يصرح بصحة ما ذكرناه.

أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن سليمان بن مهران عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمجنونة بني فلان قد زنت أمر عمر برجمها، فردها علي وقال لـعمر : يا أمير المؤمنين! أترجم هذه؟ قال: نعم. قال: أو ما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب عن عقله، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم)؟ قال: صدقت. فخلى عنها].

قال في تخريجه: رجاله ثقات رجال مسلم ، وأبو ظبيان هو حصين بن جندب بن الحارث الجنبي بفتح الجيم أبو ظبيان الكوفي حدث عن حذيفة وسلمان وعلي وطائفة، وعنه ابنه قابوس بن حصين وسماك وعطاء . وثقه ابن معين ... توفي سنة تسعين وقيل: سنة خمس أو ست وتسعين.

والحديث أيضاً في صحيح ابن خزيمة ، وأخرجه أبو داود والنسائي ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وأخرجه النسائي من طريق إسرائيل عن أبي حصين عن أبي ظبيان عن علي موقوفاً عليه.

وأخرجه الترمذي والنسائي في الرجم كما في التحفة، وأحمد والبيهقي من طريقين عن الحسن البصري عن علي مرفوعاً.

وهذه القصة موافقة للحديث فالمجنون مرفوع عنه القلم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر الخبر الدال على صحة ما تأولنا الخبرين الأولين اللذين ذكرناهما، بأن القلم رفع عن الأقوام الذين ذكرناهم في كتبة الشر عليهم دون كتبة الخير لهم]. أي أن الخير يكتب لهم والشر لا يكتب عليهم.

[أخبرنا عمر بن محمد الهمداني حدثنا عبد الجبار بن العلاء حدثنا سفيان قال: سمعت إبراهيم بن عقبة قال : سمعت كريباً يخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم صدر من مكة -أي: خرج - فلما كان بالروحاء، استقبله ركب فسلم عليهم، فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، فمن أنت؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففزعت امرأة منهم، فرفعت صبياً لها من محفة وأخذت بعضلته فقالت: يا رسول الله! هل لهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) ].

الحديث رواه مسلم في صحيحه، وفيه دليل على صحة حج الصبي ولو كان طفلاً في المهد، فإنه إذا عمل الخير يكتب له، قوله: (ألهذا حج؟ قال: نعم له حج ولك أجر) أي: لها أجر المعونة والسبب، وهذا يدل على أن الصبي إذا فعل الخير يكون الأجر له، ونسمع عن بعض العامة أنهم يقولون: إذا حج الصبي يكون حجه لأبيه، أو لأمه، أو لجده، أو لجدته، وهذا لا أصل له، بل يكون الأجر له، وللمتسبب على المعونة، إذ إن التسبب له أجر آخر، غير أجر الحج، وعلى وليه أن يكشف رأسه عند أداء النسك إن كان ذكراً ويلبسه إزاراً ورداءً ويطوف به وينوي عنه ولو كان في المهد، ويطوف به ويسعى ثم يقصر عنه، وإذا لم يتم الحج يلزم وليه أن يتمه ولا يجزئه ذلك عن حجة الإسلام، بل عليه إذا بلغ أن يحج، وكذلك العبد إذا أذن له سيده يصح حجه، ولا يكفيه عن الفرض كما جاء في الحديث: (أيما صبي حج ثم بلغ الحلم فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى)، ويقاس على الصبي المجنون؛ لأن كلاً منهما مرفوع عنه القلم، فحكمهما واحد.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال إبراهيم : فحدثت بهذا الحديث ابن المنكدر فحج بأهله أجمعين ]، وإنما فعل ذلك حتى يستفيدوا ويؤجروا، والحديث رواه مسلم في باب صحة حج الصبي.

مسألة: المرأة إذا قتلت ابنها وهي نائمة؛ فإن الدية على العاقلة وعليها الكفارة.

وإذا مات القاتل ولم يكمل الكفارة، فإنه يلزم وليه أن يكملها.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر الإخبار عما وضع الله من الحرج عن الواجد في نفسه ما لا يحل له أن ينطق به ].

أي: الوساوس التي تكون في نفس الإنسان، فإذا وجد في نفسه الوساوس فليس عليه إثم، لكن عليه أن يدافعها وإذا كانت وساوساً تمر ولا تستقر فلا ينظر إليها، لكن عليه أن يدافعها ويحاربها ولا ينطق بها فإن فعل فلن تضره.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أبو يعلى حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشر حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: (يا رسول الله! إنا لنجد في أنفسنا أشياء ما نحب أن نتكلم بها وإن لنا ما طلعت عليه الشمس، فقال صلى الله عليه وسلم: قد وجدتم ذلك؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان) ].

أي أن كتم الوسوسة، ودفعها ومحاربتها صريح الإيمان، وفي اللفظ الآخر: أنهم قالوا: (يا رسول الله! إنا لنجد في أنفسنا ما لأن يخر الإنسان من السماء خير له أن ينطق به) وفي لفظ: (ما لأن يكون حممة -يعني فحمة- خير له من أن يتكلم به، قال وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان)، أي أن كتم الوسوسة، ومحاربتها، ومدافعتها، واستعظام التكلم بها صريح الإيمان، وليس المعنى أن الوسوسة هي صريح الإيمان؛ لأنهم قد قالوا: يتمنى الواحد أن يسقط من السماء ولا يتكلم أو يكون حممة، أي: فحمة ولا يتكلم بالوساوس، وفي اللفظ الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) يريد الشيطان، وقد يسأل سائل: هل تكون هذه من الابتلاءات التي تكفر الذنوب؟

والجواب: هذه وساوس لا تكفر الذنوب، ومن الواضح أن الصحابة خافوا أن تكون ذنوباً يؤاخذون عليها، ولذا قصاراه أنها تكون معفواً عنها.

والحديث إسناده حسن، ومحمد بن عمرو هو ابن علقمة بن وقاص الليثي المدني حسن الحديث، وأخرجه أحمد بهذا الإسناد.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر خبر أوهم من لم يتفقه في صحيح الآثار ولا أمعن في معاني الأخبار أن وجود ما ذكرناه هو محض الإيمان.

أخبرنا أبو عروبة بحران قال : حدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنهم قالوا: (يا رسول الله! إنا لنجد في أنفسنا شيئاً لأن يكون أحدنا حممة أحب إليه من أن يتكلم به، قال: ذلك محض الإيمان).

قال أبو حاتم رضي الله عنه: إذا وجد المسلم في قلبه أو خطر بباله من الأشياء التي لا يحل له النطق بها، من كيفية الباري جل وعلا، أو ما يشبه هذا فرد ذلك على قلبه بالإيمان الصحيح، وترك العزم على شيء منها، كان رده إياها من الإيمان، بل هو من صريح الإيمان لا أن خطرات مثلها من الإيمان ].

قوله: صريح الإيمان، أي: محض الإيمان، والمعنى أن الوساوس ليست من الإيمان، بل المراد كتمها ومحاربتها ودفعها.

وقوله: [ قال أبو حاتم رضي الله عنه: إذا وجد المسلم في قلبه أو خطر بباله من الأشياء ] أي: من الوساوس.

وقوله: [ التي لا يحل له النطق بها من كيفية الباري جل وعلا، أو ما يشبه هذا، فرد ذلك على قلبه بالإيمان الصحيح، وترك العزم على شيء منها، كان رده إياها من الإيمان، بل هو من صريح الإيمان لا أن خطرات مثلها من الإيمان ].

المعنى: ليس المراد الوساوس إنما المراد دفع هذه الوساوس.

قال المصنف رحمه الله: [ ذكر الإباحة للمرء أن يعرض بقلبه شيء من وساوس الشيطان، بعد أن يردها من غير اعتقاد القلب على ما وسوس إليه الشيطان.

أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن منصور عن ذر عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن أحدنا ليجد في نفسه الشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة) ].

الحديث إسناده صحيح على شرطهما، وذر هو ابن عبد الله المرهبي وأخرجه الطيالسي وأحمد وأبو داود .

وفيه أنهم قالوا: (يا رسول الله! يجد أحدنا في نفسه ما لأن يكون حممة)، والمعنى: أنه إن ردها بعد أن عرضت عليه فلا تضره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة).

وقوله: حممة، أي فحمة، فيحترق ويصير فحماً.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر البيان بأن حكم الواجد في نفسه ما وصفنا، وحكم المحدث إياها به سيان، ما لم ينطق به لسانه ].

أي: لا فرق بين أن يقول: وجدت في نفسي، أو: حدث نفسه، فما دام أنه لم يتكلم فالحكم واحد، وهو أن ذلك معفو عنه، سواءً وجد في نفسه أو حدث نفسه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أبو خليفة حدثنا مسدد حدثنا خالد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: (يا رسول الله! إن أحدنا ليحدث نفسه بالشيء يعظم على أحدنا أن يتكلم به قال: أو قد وجدتموه؟! ذاك صريح الإيمان) ].

أي: دفعه ومحاربته وكتمه صريح الإيمان.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر خبر ثان يصرح بصحة ما ذكرناه.

أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الدغولي ومحمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري بمكة وعدة قالوا: حدثنا محمد بن عبد الوهاب الفراء قال: سمعت علي بن عثام يقول: أتيت سعير بن الخمس أسأله عن حديث الوسوسة فلم يحدثني؛ فأدبرت أبكي ثم لقيني فقال: تعال حدثنا المغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: (سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد الشيء لو خر من السماء فتخطفه الطير كان أحب إليه من أن يتكلم قال: ذاك صريح الإيمان) ].

الحديث إسناده صحيح على شرط الصحيح.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح صحيح ابن حبان كتاب الإيمان [1] 2781 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب العلم [1] 2512 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب الإيمان [4] 2498 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب العلم [2] 1732 استماع
شرح صحيح ابن حبان المقدمة 1570 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب الوحي 1453 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب العلم [3] 1385 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب الإسراء 1296 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب الإيمان [3] 951 استماع
شرح صحيح ابن حبان كتاب الإيمان [5] 719 استماع