شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

قال المصنف رحمه الله: [ وأنه فوق عرشه المجيد بذاته وهو في كل مكان بعلمه، خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ].

الله جل وعلا هو الذي خلق الخلق، ومنهم الإنسان، وخلق الله عز وجل الأشجار والأحجار والرمال والجبال، وخلق الله عز وجل البحار والأشجار والأحجار، ويعلم حقيقتها وتفاصيلها ودقائقها وما تؤول إليه، وتكوينها، والله سبحانه وتعالى جل وعلا يعلم ما خلق، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك:14], بلى، بل نقول: إن الله سبحانه وتعالى يعلم جل وعلا حقائق ما لم يوجده الله جل وعلا لو أوجده ما يكون من آثاره، والله سبحانه وتعالى يعلم حال الخليقة قبل خلقها، ويعلم أحوال الخلق، ويعلم سبحانه وتعالى ما يتصرفون قبل خلقهم، فالله عز وجل قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، وقدر الله عز وجل مقادير الخلق قبل أن يخلق الله عز وجل السماوات والأرض، والله سبحانه وتعالى أقرب لعبده من حبل الوريد، ويعلم الله جل وعلا أيضاً ما توسوس به نفسه من خواطر وهواجس وأحاسيس ومشاعر, مما يجده الإنسان في نفسه، وربما علم الإنسان ما في نفسه أو لم يعلم، فربما ما يتخالج من نفس من أفكار أو يطرأ عليه من مشاعر أو وساوس لا يعلم الإنسان كنهها وحقيقتها، فيتوجس الإنسان من نفسه شيئاً ويقول: لا أعلم ما في نفسي، ولا يعلم ما أوجده في نفسه من حرج أو ضيق أو هم، فيحزن ولا يدري لماذا حزن، أو اهتم ولا يعلم ما سبب همه، يعلم الله عز وجل ما أهمه ولو لم يعلمه الإنسان بنفسه، والله سبحانه وتعالى يعلم ذلك كله جل وعلا، وهو الذي خلق، و أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك:14]. نعم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وله الأسماء الحسنى والصفات العلى ].

والله سبحانه وتعالى مالك الملك, وعلى عرشه استوى، وعلى الملك احتوى, من جهة قدرته وتصرفه، وعدم خروج ذلك عن إرادته سبحانه وتعالى، وهو الذي يقلب المواد، ويقلب سبحانه وتعالى حقائقها وأحوالها وتغيراتها، ويعلم تراكيبها مما هي عليه، وما لم تكن عليه، لو امتزجت مع غيرها كيف تكون حالها، ولهذا لله جل وعلا العلم المطلق في ذلك. نعم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ لم يزل بجميع صفاته وأسمائه, تعالى أن تكون صفاته مخلوقة وأسمائه محدثة ].

له سبحانه وتعالى الأسماء الحسنى، وله الصفات العليا، وكلها حسنى، فكل أسمائه حسنى وكل صفاته عليا، سبحانه وتعالى. نعم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كلم موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته, لا خلق من خلقه ].

خلق الله عز وجل الخلق منه ما ذكره الله عز وجل لنا ومنه ما لم يذكره جل وعلا، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذكر عند الرفع من الركوع: ( ملئ السموات والأرض، وملئ ما بينهما, وما شئت من شيء بعد )، فلله سبحانه وتعالى من الخلق ما نعلمه وله من الخلق ما لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى.

وصفات الله عز وجل ليست بمخلوقة، تعالى الله عز وجل عن ذلك؛ لأن الذات هي الصفات، والصفات هي الذات، وإذا قلنا إن الصفات مخلوقة، فهذا يعني أن الذات مخلوقة, تعالى الله سبحانه وتعالى عن ذلك، ولهذا نقول: إن الله عز وجل متفرد وواحد وهو الخالق الذي لم يخلق، وهو الواحد الفرد الذي لا ند له ولا نظير ولا شريك له ولا مثيل، والله سبحانه وتعالى في ذلك كله متفرد لا يجوز لأحد أن يصفه بشيء من الأوصاف إلا بما ثبت به الدليل من كلام الله أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أمثال هذه الأشياء توقيفية, ومردها إلى السمع، من النص من كلامه سبحانه وتعالى وكلام نبيه وكل ذلك إليه. نعم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وتجلى للجبل فصار دكاً من جلاله، وأن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فيبيد، ولا صفة لمخلوق فينفد ].

ولله عز وجل كلام، ومن كلامه القرآن، وله من الكلام ما لا يحصيه إلا هو سبحانه وتعالى، موصوف سبحانه وتعالى بالكلام، يتكلم جل وعلا متى شاء، وفيما شاء، وكيفما شاء جل وعلا، وينزل كلامه سبحانه وتعالى على من شاء، وكلامه صفة من صفاته، لا يجوز القول بأن كلام الله عز وجل مخلوق، وذلك أن كلامه صفة من صفاته، وإذا قلنا بأن كلام الله عز وجل مخلوق يلزم من ذلك خلق الذات؛ لأن الكلام صفة من صفاته سبحانه وتعالى، وكلامه جل وعلا منه القرآن، ومنه التوراة، ومنه الإنجيل، ومنه الزبور، وما في صحف موسى وإبراهيم وغيرها من الكتب، ومنها ما لم ينزله الله عز وجل على أحد من عباده، فالله سبحانه وتعالى يتكلم ولا يزال متكلماً متى شاء، وكلامه سبحانه وتعالى صفة من الصفات، لا نقول كما يقول المبتدعة بأن كلام الله عز وجل مخلوق، وذلك كفر؛ لأن خلق الصفة خلق للموصوف، ولا نقول كما يقول المتكلمون؛ بأن الكلام معنى قائم في نفس الله عز وجل خلقه الله عز وجل خارجاً فأوجده، وهم يعبرون عن ذلك بتعبيرات، منهم من يقول: إن الله عز وجل خلقه خارجاً عنه وهو المعنى القائم في ذات الله عز وجل، خلقه الله عز وجل ليعبر عما في نفسه، والله جل وعلا ما قال ذلك وإنما نسب الكلام إليه كما في قوله جل وعلا: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، فهو كلام الله جل وعلا والزيادة عن ذلك ضلال، ولا نقول إن كلام الله سبحانه وتعالى كذلك أوجده الله عز وجل وقذفه في جبريل, وجبريل قذفه في روح محمد أو روع محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا معنى زائد عما جاء به الدليل، ومن قال: إن كلام الله مخلوق فقد كفر، ولو قال: إن حرفاً من كلام الله عز وجل مخلوق، وما يشكل عند بعض المبتدعة الذي دعاهم لأمثال هذه المعاني، الذين يقولون: إن كلام الله سبحانه وتعالى يوجد ويحفظ في الصدور، وتتلفظ به الألسن، ويكتب في الصحف والألواح، فهذا كلام الله جل وعلا فكيف يصل إلى مثل هذه الحال؟ نقول: إن كلام الله عز وجل يحفظ في الصدور، وقد ذكره الله جل وعلا في كتابه العظيم، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، فهو في صدورهم وهو كلام الله سبحانه وتعالى ولا يزاد عن ذلك، وما يتكلم به الإنسان كلام الله جل وعلا، ولكن الصوت صوت القارئ والكلام كلام البارئ، فتحريك الشفتين مخلوق، ولعاب الإنسان وهواؤه مخلوق، ولكن القول الذي يتلفظ به هو كلام الله والصوت للإنسان، كذلك بالنسبة لما يدون في الألواح والصحف، فما فيه من أحبار وأوراق هذه مخلوقة، والكلام كلام الله سبحانه وتعالى، ولهذا نقول: إن الزيادة عن ذلك إحداث وابتداع وضلال في الدين، وإنما دخل الناس في أمثال هذه التفصيلات في مسائل كلام الله جل وعلا لما توسع المبتدعة في تحليل أمثال هذه المسائل، وكان السلف الصالح عليهم رضوان الله من الصحابة في سلامة من ذلك؛ لأنهم كانوا يمرون ما جاء من النصوص من غير أن يصرفوها على غير ما أراده الله جل وعلا، فلما تكلف الناس التأويل وتوليد المسائل وغير ذلك أدخلوا أهل العلم في أمثال هذه التفاصيل؛ لينفوا عن الدين الشبهات، ويزيلوا ما ربما يصد به عن الحق، ولهذا كان السلف الصالح في ابتداء الأمر ينهون عن الخوض في مثل هذا حتى تكلم به الضلال، ولهذا بعض الأئمة يقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن لفظي بالقرآن ليس بمخلوق فهو مبتدع؛ لماذا؟ لأن هذا شيء جديد، لماذا تدخل في أمثال هذه التفاصيل، لماذا تخوض في أمثال هذه التفاصيل وأنت في عافية منها؟ لكن لما ولدوها وقرروها قام العلماء عليهم رحمة الله تعالى بتقريرها وتفصيلها وإزالة الشبهات منها، وهي الفتنة العظيمة التي وقعت للإمام أحمد عليه رحمة الله حينما ظهرت, وقويت شوكة الجهمية حينما قالوا: إن كلام الله عز وجل مخلوق، وحدث في ذلك من المناظرات والفتنة والابتلاء لجماعة من أئمة السنة على رأسهم الإمام أحمد عليه رحمة الله، ولهذا نقول: إن كلام الله عز وجل موصوف بأنه الكلام, وكذلك قول الله جل وعلا كما في قوله سبحانه وتعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى [آل عمران:55]، وَقَالَ اللَّهُ [المائدة:12]، فالله عز وجل يقول ويتكلم، وكذلك أيضاً ينبئ عباده.

وهنا في قوله: وأن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فيبيد؛ لأنه لا يبيد إلا المخلوق، وصفات الله سبحانه وتعالى هي ذاته جل وعلا، وإذا قلنا بأن صفة من صفات الله عز وجل تبيد، فهذا يرجع إلى الموصوف كذلك، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. نعم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأن القرآن كلام الله ليس بخلوق فيبيد، ولا صفة لمخلوق فينفد].

وذلك أن كلام المخلوق ينفد، له حدود، له بداية وله نهاية، وكذلك أيضاً كتابة الإنسان تنفد، الأحبار تنفد، الأقلام تنقضي؛ وذلك لقلة كلام الإنسان فله بداية وله نهاية، أما كلام الله سبحانه وتعالى ولو جعل الإنسان ما في الأرض من شجر أقلام والبحار مداد ما نفدت كلمات الله سبحانه وتعالى، وبهذا نعلم أن ما يقع في أذهان بعض المبتدعة من القول بخلق كلام الله عز وجل إنما حملهم ذلك التشبيه الذي طرأ على عقولهم فشبهوا كلام الخالق بكلام المخلوق.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وكل ذلك قد قدره الله ربنا، ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه ].

شمول قدر الله

والله جل وعلا جعل الإيمان بالقدر ركناً من أركان الإيمان؛ كما جاء في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما لما سأله جبريل عن الإيمان، قال: ( الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره )، فالله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلائق من جهة أحوالها وتقلباتها، وأعمارها، وابتدائها وانتهائها، وكذلك أيضاً تحولاتها، وقدر الله عز وجل مقاديرها من جهة الكسب، وقدر الله عز وجل لها الخير والشر، وقدر الله عز وجل الأسباب، وخلق فيها المسببات لتظهر الآثار فيه، وهذا لدقة صنع الخالق سبحانه وتعالى في الخلق، لا تخرج المخلوقات عن إرادة الله جل وعلا ولو قيداً يسيراً، ولا يتأخر الناس عما قدره الله عز وجل لهم من الآجال، ولو لحظة، ولا يسبقون آجالهم بالوجود من ولادة وحياة إلا بما قدره الله سبحانه وتعالى لهم، والله جل وعلا قدر المقادير وكتب الآجال وتقلبات الحياة بيده سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

العلاقة بين إثبات القدر وصفة العلم لله سبحانه

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكل ذلك قد قدره الله ربنا ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه، علم كل شيء قبل كونه فجرى على قدره، لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه، وسبق علمه به، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] ].

وفي هذا نقول في إثبات القدر لله سبحانه وتعالى: يلزم من ذلك إثبات العلم، ومن نفى القدر فإنه يلزم منه نفي العلم، هذا من جهة النظر، ولكن هناك من ينفي القدر ولا ينفي العلم، وهذا ضرب من ضروب التضاد، ولهذا نقول: إن الله عز وجل يعلم كل شيء مما مضى ومما يأتي ومما هو حال في هذا الوقت، والله سبحانه وتعالى يعلم وهو الذي قدر، والعلم يتفرع عنه التقدير، والتقدير لازم للعلم؛ لأنه لا يقدر الشيء إلا من علمه، وهذا لكمال الله سبحانه وتعالى.

الانحراف في مسائل القدر

إن الذي حمل طوائف البدع في مسائل القدر على الانحراف أنه حملهم ذلك شيء مما وقع في نفوسهم من طلب تنزيه الله جل وعلا، فكانت الطوائف في ذلك طرفين ووسط، غلاة فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى جبر الخلق، وهم مجبورون على أفعالهم وليس لهم اختيار في أفعالهم، وأرادوا من ذلك قالوا: كيف يكون للإنسان مشيئة ويخرجون عن مراد الله سبحانه وتعالى؟ أرادوا تنزيهاً فوقعوا في أمثال هذا الضلال، وقع في هذا الغلاة من الجهمية الذين يقولون: إنه لا يكون في الكون إلا ما يريده الله عز وجل شرعاً وقدراً، أما الوقوع القدري فهذا لا خلاف في ذلك، أما الشرعي وهو ما يريده الله عز وجل فقد يكون في الكون ما لا يريده الله جل وعلا شرعاً، الله عز وجل أراد للناس الصلاة والصيام، لكن ألا يقع في الكون ما لا يريده الله عز وجل من ترك الصلاة؟ نعم، لكن هل هذا منافاة للإرادة الكونية أو للإرادة الشرعية؟ للإرادة الشرعية؛ لأن الله عز وجل لو أرادهم أن يفعلوا لجعلهم يفعلوا، ولكن جعل لهم اختياراً عليه يعذبون.

المخلوقات بين التخيير والتسيير

بناء على ما سبق نقول: إن المخلوقات لله عز وجل على نوعين:

النوع الأول: مخلوقات مسخرة مسيرة لا اختيار لها؛ وهذا كالكواكب والنجوم والأفلاك وغيرها, لا تخرج عن إرادة الله عز وجل الكونية، ولا تخاطب بإرادة شرعية.

النوع الثاني: ما له اختيار؛ كالإنس والجن، وكالملائكة، والملائكة لهم اختيار؛ لأن الله عز وجل مدحهم ولا يمدح إلا من له اختيار بالموافقة أو المخالفة؛ لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وذلك لشدة الطاعة، إلا أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل من الابتلاء المعترض لهم كما جعله لبني آدم، وذلك من أمور النفس والشيطان وغير ذلك التي تحرف الناس، ولهذا الله سبحانه وتعالى مدحهم على ذلك ولا يمدح إلا من له اختيار فوافق، ولهذا نقول: إن الإنس والجن والملائكة لهم اختيار، فوقع في الإنس والجن عصيان، ومخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى, وهؤلاء لهم مشيئة ويخاطبون بالإرادة وبالأمر الشرعي؛ لأن الإرادة والأمر على نوعين: إرادة وأمر كوني، والثاني إرادة وأمر شرعي، الأول كوني لا يخرج عنه، والثاني: شرعي للناس فيه اختيار، قد يخرجون عنه، وقد لا يخرجون عنه، ومن خرج استحق العقاب والعذاب.

الرد على الجبرية

والطائفة التي تقول: إن الناس مجبورون ومسخرون أيضاً؛ أرادوا من ذلك تنزيه الله سبحانه وتعالى أن يقع ما لا يريد، وحينئذ هؤلاء أفرغوا الشريعة من حقيقتها، فلماذا ترسَل الرسل؟ ولماذا تنزل الكتب؟ ولماذا يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم؟ ومن قاتل من المشركين, هؤلاء ما هي أحوالهم؟ من عبدوا الأصنام والأشجار والأحجار ما هي حالهم؟

قالوا: هؤلاء ما عبدوا إلا الله، ثم قالوا: إن الله عز وجل حال في كل مكان، قالوا: حال حتى في الأصنام والأحجار، فإذا توجه الإنسان للصنم والحجر فقد توجه إلى الله، فجعلوا الكون يدور حول نفسه، بمعنى: أن ما في الكون إلا الله، حتى ضل منهم من ضل في هذا وجعل في ذلك جملة من اللوازم، في أن الله عز وجل حال في كل مكان ليقع لديهم ما يسمى بتبرير الشرك في الأرض والكفر، وما يتعلق بأمر الجنة والنار يتأولونها كذلك, وهذا فيه تعطيل لكثير من أحكام الله عز وجل وشرائعه.

الرد على القدرية

الطائفة الأخرى أو الطائفة الثانية: الذين قالوا: لا يوجد قدر أصلاً، ومنهم من ينفي العلم، وهؤلاء الطائفة التي تنفي العلم قد اضمحلت، ولا قائل بذلك، ولكن نقول: إن الله عز وجل يعلم وهو المقدر جل وعلا، الذي حملهم على نفي القدر، قالوا: والله عز وجل يقدر على عباده الأقدار من خير وشر ثم يعذبهم على ذلك كيف يكون هذا؟ وهذه من المسائل التي وقع في لوازمها كثير من الضلال عند أهل البدع، قالوا: فالله عز وجل يقدر على عباده الخير، ولا يخرجون عن إرادته، إذا أثبتنا القدر يلزم من ذلك أنهم مسيرون ولا اختيار لهم، وإذا قلنا بهذا فيلزم منه أن الله عز وجل يأمر الإنسان ويلزمه بشيء ثم يعذبه عليه، قالوا: وهذا ينافي عدل الله سبحانه وتعالى.

أهل السنة يقولون: إن لله عز وجل مشيئة، ولعبده مشيئة، والله سبحانه وتعالى جعل للإنسان مشيئة واختياراً بعلمه سبحانه وتعالى، وهذه المشيئة هي التي يعاقب عليها وأيضاً يثاب عليها الإنسان، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، فلهم مشيئة لكن بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى.

وأما ما يتعلق بمن ينفي القدر تنزيهاً لله سبحانه وتعالى فنقول: إن الله عز وجل قدر المقادير وجعل للإنسان مشيئة يعاقبه على مخالفة الأمر الشرعي بمشيئته, لا لمخالفته لقدر الله عز وجل وقضائه، وينبغي أن نعلم أن من حكم الله سبحانه وتعالى ما لا يدركه الإنسان ولا يحصيه، وذلك في أمثال هذه القضية وهي قضية القدر، ولهذا يقول أبو حنيفة رحمه الله لما سئل عن هذه المسألة وهي مسألة القدر قال: هذه مسألة مقفلة وضاع مفتاحها.

ويقول ابن تيمية رحمه الله: هذه المسألة ما من أحد إلا وفي نفسه حسكة, يعني: في شيء من معانيها ولكنه لا يدرك ذلك؛ لأن الحقائق تتعلق بإدراك الإنسان، وعقل الإنسان، هو حاسة من الحواس الموجودة في ذات الإنسان، ونفس الإنسان هي نوع من المدركات، منها ما يدرك الإنسان الحقيقة ومنها ما لا يدركه، الإنسان إذا قلنا: إن عقل الإنسان وذهنه يستوعب شيئاً معيناً كحال هذا الكأس، فالكأس لا يمكنه أن يستوعب البحر، ولو أفيض إليه سيطويه ثم لا يستفيد شيئاً، ولهذا نقول: إن من حكم الله سبحانه وتعالى ما لا يدركه العقل ويحجبه الله عز وجل لعدم إدراكه, ولو أعطاه إياه لزاده تحيراً، ولهذا يقول بعض العلماء: إن من الحقائق كلما زاد الإنسان فيها تأملاً ازداد تحيراً.

البحث في مسائل القدر وعللها

إن الإنسان حينما ينظر في الشمس هل يزداد بصيرة أو يزداد ألماً وتحرقه الشمس ولا يستفيد؟! كذلك من حكم الله عز وجل ما تحرق الأذهان والعقول، لأننا لو قلنا: إن الإنسان يدرك كل حكمة فما الفرق بين علم الخالق وبين علم المخلوق؟ ولهذا ينظر الإنسان في مكتشفاته وإدراكه وما يفتح له وكذلك من تصرفات أهل العمل في الماديات وغير ذلك ما يعجب الإنسان منه, ثم بعد ذلك يستسيغه ويرى أنه شيء عادي ثم يبحث عن غيره، إذاً اندهاش الإنسان لا ينتهي, ومنه ما يدركه ومنه ما لا يدركه، وأمره الله عز وجل بأن يكل العلم إليه، وهل كل شيء يستطيع أن يسمعه الإنسان؟.. لا، ومن الأصوات ما لو أراد الإنسان أن يسمعه لصعق ومات؛ ولهذا إذا نفخ في الصور يصعق من في السماوات والأرض بسبب ماذا؟ أنه خارج طاقة الإنسان، خارج طاقة الإدراك، كذلك الضوء، من الضوء ما لو فتح على الإنسان لزال بصره, ومن الحكم أيضاً ما لو فتح وأفيض على العقول لتحيرت ولم تدرك من ذلك شيئاً، لهذا نقول: إن إدراك الإنسان وحواسه مثلاً لها إدراك معين كحال الكأس، ونقول: خلق الإنسان لا يستوعب أمثال هذه الحكمة؛ ولهذا الله عز وجل يحجب حكماً عظيمة عن عقل الإنسان أن يدركها، ولو أراد وقال: أريدها كحال الإنسان يقول: ضع البحر هنا, فلو وضع فيه لانغمس وتاه؛ ولهذا المتكلمون الذين يطلبون العلل للأحكام الشرعية والبحث عنها يعيشون في دوامات ثم يرجعون إلى دين وعقائد العجائز، لأن الله عز وجل ما حجب أمثال هذه العلل إلا لأن العقول لا تدرك، ولهذا ينبغي للإنسان إذا سمع شيئاً وعجز عن إدراكه هل له أن ينفيه وقد ثبت به النص أم يقول سمعنا وأطعنا؟ يقول: سمعنا وأطعنا؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعل لكل شيء من أخباره دليلاً قائماً في الكون، ولكن ربما الإنسان يدركه وربما لا يدركه، فكفار قريش لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لم يدخل هذا في دائرة التصديق البشري في ذلك الزمان، ولما لم يدخل في أذهانهم كفروا وعاندوا وتهكموا بعقولهم، وفي زماننا هذا ممكن، فلو وجد قرشي في زماننا لن ينكره.

إذاً الذي نفى ذلك ووصف المثبت بالجنون لو كان في زماننا لأثبت ذلك ووصف النافي بالتخلف، أليس هو عقل واحد؟ هو عقل واحد, ولكنه قدم الإيمان بالمشاهدة على الإيمان بالغيب، ولهذا نقول: إن الإنسان إذا لم يدرك شيئاً من حقائق الشريعة وعللها عليه أن يسلم لا أن يقول لم أجد علة في ذلك؛ لأنه يريد أن يحاكم علم الله عز وجل في الغيب على علمه القاصر في المشاهد.

مذهب أهل السنة في القضاء والقدر

ومذهب أهل السنة والجماعة في مسألة القضاء والقدر أن الله عز وجل يقضي لعباده ويقدر لهم تقديراً ولا يخرجون عن ذلك التقدير في أمر تصرفات الكون, وجعل الله عز وجل عليهم أمراً وقضاء شرعياً، ولهم مشيئة بالعمل وعدمه ويثابون على ذلك.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ يضل من يشاء فيخذله بعدله, ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله, فكل ميسر بتيسيره إلى ما سبق من علمه وقدره من شقي أو سعيد, تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد, أو يكون لأحد عنه غنى أو يكون خالق لشيء إلا هو ].

الناس في العمل ميسرون لما خلقوا له، وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لـعمر بن الخطاب قال: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له )، ولله عز وجل في ذلك حكم, وله جل وعلا مقادير، يعلم أحوال العباد واختيارهم وما في نفوسهم ومطامعهم وما يعزمون عليه وغير ذلك، فيجعل الله عز وجل مقادير الخلق وفق علم دقيق سبحانه وتعالى لا يحيدون عنه ولا يخرجون.

والله جل وعلا جعل الإيمان بالقدر ركناً من أركان الإيمان؛ كما جاء في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما لما سأله جبريل عن الإيمان، قال: ( الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره )، فالله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلائق من جهة أحوالها وتقلباتها، وأعمارها، وابتدائها وانتهائها، وكذلك أيضاً تحولاتها، وقدر الله عز وجل مقاديرها من جهة الكسب، وقدر الله عز وجل لها الخير والشر، وقدر الله عز وجل الأسباب، وخلق فيها المسببات لتظهر الآثار فيه، وهذا لدقة صنع الخالق سبحانه وتعالى في الخلق، لا تخرج المخلوقات عن إرادة الله جل وعلا ولو قيداً يسيراً، ولا يتأخر الناس عما قدره الله عز وجل لهم من الآجال، ولو لحظة، ولا يسبقون آجالهم بالوجود من ولادة وحياة إلا بما قدره الله سبحانه وتعالى لهم، والله جل وعلا قدر المقادير وكتب الآجال وتقلبات الحياة بيده سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكل ذلك قد قدره الله ربنا ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه، علم كل شيء قبل كونه فجرى على قدره، لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه، وسبق علمه به، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] ].

وفي هذا نقول في إثبات القدر لله سبحانه وتعالى: يلزم من ذلك إثبات العلم، ومن نفى القدر فإنه يلزم منه نفي العلم، هذا من جهة النظر، ولكن هناك من ينفي القدر ولا ينفي العلم، وهذا ضرب من ضروب التضاد، ولهذا نقول: إن الله عز وجل يعلم كل شيء مما مضى ومما يأتي ومما هو حال في هذا الوقت، والله سبحانه وتعالى يعلم وهو الذي قدر، والعلم يتفرع عنه التقدير، والتقدير لازم للعلم؛ لأنه لا يقدر الشيء إلا من علمه، وهذا لكمال الله سبحانه وتعالى.

إن الذي حمل طوائف البدع في مسائل القدر على الانحراف أنه حملهم ذلك شيء مما وقع في نفوسهم من طلب تنزيه الله جل وعلا، فكانت الطوائف في ذلك طرفين ووسط، غلاة فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى جبر الخلق، وهم مجبورون على أفعالهم وليس لهم اختيار في أفعالهم، وأرادوا من ذلك قالوا: كيف يكون للإنسان مشيئة ويخرجون عن مراد الله سبحانه وتعالى؟ أرادوا تنزيهاً فوقعوا في أمثال هذا الضلال، وقع في هذا الغلاة من الجهمية الذين يقولون: إنه لا يكون في الكون إلا ما يريده الله عز وجل شرعاً وقدراً، أما الوقوع القدري فهذا لا خلاف في ذلك، أما الشرعي وهو ما يريده الله عز وجل فقد يكون في الكون ما لا يريده الله جل وعلا شرعاً، الله عز وجل أراد للناس الصلاة والصيام، لكن ألا يقع في الكون ما لا يريده الله عز وجل من ترك الصلاة؟ نعم، لكن هل هذا منافاة للإرادة الكونية أو للإرادة الشرعية؟ للإرادة الشرعية؛ لأن الله عز وجل لو أرادهم أن يفعلوا لجعلهم يفعلوا، ولكن جعل لهم اختياراً عليه يعذبون.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني [1] 1559 استماع
شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني [3] 984 استماع