خطب ومحاضرات
أشراط الساعة
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أن الساعة آتية لا ريب فيها، وقد بين أن هذه الأمة آخر الأمم، فهي ختام الأمم، فلن تقوم الساعة إلا على بقاياها، والساعة حدث عظيم، يقتضي من هذه الأمة التهيؤ بأن تكون ختام هذه الدنيا، وأن تستعد لأن تكون فاتحة الآخرة: (فنحن الآخرون السابقون ) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الأمة تختم بها الدنيا، فهي آخر أممها، وتفتتح بها الساعة فهي أول أممها، وأول الأمم تدعى بين يدي الله هذه الأمة، وأول خصوم يلتقون بين يدي الله لفصل الخصام دعاة التوحيد من هذه الأمة، مع خصومهم دعاة الشرك.
كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عندما قرأ قول الله تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ[الحج:19]، قال: ( الله أكبر، أنا أول من يجثو للخصام بين يدي ربي )، فهو من الذين يخاصمون دعاة الشرك بين يدي الله سبحانه وتعالى، فهذه الأمة هي السابقة يوم القيامة، وهي آخر الأمم في هذه الدنيا، فما أحوج هذه الأمة إلى أن تتحمل مسئولياتها، وأن تعرف دورها، وأن لا تتراجع في مدها، بعد أن قادها خير البشرية، وأنزل الله إليها خير الكتب، وشرع لها أفضل الشرائع، وجعلها خير أمة أخرجت للناس.
إن مسئولية الأمة تقتضي منها أن تعرف هذه الأشراط التي لا توجد إلا فيها، فإن الله سبحانه وتعالى أخبر الأمم السابقة بالأشراط نذارة، وأخبرنا بها وهي واقعة فينا لا محالة، فقد صح في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: (ما بين خلق آدم وقيام الساعة فتنة أعظم من فتنة المسيح الدجال ، وما من نبي إلا وأنذره قومه، ولقد أنذره نوح قومه، ألا وإني أنذركموه فأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة).
وهذا يقتضي منا: أن نتعرف على هذه الأشراط وأن نعد لها.
إن الأشراط جمع شرط بالتحريك: وهو العلامة، فالشرَط بالتحريك العلامة، والشرْط بالإسكان: التعليق.
وأشراط الساعة معناه: علاماتها التي تبرز بين يديها، نذارة وتذكيرًا للناس بها، وهذه الأشراط تنقسم إلى قسمين: إلى أشراط كبرى وأشراط صغرى، ويمكن أن تقسم تقسيمًا آخر إلى ثلاثة أقسام: إلى أشراط كبرى، وأشراط وسطى، وأشراط صغرى، والأشراط الوسطى هي من الأشراط الصغرى في العموم.
بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من الأشراط الكبرى
فمن أشراطها الكبرى: ختم الأنبياء ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد حصل هذا، فقد بعثه الله بين يدي الساعة، وقال: ( بعثت أنا والساعة كهاتين)، وما حصل من امتداد العمر لهذه الأمة كله تشريف لنبيها صلى الله عليه وسلم؛ ليزداد أتباعه يوم القيامة، ويزداد أجره بذلك، وقد قال فيما أخرج عنه البخاري في الصحيحين: (ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة).
وقد حقق الله رجاءه، فجعل أتباعه أكثر أتباع الرسل، ولا يمكن أن يتم هذا إلا بطول الأمد، وقد حصل بين الأمد ما رأيتم، وقد أخذ أهل العلم من باب الإشارة أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة مربيًا ثلاث عشرة سنة، فعاشت دولة الإسلام بعده ثلاثة عشر قرنًا، كل قرن نتاج تربية سنة، فقد سقطت الخلافة بعدما كمل القرن الثالث عشر، وانطمست آثارها، فبهذا كل سنة من العهد المكي يقابلها قرن من قرون هذه الأمة.
وقرون هذه الأمة بين النبي صلى الله عليه وسلم تعددت، وقسمت من ناحية الحكم إلى ثلاثة أقسام:
فقد أخرج أحمد في المسند وغيره من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة وسكت )، فبين النبي صلى الله عليه وسلم مراتب الحكم في هذه الأمة.
فالمرتبة الأولى: مرتبة النبوة والخلافة التي هي على منهاج النبوة، وهذه المرتبة هي خير القرون، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون، القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ).
وقد اختلف أهل العلم في معنى القرن هنا في الحديث: فقالت طائفة منهم: المقصود بالقرن الطبقة، والطبقة من ناحية الرواية فالصحابة رضوان الله عليهم ثلاث طبقات.
وعلى هذا فالصحابة وحدهم ثلاثة قرون:
القرن الأول: هم الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فعاصروا بعثته، وصدقوه وآمنوا به، وجاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الله.
القرن الثاني: هم الذين أسلموا بعد انتشار الإسلام وبعد الفتح، فكانوا مددًا للإسلام، وسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورووا عنه، ويدخل فيهم أولاد الصحابة الذين شبوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
القسم الثالث: الذين ولدوا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي وهم صغار، فلم يحدثوا عنه، أو كان حديثهم عنه بالواسطة وهؤلاء يدخلون في عموم الصحبة؛ لأن تعريف أهل الحديث للصحابي: أنه من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به وعاش معه على الوجه المتعارف في الدنيا، ومات على دينه ولو تخلل ذلك ردة على الصحيح.
فهذه الأقسام الثلاثة هي أقسام الصحابة، وكل واحدة منها طبقة.
وأما القسم الرابع الذي ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة؛ حيث عد القسم الرابع: الذين قيل فيهم إنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت ذلك، وتوسع في العد رحمه الله حتى عد الخضر وحتى عد عيسى بن مريم ، وعد طائفة من الناس اختلف في إسلامها أصلًا، كـحليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اختلف في إسلامها، وعد من هذه الطبقة كذلك أبا طالب ؛ لأن العباس ذكر أنه شهد أن لا إله إلا الله وقت موته ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك! وعلى هذا: فمجرد شهادة العباس لا يمكن أن تدخله في الصحبة، فقد مات على دين عبد المطلب، وعلى هذا فليس هو من المسلمين ولا من الصحابة، ومع ذلك فقد عده الحافظ في القسم الرابع المختلف في صحبتهم بناءً على القول الضعيف أن العباس سمعه: شهد أن لا إله إلا الله، عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا عم: قل كلمة أجادل بها عنك بين يدي الله، قل: لا إله إلا الله ).
فهذا القول الأول، يقتضي أن القرون المفضلة كلها ممن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم ورآه، وقد ختمت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بـأبي الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه، فهو آخر راءٍ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توفي سنة تسع وتسعين بمكة على الراجح، وفي حديث ابن عمر في صحيح البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم العشاء ثم التفت إليهم فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإنه لا يبقى بعد مائة سنة منها على وجه الأرض ذو نفس منفوسة)، فما كملت مائة سنة حتى انتقل كل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختموا كما ذكرنا بــأبي الطفيل رضي الله عنه فقد كان يقول: أنا آخر راءٍ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت طائفة أخرى: بل القرون المقصود بها، لكل قرن منها مائة سنة، وعدوا القرن الأول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوهم قرنًا واحدًا.
والقرن الثاني: هم التابعون الذين أخذوا عنهم ورووا عنهم العلم.
والقرن الثالث: هم أتباع التابعين الذين رووا العلم عن التابعين، والواقع أن الطبقات الثلاث: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين لا يكمل منهم ثلاثمائة سنة، بل إن أتباع التابعين الذين رووا عنهم، مات أكثرهم في نهاية القرن الثاني الهجري، ولم يبقَ منهم بعد القرن الثاني الهجري إلا عدد يسير، ولذلك فإن البخاري رحمه الله قد أدرك بعض الذين أدركوا التابعين وهم قلائل، فأدرك منهم المكي بن إبراهيم ، وكان يقول: كتبت بإصبعي هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أني يحتاج إلي لكتبت عن أكثر، ولذلك فثلاثيات البخاري التي ليس فيها بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة رجال أربعة وعشرون حديثًا، هي من رواية المكي بن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الثلاثيات تمثل هذه القرون حيث روى المكي وهو من أتباع التابعين عن يزيد بن أبي عبيد وهو من التابعين عن سلمة بن الأكوع وهو من الصحابة.
وقالت طائفة أخرى: بل المقصود تمام المئين، وعلى هذا فيستمر القرن الثالث، حتى يشمل أئمة الإسلام كـأحمد بن حنبل و يحيى بن معين ، و البخاري و مسلم ، وأصحاب السنن وغيرهم من الذين ماتوا قبل المائة الثالثة، بل يشمل الذين عاشوا حتى ماتوا في بداية القرن الرابع الهجري كـالنسائي ، فقد مات سنة ثلاثمائة وثلاث، وكـمحمد بن جرير الطبري فقد مات سنة ثلاثمائة وعشر، وكـعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي فقد مات سنة ثلاثمائة وسبعة وعشرين، وعاش عدد من الأئمة في هذا القرن وفيه تطور العلم وانتشر، وألفت فيه مؤلفات الإسلام ودواوينه الكبيرة.
وعمومًا فقد اختلف: هل قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مرتين أو ثلاثًا؟ فلا شك أنه فضل القرن الذين بعث فيهم، ثم ذكر قرنًا بعدهم، لكن اختلف هل ذكر القرن الثالث أم لا، قال ذلك مرتين أو ثلاثًا.
انقطاع الوحي عن أهل الأرض
ومن أشراط الساعة كذلك: ختم الوحي عن أهل الأرض، فإن أهل الأرض بدءوا سيرتهم بإهباط آدم إليها، وفي كل فترة من فترات التاريخ ينزل وحي من عند الله تعالى فيه تشريع يناسب الطور الذي تمر به البشرية، فإذا بلغت البشرية نضجها، وخاضت جميع التجارب ختم الله الوحي إلى أهل الأرض بالقرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وختم تنزيل الأحكام فيه بقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3]، وقد أنزلت هذه الآية يوم الجمعة يوم عرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة في حجة الوداع، وعاش بعد ذلك اليوم اثنين وثمانين يومًا، وقد تواتر بعد ذلك الوحي حمية، كما في حديث عائشة رضي الله عنها؛ ( توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي أشد ما يكون تتابعًا )، لكن لم ينزل منه شيء من الأحكام بعد هذه الآية، بل ذكر بعدها ما يدل على انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا كنزول سورة النصر، وهي آخر سورة أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فختم بها نزول السور.
وهذه السورة لمناسبة اسمها تفضيل لهذه الأمة وتشريف لها، حيث كان آخر عهدها بالله سبحانه وتعالى أن نصرها وأنزل عليها سورة النصر، فقال: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:1-3]، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن مهمة الرسالة وأداء هذه الأمانة إلى البشرية قد انتهى بنزول هذه السورة، ومهمته الأولى في هذه الأرض هي بيان الرسالة للناس، وبيان الوحي الذي أنزل إليه، فإذا ختم ذلك وأدي على الوجه الأكمل، وشهد الله له بالتبليغ فإن مهمته قد انتهت، ولذلك خير بين أن يعيش وأن يذهب إلى لقاء الله فاختار لقاء الله.
ولذلك في حديث أبي بكر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ( إن عبدًا خيره الله بين أن يعيش وبين لقائه، فاختار لقاء الله. فبكى أبو بكر فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يبكيك يا أبا بكر )، ولم يفهموا ما فهم أبو بكر ، لذلك فإن أبا بكر فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عبدًا )، أن المقصود بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قد اختار الرفيق الأعلى، وبذلك ينتهي عمره في هذه الدنيا، وقد انتهت مهمته حين أنزل الله عليه: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ[الذاريات:54]، وبقوله: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ المُبِينُ[النور:54]، فقد بلغ رسالات الله وأدى الأمانة وشهد الله له بذلك، ومن هنا: نقله الله إلى دار الكرامة، فليس التعمير في هذه الدنيا كرامة عند الله سبحانه وتعالى، بل التعمير فيها إنما يقصد به زيادة العمل وترجيح كفة الحسنات، وقد زادت كفة حسنات النبي صلى الله عليه وسلم وترجحت بأتباعه وبمن يسير على ملته، فكل عابد لله وموحد يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ثوابه إلى أن تقوم الساعة.
ومن هنا: فإن هذه الدار دار أكدار، فاختار الله له مجاورته، فنقله إلى الرفيق الأعلى، وبذلك انقطع الوحي عن هذه الأرض، وقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين: ( أن أبا بكر قال لـعمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب بنا نزور أم أيمن ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما أتياها، سلما عليها فبكت بكاء شديدًا، فقال لها: وما يبكيك، يا أم أيمن ؟ ألا تدرين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، قالت: أما إني لا أبكي لأني لا أعلم إنما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، ولكني أبكي لانقطاع الوحي عن الأرض، فبكيا لبكائها )، فهذا شرَط كبير من أشراط الساعة وهو انقطاع الوحي عن هذه الأرض، فلم يبقَ إلا اجتهادات الناس بعد انقطاع الوحي.
وقبل أن ينقطع الوحي، يمكن أن يجتهد الناس فإما أن يقروا على اجتهادهم بالوحي، وإما أن يرد عليهم اجتهادهم بالوحي، أما بعد انقطاع الوحي فلم يبقَ إلا الاجتهادات يأتمن الله سبحانه وتعالى أهل العلم، على ما ائتمنهم عليه من الوحي، ويوجب عليهم أن يبذلوا اجتهاداتهم في بيان أحكام الله سبحانه وتعالى، وطلب الوصول إلى الحق، وهم بذلك لا يدرون هل يوفقون للصواب أم لا يوفقون له، ولهذا كان مالك رحمه الله تعالى يقول في الاجتهادات: إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين.
فتح الخزائن
ثم من هذه الأشراط كذلك: ما يأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم مما حدثنا عنه، فقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم بأمور عظام تقع بعد موته صلى الله عليه وسلم.
ففي صحيح البخاري أنه استيقظ ليلة، فقال: (لا إله إلا الله، ماذا أنزل من الفتن، وماذا فتح من الخزائن، أيقظوا صواحب الحجرات أو الحجر، فيا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)، فتلك الليلة اطلع النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي على ما فتح من الخزائن وما أنزل من الفتن، فخزائن خيرات هذه الأرض، وما فيها من المال، قد فتحت في تلك الليلة، واختار الله رسوله صلى الله عليه وسلم لئلا يشهدها، وهذا يدلنا على أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في عشرين مدًا من الشعير، وانتقل من هذه الدنيا ولم يتعجل شيئًا من أجره، وانتقل أصحابه كذلك على هذا الوجه، فعندما فتحت عليهم خزائن كسرى وقيصر أنفقوها في سبيل الله، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: (ولتفتحن عليكم كنوز كسرى وقيصر فلتنفلنها في سبيل الله).
وصح في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف، و سعد بن أبي وقاص وغيرهما: ( أن عبد الرحمن كان صائمًا، فقدمت له مائدة الإفطار ليفطر، فلما وضعت بين يديه رأى عليها صنوفًا من الطعام، فبكى بكاءً شديدًا حتى أبكى من حوله، فقال: يا أبا المنذر! وما يبكيك؟ قال: إنا كنا أهل جاهلية فبعث الله إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم فآمنا به وصدقناه، وجاهدنا معه، فمنا من مات ولم يتعجل من أجره شيئًا، منهم أخي مصعب بن عمير ، مات يوم مات وليس معه إلا بردة، إن سترنا بها رأسه بدت رجلاه، وإن سترنا رجليه بدا رأسه، فمات ولم يتعجل شيئًا من أجره، وخلفنا بعدهم فأثمرت علينا الدنيا فنحن نهدم ثمراتها، فخشينا أن يقال لنا يوم القيامة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا[الأحقاف:20]، فرفعت المائدة وبكى من حوله ).
حصلت هذه القصة لـعبد الرحمن بن عوف ، وحصلت لـسعد بن أبي وقاص ، وحصلت كذلك لـعتبة بن غزوان ، وكل هؤلاء تذكروا حالهم عندما كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يشدون الحجارة على بطونهم من الجوع، وقد أخرج البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: ( والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما لنا زاد إلا ورق السمر وهذه الحبلة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام. خبت إذناً وضل سعيي ).
وكذلك عن عتبة بن غزوان رضي الله عنه أنه قال: ( لقد رأيتنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا زاد إلا ورق الشجر، ولقد خرج سعد بن مالك ذات ليلة لحاجته فوقع بوله على شيء فأخذه فإذا هو جلد، فغسله وشواه فأكلناه، ولقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو والٍ على مصر من الأمصار ).
إن الخزائن التي فتحت منذرة بقيام الساعة، فيها ضريبة لابد منها وهي ما يلازمها من الفتن، عندما فتحت الخيرات على المسلمين من الفتوح التي حصلت في خلافة عمر بن الخطاب وفي أول خلافة عثمان رضي الله عنهما، بدأ جيل من المسلمين ينشأ على الرفاهية وكثرة الأموال، وكان هذا الجيل سببًا للفتنة، وهم الذين شاركوا في قتل عثمان والخروج عليه، وهم الذين شاركوا كذلك في الخروج على علي وقتله، فهم جيل نشأوا في الرفاهية، أما الجيل الذي نشأ في الشدة والجهاد، فقد كانوا كما قال علي رضي الله عنه، حين سأله رجل من الخوارج، فقال: (يا أمير المؤمنين! ما لك اختلف الناس عليك وعلى عثمان ، واتفقوا على أبي بكر و عمر ؟ فقال: اتفق الناس على أبي بكر و عمر حين كان الناس أنا و عثمان ، واختلف الناس عليّ وعلى عثمان حين كان الناس أنت وأمثالك).
فالفرق شاسع بين أولئك الذين تربوا تلك التربية الأصلية الصحيحة، وبين الذين نشأوا بعد ذلك.
كذلك فإن الخزائن التي فتحت هي سبب للانشغال عن الجهاد في سبيل الله، وقد أخرج أحمد في المسند و أبو داود في السنن وغيرهما من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني عن عطاء عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا يرفعه عنكم، حتى ترجعوا إلى دينكم)، وإن هذا الحال مشاهد فقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الأمة في بداية نشأتها في السنة الأولى من الهجرة كانت هناك ثلاث غزوات، وفي السنوات اللاحقة في كل شهر غزوة وسرية بهذا المعدل كانت غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه، لاحظوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بنفسه في سبع وعشرين غزاة، وأخرج سبعين سرية في حياته، وأخرج بعوثًا ورسلًا بالكتب زيادة على ذلك.
وفي خلافة أبي بكر التي لم تدم إلا سنتين وستة أشهر، خرج من الجيوش مثلما خرج في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي خلافة عمر تضاعف العدد، لكن بعد أن فتحت الدنيا أبوابها، تقلص العدد وبدأ في النقصان والتراجع إلى أن وصل إلى ما وصل الحال إليه اليوم، فيولد المسلم في بلاد الإسلام، ويشيب ويموت وينتقل إلى الدار الآخرة ولم يرَ بعثًا طيلة حياته، ولا سرية ولم يخرج في غزو في سبيل الله.
ضعف الجهاد وضياعه بعد جيل الصحابة والتابعين
إن هذه التربية غير تربية النبي صلى الله عليه وسلم وليست تربية أصحابه، ولا هي حياتهم ولا سنتهم أن يعيش المسلم عمره لم يرَ قط بعثًا في سبيل الله.
إن من المؤسف جدًا أن نعيش حياة الذلة والمسكنة، ونحن الأمة التي شرفها الله بأن جعل قائدها خير الرسل، إمام المرسلين، فمن المؤسف جدًا أن نرضى بالذلة والمسكنة، إن الذين ألفوا في التاريخ في صدر هذه الأمة، إنما كانوا يعتنون بما يتعلق بالغزو وإقامة الحج، فهذا خليفة بن خياط المشهور بشباب، وهو شيخ البخاري رحمه الله، ألف كتاباً في التاريخ، فاعتنى في كل سنة بمن قاد الشاتية وبمن قاد الصائفة، وبمن أقام الحج للناس، هذا أهم أحداث سنوات المسلمين، من الذي قاد الشاتية، أي: الفرقة المجاهدة التي تخرج في الشتاء، ومن الذي قاد الصائفة، أي: الفرقة التي تخرج في الصيف، ومن الذي أقام الحج للناس أي: قاد الحج؟
فهذا هو أهم اهتمامات المسلمين في تاريخهم.
ففلان الشاتية إلى جهة كذا، والشاتية إلى جهة كذا، قادها فلان، وهكذا، وقاد فلان الصائفة إلى الصين، وقاد فلان الصائفة إلى القوقاز وهكذا.
فحال المسلمين بعيد جدًا عن حالهم إذ ذاك، وما هذا إلا مصداق لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فالفتن المترتبة على ذلك كثيرة، بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فيها: (فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، وأن تكون الدنيا مبلغ علم الناس، وأكبر اهتمامهم، فهذه هي الفتنة الصماء، فمن جعل الدنيا جُل همه، ومبلغ علمه فسيبيع دينه بعرض من الدنيا، يقدم أعراض هذه الدنيا ومصالحها على علاقته بالله ودينه الذي هو شرفه وقيمته.
إن كثيرًا من الناس قد باعوا دينهم بعرض من الدنيا سواء كان هذا العرض منصبًا أو مالًا، أو مكانة اجتماعية، أو حتى مجرد ذكر بين الناس، وهؤلاء قد وقعوا في هذه الفتنة الدهماء التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك فإن من الفتن التي أنزلت: ما فتن بها الناس بما أوتوا من زخارف هذه الدنيا ومن شهواتها، فقد حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج الشيخان في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت)، فهذا تحذير بالغ من النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، مما يفتح عليها من صنوف مفاتن هذه الدنيا وزخارفها، وقد قال له رجل: (يا رسول الله! أيأتي الخير بالشر؟ فقال: إن الخير لا يأتي بالشر، ولكن من الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم).
خروج الدجال
كذلك فإن من هذه الأشراط التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم: خروج الدجال : (وما بين خلق آدم وقيام الساعة فتنة أعظم منه)، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه أصحابه في كثير من المشاهد والمواقف، وقد كان إذا ذكر أصحابه بـالدجال رعبوا، حتى يظنونه بطائفة النخل، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه إن بعث وهو فينا فهو خصيمه دوننا، وإن يبعث بعده فالله خليفته على كل مسلم، وقال: ( ما من نبي إلا وقد أنذره قومه إلا وإني أنذركموه )، وعلمنا علامة لم يعلمها نبي قبله أمته، وهي أنه: ( أعور عينه اليمنى كأنها عنبة طافئة )، وفي الحديث الآخر: ( أعور عينه اليسرى كأنها عنبة طافية )، وهنا لا تعارض بين هذين الحديثين: فهو أعور عينه اليمنى وأعور عينه اليسرى، لكن عينه اليمنى كأنها عنبة طافئة فعينه اليمنى لا ترى، فهي غائرة صغيرة جدًا، داخلة في مكانها ولا يرى منها، أما عينه اليسرى فهي عوراء أي: قبيحة وهي خارجة عن مكانها، كأنها عنبة طافية، أي: تطفو فوق الماء، فلذلك كلتا عينيه عوراء، لكن عينه اليمنى لا يرى منها، وعينه اليسرى يرى منها، فهي خارجة عن مكانها، وعينه اليسرى داخلة في مكانها، مكتوب بين عينيه (ك، ف، ر) أي: أنه كافر.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخرج بين العراق والشام فيعيث يمينًا وشمالًا، ويمكث في هذه الأرض أربعين يومًا، فاليوم الأول كسنة، واليوم الثاني كشهر، واليوم الثالث كجمعة، وبقية أيامه كأيام الناس، قالوا: ( يا رسول الله! أرأيت اليوم الذي كالسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، بل اقدروا له )، يعني: اقدروا له، يقدر وقت الصلاة على حسب الزمن، (ويعيث يمينًا) أي: يفسد في يمينه، أي: في الشمال، (ويعيث شمالًا) أي: يعيث إلى جهة الجنوب، وبين صلى الله عليه وسلم أنه سيغزو المدينة، فينزل مسالحه، أي: جيوشه من سباخها، ويصعد هو على جبل من جبالها، فيرى المسجد فيقول: ذلك القصر الأبيض، قصر محمد، وعلى أنقابها يومئذٍ الملائكة، ولها يومئذٍ سبعة أبواب، لا يدخل من باب منها إلا اعترضه الملائكة.
ويخرج له أهل المدينة فمن رأى ما هو فيه فتبعه ممن أراد الله به الفتنة، فسيكون شر أهل الأرض، ويخرج له رجل من أهل المدينة فيقول: ( والله إنك للمسيح الدجال الذي حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدعو بمنشار فيضعه على مفرقه فيقسمه به نصفين، ويمشي بينهما ثم يناديه فيقوم وما به بأس، فيقول: والله ما ازددت فيك إلا يقينًا، فيضجعه ليذبحه فيجعل الله ما بين ترقوته وذقنه نحاسًا فلا يسلط عليه، ويمر بالخربة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ويمر بالقوم وهم مخصبون فيكذبونه، فيأمر السماء فتمسك، ويأمر الأرض فتقحط فتروح عليهم مواشيهم، وليس لضروعها لبن، فيمسون وهم في قحط وشدة، ويمر بالقوم وهم في قحط فيصدقونه، فيأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، فتروح عليهم مواشيهم أسبل ما كانت ضروعًا )، كل ذلك من الفتنة التي معه.
ومعه دابة تضع حافرها حيث يقع بصرها لا يدرى قبلها من دبرها، أي: لا يعرف وجهها من قفاها، ويخرج معه على مقدمة جيشه سبعون ألفًا من يهود أصفهان على رءوسهم الطيالسة، والطيالسة: جمع طيلسان وهو ثوب مثلث يوضع على الرءوس، ويخرج معه اليهود عندما يجتمعون في الشام لآخر الحشر، فإن الله تعهد لهم بأن يحشرهم إلى الشام، كما قال تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا[الإسراء:104]، أي: جمعناكم أجمعين إلى الشام، وحين أخرج النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع من المدينة إلى الشام، أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة الحشر، وفيها: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ[الحشر:2]، فأول حشر اليهود إلى الشام، هو إخراج بني قينقاع من المدينة، وسيجتمع اليهود الذين هم من ذرية إسرائيل في الشام، ولا يقتضي ذلك أن يجتمع جميع من هو على ملة اليهود إلى الشام، بل الذين يحشرون إلى الشام هم بنو إسرائيل لقول الله تعالى: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ[الإسراء:104] أي: تفرقوا في الأرض: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا[الإسراء:104]، فمن كان من بني إسرائيل فلا بد أن يأتي إلى الشام، في آخر الزمان، وهنالك تكون الملحمة الكبرى التي حدثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما أخرجه الشيخان في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتقاتلن اليهود فلتقتلنهم حتى يقول الحجر والشجر: يا عبد الله! يا مسلم! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود).
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن مهاجر المسلمين في آخر الزمان الشام، فقال: (يوشك أن يكون خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم )، وقال كذلك فيما أخرج الترمذي في السنن بإسناد حسن: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)، وقال كذلك عندما ذكر الطائفة المنصورة، قال: (هم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس)، وفي الحديث الذي أخرجه البزار في مسنده بإسناد فيه مقال عن نهيك السكوني أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر قتال اليهود فقال: (أنتم يومئذٍ شرقي نهر الأردن وهم غربيه. قال نهيك : ولا أدري ما الأردن يومئذٍ )، فلم يكن يدري ما الأردن يومئذٍ، فأول ما سمع هذه الكلمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن قتال المسلمين لليهود.
كذلك فإنه إذا جاء المسيح وعاث في الأرض وتبعه أهل الفساد وتعزز به اليهود فسيقع خراب المدينة، وهذا شرط آخر من أشراط الساعة، فالمدينة أعمرها الله برسوله صلى الله عليه وسلم، لكنها ستترك على خير ما كانت، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتتركن المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العوافي، قالوا: وما العوافي يا أبا هريرة ؟ قال: عوافي السباع، حتى يأتي ذئب أبيض فيغذي على المنبر لا يرده أحد )، فيغذي على المنبر: أي: يبول عليه لا يرده أحد، ( وآخر من يغشاها، راعيان من مزينة ينعقان بغنميهما حتى إذا بلغا ثنية الوداع انكب على وجوههما ).
وفي حديث آخر أخرجه أحمد في المسند وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( عمران بيت المقدس خراب المدينة، وخراب المدينة فتح رومية، وفتح رومية خروج الدجال )، وسيعمر بيت المقدس أيضًا ويعمره المسلمون، وبعد ذلك تفتح رومية، وهي روما، وتنقل كنوزها وهي ما في كنيستها من الكنوز كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وكنيستها هي كنيسة الفاتيكان اليوم تنقل خيراتها إلى بلاد المسلمين.
نزول المسيح عيسى عليه السلام
وكذلك من هذه الأشراط الكبرى: نزول المسيح ابن مريم عليه السلام، وسينزل وقت صلاة الفجر عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، وهو واضع يمينه على ملك وشماله على ملك، كأنما خرج من ديماس إذا رفع رأسه تحدر معه مثل الجمان من العرق، وإذا طأطأه سال مع عنقه، فيأتي حكمًا عدلًا يحكم بشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينزل وقد أقيمت الصلاة بجامع دمشق وإمامكم منكم، فيقول: يا نبي الله تقدم فصلّ، فيقول: إمامكم منكم، ولا يحل لكافر أن يجد نفَسه إلا مات من حينه، ونفَسه يبلغ حيث يبلغ بصره.
والمسيح ابن مريم عليه السلام يلتقي بـالدجال عند رملة لد، أو عند باب لد، فيقتله، واختلف في طريقة قتله فقد ورد في بعض الآثار: أنه يضربه بسيف، وفي بعضها أنه إذا وجد ن
فمن أشراطها الكبرى: ختم الأنبياء ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد حصل هذا، فقد بعثه الله بين يدي الساعة، وقال: ( بعثت أنا والساعة كهاتين)، وما حصل من امتداد العمر لهذه الأمة كله تشريف لنبيها صلى الله عليه وسلم؛ ليزداد أتباعه يوم القيامة، ويزداد أجره بذلك، وقد قال فيما أخرج عنه البخاري في الصحيحين: (ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة).
وقد حقق الله رجاءه، فجعل أتباعه أكثر أتباع الرسل، ولا يمكن أن يتم هذا إلا بطول الأمد، وقد حصل بين الأمد ما رأيتم، وقد أخذ أهل العلم من باب الإشارة أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة مربيًا ثلاث عشرة سنة، فعاشت دولة الإسلام بعده ثلاثة عشر قرنًا، كل قرن نتاج تربية سنة، فقد سقطت الخلافة بعدما كمل القرن الثالث عشر، وانطمست آثارها، فبهذا كل سنة من العهد المكي يقابلها قرن من قرون هذه الأمة.
وقرون هذه الأمة بين النبي صلى الله عليه وسلم تعددت، وقسمت من ناحية الحكم إلى ثلاثة أقسام:
فقد أخرج أحمد في المسند وغيره من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة وسكت )، فبين النبي صلى الله عليه وسلم مراتب الحكم في هذه الأمة.
فالمرتبة الأولى: مرتبة النبوة والخلافة التي هي على منهاج النبوة، وهذه المرتبة هي خير القرون، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون، القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ).
وقد اختلف أهل العلم في معنى القرن هنا في الحديث: فقالت طائفة منهم: المقصود بالقرن الطبقة، والطبقة من ناحية الرواية فالصحابة رضوان الله عليهم ثلاث طبقات.
وعلى هذا فالصحابة وحدهم ثلاثة قرون:
القرن الأول: هم الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فعاصروا بعثته، وصدقوه وآمنوا به، وجاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الله.
القرن الثاني: هم الذين أسلموا بعد انتشار الإسلام وبعد الفتح، فكانوا مددًا للإسلام، وسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورووا عنه، ويدخل فيهم أولاد الصحابة الذين شبوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
القسم الثالث: الذين ولدوا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي وهم صغار، فلم يحدثوا عنه، أو كان حديثهم عنه بالواسطة وهؤلاء يدخلون في عموم الصحبة؛ لأن تعريف أهل الحديث للصحابي: أنه من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به وعاش معه على الوجه المتعارف في الدنيا، ومات على دينه ولو تخلل ذلك ردة على الصحيح.
فهذه الأقسام الثلاثة هي أقسام الصحابة، وكل واحدة منها طبقة.
وأما القسم الرابع الذي ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة؛ حيث عد القسم الرابع: الذين قيل فيهم إنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت ذلك، وتوسع في العد رحمه الله حتى عد الخضر وحتى عد عيسى بن مريم ، وعد طائفة من الناس اختلف في إسلامها أصلًا، كـحليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اختلف في إسلامها، وعد من هذه الطبقة كذلك أبا طالب ؛ لأن العباس ذكر أنه شهد أن لا إله إلا الله وقت موته ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك! وعلى هذا: فمجرد شهادة العباس لا يمكن أن تدخله في الصحبة، فقد مات على دين عبد المطلب، وعلى هذا فليس هو من المسلمين ولا من الصحابة، ومع ذلك فقد عده الحافظ في القسم الرابع المختلف في صحبتهم بناءً على القول الضعيف أن العباس سمعه: شهد أن لا إله إلا الله، عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا عم: قل كلمة أجادل بها عنك بين يدي الله، قل: لا إله إلا الله ).
فهذا القول الأول، يقتضي أن القرون المفضلة كلها ممن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم ورآه، وقد ختمت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بـأبي الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه، فهو آخر راءٍ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توفي سنة تسع وتسعين بمكة على الراجح، وفي حديث ابن عمر في صحيح البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم العشاء ثم التفت إليهم فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإنه لا يبقى بعد مائة سنة منها على وجه الأرض ذو نفس منفوسة)، فما كملت مائة سنة حتى انتقل كل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختموا كما ذكرنا بــأبي الطفيل رضي الله عنه فقد كان يقول: أنا آخر راءٍ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت طائفة أخرى: بل القرون المقصود بها، لكل قرن منها مائة سنة، وعدوا القرن الأول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوهم قرنًا واحدًا.
والقرن الثاني: هم التابعون الذين أخذوا عنهم ورووا عنهم العلم.
والقرن الثالث: هم أتباع التابعين الذين رووا العلم عن التابعين، والواقع أن الطبقات الثلاث: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين لا يكمل منهم ثلاثمائة سنة، بل إن أتباع التابعين الذين رووا عنهم، مات أكثرهم في نهاية القرن الثاني الهجري، ولم يبقَ منهم بعد القرن الثاني الهجري إلا عدد يسير، ولذلك فإن البخاري رحمه الله قد أدرك بعض الذين أدركوا التابعين وهم قلائل، فأدرك منهم المكي بن إبراهيم ، وكان يقول: كتبت بإصبعي هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أني يحتاج إلي لكتبت عن أكثر، ولذلك فثلاثيات البخاري التي ليس فيها بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة رجال أربعة وعشرون حديثًا، هي من رواية المكي بن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الثلاثيات تمثل هذه القرون حيث روى المكي وهو من أتباع التابعين عن يزيد بن أبي عبيد وهو من التابعين عن سلمة بن الأكوع وهو من الصحابة.
وقالت طائفة أخرى: بل المقصود تمام المئين، وعلى هذا فيستمر القرن الثالث، حتى يشمل أئمة الإسلام كـأحمد بن حنبل و يحيى بن معين ، و البخاري و مسلم ، وأصحاب السنن وغيرهم من الذين ماتوا قبل المائة الثالثة، بل يشمل الذين عاشوا حتى ماتوا في بداية القرن الرابع الهجري كـالنسائي ، فقد مات سنة ثلاثمائة وثلاث، وكـمحمد بن جرير الطبري فقد مات سنة ثلاثمائة وعشر، وكـعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي فقد مات سنة ثلاثمائة وسبعة وعشرين، وعاش عدد من الأئمة في هذا القرن وفيه تطور العلم وانتشر، وألفت فيه مؤلفات الإسلام ودواوينه الكبيرة.
وعمومًا فقد اختلف: هل قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مرتين أو ثلاثًا؟ فلا شك أنه فضل القرن الذين بعث فيهم، ثم ذكر قرنًا بعدهم، لكن اختلف هل ذكر القرن الثالث أم لا، قال ذلك مرتين أو ثلاثًا.
ومن أشراط الساعة كذلك: ختم الوحي عن أهل الأرض، فإن أهل الأرض بدءوا سيرتهم بإهباط آدم إليها، وفي كل فترة من فترات التاريخ ينزل وحي من عند الله تعالى فيه تشريع يناسب الطور الذي تمر به البشرية، فإذا بلغت البشرية نضجها، وخاضت جميع التجارب ختم الله الوحي إلى أهل الأرض بالقرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وختم تنزيل الأحكام فيه بقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3]، وقد أنزلت هذه الآية يوم الجمعة يوم عرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة في حجة الوداع، وعاش بعد ذلك اليوم اثنين وثمانين يومًا، وقد تواتر بعد ذلك الوحي حمية، كما في حديث عائشة رضي الله عنها؛ ( توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي أشد ما يكون تتابعًا )، لكن لم ينزل منه شيء من الأحكام بعد هذه الآية، بل ذكر بعدها ما يدل على انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا كنزول سورة النصر، وهي آخر سورة أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فختم بها نزول السور.
وهذه السورة لمناسبة اسمها تفضيل لهذه الأمة وتشريف لها، حيث كان آخر عهدها بالله سبحانه وتعالى أن نصرها وأنزل عليها سورة النصر، فقال: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:1-3]، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن مهمة الرسالة وأداء هذه الأمانة إلى البشرية قد انتهى بنزول هذه السورة، ومهمته الأولى في هذه الأرض هي بيان الرسالة للناس، وبيان الوحي الذي أنزل إليه، فإذا ختم ذلك وأدي على الوجه الأكمل، وشهد الله له بالتبليغ فإن مهمته قد انتهت، ولذلك خير بين أن يعيش وأن يذهب إلى لقاء الله فاختار لقاء الله.
ولذلك في حديث أبي بكر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ( إن عبدًا خيره الله بين أن يعيش وبين لقائه، فاختار لقاء الله. فبكى أبو بكر فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يبكيك يا أبا بكر )، ولم يفهموا ما فهم أبو بكر ، لذلك فإن أبا بكر فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عبدًا )، أن المقصود بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قد اختار الرفيق الأعلى، وبذلك ينتهي عمره في هذه الدنيا، وقد انتهت مهمته حين أنزل الله عليه: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ[الذاريات:54]، وبقوله: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ المُبِينُ[النور:54]، فقد بلغ رسالات الله وأدى الأمانة وشهد الله له بذلك، ومن هنا: نقله الله إلى دار الكرامة، فليس التعمير في هذه الدنيا كرامة عند الله سبحانه وتعالى، بل التعمير فيها إنما يقصد به زيادة العمل وترجيح كفة الحسنات، وقد زادت كفة حسنات النبي صلى الله عليه وسلم وترجحت بأتباعه وبمن يسير على ملته، فكل عابد لله وموحد يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ثوابه إلى أن تقوم الساعة.
ومن هنا: فإن هذه الدار دار أكدار، فاختار الله له مجاورته، فنقله إلى الرفيق الأعلى، وبذلك انقطع الوحي عن هذه الأرض، وقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين: ( أن أبا بكر قال لـعمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب بنا نزور أم أيمن ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما أتياها، سلما عليها فبكت بكاء شديدًا، فقال لها: وما يبكيك، يا أم أيمن ؟ ألا تدرين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، قالت: أما إني لا أبكي لأني لا أعلم إنما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، ولكني أبكي لانقطاع الوحي عن الأرض، فبكيا لبكائها )، فهذا شرَط كبير من أشراط الساعة وهو انقطاع الوحي عن هذه الأرض، فلم يبقَ إلا اجتهادات الناس بعد انقطاع الوحي.
وقبل أن ينقطع الوحي، يمكن أن يجتهد الناس فإما أن يقروا على اجتهادهم بالوحي، وإما أن يرد عليهم اجتهادهم بالوحي، أما بعد انقطاع الوحي فلم يبقَ إلا الاجتهادات يأتمن الله سبحانه وتعالى أهل العلم، على ما ائتمنهم عليه من الوحي، ويوجب عليهم أن يبذلوا اجتهاداتهم في بيان أحكام الله سبحانه وتعالى، وطلب الوصول إلى الحق، وهم بذلك لا يدرون هل يوفقون للصواب أم لا يوفقون له، ولهذا كان مالك رحمه الله تعالى يقول في الاجتهادات: إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين.
ثم من هذه الأشراط كذلك: ما يأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم مما حدثنا عنه، فقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم بأمور عظام تقع بعد موته صلى الله عليه وسلم.
ففي صحيح البخاري أنه استيقظ ليلة، فقال: (لا إله إلا الله، ماذا أنزل من الفتن، وماذا فتح من الخزائن، أيقظوا صواحب الحجرات أو الحجر، فيا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)، فتلك الليلة اطلع النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي على ما فتح من الخزائن وما أنزل من الفتن، فخزائن خيرات هذه الأرض، وما فيها من المال، قد فتحت في تلك الليلة، واختار الله رسوله صلى الله عليه وسلم لئلا يشهدها، وهذا يدلنا على أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في عشرين مدًا من الشعير، وانتقل من هذه الدنيا ولم يتعجل شيئًا من أجره، وانتقل أصحابه كذلك على هذا الوجه، فعندما فتحت عليهم خزائن كسرى وقيصر أنفقوها في سبيل الله، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: (ولتفتحن عليكم كنوز كسرى وقيصر فلتنفلنها في سبيل الله).
وصح في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف، و سعد بن أبي وقاص وغيرهما: ( أن عبد الرحمن كان صائمًا، فقدمت له مائدة الإفطار ليفطر، فلما وضعت بين يديه رأى عليها صنوفًا من الطعام، فبكى بكاءً شديدًا حتى أبكى من حوله، فقال: يا أبا المنذر! وما يبكيك؟ قال: إنا كنا أهل جاهلية فبعث الله إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم فآمنا به وصدقناه، وجاهدنا معه، فمنا من مات ولم يتعجل من أجره شيئًا، منهم أخي مصعب بن عمير ، مات يوم مات وليس معه إلا بردة، إن سترنا بها رأسه بدت رجلاه، وإن سترنا رجليه بدا رأسه، فمات ولم يتعجل شيئًا من أجره، وخلفنا بعدهم فأثمرت علينا الدنيا فنحن نهدم ثمراتها، فخشينا أن يقال لنا يوم القيامة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا[الأحقاف:20]، فرفعت المائدة وبكى من حوله ).
حصلت هذه القصة لـعبد الرحمن بن عوف ، وحصلت لـسعد بن أبي وقاص ، وحصلت كذلك لـعتبة بن غزوان ، وكل هؤلاء تذكروا حالهم عندما كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يشدون الحجارة على بطونهم من الجوع، وقد أخرج البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: ( والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما لنا زاد إلا ورق السمر وهذه الحبلة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام. خبت إذناً وضل سعيي ).
وكذلك عن عتبة بن غزوان رضي الله عنه أنه قال: ( لقد رأيتنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا زاد إلا ورق الشجر، ولقد خرج سعد بن مالك ذات ليلة لحاجته فوقع بوله على شيء فأخذه فإذا هو جلد، فغسله وشواه فأكلناه، ولقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو والٍ على مصر من الأمصار ).
إن الخزائن التي فتحت منذرة بقيام الساعة، فيها ضريبة لابد منها وهي ما يلازمها من الفتن، عندما فتحت الخيرات على المسلمين من الفتوح التي حصلت في خلافة عمر بن الخطاب وفي أول خلافة عثمان رضي الله عنهما، بدأ جيل من المسلمين ينشأ على الرفاهية وكثرة الأموال، وكان هذا الجيل سببًا للفتنة، وهم الذين شاركوا في قتل عثمان والخروج عليه، وهم الذين شاركوا كذلك في الخروج على علي وقتله، فهم جيل نشأوا في الرفاهية، أما الجيل الذي نشأ في الشدة والجهاد، فقد كانوا كما قال علي رضي الله عنه، حين سأله رجل من الخوارج، فقال: (يا أمير المؤمنين! ما لك اختلف الناس عليك وعلى عثمان ، واتفقوا على أبي بكر و عمر ؟ فقال: اتفق الناس على أبي بكر و عمر حين كان الناس أنا و عثمان ، واختلف الناس عليّ وعلى عثمان حين كان الناس أنت وأمثالك).
فالفرق شاسع بين أولئك الذين تربوا تلك التربية الأصلية الصحيحة، وبين الذين نشأوا بعد ذلك.
كذلك فإن الخزائن التي فتحت هي سبب للانشغال عن الجهاد في سبيل الله، وقد أخرج أحمد في المسند و أبو داود في السنن وغيرهما من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني عن عطاء عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا يرفعه عنكم، حتى ترجعوا إلى دينكم)، وإن هذا الحال مشاهد فقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الأمة في بداية نشأتها في السنة الأولى من الهجرة كانت هناك ثلاث غزوات، وفي السنوات اللاحقة في كل شهر غزوة وسرية بهذا المعدل كانت غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه، لاحظوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بنفسه في سبع وعشرين غزاة، وأخرج سبعين سرية في حياته، وأخرج بعوثًا ورسلًا بالكتب زيادة على ذلك.
وفي خلافة أبي بكر التي لم تدم إلا سنتين وستة أشهر، خرج من الجيوش مثلما خرج في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي خلافة عمر تضاعف العدد، لكن بعد أن فتحت الدنيا أبوابها، تقلص العدد وبدأ في النقصان والتراجع إلى أن وصل إلى ما وصل الحال إليه اليوم، فيولد المسلم في بلاد الإسلام، ويشيب ويموت وينتقل إلى الدار الآخرة ولم يرَ بعثًا طيلة حياته، ولا سرية ولم يخرج في غزو في سبيل الله.
إن هذه التربية غير تربية النبي صلى الله عليه وسلم وليست تربية أصحابه، ولا هي حياتهم ولا سنتهم أن يعيش المسلم عمره لم يرَ قط بعثًا في سبيل الله.
إن من المؤسف جدًا أن نعيش حياة الذلة والمسكنة، ونحن الأمة التي شرفها الله بأن جعل قائدها خير الرسل، إمام المرسلين، فمن المؤسف جدًا أن نرضى بالذلة والمسكنة، إن الذين ألفوا في التاريخ في صدر هذه الأمة، إنما كانوا يعتنون بما يتعلق بالغزو وإقامة الحج، فهذا خليفة بن خياط المشهور بشباب، وهو شيخ البخاري رحمه الله، ألف كتاباً في التاريخ، فاعتنى في كل سنة بمن قاد الشاتية وبمن قاد الصائفة، وبمن أقام الحج للناس، هذا أهم أحداث سنوات المسلمين، من الذي قاد الشاتية، أي: الفرقة المجاهدة التي تخرج في الشتاء، ومن الذي قاد الصائفة، أي: الفرقة التي تخرج في الصيف، ومن الذي أقام الحج للناس أي: قاد الحج؟
فهذا هو أهم اهتمامات المسلمين في تاريخهم.
ففلان الشاتية إلى جهة كذا، والشاتية إلى جهة كذا، قادها فلان، وهكذا، وقاد فلان الصائفة إلى الصين، وقاد فلان الصائفة إلى القوقاز وهكذا.
فحال المسلمين بعيد جدًا عن حالهم إذ ذاك، وما هذا إلا مصداق لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فالفتن المترتبة على ذلك كثيرة، بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فيها: (فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، وأن تكون الدنيا مبلغ علم الناس، وأكبر اهتمامهم، فهذه هي الفتنة الصماء، فمن جعل الدنيا جُل همه، ومبلغ علمه فسيبيع دينه بعرض من الدنيا، يقدم أعراض هذه الدنيا ومصالحها على علاقته بالله ودينه الذي هو شرفه وقيمته.
إن كثيرًا من الناس قد باعوا دينهم بعرض من الدنيا سواء كان هذا العرض منصبًا أو مالًا، أو مكانة اجتماعية، أو حتى مجرد ذكر بين الناس، وهؤلاء قد وقعوا في هذه الفتنة الدهماء التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك فإن من الفتن التي أنزلت: ما فتن بها الناس بما أوتوا من زخارف هذه الدنيا ومن شهواتها، فقد حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج الشيخان في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت)، فهذا تحذير بالغ من النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، مما يفتح عليها من صنوف مفاتن هذه الدنيا وزخارفها، وقد قال له رجل: (يا رسول الله! أيأتي الخير بالشر؟ فقال: إن الخير لا يأتي بالشر، ولكن من الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم).
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4830 استماع |
بشائر النصر | 4289 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4133 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4060 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 4000 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3947 استماع |
عداوة الشيطان | 3934 استماع |
اللغة العربية | 3931 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3908 استماع |
القضاء في الإسلام | 3897 استماع |