شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 310-312


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

نحمد الله تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

وعن جبير بن مطعم قال: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ).

تخريج الحديث

يقول المصنف: متفق عليه، وهذا الحديث رواه البخاري في كتاب الأذان، باب الجهر في صلاة المغرب.

ورواه مسلم أيضاً في كتاب الصلاة، باب القراءة في الصبح.

ورواه أيضاً مالك في موطئه في كتاب الصلاة، باب القراءة في المغرب والعشاء.

وقد بينت الروايات الكثيرة في هذا الحديث، أن مجيء جبير رضي الله عنه كان عقب غزوة بدر، وكان جاء في فكاك وفداء بعض الأسارى، ففي صحيح البخاري مثلاً: أن جبيراً رضي الله عنه قال: ( وكان ذلك في فداء أسارى بدر )، ونحوه أيضاً في صحيح ابن حبان، وزاد الإسماعيلي في مستخرجه قال: ( وهو يومئذ مشرك ) .

وروى البخاري أيضاً في موضع آخر غير كتاب الأذان، بل في كتاب المغازي والسير، قال جبير : ( وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي ) يعني: لما سمع الآية دخل الإسلام في قلبه.

وفي رواية عند الطبراني قال: ( فأخذني من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرب )، بل في رواية أخرى في صحيح البخاري أيضاً أنه قال: ( فلما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى: (( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ))[الطور:35-37] قال: كاد قلبي أن يطير ) .

وفي رواية عند سعيد بن منصور قال: ( فكأنما صدع قلبي حين سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ) .

الأحاديث المتعلقة بالقراءة في صلاة المغرب

وهذا الحديث -حديث جبير - يتعلق بالقراءة في صلاة المغرب، ولذلك كان من المستحسن أن أذكر لكم الأحاديث الواردة في القراءة في صلاة المغرب.

الحديث الأول: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور)

فالحديث الأول الوارد في صلاة المغرب: هو حديث الباب حديث جبير بن مطعم، وهو المتفق عليه: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ) ولا شك أن الطور من طوال المفصل.

الحديث الثاني: (... سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بطولى الطوليين)

الحديث الثاني: هو حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه وقد سبق، وهو في صحيح البخاري : ( أنه قال لـمروان بن الحكم وكان يومئذ أميراً على المدينة : إني أراك تقرأ بقصار في المغرب -يعني: بقصار المفصل- وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بطولى الطوليين ) يعني: سورة الأعراف، وهذا الحديث حديث زيد بن ثابت، ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ كل سورة الأعراف في المغرب أو بعضها؟

بل كلها؛ لأنه لو كان قرأ بعضها لم يكن فيه حجة لـزيد بن ثابت ؛ لأنه إن كان قرأ بعضها، يكون قد قرأ من سورة الأعراف قدر سورة من قصار المفصل، وإلا ما يصير؟

إذاً: احتجاج زيد رضي الله عنه بقراءة الأعراف على مروان، دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الأعراف كلها في الركعتين، بل جاء هذا مصرحاً به في بعض الروايات.

إذاً: فلا وجه لما زعمه الإمام الطحاوي رحمه الله، من أن المقصود أن يكون قرأ بعضها، وأن قوله: (يقرأ بطولى الطوليين) أن الباء للتبعيض، كما في قوله: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:6] (بها) يعني: منها، وأنه يكون المعنى قرأ بعض الأعراف، كلا، بل هو قرأها كلها، وقد جاء الحديث من طريق عائشة وسنده حسن، كما ذكره النووي، وأسلفت ذكره في الدرس السابق.

وكذلك في حديث زيد بيان قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب بالسور الطوال أحياناً، وأن ذلك يقع منه صلى الله عليه وآله وسلم، وليس بمنسوخ خلافاً لما زعمه بعضهم كما سيأتي.

الحديث الثالث: (... سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب) أي: المرسلات

الحديث الثالث الوارد في القراءة في المغرب: هو حديث ابن عباس رضي الله عنه، وهو أيضاً في الصحيحين: ( أن أم الفضل سمعته وهو يقرأ في المغرب سورة: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا [المرسلات:1]، فقالت له: يا بني! لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر سورة سمعت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بها في المغرب ) وهذا الحديث فيه أيضاً بيان أنه يقرأ عليه الصلاة والسلام أحياناً في المغرب بأواخر المفصل، كسورة المرسلات، وقد يعدها بعضهم من الطوال.

على كل حال! أنه يقرأ بأواسط المفصل وأن هذا غير منسوخ كما سلف؛ لأن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وسماع أم الفضل كان في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، فقد قالت: (إنها لآخر سورة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب)، بل جاء في رواية عند النسائي في سننه، أن ذلك كان في مرض موت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: ( أنه صلى بهم عليه الصلاة والسلام في مرض موته متوشحاً في ثوب، وأنه لم يصل صلى الله عليه وسلم بهم بعدها حتى قبض ) فدل على أن ذلك كان في مرض موته، وهذا يرد على ما زعمه أبو داود في سننه، من أن قراءة الطوال في المغرب منسوخ، لأن هذا ليس بمنسوخ، بل هو في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، وربما يدعي أحد عكس ذلك، فيقول: إنه ناسخ لغيره، ولكن لا حاجة إلى القول بالنسخ، فإن النسخ إنما يلجأ إليه عند تعارض الأدلة، وعدم إمكان الجمع بينها على وجه صحيح.

الحديث الرابع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهم في المغرب: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) )

الدليل الرابع في القراءة في المغرب: هو ما رواه ابن حبان في صحيحه، عن ابن عمر رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهم في المغرب بقوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:1] ) وهي سورة محمد، أو سورة القتال، فقرأها في صلاة المغرب، وهي أيضاً تعتبر من الطوال.

الحديث الخامس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهم في المغرب سورة الكافرون...)

الدليل الخامس: هو ما رواه ابن ماجه عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهم في المغرب سورة (الكافرون) في الركعة الأولى، وسورة (الإخلاص) في الركعة الثانية ) وهذا الحديث أسلفت الإشارة إليه، ظاهر إسناد هذا الحديث الصحة، إلا أن الحقيقة أن الحديث معلول ليس بثابت، وأن الصحيح أنه قرأهما الرسول صلى الله عليه وسلم في راتبة المغرب، ليس في الفريضة، ولذلك قال الدارقطني في هذا الحديث: أخطأ فيه بعض رواته، وإنما قرأهما الرسول صلى الله عليه وسلم في راتبة المغرب، وقراءته لهما بالراتبة ثابت بأسانيد صحاح.

ومثله أيضاً ما رواه ابن حبان عن جابر بن سمرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهم في المغرب بـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ) وهذا الحديث فيه سعيد بن سماك وهو متروك، فلا يتعزز به غيره، والمحفوظ هي القراءة في المغرب في الراتبة لا في الفريضة، كما سلف.

الحديث السادس: (ما رأيت أحداً أشبه بصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم من فلان وكان يقرأ في المغرب بقصار المفصل)

السادس: هو حديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة وقد سبق: ( أنه صلى خلف إمام في المدينة، وكان يقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ما رأيت أحداً أشبه بصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم من فلان -يعني: إمامهم هذا- وكان يقرأ في المغرب -كما يقول سليمان بن يسار نفسه- بقصار المفصل )، وهذا يشعر بالمواظبة على قراءته بقصار المفصل، لكن في الاستدلال بهذا الحديث نظر.

وهو أن هذا من فعل فلان هذا، وليس من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقول أبي هريرة أنه لم ير أحداً، أو لم يصل خلف أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم منه، لا يلزم من أن يكون مماثلاً للرسول عليه الصلاة والسلام في كل تفاصيل صلاته، بل قد يكون في غالبها، ومع ذلك يصدق عليه كلام أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فليس نصاً في الباب، وإن كان مما يستدل به على القراءة في المغرب بقصار المفصل.

الحديث السابع: (.. أن عمر كتب إلى أبي موسى: اقرأ في المغرب آخر المفصل..)

الدليل السابع: هو ما رواه الطحاوي عن زرارة بن أوفى أنه قال: (أقرأني أبو موسى الأشعري رضي الله عنه كتاب عمر إليه، وفيه: أن عمر كتب إلى أبي موسى: اقرأ في المغرب آخر المفصل، وآخر المفصل من سورة (لم يكن) إلى آخر القرآن).

الحديث الثامن: (.. قدمت المدينة في خلافة أبي بكر فصليت خلفه فقرأ في الأوليين بأم القرآن وسورة سورة من قصار المفصل)

الدليل الثامن: حديث أبي عبد الله الصنابحي، وهو أنه قال: [ قدمت المدينة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فصليت خلفه المغرب، فقرأ في الأوليين بأم القرآن، وسورة سورة من قصار المفصل، ثم قام إلى الثالثة فاقتربت منه، حتى إن ثوبي يكاد أن يمس ثيابه، فسمعته يقرأ بعد الفاتحة: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا [آل عمران:8] ] .

الحديث التاسع: (أنهم يخرجون من صلاة المغرب وأحدهم يبصر مواقع نبله)

الدليل التاسع: هو حديث رافع بن خديج وقد سبق: ( أنهم يخرجون من صلاة المغرب، وأحدهم يبصر مواقع نبله ) وهو في الصحيح.

الحديث العاشر: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بالصافات والدخان والأعلى والتين والمعوذتين

الدليل العاشر أنقله على عهدة الإمام الحافظ ابن عبد البر، قال في التمهيد في الجزء التاسع: ( وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بالصافات، وقرأ بحم الدخان، وقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، وقرأ بالتين، وقرأ بالمعوذتين ) ثم قال: وهي آثار صحاح مشهورة. وفي بعض ما قاله الإمام الحافظ ابن عبد البر نظر؛ فإنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ببعض ذلك، لكن ليس في المغرب، وإنما بعضه في العشاء.. أو في غيرها.

خلاصة مسألة القراءة في صلاة المغرب

إذاً: هذه هي أهم الأدلة الواردة في القراءة في صلاة المغرب، ومنها نخلص إلى أنه ليس هناك دليل صريح صحيح على القاعدة التي ذكرناها قبل قليل، أنه يقرأ في المغرب غالباً بقصار المفصل، ليس فيه دليل صحيح يمسك باليد على هذه القاعدة، وإن كانت قاعدة مشهورة عند الفقهاء، ومتداولة بينهم، ولكن يمكن أن يقال: إن القاعدة العامة في صلاة المغرب هي التخفيف، والتخفيف يتفاوت، فهو أمر نسبي يختلف من إمام إلى آخر، كما سوف يذكره الإمام الحافظ ابن عبد البر، فإنه قال في التمهيد أيضاً: إن القراءة في الصلاة ليس فيها توقيت. يعني: فيما يقرأ من الآيات والسور. قال: إن القراءة في الصلاة ليس فيها توقيت، والقراءة بالمرسلات ومثلها جائز في المغرب. قال هذا تعليقاً على حديث ابن عباس رضي الله عنه.

وفي موضع آخر أيضاً من الجزء التاسع من التمهيد قال: وأهل العلم يستحبون أن يقرأ في المغرب بقصار المفصل، قال: ولعل ذلك آخر الأمرين -يلتمس لهم دليلاً- من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكون ذلك منه إباحة وتخييراً، فيكون دليلهم على هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من أم الناس فليخفف وليقصر ) قال: والحمد لله الذي جعل في ديننا سعة وتيسيراً وتخفيفاً.

وأجود من ذلك كلام الإمام ابن دقيق العيد، فإنه قال في إحكام الأحكام: الصحيح عندنا أن ما صح في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما لم تكثر مواظبته عليه فهو جائز من غير كراهة، كحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالطور، وكحديث قراءة النبي صلى الله عليه وسلم الأعراف في صلاة المغرب.

ومثله أيضاً قول الإمام ابن خزيمة في صحيحه فإنه قال: هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلي أن يقرأ بما أحب من القرآن، إلا إن كان إماماً، فإن السنة في حقه أن يخفف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أم بالناس فليخفف ) .

وقد جمع الحافظ ابن حجر في فتح الباري بين هذه الأحاديث، وذكر أن طريق الجمع بين هذه الآثار: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يطيل القراءة في صلاة المغرب، وإطالته تلك إما لبيان الجواز، وأن إطالة المغرب جائزة لا حرج فيها، وإما لعلمه صلى الله عليه وسلم بعدم المشقة على المأمومين، في هذه الإطالة، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراعي حال المأمومين، فلا يطيل عليهم إطالة تشق عليهم، كما إذا كانوا متعبين، أو كانوا في حال سفر أو إعياء أو شغل.. أو ما أشبه ذلك، وقد عاتب معاذاً على إطالته ببعض الناس، الذين يأتون من مزارعهم متعبين، وقال له: ( أفتان أنت يا معاذ ؟ ) وذلك في صلاة العشاء، على ما سبق وسيأتي إن شاء الله.

فوائد الحديث

في هذا الحديث فوائد، منها: أولاً: الجهر في صلاة المغرب، أن صلاة المغرب جهرية في ركعتيها الأوليين؛ وذلك لأن جبيراً

رضي الله عنه قال: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور)، وفي رواية أخرى قال: (بالطور وكتاب مسطور)، وفي رواية ثالثة: ( أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ))[الطور:7-8] )، وفي الرواية الرابعة في صحيح البخاري

أشرت إليها قبل قليل، أنه قال: ( فلما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى: (( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ ))[الطور:35-36] الآية. قال: كاد قلبي أن يطير ) وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالسورة كلها فلا يقولن قائل: لعله جهر ببعض الآيات، كما في حديث أبي قتادة

: ( ويسمعنا الآية أحياناً ) لا، بل إنه جاء في رواية من حديث جبير

رضي الله تعالى عنه، أنه قال: ( فاستمعت لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى خرجت من المسجد ) ولذلك قال الإمام النووي

رحمه الله في المجموع : السنة الجهر في الأوليين من المغرب والعشاء والفجر والجمعة، والإسرار في الثالثة من المغرب والعشاء، والرابعة منها، وفي الظهر والعصر، قال: ذلك كله للإمام، وقال: هذا ثابت بإجماع المسلمين، مع الأحاديث الصحيحة المتظاهرة على ذلك. ونحو هذا الكلام قاله الإمام ابن حزم

في كتابه مراتب الإجماع، وأقره عليه الإمام ابن تيمية

. ومثله أيضاً كلام الإمام ابن قدامة

في المغني، وقد سبق أن نقلته. فهو دليل على أن الجهر فيما يجهر والإسرار فيما يسر أنه ثابت بالإجماع. الفائدة الثانية من الحديث: هي صحة أداء ما تحمله الإنسان حال الكفر، إذا أداه حال الإسلام، فإن جبيراً

تحمل هذه القصة، من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر؛ لأنه جاء في أسارى بدر، وهو يومئذ مشرك، كما قال الإسماعيلي

، ولكنه أدى هذه الرواية وذكرها بعدما أسلم. إذاً: دليل على أن الكافر إذا روى أو شهد قصة حال كفره، ثم حدث بها حال إسلامه، فإنه يصح منه ذلك، وهذا نموذج لهذه القصة، ومن باب أولى، فإنه دليل على صحة أداء ما تحمله وهو فاسق، إذا أداه وهو عدل، أو صحة أداء ما تحمله وهو مبتدع، إذا أداه وهو صاحب سنة؛ لأن هذا كله من باب الأولى. كما أن من فوائد الحديث: بيان ما يقرأ به في صلاة المغرب، وأنه يشرع له أن يقرأ في المغرب أحياناً بطوال المفصل، وفيه جواز دخول الكافر المسجد لحاجة، كما هو ظاهر أن جبيراً

رضي الله تعالى عنه دخل المسجد لحاجته.

يقول المصنف: متفق عليه، وهذا الحديث رواه البخاري في كتاب الأذان، باب الجهر في صلاة المغرب.

ورواه مسلم أيضاً في كتاب الصلاة، باب القراءة في الصبح.

ورواه أيضاً مالك في موطئه في كتاب الصلاة، باب القراءة في المغرب والعشاء.

وقد بينت الروايات الكثيرة في هذا الحديث، أن مجيء جبير رضي الله عنه كان عقب غزوة بدر، وكان جاء في فكاك وفداء بعض الأسارى، ففي صحيح البخاري مثلاً: أن جبيراً رضي الله عنه قال: ( وكان ذلك في فداء أسارى بدر )، ونحوه أيضاً في صحيح ابن حبان، وزاد الإسماعيلي في مستخرجه قال: ( وهو يومئذ مشرك ) .

وروى البخاري أيضاً في موضع آخر غير كتاب الأذان، بل في كتاب المغازي والسير، قال جبير : ( وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي ) يعني: لما سمع الآية دخل الإسلام في قلبه.

وفي رواية عند الطبراني قال: ( فأخذني من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرب )، بل في رواية أخرى في صحيح البخاري أيضاً أنه قال: ( فلما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى: (( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ))[الطور:35-37] قال: كاد قلبي أن يطير ) .

وفي رواية عند سعيد بن منصور قال: ( فكأنما صدع قلبي حين سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ) .

وهذا الحديث -حديث جبير - يتعلق بالقراءة في صلاة المغرب، ولذلك كان من المستحسن أن أذكر لكم الأحاديث الواردة في القراءة في صلاة المغرب.

فالحديث الأول الوارد في صلاة المغرب: هو حديث الباب حديث جبير بن مطعم، وهو المتفق عليه: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ) ولا شك أن الطور من طوال المفصل.