شرح جامع الترمذي أبواب الطهارة [1]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله: [ أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

باب ما جاء: (لا تقبل صلاة بغير طهور).

حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا أبو عوانة ، عن سماك بن حرب ، ح وحدثنا هناد ، حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول). قال هناد في حديثه: إلا بطهور ].

هذا الكتاب، أي: كتاب جامع الإمام الترمذي أحد كتب السنن، وسمي جامعاً لأنه يجمع ما يتعلق بالأحكام والآداب والتفسير وغير ذلك، وهو من الجوامع العظيمة التي جمع فيه رحمه الله أحاديث الأحكام وغيرها، وأضاف إلى ذلك تخريج الأحاديث وكلام العلماء وخلاف الفقهاء، فهو رحمه الله جمع في هذا الكتاب أقوال الفقهاء وخلاف العلماء في المسائل، وذلك بعد أن يذكر الأحاديث، فدل ذلك على أن الترمذي رحمه الله عنده علم عظيم، وإلمام عظيم بكلام العلماء وخلافهم في المسائل؛ لأنه يذكر الحديث في الترجمة، ثم يذكر الحديث ثم يخرجه، ثم يذكر كلام الفقهاء واختلافهم في المسألة.

وقد بدأ رحمه الله تعالى بكتاب الطهارة على عادة المؤلفين في البدء في العبادات؛ لأنها مفتاح للصلاة وشرط يتقدم عليها، وهذا الحديث قد أخرجه مسلم في صحيحه: (لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بطهارة، وكذلك إذا تصدق إنسان من غلول فلا يقبل منه، والغلول هو: ما يسرقه من الغنيمة قبل القسمة. وهو من الكبائر.

[ قال أبو عيسى : هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن.

وفي الباب عن أبي المليح عن أبيه وأبي هريرة وأنس رضي الله عنهم. وأبو المليح بن أسامة اسمه عامر ، ويقال: زيد بن أسامة بن عمير الهذلي ].

ومن خصائص جامع الإمام الترمذي أيضاً: أنه يتكلم على الرواة، ويذكر أيضاً ما في الباب من الأحاديث التي تعضد ما ذكره.

فلو قال قائل: ما منزلة جامع الترمذي بين السنن الأربع؟

الجواب: فيه خلاف، فبعضهم قدم سنن أبي داود ، وبعضهم قدم النسائي ، وبعضهم قدم جامع الترمذي لهذه الميزة، ويمتاز أيضاً بذكر ما في الباب من المسائل، والكلام على بعض الرواة، ونقل كلام الفقهاء، وغيرها من الميزات التي ليست موجودة في غيره.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب ما جاء في فضل الطهور.

حدثنا إسحاق بن موسى بن الأنصاري ، حدثنا معن بن عيسى القزاز ، حدثنا مالك بن أنس ، ح وحدثنا قتيبة ، عن مالك ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأ العبد المسلم، أو المؤمن، فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، أو نحو هذا، وإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب) ].

هذا الحديث فيه فضل الطهور، وأن الوضوء من أسباب تكفير الذنوب، فإذا توضأ المسلم صار وضوءه من أسباب تكفير الخطايا، فقوله: (إذا غسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، وإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، وإذا غسل رجليه خرجت من رجليه كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء) المراد بها: الصغائر إذا اجتنبت الكبائر، فإذا اجتنبت الكبائر كفر الله الخطايا، وكذلك الصلوات الخمس يكفر الله بهن الخطايا، ورمضان والجمع كما في حديث أبي هريرة عند مسلم : (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر).

[ قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح، وهو حديث مالك عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

و أبو صالح والد سهيل هو أبو صالح السمان ، واسمه: ذكوان ، وأبو هريرة اختلف في اسمه، فقالوا: عبد شمس ، وقالوا: عبد الله بن عمرو ، وهكذا قال محمد بن إسماعيل وهو الأصح ].

إن المشهور أن عبد الله بن عمرو هو عبد الرحمن بن صخر ، قال الحافظ ابن حجر في التقريب: أبو هريرة الدوسي ، الصحابي الجليل حافظ الصحابة اختلف في اسمه واسم أبيه، فقيل: عبد الرحمن بن صخر ، وقيل: ابن غنم ، إلى أن ذكر تسعة عشر قولاً، ثم قال: هذا الذي وقفنا عليه من الاختلاف، واختلف في أيها أرجح، فذهب الأكثرون إلى الأول، أي: عبد الرحمن بن صخر ، وذهب جمع من النسابين إلى عمرو بن عامر . انتهى.

[ قال أبو عيسى : وفي الباب عن عثمان بن عفان وثوبان والصنابحي وعمرو بن عبسة وسلمان وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.

و الصنابحي الذي روى عن أبي بكر الصديق ليس له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه: عبد الرحمن بن عسيلة ، ويكنى أبا عبد الله ، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث.

و الصنابح بن الأعسر الأحمسي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: الصنابحي أيضاً، وإنما حديثه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني مكاثر بكم الأمم فلا تقتتلن بعدي) ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور.

حدثنا قتيبة وهناد ومحمود بن غيلان قالوا: حدثنا وكيع عن سفيان ، ح وحدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) ].

هذا الحديث فيه عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيئ الحفظ وفيه ضعف.

[ قال أبو عيسى : هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن. وعبد الله بن محمد بن عقيل هو صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه.

قال أبو عيسى : وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجون بحديث عبد الله بن محمد بن عقيل . قال محمد : وهو مقارب الحديث ].

فيرىالبخاري الاستشهاد به إذا لم يخالف.

وهذا الحديث قد أخرجه الشافعي وأحمد والبزار وأصحاب السنن إلا النسائي ، وصححه الحاكم وابن السكن من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن ابن الحنفية ، عن علي رضي الله عنه.

قال البزار : لا يعلم عن علي إلا من هذا الوجه.

وقال أبو نعيم : تفرد به ابن عقيل عن ابن الحنفية عن علي . وقال العقيلي : في إسناده لين، وهو أصلح من حديث جابر وقد نقل المؤلف عن البخاري وقال في الشرح: هذا من ألفاظ التعديل، وقد تقدم تحقيقه في المقدمة.

قال الحافظ الذهبي في الميزان في ترجمة عبد الله بن محمد بن عقيل بعد ذكر أقوال الجارحين والمعدلين: حديثه في مرتبة الحسن. انتهى.

وإذا قال: فيه نظر فهو للتضعيف؛ لأن كلمات البخاري رحمه الله ليس فيها جرح، كما في قوله عنه: هو مقارب الحديث. والظاهر أنه تعديل، أي: أنه من ألفاظ التعديل لا الجرح.

قال الشارح: والراجح المعول عليه: هو أن حديث علي المذكور حسن يصلح للاحتجاج، وفي الباب أحاديث أخرى كلها يشهد له.

وذكر ابن القيم رحمه الله أن عبد الله بن عقيل هو الذي روى حديث المظالم، وفيه إثبات الصوت لله عز وجل، وأن أهل البدع ردوا الحديث؛ لأنهم أنكروا أن يكون الصوت من كلام الله عز وجل، وقالوا: إن عبد الله بن عقيل سيئ الحفظ.

وقال: إن هذه علة باردة، وكل أهل الحديث يردونها، وإنما ينتفي حديث هذا الضرب ما خالفوا فيه الثقات، وهذا مما وافقوا فيه الثقات، فـعبد الله بن عقيل إذا خالف غيره، أي: إذا خالف الثقات ممكن، أما إذا وافق الثقات فالأصل فيه السلامة.

قال أبو عيسى : وفي الباب عن جابر وأبي سعيد .

حدثنا أبو بكر محمد بن زنجويه البغدادي وغير واحد، قال: حدثنا الحسين بن محمد ، حدثنا سليمان بن قرم ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الوضوء) ].

في سند هذا الحديث سليمان بن قرم -بفتح القاف وسكون الراء- ابن معاذ أبو داود البصري النحوي ، ومنهم من ينسبه إلى جده، سيئ الحفظ يتشيع.

وفي سند الحديث أيضاً أبو يحيى القتات -بقاف ومثناة مثقلة وآخره مثناة أيضاً- الكوفي، اسمه: زاذان . وقيل: دينار . وقيل: مسلم . وقيل: يزيد . وقيل: زبان . وقيل: عبد الرحمن لين الحديث من السادسة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب ما يقول إذا دخل الخلاء.

حدثنا قتيبة وهناد قالا: حدثنا وكيع ، عن شعبة ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك) -قال شعبة : وقد قال مرة أخرى: (أعوذ بك- من الخبث والخبيث. أو: الخبث والخبائث) ].

هذا الحديث ثابت، وقد أخرجه البخاري ومسلم ، ورواه أصحاب السنن أيضاً: النسائي وأبو داود ، والترمذي .

وفيه شرعية هذا الذكر، وأنه يستحب للإنسان أن يقول عن دخوله الخلاء: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث). يقول: بسم الله -هذه من الأدلة العامة عند دخول الخلاء- ثم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).

وقد ثبتت زيادة باسم الله مع التعوذ، فروى العمري حديث الباب بلفظ: (إذا دخلتم الخلاء فقولوا: باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث) قال الحافظ في الفتح: إسناده على شرط مسلم .

والحديث الآخر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا دخل أحدكم فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) فإذا قال العبد هذا الدعاء لم تحضره الشياطين. والخبث: ذكران الشياطين، والخبائث: إناثهم، فإذا قال: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، زال وخرج، فهذه حماية، وهو ذكر عظيم مستحب عند دخول الخلاء، وإذا كان في الصحراء، فعند قربه لقضاء الحاجة يقول هذا الذكر.

[ قال أبو عيسى : وفي الباب عن علي وزيد بن أرقم وجابر ، وابن مسعود رضي الله عنهم.

قال أبو عيسى : حديث أنس أصح شيء في هذا الباب وأحسن.

وحديث زيد بن أرقم في إسناده اضطراب: روى هشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة : فقال سعيد : عن القاسم بن عوف الشيباني ، عن زيد بن أرقم . وقال هشام الدستوائي : عن قتادة ، عن زيد بن أرقم ، ورواه شعبة ومعمر عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، فقال شعبة : عن زيد بن أرقم ، وقال معمر : عن النضر بن أنس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم].

[قال أبو عيسى : سألت محمداً عن هذا؟ فقال: يحتمل أن يكون قتادة روى عنهما جميعاً ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أحمد بن عبدة الضبي البصري ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ].

يقال: الخبث: بإسكان الباء وضمها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب ما يقول إذا خرج من الخلاء.

حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، عن إسرائيل بن يونس ، عن يوسف بن أبي بردة ، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك).

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل ، عن يوسف بن أبي بردة . وأبو بردة بن أبي موسى اسمه: عامر بن عبد الله بن قيس بن الأشعري ، ولا نعرف في هذا الباب إلا حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم ].

هذا الحديث لا بأس بسنده، وفيه مشروعية هذا الدعاء عند الخروج من الخلاء، فيقول المسلم: (غفرانك) يعني: أسألك فغفرتك.

قال المؤلف رحمه الله:

[ باب ما جاء في النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول.

حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا، فقال أبو أيوب : فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت مستقبل القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله) ].

هذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما، وفيه دليل على تحريم استقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء الحاجة في الصحراء أو الفضاء.

أما في البنيان ففيه خلاف بين العلماء، والصواب: أنه يجوز في البنيان؛ لحديث ابن عمر أنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة) فدل على جواز استقبال القبلة واستدبارها في البنيان، وكان ابن عمر يقضي حاجته ويضع راحلته أمامه في الصحراء، فلما سئل؟ قال: إذا كان بينك وبين القبلة شيء يمنعك فلا بأس، وهذا هو الصواب الذي ذهب إليه المحققون، وقد ذهب إليه البخاري رحمه الله، والنسائي وغيرهم جمعاً بين النصوص؛ لأن النبي نهى عن استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء وفعل ذلك في البنيان، فدل على أن النهي إنما هو خاص في الصحراء.

وبعض العلماء يرى: أنه لا يجوز حتى في البنيان، ومنهم أبو أيوب رضي الله عنه، حيث قال: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض، يعني: حمامات قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل.

[ قال أبو عيسى : وفي الباب عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي ، ومعقل بن أبي الهيثم ويقال: معقل بن أبي معقل ، وأبي أمامة ، وأبي هريرة ، وسهل بن حنيف رضي الله عنهم.

قال أبو عيسى : حديث أبي أيوب أحسن شيء في هذا الباب وأصح، وأبو أيوب اسمه: خالد بن زيد . والزهري اسمه: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري وكنيته: أبو بكر ، قال أبو الوليد المكي : قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : إنما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا ببول ولا تستدبروها) إنما هذا في الفيافي، وأما في الكنف المبنية له رخصة في أن يستقبلها، وهكذا قال إسحاق بن إبراهيم ].

والصواب ما ذهب إليه الشافعي وإسحاق بن إبراهيم ، وهو الذي ذهب إليه البخاري والنسائي وجمع من أهل العلم، أن هذا النهي يحمل على من كان في الصحراء، أما في البيوت فلا بأس؛ لأن بينك وبين القبلة حائط.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: إنما الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم في استدبار القبلة بغائط أو بول، وأما استقبال القبلة فلا يستقبلها، كأنه لم ير في الصحراء ولا في الكنف أن يستقبل القبلة ].

وهذا القول لبعض العلماء، أخذاً بحديث ابن عمر ، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر الكعبة مستقبل الشام. قالوا: هذا خاص بالاستدبار فقط، أما الاستقبال فيبقى على العموم.

والصواب: أن هذا في الاستقبال والاستدبار جميعاً.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب ما جاء من الرخصة في ذلك.

حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها) ].

وهذا الحديث في رواية الإمام أحمد : [ قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، قال: أبي عن ابن إسحاق ، قال: حدثني أبان بن صالح .

في مسند الإمام أحمد صرح ابن إسحاق بالتحديث ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي الباب عن أبي قتادة وعائشة وعمار بن ياسر رضي الله عنه.

قال أبو عيسى : حديث جابر في هذا الباب حديث حسن غريب، وقد روى هذا الحديث ابن لهيعة عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن أبي قتادة رضي الله عنه: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبول مستقبل القبلة) حدثنا بذلك قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة .

وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح من حديث ابن لهيعة ، وابن لهيعة ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره من قبل حفظه ].

إذاً: حديث جابر هذا لا يصح على إطلاقه، والحديث أيضاً في سنده مجاهد بن جبر ، وقد لد بعد وفاة جابر ، وعليه فالحديث منقطع لا يصح على إطلاقه عن مجاهد .

لكن هذا الحديث قد روي عن مجاهد -بفتح الجيم وسكون الموحدة- أبو الحجاج المخزومي ، مولاهم المكي، ثقة، إمام في التفسير وفي العلم، ومن خواص التابعين، مات سنة إحدى أو اثنتين، أو ثلاث أو أربع ومائه، وله ثلاث وثمانون، عن جابر : هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام ؛ وبذلك يكون ولادة مجاهد سنة سبع عشرة للهجرة، وقد مات جابر بالمدينة بعد السبعين، وبذلك يكون مجاهد قد أدرك جابر .

لكن تبقى مسألة الترجيح، ولا شك أن حديث أبي أيوب أرجح، وذلك لو قدر أنه صحيح الإسناد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا هناد ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن عبيد الله بن عمر ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع بن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رقيت يوماً على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة).

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ].

وهذا محمول على أنه في البنيان.

ولا يعترض النسيان في ذلك؛ لأن الرب سبحانه وتعالى قال: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64] فهو تشريع، والرسول مشرع عن ربه عز وجل.

قال الشارح: قوله: (فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها) استدل به من قال: بجواز الاستقبال والاستدبار في الصحراء والبنيان، وهذا لبعض أهل العلم، وجعله ناسخاً لأحاديث المنع، وفيه ما ثبت من أنها حكاية فعل لا عموم لها، فيحتمل أن يكون لعذر.

وقال في المنتقى عن هذا الحديث: رواه الخمسة إلا النسائي . انتهى.

وقال في النيل: وأخرجه أيضاً البزار وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني ، وحسنه الترمذي ، ونقل عن البخاري تصحيحه، وحسنه أيضاً البزار ، وصححه أيضاً ابن السكن ، وتوقف فيه النووي لعنعنة ابن إسحاق ، وقد صرح بالتحديث في رواية أحمد وغيره، وضعفه ابن عبد البر بـأبان بن صالح القرشي ، قال الحافظ : ووهم في ذلك، فإنه ثقة بالاتفاق، وادعى ابن حزم أنه مجهول فغلط.

وعلى كل حال فهو محمول على أنه في البنيان، ولو حمل في غير البنيان فأحاديث أبي أيوب مقدمة، أي: أرجح وأصح؛ لأنه إذا تعارض الدليلان، فالقاعدة عند أهل العلم: أنه يجمع بينهما، فإن لم يمكن الجمع بينهما ينظر إلى التاريخ، فإن لم يعرف التاريخ يرجع إلى الترجيح، وإذا رجعنا للترجيح فلا شك أن حديث أبي أيوب أرجح ومقدم، هذا إذا صح، ولم يأت ما يدل على أنه في البنيان، ولأنه أصح في الصحيحين وغيرهما.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب ما جاء في النهي عن البول قائماً.

حدثنا علي بن حجر ، أخبرنا شريك ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) ].

حديث عائشة محمول على أنها أخبرت عما علمته في البيوت، وحديث حذيفة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) أصح منه.

فـ حذيفة أخبر عما رآه في الصحراء، وعائشة أخبرت عما رأته في البنيان، والمثبت مقدم على النافي؛ لأن معه زيادة علم خفي على النافي، أي: على عائشة ، ثم إن حديث حذيفة أصح، ويحمل حديث عائشة على أن هذا في البيوت، وأن هذا هو الأكثر من فعله صلى الله عليه وسلم، وأما بوله قائماً فلبيان الجواز عليه الصلاة والسلام، وقيل: إنه فعله لوجع في باطن الركبة، أو لوجع في صلبه، والصواب: أنه فعله لبيان الجواز؛ ولأن المكان غير مناسب للبول، إما لأنه مرتفع قد يصل إليه البول، أو لأن الأرض صلبة أو نجسة، وكون حوله حذيفة يستره يجوز للإنسان أن يبول قائماً إذا أمن النظر من الأعين، لكن الأفضل البول جالساً وقد سبق معنا ذلك في النسائي وفي أبي داود ، وهنا بوب الترمذي بالنهي عن البول قائماً.

ولما ذكر المؤلف: [ باب ما جاء في النهي عن البول قائماً ] ذكر حديث عائشة وليس فيه نهي؛ لأن عائشة إنما أخبرت بما رأت.

ومن رواة حديث عائشة شريك بن عبد الله النخعي القاضي، ولما تولى القضاء ضعف، وحديث حذيفة أصح في الصحيحين، وحديث عائشة في سنده شريك القاضي ، لكنه محمول على ما كان في البنيان.

إذاً: حديث عائشة محمول على ما كان في البنيان، وهي أخبرت عما علمته من البيوت، لكن حذيفة أخبر عما رآه خارج البيوت، والقاعدة عند أهل العلم: أن المثبت مقدم على النافي؛ لأن معه زيادة علم خفي على النافي.

ثم أيضاً هذا محمول على أن الأغلب من حاله عليه الصلاة والسلام أنه كان يبول جالساً، وإنما فعله هذا مرة لبيان الجواز، حتى ذكر بعضهم أن أهل هراة قالوا: إن من السنة البول قائماً، فكانوا يبولون في كل سنة مرة قياماً، وهذا مبالغة فيه.

لكن على أي حال حديث حذيفة أصح منه، لكن تبويب الترمذي رحمه الله باب النهي غريب، يعني: الترجمة هذه؛ لأن ليس فيها نهي.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال: وفي الباب عن عمر وبريدة وعبد الرحمن بن حسنة رضي الله عنهم.

قال أبو عيسى : حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح.

وحديث عمر إنما روي من حديث عبد الكريم بن أبي المخارق عن نافع عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنه قال: (رآني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائماً، وقال: يا عمر ! لا تبل قائماً، فما بلت قائماً بعد).

قال أبو عيسى : وإنما رفع هذا الحديث عبد الكريم بن أبي المخارق ، وهو ضعيف عند أهل الحديث: ضعفه أيوب السختياني ، وتكلم فيه.

وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قال عمر رضي الله عنه: ما بلت قائماً منذ أسلمت. وهذا أصح من حديث عبد الكريم .

وحديث بريدة في هذا غير محفوظ، ومعنى النهي عن البول قائماً: على التأديب لا على التحريم ].

وهذا يحمل على أن الأفضل والأولى تركه، والنهي للتنزيه، وهذا إذا صح.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن من الجفاء أن تبول وأنت قائم ].

إن صح هذا عن ابن مسعود فإنه محمول على أنه خفي عليه ما رواه حذيفة (أن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: الرخصة في ذلك.

حدثنا هناد ، حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال عليها قائماً، فأتيته بوضوء، فذهبت لأتأخر عنه، فدعاني حتى كنت عند عقبيه، فتوضأ ومسح على خفيه) ].

فعل ذلك لعله يستره، فجاء حتى كان عند عقبيه، يعني: ولاه ظهره وكان يستره، وقد اختلف العلماء في سبب ذلك، فقال بعضهم: إنه فعل ذلك لوجع في باطن الركبة، وقيل: لوجع في صلبه، ولكن هذه كلها أقوال ضعيفة، والصواب: أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وأنه فعل لسبب اقتضى ذلك، وهو أنه: إما خشية أن يرتد إليه البول، إذ كان مكاناً غير مناسب للجلوس، أو لأن الأرض نجسة، أو لغير ذلك من الأسباب.

قال أبو عيسى : [وسمعت الجارود يقول: سمعت وكيعاً يحدث بهذا الحديث عن الأعمش ، ثم قال وكيع : هذا أصح حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح ].

وفيه جواز المسح على الخفين، وقد وردت أحاديث متواترة في ذلك، وهذا إنما يكون هذا في الحدث الأصغر، أما الجنابة فتخلع الخفان.

قال المصنف رحمه الله: [ وسمعت أبا عمار الحسين بن حريث يقول سمعت وكيعاً فذكر نحوه.

قال أبو عيسى : وهكذا روى منصور وعبيدة الضبي عن أبي وائل عن حذيفة مثل رواية الأعمش .

وروى حماد بن أبي سليمان وعاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي وائل عن حذيفة أصح، وقد رخص قوم من أهل العلم في البول قائماً.

قال أبو عيسى : وعبيدة بن عمرو السلماني روى عنه إبراهيم النخعي . وعبيدة من كبار التابعين، يروى عن عبيدة أنه قال: أسلمت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، وعبيدة الضبي صاحب إبراهيم : هو عبيدة بن معتب الضبي ، ويكنى أبا عبد الكريم ].