شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [5]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن صفاته سبحانه الواردة في كتابه العزيز، الثابتة عن رسوله المصطفى الأمين: اليدان، قال الله عز وجل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وقال عز وجل: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التقى آدم وموسى فقال موسى: يا آدم، أنت أبونا خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة، فقال آدم: أنت موسى، كلمك الله تكليماً، وخط لك التوراة بيده، واصطفاك برسالته، فبكم وجدت في كتاب الله: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]؟ قال: بأربعين سنة، قال: فتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى) ].

سبق الكلام على بعض الصفات مثل: صفة الاستواء، والعلو، والوجه، والنزول، ثم تكلم المؤلف رحمه الله على صفة اليدين، وقال: (ومن صفات الله سبحانه وتعالى الواردة في كتابه العزيز، الثابتة عن رسوله المصطفى الأمين: اليدان)

إثبات صفة اليدين من الكتاب العزيز

اليدان صفة لله عز وجل، وهذه الصفة ثابتة بالكتاب العزيز، وبالسنة المطهرة، وقد استدل المؤلف رحمه الله بآيتين من كتاب الله عز وجل، الأولى: قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] فيها إثبات اليدين لله عز وجل، وأضاف الضمير إليه سبحانه: (بل يداه مبسوطتان) والآية فيها الرد على اليهود قبحهم الله، الذين حكى الله عنهم قولهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64].

والآية الثانية: قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] فالآيتين فيهما إثبات اليدين لله.

ووجه الدلالة: أن الله تعالى أثبت لنفسه يدين اثنتين، وأضافهما إلى نفسه الكريمة بضمير الإفراد، وهي (بل يداه مبسوطتان) يعني: الرب سبحانه وتعالى، والآية الأخرى: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي).

معنى قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون)

قول الله تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47] هذه الآية ليست من آيات الصفات، ومعنى قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأييد) أي: بقوة وقدرة؛ لأنها من آد يئيد ولم يضفها الرب سبحانه وتعالى إلى نفسه بضمير الإفراد، بل قال: (والسماء بنيناها) بلفظ الجمع (بأيد) وهذا اللفظ يدل على القوة والعظمة، ولهذا فإن معنى الآية: (والسماء بنيناها بأييد) أي: بقوة وقدرة؛ ولأن الله أتى بصيغة الجمع التي تفيد التعظيم، بخلاف هاتين الآيتين، فإن الله تعالى قال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] أتى باليدين بصيغة التثنية، وأضافها إلى ضمير نفسه المفرد.

وكذلك الآية الأخرى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] هذا خطاب خاطب الله تعالى به إبليس عندما امتنع من السجود لآدم، قال الله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص:75].

إثبات صفة اليدين من السنة المطهرة

واستدل المؤلف رحمه الله أيضاً على إثبات صفة اليدين لله بالسنة، فاستدل بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في احتجاج آدم وموسى، وهذا الحديث رواه البخاري رحمه الله في الصحيح في عدة مواضع؛ في كتاب التفسير، وفي كتاب القدر، وفي كتاب التوحيد، وكذلك رواه الإمام مسلم في كتاب القدر: باب احتجاج آدم وموسى عليهما السلام، ورواه أبو داود في سننه في كتاب السنة، والترمذي في كتاب القدر: باب ما جاء في احتجاج آدم وموسى، ورواه ابن ماجة في مقدمة باب القدر.

ووجه الدلالة من الحديث: في قول موسى عليه الصلاة والسلام لأبيه آدم: (يا آدم أنت أبونا خلقك الله بيده) فأضاف اليد إلى نفسه أي: إلى الله بضمير الإفراد، (قال موسى: يا آدم! أنت أبونا، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه)، وهذا الحديث يعرف بحديث احتجاج آدم وموسى.

الأوصاف التي اختص الله بها آدم

قوله: (فقال موسى لآدم: أنت أبونا خلقك الله بيده) فموسى هنا يذكر فضائل أبيه آدم وخصائصه. (يا آدم أنت أبونا خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته) هذه ثلاثة أوصاف اختصها الله بآدم: فخلقه بيده، وخلق الخلق كلهم بقدرته كما قال سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، لكن آدم له ميزة وله خصوصية وهي: أن الله خلقه بيده، فهذه ميزة وخصوصية وتشريف أي: فيها تشريف وتكريم لآدم من بين المخلوقات.

وكذلك نفخ فيه من روحه، يعني: من الروح التي خلقها، والإضافة هنا إضافة مخلوق إلى خالقه، وهي إضافة تشريف وتكريم.

قوله: (نفخ فيك من روحه) أي: من الروح التي خلقها، وأضافها إليه للتشريف، كما يقال عن عيسى: روح الله، أي: روح من الأرواح التي خلقها الله، وكما تضاف الكعبة إلى الله فيقال: بيت الله، ويقال عن ناقة صالح: ناقة الله، وهي مخلوقة، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه للتشريف والتكريم.

كذلك قوله: (ونفخ فيك من روحه) أي: من الروح التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وأضافها إلى نفسه للتشريف.

وقوله: (وأسجد لك ملائكته)، هذه كلها خصائص لآدم.

ومعنى الحديث: أنه لما التقى آدم وموسى قال موسى: يا آدم! أنت ميزك الله بهذه الميزات، وخصك بهذه الفضائل العظيمة: (خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته: خيبتنا وأخرجتنا من الجنة) وفي لفظ آخر: (لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة) مع أن الله أعطاك هذه الخصائص، وهذا من غيرة موسى عليه السلام، فهو يريد أن يقول: أنت السبب في خروجنا من الجنة.

الأوصاف التي اختص الله بها موسى

قال آدم: (أنت موسى كلمك الله تكليماً، وخط لك التوراة بيده، واصطفاك برسالته) آدم ذكر الخصائص أيضاً فقال: (كلمك الله تكليماً) أي: كلمه الله من وراء حجاب من غير واسطة.

وقوله: (وخط لك التوارة بيده) هذا فيه إثبات صفة اليد أيضاً، والحديث فيه إثبات صفة اليد في موضعين، في قول موسى: (خلقك الله بيده) وفي قول آدم: (وخط لك التوراة بيده).

ثم قال: (واصطفاك برسالته) فموسى ذكر لآدم ثلاث خصائص، وآدم ذكر لموسى ثلاث خصائص وهي: (كلمك الله تكليماً، وخط لك التوراة بيده، واصطفاك برسالته).

تقدير الخلق وكتابته في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض

ثم قال آدم: (فبكم وجدت في كتاب الله: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121] قال موسى: بأربعين سنة) وهذا هو تقدير الخلق مأخوذ من القدر المكتوب في اللوح المحفوظ؛ لأن اللوح المحفوظ مكتوب فيه كل شيء.

كما ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها قال الله تعالى: وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ، وقال سبحانه: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12]، والإمام: هو أيضاً اللوح المحفوظ، فكل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ. وفي الحديث: (لما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: يا رب! وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء فجرى بذلك الأمر فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) كل ما هو كائن إلى يوم القيامة من الذوات والصفات والحركات والسكنات مكتوب فيه.

أنواع التقدير

أما قوله تعالى: وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، فهذا تقدير مأخوذ من القدر السابق بأربعين سنة.

وقول آدم: (فبكم وجدت في كتاب الله: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121] قال: بأربعين سنة).

هذا تقدير خاص، وهو غير التقدير العام لجميع المخلوقات في اللوح المحفوظ وهو: التقدير العمري، وذلك أنه إذا مضى عليه أربعة أشهر في بطن أمه أرسل الله إليه الملك، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وهناك تقدير سنوي، وهو: التقدير في ليلة القدر: يقدر فيها ما يكون في السنة من صحة وإعزاز وإشقاء وإبعاد وفقر وغنى.

وهناك تقدير يومي، ويدل عليه قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29]، يعز ويذل، ويخفض ويرفع، ويغني ويفقر، ويحيي ويميت سبحانه وتعالى.

قوله: (قال آدم لموسى: فبكم وجدت في كتاب الله: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]، قال: بأربعين سنة، قال آدم: أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى) وفي لفظ: أنه كررها ثلاثاً: (فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى) يعني: غلبه بالحجة.

الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على الذنوب والمعايب

ما هو الذي لام موسى آدم عليه؟ هل لامه على الذنب؟ لا؛ لأن الذنب قد تاب منه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإنما لامه على المصيبة التي حصلت له وسببت خروجه من الجنة، فاحتج آدم بالقدر، قال: المصيبة مكتوبة علي، والاحتجاج بالقدر على المصائب قال تعالى: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156] ويقول من نزلت عليه المصيبة: قدر الله وما شاء فعل، لكن الاحتجاج بالقدر على الذنب لا يجوز وليس بحجة، ولو كان القدر حجة في فعل الذنب لكان حجة للكفرة، ولبطل التشريع، فهذا الحديث فيه إثبات اليد لله في موضعين: في قول موسى: (خلقك الله بيده)، وفي قول آدم: (وخط لك التوراة بيده)، ففي هذين الموضعين إثبات اليد لله.

بيان أنواع الفرق التي ضلت في باب القدر

وهذا الحديث أيضاً في إثبات القدر، واحتج به بعضهم على رفع الذم والعقاب عمن عصى الله، وهم الجبرية، وهذا باطل، وبعضهم قال: إن هذا الحديث يقتضي رفع الذنب والعقاب عمن عصى الله، وكلاً من الطائفتين قد ضلت سواء السبيل، وبعض المبتدعة -وهم الجبرية- استدلوا بهذا الحديث على الاحتجاج بالقدر، وقالوا: القدر حجة للعاصي، أي: العاصي أو الإنسان مجبور على أفعاله، فلا يلام عليها، وهذا من أبطل الباطل.

وطائفة أخرى رفعوا اللوم والذنب والعقاب عن العاصي، وهم القدرية، وطائفة رفعت اللوم والذنب دون العقاب عن العاصي واحتجوا بالقدر، وطائفة كذبت بالقدر وهم المعتزلة، وقالوا: إن الله تعالى لم يقدر أفعال العباد، وإنما العباد هم الخالقون لأنفسهم أفعالاً سواء أكانت خيراً أم شراً .. طاعة أم معصية، والله تعالى لم يخلق أفعال العباد! فلهذا إنما يلام ويعذب الإنسان على فعله. وقابلتهم الجبرية فقالوا: إن الإنسان مجبور على أفعاله، ولهذا ألف شيخ الإسلام رحمه الله رسالة شرح فيها هذا الحديث، وقال: إن هذا الحديث ضلت فيه طائفتان: طائفة كذبت بالقدر لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذنب والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر، وطائفة شر من هؤلاء جعلوا القدر حجة، وقد يقولون: القدر حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه، وهم الصوفية الذين يسمون أنفسهم أهل الحقيقة، ولا يرون أن لهم فعلاً، بل يلغون أفعالهم ويجعلونها أفعالاً لله! ويقولون: إن الإنسان إذا شهد الحقيقة رفع عنه التكليف فلا يؤمر ولا ينهى، وصار من الخاصة الذين تجاوزوا مرتبة العامة، فلا تكليف عليهم! وهذا من أبطل الباطل، ومن قال: إن أحداً يسقط عنه التكليف وعقله معه -ما عدا الحائض والنفساء في الصلاة خاصة- فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتداً، فلا يوجد أحد يسقط عنه التكليف، إلا إذا زال عقله كالصبي، والشيخ المخرف، والمجنون؛ هؤلاء مرفوع عنهم القلم، وأما من عداهم فلا، وكل واحد مكلف حتى يموت، قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، فمن اعتقد أن أحداً يسقط عنه التكليف وعقله معه يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً.

أما هؤلاء الجبرية والملاحدة كالصوفية وغيرهم فيرون أن الإنسان إذا تجاوز مرتبة العامة وصار من أهل الحقيقة وألغى صفاته وأفعاله، وجعلها صفات لله سقط عنه التكليف ويستدلون بقوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، ولا يفسرون اليقين بالموت، بل المرتبة العلية عندهم التي يصل إليها بعضهم بزعمهم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من الناس من يقول في هذا الحديث: إنما حاج آدم موسى لأنه أبوه، أو لأنه قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في شريعة أخرى؛ أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الآخرة، وكل هذا باطل، والصواب أن موسى عليه الصلاة والسلام لام أباه لأجل المصيبة التي لحقتهم فقال له: (لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟) لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنباً وتاب منه؛ فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب أيضاً، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب، قال الله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر:55]، ولا يزال أهل العلم يبينون معنى هذا الحديث، ويردون على من لم يفهم هذا الحديث من المعتزلة الذين يقولون بخلق أفعال العباد، ومن الجبرية الذين يقولون: إن العباد مجبورون على أفعالهم، فالإمام ابن القيم رحمه الله قال: إن هذا الحديث فيه رد على من لم يفهمه من المعتزلة كـأبي علي الجبائي ومن وافقه، وقال: لو صح لبطلت نبوة الأنبياء، أي: لو صح الاحتجاج بالقدر لبطلت نبوة الأنبياء، فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي، فإن العاصي بترك الأمر أو فعل النهي إذا صحت له حجة في القدر السابق ارتفع اللوم عنه، وهذا من ضلال أهل البدع، وجهلهم بالله ورسوله وسنته.

تأويل المبتدعة (اليد) بالقدرة أو النعمة والرد عليهم

وأهل البدع يؤولون اليد بالقدرة، وبعضهم يؤولونها بالنعمة، وكلاهما باطل، فلو أولها المبتدع بالقدرة كان معنى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] أي: بقدرتي، وبهذا يفسد المعنى فلا يكون فيه ميزة لآدم على غيره، والقدرة واحدة لا اثنتان، وكذلك إذا فسرها بالنعمة كان المعنى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بنعمتي! مع أن النعم كثيرة لا اثنتان، فنعم الله لا تعد ولا تحصى كما قال سبحانه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] فتأويل أهل البدع لليد: بالقدرة أو بالنعمة يفسد به المعنى، ولا يستسيغه عاقل.

الرد على أهل التكييف والتشبيه والتعطيل والتأويل في صفة اليد

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فلا نقول يد كيد، ولا نكيف، ولا نشبه، ولا نتأول اليدين على القدرتين كما يقول أهل التعطيل والتأويل، بل نؤمن بذلك ونثبت له الصفة من غير تحديد ولا تشبيه، ولا يصح حمل اليدين على القدرتين؛ فإن قدرة الله عز وجل واحدة، ولا على النعمتين؛ فإن نعم الله عز وجل لا تحصى، كما قال عز وجل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] ].

الحافظ عبد الغني رحمه الله من أهل السنة والجماعة ، ولذا يقول: إننا معشر أهل السنة والجماعة لا نقول: يد كيد، ولا نقول: يد الله كيد المخلوق، فهذا تشبيه، والأول تمثيل، والله ليس كمثله شيء، فلا نكيف أي: نقول: إن يد الله كيفيتها كذا، ولا نشبه كأن نقول: إن يد الله تشبه كذا وكذا، فكل هذا باطل، وكل هذا من طريقة المبتدعة من أهل التمثيل، والتكييف، والتشبيه.

قوله: (ولا نتأول اليدين على القدرتين)؛ لأن هذه طريقة أهل التأويل والتحريف.

فلا نتأول اليدين بالقدرتين، كما يقول أهل التعطيل والتأويل من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، فبعضهم يتأول اليد بالقدرة، واليدان عندهم: القدرتان أو النعمتان، وهذا من أبطل الباطل، كما بين المؤلف رحمه الله، وتأويل اليد بالقدرة فيه إبطال للخصائص التي خص الله بها بعض مخلوقاته، فآدم خصه الله بأن خلقه بيده، فإذا فسرت اليد بالقدرة يكون المعنى: لما خلقت بقدرتي، فتزول الخصيصة؛ لأن إبليس مخلوق بقدرة الله! فإذا كان إبليس مخلوق بقدرة الله وآدم مخلوق بقدرة الله زال التفضيل لآدم، والله تعالى فضل آدم بقوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وكذلك: خط الله التوارة لموسى بيده، فإذا قيل: اليد القدرة، أي: خط الله التوراة بقدرته، زالت الخصوصية.

وكذلك أيضاً تأويل اليد بالقدرة أو بالنعمة يفسد به المعنى؛ لأن الآية وردت بصيغة التثنية فيكون المعنى: لما خلقت بنعمتي أو بقدرتي، والنعم ليست اثنتان، وإنما نعم الله لا تعد ولا تحصى، ونعم الله مخلوقة، وأما يداه فهما صفة له عز وجل، وكذلك القدرة صفة أخرى غير اليد، والقدرة واحدة فلا يقال: خلقت بقدرتي، فإنما هي قدرة واحدة، وبهذا تبين أن تأويل أهل الباطل اليد بالقدرة أو النعمة تأويل باطل.

كما أن التمثيل والتكييف مذهبان باطلان، فأهل التمثيل لليد بأيدي المخلوقين مشبهة، بل من غلاة المشبهة من الشيعة والبيانية والسالمية، والبيانية هم أتباع بيان بن سمعان التميمي ، والسالمية هم أتباع هشام بن سالم الجواليقي وداود الجواربي وغيرهم من غلاة الشيعة المشبهة، هؤلاء يقول أحدهم: لله يد كيدي! ووجه كوجهي! واستواء كاستوائي! وهذا من أبطل الباطل، وهؤلاء كفار؛ لأن من شبه الله بخلقه كفر؛ ولهذا قال أئمة أهل السنة والجماعة: من شبه الله بخلقه كفر، ومن مثل الله بخلقه كفر، ومن نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله ذلك التشبيه، وهذا مروي عن نعيم بن حماد الخزاعي وغيره من أئمة السلف، كلهم قالوا: من شبه الله بخلقه كفر، ومن نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله كفر.

وجوب الإيمان بالصفات الواردة في الشرع وإثباتها

وقوله: (بل نؤمن بذلك ونثبت له الصفة) أي: نثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات، (من غير تحديد) يعني: من غير تحديد لكيفية الصفة، يعني: لا يحدد كيفيتها؛ لأن الكيفية لا يعلمها إلا الله، فالسلف يثبتون الصفة، ويثبتون معانيها الظاهرة، وينفون المشابهة والكيفية.

(ولا تشبيه) يعني: لا نشبه، فنقول: يد الله تشبه يد المخلوق.

(ولا يصح حمل اليدين على القدرتين) كما يقوله أهل التأويل. من المعتزلة والأشاعرة، فإن قدرة الله عز وجل واحدة، اليدان مثنى فكيف تؤول اليدان بالقدرتين؟!

(ولا على النعمتين) نعم الله عز وجل لا تحصى كما يقول المؤلف فإذا أولت اليدين بالنعمتين فيكون معنى الآية: (لما خلقت بنعمتي)، فصار فيه حصر للنعم بأنها اثنتان، ومعلوم أن نعم الله لا تعد ولا تحصى، ثم إن النعم مخلوقة، وصفات الله ليست مخلوقة، كما قال الله عز وجل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].

اليدان صفة لله عز وجل، وهذه الصفة ثابتة بالكتاب العزيز، وبالسنة المطهرة، وقد استدل المؤلف رحمه الله بآيتين من كتاب الله عز وجل، الأولى: قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] فيها إثبات اليدين لله عز وجل، وأضاف الضمير إليه سبحانه: (بل يداه مبسوطتان) والآية فيها الرد على اليهود قبحهم الله، الذين حكى الله عنهم قولهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64].

والآية الثانية: قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] فالآيتين فيهما إثبات اليدين لله.

ووجه الدلالة: أن الله تعالى أثبت لنفسه يدين اثنتين، وأضافهما إلى نفسه الكريمة بضمير الإفراد، وهي (بل يداه مبسوطتان) يعني: الرب سبحانه وتعالى، والآية الأخرى: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي).

قول الله تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47] هذه الآية ليست من آيات الصفات، ومعنى قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأييد) أي: بقوة وقدرة؛ لأنها من آد يئيد ولم يضفها الرب سبحانه وتعالى إلى نفسه بضمير الإفراد، بل قال: (والسماء بنيناها) بلفظ الجمع (بأيد) وهذا اللفظ يدل على القوة والعظمة، ولهذا فإن معنى الآية: (والسماء بنيناها بأييد) أي: بقوة وقدرة؛ ولأن الله أتى بصيغة الجمع التي تفيد التعظيم، بخلاف هاتين الآيتين، فإن الله تعالى قال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] أتى باليدين بصيغة التثنية، وأضافها إلى ضمير نفسه المفرد.

وكذلك الآية الأخرى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] هذا خطاب خاطب الله تعالى به إبليس عندما امتنع من السجود لآدم، قال الله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص:75].


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [3] 2161 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [2] 2154 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [1] 1966 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [7] 1960 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [10] 1698 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [6] 1695 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [14] 1684 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [11] 1561 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [15] 1504 استماع
شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [13] 1499 استماع