خطب ومحاضرات
من وسائل التعلم
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا نجوماً يهتدى بهم في الظلمات، والذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، والذين حملوا مشعل الهداية للبشرية، فهدى الله بهم من الضلالة، وبصَّر بهم من العمى، وجمع بهم بعد الشتات والفرقة.
أيها الإخوة: إن هذا الإقبال الكبير على طلب العلم لدى شباب الصحوة الإسلامية في كل مكان، يحتم على طلاب العلم والموجهين والعلماء وغيرهم طرق هذه الموضوعات، والحديث عنها، وتبصير الشباب بالوسائل والسبل الصحيحة المؤدية إلى تحصيل العلم والمحافظة عليه.
القدوة لطالب العلم
يروي الإمام الدارمي في سننه وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على كتاب فضائل الصحابة، وابن سعد والبيهقي، والحاكم وغيرهم بسند صحيح، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، قال: [[لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبت إلى رجل من الأنصار، فطرقت عليه بابه وقلت له: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا العلم، فإنهم اليوم كثير. فقال له هذا الأنصاري: واعجباً لك يا فأقول له: ذُكرَ لي أن عندك حديث كذا وكذا، فأحببت أن أسمعه منك، فيقول: فهلاّ أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: العلم أحق أن يؤتى إليه، قال: فتعلمت حتى مات كثيرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتاج الناس إليَّ، فكان ذلك الرجل الأنصاري يمر بي والناس حولي يسألونني، فيقول لي: يا
وللشاب المسلم اليوم أسوةٌ وقدوة بهذا الحبر الإمام عبد الله بن عباس رضي الله عنه، الذي لم تمنعه مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يمنعه علوُّ نسبه وعلوُّ قدرهُ ولم يمنعه تقديم الخلفاء له كما كان عمر رضي الله عنه يقدمه ويُجلسه في مجالس المهاجرين والأنصار، لم يمنعه كل هذا من طلب العلم، والتواضع في سبيل ذلك.
ضرورة التوازن في شخصية طالب العلم
زاد في نسخ القاموس نسخة!!
إذاً: من الخطأ أن يكون همنا اليوم مجرد جمع المعلومات وخزنها وتحصيلها، وإذا كان هم الشاب اليوم مجرد جمع المعلومات، فإنه يُخشى أن يكون هذا لغير الله -نسأل الله السلامة- لأن الشاب يحب أن يفاخر في المجالس بمحفوظاته، أو أن يدل بها على غيره، أو أن يباهي بها العلماء، أو يماري بها السفهاء، أو يصرف بها وجوه الناس إليه، فيكون همه جمع هذه المعلومات، وأنت إذا قرأت في القرآن والسنة وكتب أهل العلم وجدت أن العلم عند السلف يختلف كثيراً عن مفهوم العلم عندنا اليوم، وفى أذهان الكثير منَّا ليس مفهوم العلم في القرآن والسنة، وعند العلماء هو مجرد كثرة المعلومات، والمحفوظات في ذهن الإنسان.
بل العلم في القرآن والسنة، وفي كتب السلف مفهومٌ واسعٌ يشمل تعلم علوم الكتاب والسنة، والتفقه فيها، والعمل بها، والخشوع والدعوة إليها، كل هذه الأشياء داخلةٌ في مفهوم العلم، ولو أردتُ أن أذكر لكم بعض الأمثلة من الآيات والأحاديث وأقاويل الصحابة والتابعين في هذا الباب لطال بنا المقام، ويكفي أن ترجع إلى كتاب من كتب أهل العلم لتجد هذا واضحاً جلياً: اقرأ -مثلاً- المقدمة التي وضعها الإمام الدارمي لكتابه الموسوم بـالسنة، واقرأ كتاب جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله للإمام ابن عبد البر، وغيرها من الكتب الكثيرة التي تتحدث عن العلم والتعلم والفقه والتفقه، تجد أن العلم في القرآن والسنة وعند السلف لا يعني مجرد تحصيل المعلومات؛ بل يشمل معنى أوسع من ذلك، ومع الأسف الشديد كثير من الشباب اليوم حين يطلقون كلمة العلم لا يقصدون بها إلا مجرد حقن المعلومات في الأذهان.
يقول الشاب -مثلاً-: أنا لم أحصل من العلم على شيء، فإذا جئت إليه وجدته قد حفظ القرآن، ويقول: لم أحصِّل من العلم شيء، إذاً فما هو العلم إن لم يكن القرآن هو أساس العلم وأصله، وماذا يكون القرآن إن لم يكن علماً، ألم تقرأ قول الله عز وجل عن القرآن: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49].
وكذلك تجد الشاب مقبلاً على العبادة، والخشوع، والصلاة، وقيام الليل، ويقول: لم أحصل على شيء من العلم.
وتجد شاباً ثالثاً يعيش في وسط مجموعة من قرنائه، وأصحابه الفضلاء يتلقى معهم التربية، وفن المعاملة، وأسلوب التخلق بالخلق الكريم، فيقول: لم أحصل على شيءٍ من العلم.
القصد والغاية من طلب العلم
هذا السؤال أرجو أن يوجهه كل فردٍ منكم إلى نفسه، تعلُّم الحلال والحرام، والحق والباطل، والخير والشر، ماذا يقصد من ورائه؟
إن كان يقصد من ورائه العمل والتعليم، من تعلِّمه أن تُعلِّم نفسك وتقبل على العبادة، وعلى الخلق الفاضل والتربية، فهذه ثمرة عظيمة من ثمرات العلم، فيجب ألاّ تشتط بنا النظرات وردود الفعل، فيصبح الإنسان أحياناً ينساق وراء بعض الأشياء دون تأمل، ولا تدبر، فالعلم معنى واسعٌ شامل.
فالتربية من العلم، وتعلم الخلق الفاضل، وتعلم العبادة والخشوع، وتعلم الحلال والحرام، وحفظ القرآن كل ذلك من العلم، والعمل بهذه الأشياء من العلم، والدعوة إليها من العلم.
ولو تأملت أسلوب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في تلقي العلم وتعليمه والعمل به لوجدت أمراً عجباً، يأتي الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، أو إلى مكة قبل الهجرة، فيجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً فيسمع منه الآيات والأحاديث المعدودة ويحفظها ويفهم معناها، ويعمل بها، ثم يرجع إلى قومه منذراً لهم معلماً داعياً، ولا يعني هذا أنه توقف عند هذا الحد، بل يعود مرةً أخرى، وثالثة، ورابعة، ويتزود من العلم، ومنهم من يوقف نفسه على طلب العلم تعلمه وتعليمه، لكن لم يكن في ذهن هؤلاء الصحابة أن العلم شيءٌ والتعليم شيءٌ، والتربية شيء! لا، كل هذه الأشياء كانت عندهم شيئاً واحداً.
ولذلك تحفظون -جميعاً- كلمة أبى عبد الرحمن السلمي رحمه الله التي قال فيها: [[كان الذين يقرئوننا القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يتجاوزون بنا عشر آيات حتى نتعلم معانيهن، والعمل بهن، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً]].
إذاً: العلم والعمل شيءٌ واحد، والعلم أصلاً ما شرف إلا من أجل العمل، خاصةً العلم العملي الذي يعمل به، وكذلك علوم العقائد شرفت بشرف المعلوم، ولأجل أن يعتقدها الإنسان، أما لو تعلم إنسان هذه العلوم فلم يعتقدها، ولم يؤمن بها، لكانت وبالاً عليه.
من وسائل التعلم الفطرية
يروى عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه كان يقول:
أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان |
ثم يذكر هذه الست، ويقول:
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان |
وهذه الأشياء الستة ذكرها الإمام أبو هلال العسكري في كتابه الحث على طلب العلم بصيغة أخرى فنسب إلى بعض القدماء، أو بعض الأوائل، أنهم قالوا: لا ينال العلم إلا بستة أمور.
وذكر من هذه الأمور: الذهن الثاقب، وكثرة العمل، وطول الزمان، والأستاذ الحاذق.. وذكر بقية الستة المتعلقة بالبلغة، وشهوة العلم، هذه الأمور الستة المنقولة عن الإمام الشافعي، وعن الإمام علي بن أبي طالب أيضاً، والتي نسبها الإمام أبو هلال العسكري لبعض الأوائل يمكن أن نقسمها إلى قسمين:
أشياء فطرية موهوبة، بمعنى أنها أشياء موجودة في فطرة الإنسان، تُخلق مع الإنسان وهي محض مِنَّةٍ، وهبة إلهية، وإن كان الإنسان قد يستطيع أن ينميها، لكن لا بد أن يوجد أصلها في فطرة الإنسان، وجبلته، وهي الذكاء، وقوة الذاكرة، والحرص، فهذه الأشياء الثلاثة هي في الغالب موهوبة.
والمقصود بالذكاء، أو ما عبر عنه بعض الأوائل بالذهن الثاقب: هو ما يمكن أن نعبر عنه بقوة الاستنباط، وسعة العقل، فإن الإنسان الذي يريد أن يحصل على العلم لابد أن يكون لديه قوة في عقليته، وقدرة على الاستنباط، هذه الأولى.
الثانية: هي ما عُبِّرَ عنها بالذاكرة، ويقصدون بها قوة الحفظ، وقد عبر عنها أبو هلال بكلمة الطبيعة -أي: الشيء الذي يطبع عليه الإنسان- فقوة الذاكرة لابد منها لطالب العلم، والفرق واضحٌ جداً بين قوة الاستنباط، وبين قوة الذاكرة، فقد يستطيع طالب العلم أن يحفظ نصوصاً كثيرة، وأن يستظهرها؛ ولكن ما لم يكن لديه قوة في الاستنباط، والفهم، والعقلية، بحيث يستطيع أن يجمع بين هذه النصوص، ويستخرج منها معنىً كلياً عاماً ويوفق بين مظاهره، وما تعارض منها ويستخرج منها معانٍ دقيقة قد لا يتفطن لها غيره، فإن هذه الأشياء التي حفظها لا تكون كافيةً في تحصيله.
والعكس بالعكس.... فقد يكون لدى الإنسان قوةً في استنباطه، لكن لا يكون لديه النصوص التي يستطيع أن يستنبط منها ويستخرج منها المعاني والأحكام، ويجمع بينها، ومع أن الذاكرة، أو قوة الحفظ هي محض امتنان، وتفضل من الله عز وجل، إلا أن الإنسان يستطيع أن ينمي ذاكرته.
وللشاب المسلم -وهو يسعى في طلب العلم اليوم- أسوة وقدوة بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والذين كان منهم شبابٌ في مقتبل أعمارهم قضوا حياتهم في طلب العلم وتحصيله والعمل به، ثم في أدائه ونقله إلى الآخرين.
يروي الإمام الدارمي في سننه وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على كتاب فضائل الصحابة، وابن سعد والبيهقي، والحاكم وغيرهم بسند صحيح، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، قال: [[لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبت إلى رجل من الأنصار، فطرقت عليه بابه وقلت له: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا العلم، فإنهم اليوم كثير. فقال له هذا الأنصاري: واعجباً لك يا فأقول له: ذُكرَ لي أن عندك حديث كذا وكذا، فأحببت أن أسمعه منك، فيقول: فهلاّ أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: العلم أحق أن يؤتى إليه، قال: فتعلمت حتى مات كثيرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتاج الناس إليَّ، فكان ذلك الرجل الأنصاري يمر بي والناس حولي يسألونني، فيقول لي: يا
وللشاب المسلم اليوم أسوةٌ وقدوة بهذا الحبر الإمام عبد الله بن عباس رضي الله عنه، الذي لم تمنعه مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يمنعه علوُّ نسبه وعلوُّ قدرهُ ولم يمنعه تقديم الخلفاء له كما كان عمر رضي الله عنه يقدمه ويُجلسه في مجالس المهاجرين والأنصار، لم يمنعه كل هذا من طلب العلم، والتواضع في سبيل ذلك.
أيها الإخوة: وقبل أن أدخل في موضوع الوسائل التي يستطيع المسلم والشاب خاصةً، أن يحصل بها على العلم أحب أن أشير إلى قضية على درجةٍ كبيرةٍ من الأهمية، ألا وهي: قضية ضرورة التوازن في شخصية المسلم، فالله سبحانه وتعالى لم يخلقنا من أجل أن نحصل المعلومات ونخزنها في عقولنا فحسب، والإنسان لا يرتفع قدره في الدنيا والآخرة بمجرد أن يكون واعياً، أو راوياً أو حافظاً، وقد قيل لأحد العلماء: إن فلاناً يحفظ كتاب القاموس المحيط في اللغة للـالفيروز آبادي فلم يكترث ولم يأبه بذلك بل قال: وإذا حفظ فلانٌ كتاب القاموس المحيط في اللغة كان ماذا؟
زاد في نسخ القاموس نسخة!!
إذاً: من الخطأ أن يكون همنا اليوم مجرد جمع المعلومات وخزنها وتحصيلها، وإذا كان هم الشاب اليوم مجرد جمع المعلومات، فإنه يُخشى أن يكون هذا لغير الله -نسأل الله السلامة- لأن الشاب يحب أن يفاخر في المجالس بمحفوظاته، أو أن يدل بها على غيره، أو أن يباهي بها العلماء، أو يماري بها السفهاء، أو يصرف بها وجوه الناس إليه، فيكون همه جمع هذه المعلومات، وأنت إذا قرأت في القرآن والسنة وكتب أهل العلم وجدت أن العلم عند السلف يختلف كثيراً عن مفهوم العلم عندنا اليوم، وفى أذهان الكثير منَّا ليس مفهوم العلم في القرآن والسنة، وعند العلماء هو مجرد كثرة المعلومات، والمحفوظات في ذهن الإنسان.
بل العلم في القرآن والسنة، وفي كتب السلف مفهومٌ واسعٌ يشمل تعلم علوم الكتاب والسنة، والتفقه فيها، والعمل بها، والخشوع والدعوة إليها، كل هذه الأشياء داخلةٌ في مفهوم العلم، ولو أردتُ أن أذكر لكم بعض الأمثلة من الآيات والأحاديث وأقاويل الصحابة والتابعين في هذا الباب لطال بنا المقام، ويكفي أن ترجع إلى كتاب من كتب أهل العلم لتجد هذا واضحاً جلياً: اقرأ -مثلاً- المقدمة التي وضعها الإمام الدارمي لكتابه الموسوم بـالسنة، واقرأ كتاب جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله للإمام ابن عبد البر، وغيرها من الكتب الكثيرة التي تتحدث عن العلم والتعلم والفقه والتفقه، تجد أن العلم في القرآن والسنة وعند السلف لا يعني مجرد تحصيل المعلومات؛ بل يشمل معنى أوسع من ذلك، ومع الأسف الشديد كثير من الشباب اليوم حين يطلقون كلمة العلم لا يقصدون بها إلا مجرد حقن المعلومات في الأذهان.
يقول الشاب -مثلاً-: أنا لم أحصل من العلم على شيء، فإذا جئت إليه وجدته قد حفظ القرآن، ويقول: لم أحصِّل من العلم شيء، إذاً فما هو العلم إن لم يكن القرآن هو أساس العلم وأصله، وماذا يكون القرآن إن لم يكن علماً، ألم تقرأ قول الله عز وجل عن القرآن: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49].
وكذلك تجد الشاب مقبلاً على العبادة، والخشوع، والصلاة، وقيام الليل، ويقول: لم أحصل على شيء من العلم.
وتجد شاباً ثالثاً يعيش في وسط مجموعة من قرنائه، وأصحابه الفضلاء يتلقى معهم التربية، وفن المعاملة، وأسلوب التخلق بالخلق الكريم، فيقول: لم أحصل على شيءٍ من العلم.
أنت حين تتعلم الحلال والحرام، والحق والباطل ماذا تقصد من وراء ذلك؟!
هذا السؤال أرجو أن يوجهه كل فردٍ منكم إلى نفسه، تعلُّم الحلال والحرام، والحق والباطل، والخير والشر، ماذا يقصد من ورائه؟
إن كان يقصد من ورائه العمل والتعليم، من تعلِّمه أن تُعلِّم نفسك وتقبل على العبادة، وعلى الخلق الفاضل والتربية، فهذه ثمرة عظيمة من ثمرات العلم، فيجب ألاّ تشتط بنا النظرات وردود الفعل، فيصبح الإنسان أحياناً ينساق وراء بعض الأشياء دون تأمل، ولا تدبر، فالعلم معنى واسعٌ شامل.
فالتربية من العلم، وتعلم الخلق الفاضل، وتعلم العبادة والخشوع، وتعلم الحلال والحرام، وحفظ القرآن كل ذلك من العلم، والعمل بهذه الأشياء من العلم، والدعوة إليها من العلم.
ولو تأملت أسلوب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في تلقي العلم وتعليمه والعمل به لوجدت أمراً عجباً، يأتي الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، أو إلى مكة قبل الهجرة، فيجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً فيسمع منه الآيات والأحاديث المعدودة ويحفظها ويفهم معناها، ويعمل بها، ثم يرجع إلى قومه منذراً لهم معلماً داعياً، ولا يعني هذا أنه توقف عند هذا الحد، بل يعود مرةً أخرى، وثالثة، ورابعة، ويتزود من العلم، ومنهم من يوقف نفسه على طلب العلم تعلمه وتعليمه، لكن لم يكن في ذهن هؤلاء الصحابة أن العلم شيءٌ والتعليم شيءٌ، والتربية شيء! لا، كل هذه الأشياء كانت عندهم شيئاً واحداً.
ولذلك تحفظون -جميعاً- كلمة أبى عبد الرحمن السلمي رحمه الله التي قال فيها: [[كان الذين يقرئوننا القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يتجاوزون بنا عشر آيات حتى نتعلم معانيهن، والعمل بهن، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً]].
إذاً: العلم والعمل شيءٌ واحد، والعلم أصلاً ما شرف إلا من أجل العمل، خاصةً العلم العملي الذي يعمل به، وكذلك علوم العقائد شرفت بشرف المعلوم، ولأجل أن يعتقدها الإنسان، أما لو تعلم إنسان هذه العلوم فلم يعتقدها، ولم يؤمن بها، لكانت وبالاً عليه.
أيها الإخوة: والوسائل للتعلم كثيرة:
يروى عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه كان يقول:
أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان |
ثم يذكر هذه الست، ويقول:
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان |
وهذه الأشياء الستة ذكرها الإمام أبو هلال العسكري في كتابه الحث على طلب العلم بصيغة أخرى فنسب إلى بعض القدماء، أو بعض الأوائل، أنهم قالوا: لا ينال العلم إلا بستة أمور.
وذكر من هذه الأمور: الذهن الثاقب، وكثرة العمل، وطول الزمان، والأستاذ الحاذق.. وذكر بقية الستة المتعلقة بالبلغة، وشهوة العلم، هذه الأمور الستة المنقولة عن الإمام الشافعي، وعن الإمام علي بن أبي طالب أيضاً، والتي نسبها الإمام أبو هلال العسكري لبعض الأوائل يمكن أن نقسمها إلى قسمين:
أشياء فطرية موهوبة، بمعنى أنها أشياء موجودة في فطرة الإنسان، تُخلق مع الإنسان وهي محض مِنَّةٍ، وهبة إلهية، وإن كان الإنسان قد يستطيع أن ينميها، لكن لا بد أن يوجد أصلها في فطرة الإنسان، وجبلته، وهي الذكاء، وقوة الذاكرة، والحرص، فهذه الأشياء الثلاثة هي في الغالب موهوبة.
والمقصود بالذكاء، أو ما عبر عنه بعض الأوائل بالذهن الثاقب: هو ما يمكن أن نعبر عنه بقوة الاستنباط، وسعة العقل، فإن الإنسان الذي يريد أن يحصل على العلم لابد أن يكون لديه قوة في عقليته، وقدرة على الاستنباط، هذه الأولى.
الثانية: هي ما عُبِّرَ عنها بالذاكرة، ويقصدون بها قوة الحفظ، وقد عبر عنها أبو هلال بكلمة الطبيعة -أي: الشيء الذي يطبع عليه الإنسان- فقوة الذاكرة لابد منها لطالب العلم، والفرق واضحٌ جداً بين قوة الاستنباط، وبين قوة الذاكرة، فقد يستطيع طالب العلم أن يحفظ نصوصاً كثيرة، وأن يستظهرها؛ ولكن ما لم يكن لديه قوة في الاستنباط، والفهم، والعقلية، بحيث يستطيع أن يجمع بين هذه النصوص، ويستخرج منها معنىً كلياً عاماً ويوفق بين مظاهره، وما تعارض منها ويستخرج منها معانٍ دقيقة قد لا يتفطن لها غيره، فإن هذه الأشياء التي حفظها لا تكون كافيةً في تحصيله.
والعكس بالعكس.... فقد يكون لدى الإنسان قوةً في استنباطه، لكن لا يكون لديه النصوص التي يستطيع أن يستنبط منها ويستخرج منها المعاني والأحكام، ويجمع بينها، ومع أن الذاكرة، أو قوة الحفظ هي محض امتنان، وتفضل من الله عز وجل، إلا أن الإنسان يستطيع أن ينمي ذاكرته.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5118 استماع |
حديث الهجرة | 5007 استماع |
تلك الرسل | 4155 استماع |
الصومال الجريح | 4146 استماع |
مصير المترفين | 4123 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4052 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3976 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3929 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3872 استماع |
التخريج بواسطة المعجم المفهرس | 3833 استماع |