بصيرة المؤمن


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الإخوة في الله: مرحباً بكم في روضة من رياض الجنة، وحيى الله هذه الطلعات الطاهرة، وهذه الوجوه المباركة التي أقبلت إلى الله، تلتمس طريقاً إلى الجنة، تريد الدخول على الله من أشرف الأبواب باب العلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع).

أنتم تأتون إلى حلق الذكر، ولكنكم لا تسيرون على الأرض، وإنما تسيرون على أجنحة الملائكة، تأييداً ورضاً بهذا المسلك النبيل، وبهذا الغرض الجميل، حين يحب الناس الدنيا فتحبون الله، وحين يحب الناس اللهو واللعب والركض فتحبون أنتم الذكر، حينما يحب الناس الطبل والزير فتحبون القرآن والتفسير، حينما يحب الناس العود والناي فتحبون أنتم الحديث والآي، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60].

هذه بضاعتكم وهذه حياتكم وهذا قدركم؛ فاحمدوا الله على ما آتاكم، هذا هو الفضل، هذا هو الخير، والله يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:57-58] بفضل الله وبرحمته أي: بالهدى والدين من الله، فمن أوتي العلم وأوتي الدين والإيمان فقد أوتي خيراً كثيراً ولو حرم من الدنيا كلها.

لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأجلاء الكرماء العظماء أكرم عيشة عرفتها الحياة، ومع هذا ما كان عنده شيء من الدنيا، بيت النبوة أشرف بيت على وجه الأرض، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان يدخل الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيوت آل محمد نار) الله أكبر! تصوروا لو أن بيوتنا لا توقد فيها النار يوماً واحداً كيف تكون؟ الآن توجد النيران وليس ناراً واحدة، لكن هل هذه هي السعادة؟ لا. بيوت آل محمد ليس فيها نار قال: [فما طعامكم يا أماه؟ قالت: الأسودان؛ التمر والماء].

وكان صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير -لا ينام على الفراش الوثير- حتى يبدو أثر الحصير في جنبه الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وكان يخرج في بعض الأيام وهو مربوط على بطنه الحجر، لقد خرج أبو بكر يوماً من الأيام يشكو الجوع فلقيه عمر فقال: ما أخرجك؟ قال: والله ما أخرجني إلا الجوع، ثم كشف عن بطنه وإذا فيه حجر -والحجر تضغط على المعدة فتسكت؛ لأن المعدة إذا خلت من الطعام أرسلت إشارات وأصدرت حركات توحي أنها تريد طعاماً، فيكون في البطن ألم حرقة الجوع، نعوذ بالله من الجوع، فإذا ضغط على الأمعاء والبطن بحجر التقى جدار المعدة بعضها ببعض فتسكت كأنها شبعت لكن بالحجر، وما شبعت بالطعام- فكشف عمر عن بطنه .. وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج عليهما فيشكوان عليه قالا: يا رسول الله! ما أخرجنا إلا الجوع، ويكشف عن بطنه الشريفة وإذا على بطنه حجران، وهو الذي يقول: (والله لو أردت أن تكون معي الجبال ذهباً وفضة لكانت، ولكن أريد أن أشبع يوماً وأجوع آخر، فإذا شبعت شكرت الله، وإذا جعت سألت الله) هذه حياة القلب حياة الإيمان، فمن رزق هذه النعمة فقد رزق النعمة الكبرى.

أيها الإخوة: عنوان المحاضرة: بصيرة المؤمن.

هناك حواس زود الله الإنسان بها لإدراك ما في هذه الحياة، لمعرفة الوسط الذي يعيش فيه الإنسان، حاسة البصر يطل منها الإنسان على عالم الألوان، فيرى الأبيض والأسود والأحمر والأزرق والأصفر بعينه، فحاسة العين تطل على عالم الألوان، وحاسة الأذن تطل على عالم الأصوات، صوت محمد وعلي وعبد الله وفلان، تعرف الصوت بأذنك، وحاسة الشم يطل منها الإنسان على عالم الروائح، إذا أردت أن تشم رائحة عطر هل تشمه بأذنك، أو تقربه إلى عينك، أو تطعمه بلسانك، أين تضعه؟ في أنفك؛ لأن أنفك هو الذي يعطيك دليلاً على نوعية هذا العطر أو هذه الريح، وحاسة اللسان تطل منها على عالم الطعام والأذواق، إذا أردت أن تعرف طعم التفاح لا تضعه عند عينك، ولا تضعه عند مسمعك، وإنما تذوقها بلسانك، وحاسة اللمس تطل منها على عالم الأجسام، فتعرف الحديد من الخشب، والجدار من الإسفنج؛ فتعرف أي شيء عن طريق حاسة اللمس، هذه خمس حواس.

وهذه الخمس الحواس ليست خاصة بالإنسان، بل مع الإنسان ومع الحيوان، بل ربما عند بعض الحيوانات حواس أدق وأقوى من حاسة الإنسان، الطائر الصغير: العصفور يعيش في جو السماء، ولكنه بعينه الصغيرة التي هي مثل حبة البلسن، أو مثل حبة العدس يرى الحبة في الأرض، وهو في السماء فينزل ويأخذها، عينه صغيرة والحبة أكبر من عينه ولكن يراها بعينه الصغيرة، عنده قدرة على رؤية الأشياء البعيدة بأدق إمكانية.

حاسة السمع موجودة عند بعض الحيوانات تسمع على مدى بعيد، وكذلك حاسة الشم بشكل عجيب، كل هذه الحواس موجودة عند الإنسان وعند بقية الحيوان، بل بعض الحيوانات كما قلت أكبر، فعين الثور مثلاً كبيرة جداً لكنه ثور، وعين الحمار كذلك كبيرة لكنه حمار لا تنفعه.

ولكن يتميز الإنسان عن سائر الحيوان بحاسة سادسة ليست مع الحمار، ولا مع الطائر، ولا مع السمك، ولا مع أي شيء من البهائم والأنعام، إن الحاسة السادسة هي البصيرة التي بها يكون الإنسان إنساناً، وبعدمها يكون الإنسان حيواناً بل أرذل من الحيوان.

واسمعوا ماذا يقول الله عز وجل: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] فالعمى ليس عمى العين، العمى عمى القلب، عمى البصيرة، يقول الله عز وجل: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى [الإسراء:72] يعني: أعمى القلب فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً [الإسراء:72] من كان في هذه أعمى هل يعني: أعمى العيون؟ لا. لأن عمى العين ليس باختيارك، هل هناك أحد يغمض عينيه ويخيطها ويعمى، لا. الله يفرضها على الإنسان، فالمؤمن يرضى بقضاء الله إذا ذهبت عيناه ويستسلم، وإذا رضي واحتسب أبدله الله الجنة، ورد في الحديث القدسي: (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر لم يكن له عوض عندي إلا الجنة) فإذا أخذ الله منك هذه الحاسة وعوضك بحاسة الإيمان ما خسرت، لكن إذا زودك بهذه الحاسة -حاسة البصر- وحرمت حاسة البصيرة فلم تعش حياة الإيمان لم تنفعك هذه العيون، فهو أعمى في الدنيا وأعمى في الآخرة يقول الله عز وجل: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:19-22] ويقول الله عز وجل: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأحقاف:26] ويقول عز وجل: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ [النحل:78] لماذا؟ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78] ويقول عز وجل: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] ويقول عز وجل: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179] أجل بم تتميز؟ بالبصيرة.

ما هي البصيرة؟ هل نبحث عنها في الصيدليات، أم في المستشفيات؟ لا. هذه لا توجد لا في البقالات ولا في المستشفيات، ولا يحصل عليها بكثرة الريالات، ولا بقوة العضلات، ولا بعلو الرتب والمناصب، بل هي: نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].

أين النور هذا؟ اسمعوا ماذا يقول الله في النور: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [النور:35] يعني: في قلب عبده: كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35] المشكاة: الفتحة التي في الجدار -في الماضي- وفيها مصباح يعني: لمبة كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ [النور:35] يعني: اللمبة فِي زُجَاجَةٍ [النور:35] مغطى بالزجاجة من أجل ألا يؤثر عليه الهواء: الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [النور:35] ملمعة ونظيفة كأنها كوكب، وبعد ذلك: هذا المصباح من أين يوقد؟ قال: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ [النور:35] يعني: الزيت والزاد الذي يوقد منه ليس بنزيناً وإنما من زيت زيتونة زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور:35] يعني: تصيبها الشمس في الشروق وتصيبها الشمس في الغروب فيأتي زيتها أصفى من الشمس: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35] نور المشكاة على نور المصباح على نور الزجاجة على نور الزيت تجمعت أنوار أين هي كلها؟ في قلب العبد المؤمن -اللهم نور قلوبنا يا رب العالمين- يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:35].

هذا النور يقول الله عز وجل عنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ [الحديد:28] ماذا؟ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [الحديد:28] وقال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].

هذا النور -أيها الإخوة- والإيمان، وهو الهداية، هو التوفيق الذي إذا حل في قلبك حيت بصيرتك وانطلقت، ورأت الأمور على حقائقها وأعادت ترتيب المسائل؛ لأن القضايا والأمور والأحداث في حياة الإنسان غير مرتبة الترتيب السليم لفقدان البصيرة، هناك أشياء غير مهمة تجد الإنسان يقدمها، وأشياء مهمة مرفوضة، غير مقدمة مهملة، لماذا؟ لأن البصيرة التي تعرف أن هذا مهم فيقدم، وهذا غير مهم فيؤخر غير موجودة، فإذا جاءت البصيرة بدأ الإنسان يعيد ترتيب قضايا حياته، ويعطي لكل شيء ما يناسبه من الاهتمام.

الآن لما عميت بصائر أكثر الناس، ما عرفوا الأمور على حقائقها ولم يروا إلا ما تراه حواسهم فقط، فرأوا الدنيا، فيعيشون للدنيا التي يرونها ويسمعونها ويشمونها ويتذوقونها ويلمسونها ويتمتعون بها، فلها يعيشون، وبها يفرحون، ومن أجلها يغضبون، وفي سبيلها يموتون، وإذا قلت له: آخرة، قال: يا شيخ! فيما بعد، لماذا؟ لأنها ليست في ذهنه، وليست واردة في حساباته؛ لأنه لا يراها، ليس لديه نور ينظر به، وليست عنده بصيرة يستطيع أن يخترق الحجب وأن ينفذ إلى الآخرة، ولذا لا يرى إلا الدنيا، لماذا؟ قال العلماء: هذه الإصبع إذا وضعتها في المكان المناسب رأيتها بحجمها، تضعها أمام عينك فتراها بوضعها الطبيعي ولكنك تراها وترى ما وراءها، لا تستطيع الإصبع أن تحجب الرؤية عن عينيك وأن تسد أفق النظر عما وراءها، فأنا الآن أرى إصبعي وأرى المجلس المملوء بالمؤمنين، وأرى اللمبات والأعمدة، وأرى الميكرفون، وأرى يدي، لكن إذا قربت الإصبع جداً جداً إلى أن تلصقها بعينك ماذا ترى؟ لا ترى إلا الإصبع فقط، يقولون: وراءها مسجد وراءها أناس، تقول: لا. لا أرى إلا الإصبع، لماذا؟ لأنك ألصقتها، ما وضعتها في المكان المناسب، لكن إذا أبعدتها قليلاً ترى الناس، كذلك الناس ألصقوا الدنيا بقلوبهم، ألصقوا الدنيا بأعينهم، ألصقوا الدنيا بجميع حواسهم فلا يرون إلا الدنيا، ولو أنهم أبعدوا الدنيا قليلاً -لا نقول: يرفضونها وإنما يجعلونها في المكان الصحيح- لرأوا الآخرة، ولرأوا الجنة والنار.

حارثة بن وهب رضي الله عنه -وإن كان الحديث فيه مقال، لكنه يستشهد به في مثل هذه الأمور- لقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كيف أصبحت يا حارثة ؟ قال: أصبحت مؤمناً يا رسول الله! قال: انظر ماذا تقول، فإن لكل قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: يا رسول الله! عزفت نفسي عن الدنيا وشهواتها؛ فأظمأت نهاري بالصيام، وأسهرت ليلي بالقيام، وأصبحت وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها؛ فقال عليه الصلاة والسلام: عرفت فالزم، إنك امرؤ نور الله قلبك بالإيمان).

إذا أنار الله القلب وفتح البصيرة؛ رأى الإنسان الدنيا والأمور كلها على حقيقتها، ورأى الله في كل شيء.

وفي كل شيء له آية     تدل على أنه الواحد

ينظر إلى السماء فيرى آثار قدرة الله في خلق السماء فيقول: لا إله إلا الله! سبحانك مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191].

ينظر إلى البحر فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من أجراه.

ينظر إلى الجبال فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من أرساها.

ينظر إلى الأرض فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من مدها وبسطها.

ينظر إلى الثمار فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من حلاها وأنبتها.

ينظر إلى العسل وهو يأكل ويقول: لا إله إلا الله! سبحان من أخرج هذا العسل من هذه الحشرة.

يأكل الموز فيقول: سبحان من أخرج هذا الشيء من الطين! وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرعد:4] لماذا؟ فتح الله بصيرته، لكن البهيمة التي لا تعرف الله وليس عندها إيمان ولا نور تأكل من اللوز ومن الموز ومن اللحم ومن العسل ومن كل شيء، ولا تقول: سبحان الله! ولا تقول: لا إله إلا الله! لماذا؟ مثل الدابة أو الثور أو الحمار -الله يكرمكم- إذا أكل علفاً هل يتفكر في هذا العلف كيف ساقه الله له؟ أبداً، يأكل حتى تمتلئ بطنه ويذهب فيركب أنثاه، وكذلك بعض البشر يعيش حياة البقر وحياة الحمير لا فرق بينه وبين البهائم والعياذ بالله.

المؤمن يتميز بهذه البصيرة التي ينظر بها إلى الأمور، يعيش في الدنيا ويسكن في القصر ولكن بجسده وقلبه يعيش في القبر، يعيش على الفراش الوفير وهو يتذكر الكفن والحفرة المظلمة، يعيش في النور وهو يتذكر ظلمات القبور، يعيش مع الزوجة ومع الأبناء وهو يتذكر الوحشة في أول ليلة من ليالي القبر، يأتي على الإنسان في أول ليلة موحشة في قبره ما لم يتعرض له في حياته قط، يقال: يومان وليلتان ما مر عليهما الإنسان في حياته: أول ليلة في القبر وأول ليلة إما في الجنة وإما في النار، يقول:

فارقت موضع مرقدي     ليلاً ففارقني السكون

القبر أول ليلة     بالله قل لي ما يكون

إني أبثك من حديثي     والحديث له شجون

يقول: أعطيك ما في قلبي وهو ذو شجون، يقول: أنا إذا غيرت مرقدي ليلة من الليالي في غير بيتي أتقلب طوال الليل، لماذا؟ قال: لأني غيرت موضع مرقدي، يقول:

القبر أول ليلة     بالله قل لي ما يكون

كيف تلك الليلة يا إخواني! ونحن نعيش في غفلة عن هذا المصير، من الذي يعيش حياة القبور؟ إنهم أهل البصيرة، لا تخدعهم الفلل ولا العمارات ولا السيارات ولا الزوجات ولا غرف النوم، وإنما يعيشون هموم الآخرة قبل أن يصلوها، فيستعدون لها، ويعملون من أجلها.

أما البهائم البشرية فهم في غفلة، يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12] ويقول عز وجل: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات:46] ويقول عز وجل: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].

فبالإيمان وبالبصيرة التي ينور الله بها قلب المؤمن تنضبط حياة الإنسان، يرى الآخرة، ويرى الجنة وما أعد الله فيها للمؤمنين فيعمل، ويرى النار وما أعد الله فيها للعصاة والمجرمين فيتوقف، لا يستطيع أن يقدم على المعصية، يدعى إلى الزنا فيقول: إني أخاف الله. يدعى إلى الحرام فيقول: إني أخاف الله. يدعى إلى الربا فيقول: معاذ الله. لماذا؟ لأنه آمن بالنار فكأنما يراها رأي العين، ورأى الجنة كذلك فيقوم إلى عبادة الله، وإلى طاعة الله، بل يقوم إلى الموت في سبيل الله.

حنظلة بن عامر الأسدي رضي الله عنه وأرضاه (غسيل الملائكة) قام من على فراشة في ليلة عرسه ومع زوجته في أول ليلة يبني بها، وليلة الزواج يسمونها: ليلة العمر، كل شخص يخطط لها طوال حياته من أجل أن ينبسط فيها، يأخذ إجازة من العمل قبلها وبعدها يريد أن يرتاح، لكن حنظلة عنده نظرة للآخرة، لما سمع المنادي: يا خيل الله اركبي! قال لزوجته: أسرجي حصاني، فقامت تسرج الحصان، وهو يلبس آلة الحرب -السيوف والدروع- فركب على الحصان ولم يغتسل -خرج جنباً- فقاتل حتى استشهد، ويضحي بزوجته، ولكن الله يعطيه بدلها اثنتين وسبعين زوجة في الجنة، وفي آخر اليوم، يتفقدون القتلى فيجدونه وإذا برأسه يقطر ماء، والماء معدوم في المعارك، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (سلوا زوجته، فقالت: خرج وهو جنب، قال: والذي نفسي بيده إن الملائكة لتحمله وتغسله في صحاف من ذهب بماء المزن بين السماء والأرض) ما الذي جعله يقوم من جانب امرأته ويذهب يموت في سبيل الله؟ البصيرة، لكن لما عدمت البصيرة عند بعض الناس لا يقوم من فراشه ليصلي في المسجد، يسمع المنادي فوق رأسه: الله أكبر! وهو يتقلب كالخنزير على فراشه دون أن يصلي، لماذا؟ لأنه مطموس البصيرة، أعمى القلب، والله لو يعلم أن في المسجد مائة ريال لا ينام، لو قيل: لكل صلاة مائة ريال، هل هناك أحد سيترك صلاة بخمسمائة ريال في اليوم، وفي الشهر بكم؟ بخمسة عشر ألفاً، هذا راتب أفضل من أي راتب، لا أحد يتركها، لكن لو كان الجزاء الجنة (من غدا إلى مسجد وراح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا وكلما راح) فمن يأتي لهذه؟ يأتي لها الذين يرونها، يرونها بماذا؟ يرونها بقلوبهم، ما رأوها بأبصارهم ولكن رأوها ببصائرهم: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] إذا عمي القلب فليس في الإنسان فائدة والعياذ بالله.

هذه البصيرة يرى الإنسان بها حقائق الأمور فيرتب أموره على هذا الوضع، ويعيش عيشة الإيمان.

هل هناك وسائل وأسباب تقوي هذه البصيرة وتجعلها نافذة وقوية؟

نعم. روى البخاري في الصحيح حديثاً قدسياً يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، والحديث القدسي هو الذي لفظه ومعناه من الله مثل القرآن غير أنه لا يتعبد به في الصلاة، ولكن تقرأ في الصلاة بالقرآن وهو: الكلام الذي أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لفظه ومعناه، ومتعبد به في الصلاة، والحديث القدسي هو الذي أوحي به من الله إلى النبي لفظاً ومعنىً وغير متعبد به في الصلاة، والحديث النبوي الشريف هو الذي أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم معناه دون لفظه، المعنى من الله واللفظ من محمد صلى الله عليه وسلم.

هذا الحديث القدسي في صحيح البخاري، يقول عليه الصلاة والسلام: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) وفي بعض الروايات: (من عادى) من بدأ العداوة والأذى لأولياء الله فقد آذن الله بمحاربته وأعلن الله عليه الحرب، ومن أعلن الله حربه فهو مهزوم؛ فمن يقدر على الله: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [يوسف:21].

النمرود كان يدعي أنه الإله، ولما دعاه إبراهيم إلى عبادة الله وحده كفر وقال: إنه هو الرب ولا يعرف أنه يوجد رب غيره للناس، وبعد ذلك طلب من إبراهيم أن يبارز الله، قال: هذا الذي تدعي أنه إلهك يا إبراهيم، أريد أن يبرز لي في الميدان، أريد أن أقاتله، فإن غلبني فهو الرب وإن غلبته فأنا الرب؛ فالله عز وجل أرسل له جندياً من أصغر الجنود وأضعفها، يقول الله: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفتح:4] هذا الجندي هو بعوضة أرسلها الله للنمرود؛ لأنه أضعف من البعوضة لا يستحق أن يرسل له أسداً أو نمراً أو ثعباناً، البعوضة تسلبه وتمتص دمه ولا يمتنع منها، وبينما كان نائماً في الليل يشخر كالثور دخلت البعوضة من أنفه واستقرت في رأسه، وتربت على دماغه، وكانت تنتفض بجناحها، فإذا انتفضت أحس في رأسه مثل الصواعق دوار وصداع وحركة غريبة في رأسه، فلا تسكن إلا إذا ضرب وجهه بالنعال، وإذا وقف الضرب حركت أجنحتها فيقول: اضرب اضرب، فضرب النعل أخف من حركة البعوضة في رأسه حتى تقطع وجهه، أصبح وجهه تسيل منه الدماء من كثرة الضرب، حتى تقيحت وتقرحت وبدت عظام وجهه، وأخيراً لم يجد فرصة للحياة، لم يتحمل أبداً، إن ضرب تألم، وإن لم يضرب تألم من الداخل ما هو الحل؟ الحل: الموت، دخل عليه عبد من عبيده وفي يده سيف، قال: يا عبدي! قال: نعم. قال: اضرب هامتي -يقول: اضرب رأسي- فسل العبد السيف وفلق رأسه، فنزل السيف على رأسه ونزل على جناح البعوضة فقصه فاشتكت إلى الله، وقالت: يا رب! دخلت في عدوك بأمرك لأعذبه؛ لأنه عدوك، ولكن سلطت عليَّ من قطع جناحي، فقال الله لها: أتريدين جناحك، أم تريدين دية؟ قالت: كم الدية؟ قال: الدية الدنيا منذ خلقتها حتى أفنيها -قصورها وعماراتها وبنوكها ومزارعها وسياراتها وكل ما فيها- ففكرت قالت: ماذا أفعل بالدنيا، وأنا مكسورة الجناح لا أطير؟ فقالت: لا يا رب! أريد جناحي من أجل أن أطير، فأعطاها الله جناحها، ولذا قال في الحديث: (لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة.

والجندي الآن الجديد الموجود في العالم اسمه: الإيدز، وهو يهدد أمريكا وأوروبا والعالم كله، أين كان الإيدز، والإنسان موجود منذ القدم ولم يعرفه إلا هذه السنة؟ سلطه الله عليهم لما عتوا عن أمر الله، ولما شاعت فيهم الجريمة والفاحشة، وأصبح الجنس عندهم إلى أرذل درجة من درجات الحيوانية، يعني: الحياة الجنسية عندهم لا تطاق أبداً، وتمارس بشكل بهيمي يستحي منه الحمار والحيوان، فماذا سلط الله عليهم؟ سلط الله عليهم الإيدز، الإيدز فيروس يدخل في الجسم ويسير مع الدم، ويقتل الكريات البيضاء ويقضي على المناعة.

الكريات البيضاء تشكل جيشاً داخلياً لمحاربة الأجسام الغريبة، وهي التي تحفظ للجسم مناعته وقوته ضد أي مرض، فإذا ماتت هذه الكريات يصبح الجسم لا يستطيع أن يقاوم أي مرض، وبالتالي أقل زكام يقتله، أقل جرثومة تقتله، والعالم إلى الآن لم يستطع أن يجد لهذا المرض علاجاً.

من يستطيع أن يحارب الله؟ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفتح:7] أرسل الله عز وجل على قوم عاد الريح، أتدرون كم فتح عليهم؟ قدر حلقة الخاتم فكانت تحملهم إلى السماء ثم تلقيهم سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:7-8].

سلط الله عز وجل على قوم فرعون الغرق، وسلط الله عز وجل على قوم لوط الهدم بحيث حمل قريتهم ثم قلبها عليهم، وعلى ثمود الصيحة، وكل أمة يسلط الله عليها عذاباً، والله قادر أن يسلط على الكفار عذاباً لا يعرفه الناس، ولكن الله يقول: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:182-183] .. وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً [فاطر:45]. (من عادى لي ولياً -من آذى لي ولياً- فقد آذنته بالحرب) فقد أعلنت عليه الحرب، انتبه يا أخي في الله! لا تعادي أولياء الله، لا تؤذ عباد الله، من هم أولياء الله؟ بعض الناس يتصور أن الأولياء هم الذين في القبور وعليهم قباب ويطاف حول قبورهم، لا. هؤلاء أولياء -إن شاء الله- إن كانوا صالحين، وكل مؤمن بالله فهو ولي لله؛ لأن الله يقول: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] فكل مؤمن يتقي الله فهو ولي من أولياء الله؛ لا تؤذه في ماله، ولا تؤذه في نفسه، ولا تؤذه في عرضه، ولا تؤذه بأي أذى، حتى لو دخلت المسجد تتوضأ في دورة المياه وشخص في الحمام لا تطرق عليه الباب؛ لأن هذا إيذاء له، هل هناك أحد في الدنيا يقعد في الحمام باختياره؟ لا. الإنسان يدخل الحمام مضطراً من أجل أن يقضي حاجته، وهو يود أن يخرج في أول فرصة، لكن أحياناً ينتظر، يكون عنده حاجة أكبر يقضيها، فإذا أتيت تطرق عليه الباب ألست تؤذيه؟ الإيذاء لا يجوز.

لا تؤذه بدعائه بغير اسمه، كأن تقول: يا طويل! يا قصير! يا متين! يا ضعيف! يا أسود! يا فلان أنت يا علان، لا. بل ناده باسمه، بل بكنيته فإذا كان اسمه محمداً وله ولد اسمه عبد الله تقول: يا أبا عبد الله! وإذا كان اسم ولده خالد فتناده: يا أبا خالد! لماذا؟ لأن الكنى محببة إلى النفس والعرب تحبها، إذا ناديتني بابني أفضل من أن تناديني باسمي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكنى بأبي القاسم صلوات الله وسلامه عليه، فلا تؤذ عبد الله بالنظر إلى بيته، إذا رأيت أهله معه وأنت ماشٍ في الطريق فلا تنظر إلى زوجته، بل ابتعد عنه، لا تؤذه في ماله، (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) لماذا لا تؤذيه؟ خوفاً من الله حتى لا يحاربك الله؛ لأن الله لو حاربك قصمك.

التقرب إلى الله بما افترض والزيادة من النوافل

(من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بعمل أحب إليَّ مما افترضته عليه) أحب عمل تتقرب به إلى الله ما افترضه الله عليك، ما الذي افترض الله عليك؟

افترض الله عليك التوحيد، أول فريضة توحيد الله، إفراد الله بالعبادة، توحيد الله بالألوهية، وتوحيد الله بالربوبية، وتوحيد الله بالأسماء والصفات، وفي الألوهية بألا تصرف شيئاً من أنواع العبادة إلا له، وفي الربوبية بألا تعتقد أن الخالق، أو الرازق، أو المحيي أو المميت، أو المعطي، أو النافع أو الضار، أو المانع إلا الله، في الأسماء والصفات أن تثبت لله كل اسم وكل صفة أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله، وأن تنفي عنه كل ما نفى عن نفسه ونفى عنه رسوله صلوات الله وسلامه عليه.

والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم فريضة؛ لأن الله يقول في القرآن الكريم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] ويقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] فمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم فريضة، ما معنى المتابعة؟ أن تتخذه قدوة لك، فلا تزد ولا تنقص؛ لأنك إذا زدت ابتدعت، والزيادة في الدين بدعة، ولو كانت حسنة كما يقول بعض الجهلة يقول: نحن نزيد في الدين زيادة حسنة، نقول: لا. لا توجد زيادة حسنة: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) .. (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) الذي يزيد في الدين كالذي ينقص منه، يسعنا ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم وما وسع الصحابة وما وسع سلف هذه الأمة.

من أين جاءت هذه؟ أخذناها من كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا إله إلا الله توحيد الله، محمد رسول الله متابعة الله.

ثالث فريضة: الصلاة..الزكاة..الصيام..الحج..الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله يقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... [آل عمران:110] تنهي عن المنكر بلسانك أو بيدك، وأضعف شيء بقلبك، هل هناك أحد لا يستطيع أن ينكر المنكر بقلبه؟ لا يوجد أحد لا يستطيع؛ لأنك تستطيع ولا أحد يدري ماذا في قلبك، فإذا علم الله أنك تكره المنكر فأنت مؤمن، وإذا الله علم أنك تؤيد المنكر وتحب المنكر فكما يقول عليه الصلاة والسلام: (وليس بعد ذلك من الإيمان حبة خردل) الذي لا ينكر المنكر حتى بقلبه هل هو مؤمن؟ لا. من جاهد بيده فهو مؤمن، ومن جاهد بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهد بقلبه فهو مؤمن، ولكن من رضي وتابع.

الدعوة إلى الله فريضة: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل:125] من يحمل الدعوة إن لم تحملها أنت؟ اليهود والنصارى؟!

ليس معنى كونك داعية أن تكون واعظاً وخطيباً وعالماً كبيراً لا. ادع نفسك وادع زوجتك، الذي يدعو زوجته وتهتدي على يديه يبعث مبعث الأنبياء يوم القيامة؛ لأن النبي من بني إسرائيل يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، والنبي يأتي ومعه الرجل والنبي يأتي ومعه الرجلان، والنبي يأتي ومعه ثلاثة وهكذا، فالذي يدعو زوجته وأولاده داعية، والذي يدعو زوجته وأولاده وأسرته ومحيطه الأسري فهو أفضل، وكذلك الذي يتوسع قليلاً في حارته ومجتمعه وهكذا كلما زدت زاد الخير.

قراءة القرآن فريضة وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:4] الحب في الله فريضة، البغض في الله فريضة، هذه الفرائض تتقرب بها إلى الله عز وجل.

يقول عليه الصلاة والسلام: (وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) متى يحبك الله؟ إذا عملت النوافل، انظر التفريق بين المحبة للعمل والمحبة للعامل، المحبة للعمل إذا قدمته وهي الفرائض (وما تقرب إليِّ عبدي بعمل أحب إلي -أحب إلى الله- مما افترضته عليه) هذا يحبه الله، لكن أنت متى يحبك؟ إذا عملت شيئاً آخر مع الفريضة، ما هو الشيء؟ النوافل (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) يصلي العشاء أربع ركعات، لكن يقول: يا ربِ! أربع قليلة، يمكن أنني ما وفيتها ويمكن غفلت فيها، سأزيد اثنتين نافلة، ويذهب إلى البيت وقبل أن ينام يزيد اثنتين أو أربعاً أو ستاً أو ثماناً، ثم يصلي الوتر، وبعضهم يوفقه الله فينام ثم يستيقظ آخر الليل قبل الفجر بساعة أو ساعة إلا ربع أو نصف ساعة فيصلي اثنتين أو أربعاً أو ستاً أو ثماناً ثم يوتر، هذا يتملق لله، هذا يطلب عفو الله، هذا يقول: يا ربِ! أنت أحببت العمل فقدمته، والعامل أريد أن تحبه يا رب، فكيف تقبله؟ الله لا يقبلك ولا يحبك إلا بالنوافل (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) فيصلي الصلاة ويصلي وراءها نوافل، ويصوم رمضان ويصوم بعده ستة أيام من شوال، ويصوم يوم عرفة، ويصوم اليوم التاسع والعاشر من عاشوراء، ويصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويصوم الإثنين والخميس من كل شهر إذا وفقه الله وقدر على ذلك، ويزكي المال في رمضان أو في غيره إذا حال عليه الحول، وكلما رأى مسكيناً أعطاه، خاصة إذا قال لك المسكين: لله، انتبه! لا تقل: لا يوجد، فيجعله ربي حقاً، فتظل تبحث لا تجد شيئاً يجعلك الله فقيراً.

يحدثني أحد الإخوة في مكة المكرمة عن رجل من أهل الخير في مكة خرج من المسجد الحرام وسيارته واقفة أمام الموقف وهو من الأثرياء ومن الوجهاء، وقصد سيارته وركبها وشغلها، فوقف عليه رجل من الفقراء المساكين وقال له: لله ريال أتعشى به -وما أكثر الفقراء في مكة - يقول: ريالاً فقط آخذ به سندوتشاً أو عصيراً أو بسكويتاً أتعشى به -الرجل هذا من أهل الخير وينفق، لكن يقول: قد شغلت السيارة وقد وضعت رجلي على البنـزين وأريد أن أمشي، والأمر يحتاج أني أقف، وأدخل يدي في جيبـي وأخرج ريالاً أو خمسة أو عشرة وأعطيه- فيقول: تكاسلت عن العمل هذا فقلت له: على الله، يقول: فنظر الرجل إلى سيارتي (150000) ألفاً، وجيوبي وبطني منتفخة، وأقول لا يوجد شيء (على الله) يقول: فنظر لي بعين وقال لي: على الله! نعم. رزقي على الله وليس عليك، أنا ما سألتك لي سألتك لله، وما دام عييت فليس رزقي عليك، الذي خلقني سوف يرزقني ويعطيني أعظم مما تعطيني، يقول: ثم تركني، يقول: وبينما كان يدور الحوار بيني وبينه كان هناك امرأة تبيع (الفصفص) وتبيع الحلويات فنادت الرجل وأدخلت يدها في كيس وأعطته ريالاً -انظر الملايين ما نفعت، وهذه التي يمكن ليس لديها إلا هذا الريال أخرجت الريال وأعطته- يقول: فلما رأيتها تعطيه ريالاً وأنا معي الملايين ولم أعطه ريالاً شعرت كأن شخصاً ضربني في قلبي بخنجر، وقلت: ما قيمة ملاييني وما قيمة حياتي، يقول: فأوقفت السيارة وأدخلت يدي في جيبـي وأخرجت عشرة ريال ونزلت أبحث عن الرجل، يقول: بحثت عنه فما وجدته، ويقول: فكأن من سحبني وقادني إلى تلك المرأة فأعطيتها العشرة، أنفقتْ ريالاً فرد الله لها عشرة؛ لأن الله يقول: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39] .. يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276] فكان درساً لهذا الغني.

فعليك أن تنتبه، الفقير الذي يسوقه الله لك نعمة من نعم الله عليك، إذا ساق الله لك فقيراً وأنت في سيارتك أو في دكانك أو في مكتبك فهو نعمة ساقه الله إليك من أجل أن تنال الثواب على يديه، فلا ترده ولا تنهره انتبه! وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى:10] أعطه ولا تقل: ليس عندي شيء، إلا إذا لم يكن عندك شيء حقاً، لكن أن يكون جيبك مليء بالمال فتقول: ليس عندي شيء، لكن للببيسي نخرج الأموال، وللماء نخرج الأموال، وللدخان نخرج الأموال، وللجرائد نخرج الأموال، وللغداء وللعشاء وللسمك وللدجاج والأكل والشهوات، واللِعب واللُّعَب والأطفال نخرج الأموال، أمَّا لله فنقول: لا يوجد شيء، إذاً فمن الذي أعطاك المال؟! الله، يقول الله عز وجل: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33] الله يقول: يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6] ما الذي غرك بالله؟ غرك المال؟ المال مال الله، جئت إلى الدنيا وأنت عارٍ لا تملك خرقة واحدة، والله رزقك ورفعك وأعطاك مالاً فلماذا تبخل؟ فلا بد أن تنفق من المال في غير الزكاة.

وأيضاً الحج تحج الفريضة وتحج النافلة، تعتمر الفريضة وتعتمر النافلة، تقرأ القرآن..تأمر بالمعروف تنهى عن المنكر..تزيد في النوافل، لماذا؟ لتكون محبوباً عند الله، فإذا أحبك الله ماذا يحصل؟ اسمعوا وهنا الشاهد من الحديث قال: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) يصبح بصرك بصيرة ربانية، تنظر بنور الله، تسمع بأمر الله، تتكلم بأمر الله، عبداً ربانياً، لا تنظر إلى ما حرم الله؛ لأن نظرك رباني، نظرك محكوم بأمر الله، لا تسمع شيئاً حرمه الله؛ لأن أذنك أذن ربانية تضطرب وتهتز لأقل معصية لا ترضي الله عز وجل، (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه) فتقوم العلاقة بينك وبين الله عامرة، إذا سألت الله يعطيك.

قد يقول أحد الناس: أنا أسأل ولا يعطيني ربي، الله يعطيك لكن ليس الآن، إذا سألت وأنت حبيب الله فإن الله يستجيب لك بأحد ثلاثة أمور: إما أن يعطيك سؤالك، وإما أن يعطيك إياه في الآخرة، وإما أن يرد عنك من القضاء والقدر المر بقدر هذا الدعاء، فلا ينزل عليك شيء، (ولا يرد القضاء إلا الدعاء) هذا حديث في الترمذي والدعاء والقضاء يصطرعان بين السماء والأرض، فإذا نزل القضاء نزل مخففاً، وأحياناً يكون الدعاء أقوى من القضاء فيرده بإذن الله عز وجل، حتى ورد في الحديث: (إن المؤمن يوم القيامة ليعطى حسنات كأمثال الجبال، فيقول: يا رب! من أين هذه؟ -أنا ما عملت هذه- فيقول: هذه دعواتك التي كنت قد دعوتها في الدنيا ادخرتها لك) فيتمنى المؤمن أن الله ما استجاب له دعوة؛ لأن جميع الدعوات التي استجيبت في الدنيا ذهبت، والدعوات التي ادخرت في الآخرة بقيت، فالباقي أفضل من الذاهب -أيها الإخوة- (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له منه).

هذه -أيها الإخوة- أول أسباب قوة البصيرة، إذا أردت أن يفتح الله بصيرتك فأول سبب أن تحافظ على الفرائض وأن تزيد في النوافل، هذا أول شيء.

غض البصر

هناك خمسة أسباب ذكرها ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وهو ينقل عن أحد السلف واسمه شجاع الكرماني وكان من أعظم عباد الله بصيرة، كان له فراسة وبصيرة نافذة يقول:

من غض بصره عن الحرام، وكف نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بالتقوى، وعمر ظاهره بالسنة، وأكل الحلال، لم تكد تخطئ له فراسة، وفتح الله بصيرته.

قال ابن القيم رحمه الله: لما غضضت بصرك جازاك الله من جنس عملك، ما هو عملك؟ غض البصر، فماذا حصل؟ فتح بصيرتك، إذا أنفقت مالك يجازيك الله من جنس فعلك، ماذا يعطيك الله؟ تنفق مالاً يرد الله عليك أكثر مما أنفقت، يقول عليه الصلاة والسلام: (من ترك شيئاً لله -ماذا يعطيه الله؟- عوضه الله خيراً منه) ما تترك شيئاً لله إلا والله يعطيك أفضل منه، تركت البصر من أجل الله ففتح الله لك البصيرة من أجله، فأنت عندما تغض بصرك عن الحرام ماذا يحصل لك؟ يفتح الله بصيرتك، فتصبح تنظر بنور الله، ويحبب الله لك الإيمان، ويزينه في قلبك، ويكره إليك الكفر، والفسوق، والعصيان، ويجعلك الله من الراشدين، تحب القرآن، تحب المساجد، تحب أهل الخير، تحب الصلاة، تحب حلق الذكر؛ فتصير عندك طاقة، ويصير عندك إيمان وإقبال، ويصير عندك توجه كبير، لماذا؟ لأن الله فتح بصيرتك، وبعد ذلك يحفظك الله عز وجل عن الوقوع في المعاصي؛ فتكره سماع الأغاني، وإذا رأيت امرأة لا تريد أن تنظر إليها، وإذا كان هناك حرام فيحفظك من الذهاب إليه، يضيق صدرك من الحرام، تضيق مذاهبك من الشر، لماذا؟ فتح الله بصيرتك، عندما غضضت بصرك عن الحرام، ولهذا قال الله في القرآن في سورة النور: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30] أزكى لك أن تغض بصرك، قال العلماء: أزكى لأسباب؛ لأن فيه اثنتي عشرة فائدة، أعظم فائدة وأجل فائدة: أنك امتثلت أمر الله؛ لأنه لا توجد أي قوة في وجه الأرض تستطيع أن تضبط بصرك إلا قوة الله.

بإمكان الإنسان أن ينظر في عمارة وهذه العمارة قد يكون فيها شباك، وفي الشباك امرأة متبرجة فينظر لها ويمتع عينه بها، ويأتي صاحب البيت أو أحد الناس من أهل الخير، يقول: اتق الله، لا تنظر إلى المرأة، فيقول: أنا لا أنظر إلى المرأة، أنا عندي عمارة وأريد أن أشتري ألمنيوم مثل الذي في الشباك، ويقول للرجل: نظرتك بعيدة، أنا لا أريد النساء، لكن الله يعلم أنك تنظر إلى المرأة، من الذي يعلم؟ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] قد تتظاهر أمام الناس أنك تغض بصرك لكنك تنظر شزراً هنا وهناك، ربي يعلم ماذا في قلبك.

فإذا غضضت بصرك كان هذا دليلاً على مراقبتك لله، وعلى امتثالك لأمر الله، وعلى شعورك بمراقبة الله، وعلى علمك بأن الله ينظر إليك، هذا هو الإيمان، وهذا هو الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه) فهذه أعظم فائدة.

من فوائد غض البصر: أن القلب يبقى سليم.

لأن القلب سليم إذا سلم من قنوات الشر، سليم إذا نظرت العين إلى الحلال، لكن إذا نظرت إلى الحرام فهو سهم في القلب، وإذا سمعت الحرام فهو سهم في القلب، وإذا بطشت في الحرام فهو سهم في القلب، ويبقى القلب مطعون من كل جهة، ولذلك بعض الناس الآن قلبه ميت قد طعنه حتى أهلكه، طعنة بالغناء، وطعنة بالزنا، وطعنة بالنظر، وطعنة بالربا، وطعنة باللواط، وطعنة بقطع الصلاة؛ وطعنات من كل جانب، فيبقى القلب مسكيناً من أين تأتيه العافية والسموم تأتيه من كل جانب؟!

أما قلب المؤمن كالملك على العرش، جالس محفوف بالعناية والجند من حوله، والأبواب كلها مغلقة، إذا جاء الشيطان يدخل من عند العين قالت العين: ارجع لا تدخل من عندي، يأتي من عند الأذن، تقول الأذن: ارجع لا تدخل من عندي، يأتي من عند اللسان فيقول: لا يدخل من عندي، يأتي من عند الفرج ..فيبقى القلب سليم مائة بالمائة.

لكن قلب العاصي مسكين معذب من كل جهة وطريق، فأول فائدة بعد امتثال أمر الله عز وجل أن القلب يبقى سليم؛ لأن النظر سهم كما جاء في الحديث الذي في مسند أحمد : (النظر سهم مسموم من سهام إبليس من تركه مخافة الله أبدله الله إيماناً يجد حلاوته إلى يوم يلقاه) والناظم يقول:

وأنا الذي جلب المنية طرفـه     .....

يقول: أنا الذي جلبت الموت لقلبي عيني.

........     فمن المطالب والقتيل القاتل

ويقول:

وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً     لقلبك أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر          عليه ولا عن بعضه أنت صابر

فأنت تنظر إلى أشياء لا تقدر عليها ولا تصبر عنها، وطريق السلامة أن تغض بصرك.

في غض البصر كلفة وفيه معاناة ومشقة، لكنها أخف بملايين المرات من معاناة النظر، النظر سهم يحرق القلب، والقلب إذا احترق قوي جندي الشيطان، وإذا قوي جندي الشيطان ونظرت جاءت النظرة الثانية؛ لأن الله يقول: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168] ما قال خطوة بل خطوات، النظرة الأولى خطوة، ثم كلمة، ثم بسمة، ثم كلام، ثم سلام، ثم موعد، ثم لقاء، ثم زنا، ثم جهنم، بدأت بالنظر وانتهت بالنار، يقول الناظم:

كل الحوادث مبدؤها من النظر     ومعظم النار من مستصغر الشرر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها     في أعين الغيد موقوف على الخطر

يسر ناظره ما ضر خاطره     لا مرحباً بسرور عاد بالضرر

ولذلك الذين يغضون أبصارهم الآن مرتاحين، الشاب المؤمن الذي يغض بصره فهو في ألف راحة، لا يعرف إلا زوجته، كلما رأى شيئاً توقف، يقول: "النافذة التي يأتيك منها الريح سدها واستريح" عينك يأتيك منها ريح الزنا كل يوم أقفلها واسترح، لكن تنظر وتنظر وتنظر يحترق قلبك وأنت لم تجد أي شيء، وإن لقيت شيئاً لقيت الحرام ولعنة الله وغضب الله وسخط الله، يقول الله تعالى: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] الإنسان يصبر على مرارة غض البصر من أجل أن يفتح الله بصيرته على النظر إليه في الجنة وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] كما أنك الآن تصبر على ألم الإبرة إذا جاء الممرض يدفع إليك بالعلاج في عضلتك أو في الوريد هل أنت تحس براحة، أم بألم؟ ولهذا بعضهم يغمض عينيه منذ أن يبدأ الدكتور بضرب الإبرة، لكن يصبر على ضربة الإبرة ثم يفركها الممرض بالقطنة وينساها لماذا؟ دخلت العافية، نحن كذلك في طريق الإيمان نغض أبصارنا ونصبر من أجل ما عند الله، أما أن أفتح عيني وأنظر والله يغضب عليَّ، ويمقتني، ويحرق قلبي، ويسخط عليَّ، ويحرمني من النظر إليه في الجنة، ثم لا أستفيد شيئاً إلا غضب الله، لا. لا بد -أيها الإخوة- من غض البصر.

ومن فوائد غض البصر كما قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي يقول: أنه يورث القلب أنساً بالله؛ لأن إطلاقه يشتت القلب ويفرق القلب ولا يبقى القلب مجموعاً على الله، وإنما موزعاً بين المناظر التي رآها، وهذه من أعظم آفات القلب.

وكذلك أن غض البصر يورث القلب نوراً يقذفه الله عز وجل، وإطلاقه يورثه ظلمة؛ لأن المعصية ظلمة والطاعة نور، فإذا أطعت الله نوّر الله قلبك، وإذا عصيت الله أظلم الله قلبك -والعياذ بالله- ولهذا ذكر الله عز وجل هذه الآية -آية النور- عقب الأمر بغض البصر في سورة النور لما أمر بغض البصر قال: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور:35].

أيضاً: يورث المؤمن فراسة، والتي نسميها البصيرة؛ لأنك يوم أن غضضت بصرك من أجل الله فتح الله بصيرتك على كل ما يحبه الله ويرضاه، وإنما يجازيك الله عز وجل من جنس فعلك.

وأيضاً: فإن النظر إلى الحرام يحول القلب إلى محل لإلقاء القاذورات فيه، فلا يصلح أن يكون محلاً لكلام الله، ولا يصلح أن يكون محلاً للإيمان بالله، لماذا؟ لأنه أصبح مثل الزبالة لا يقع فيه إلا الحرام والخبث، فإذا جاء الكلام الطيب لا يستقر، وإذا جاء النظر الطيب لا يستقر، فإذا أردت أن يكون قلبك محلاً لما يحبه الله ويرضاه فطهر عينك من النظر إلى ما حرم الله عز وجل، أما إذا نظرت فإنك تتمتع ولكن متاع عاقبته مرض القلب -والعياذ بالله- وما والله وجدنا -أيها الإخوة- أنفع للمسلم من غض البصر، ولو كان فيه صعوبة بسيطة لكن مع الزمن يتغلب المسلم عليه حتى يهديه ويشرح الله صدره وينور قلبه، ولا يعد له رغبة في أن ينظر إلى ما حرم الله تبارك وتعالى.

كف النفس عن الشهوات

والمقصود بالشهوات الشهوات المحرمة: شهوة الفرج وهي الزنا واللواط، وشهوة البطن وهي أكل الربا والحرام والمخدرات والمسكرات والدخان، وشهوة المال وهي جمع المال من الحلال والحرام، وشهوة التسلط والسيطرة والاستعلاء بالكبر والسطو على الناس والاستعلاء عليهم وظلمهم واستعبادهم واحتقارهم وازدرائهم، هذه شهوات شيطانية يسميها العلماء الذنوب السبعية؛ لأنها تجعل الإنسان مثل السبع يفترس الناس، هذه الشهوات كف نفسك عنها، وكن في دائرة الحلال منها فقط، فشهوة الحلال خذ منها ما تحتاج، فتأكل من شهوة البطن ما أحل الله، وتقع في شهوة الفرج فيما أحل الله، وتجمع من المال فيما أحل الله، حتى تكون في دائرة الحلال فتسلم من الشهوات؛ لأن الشهوات منفذ وباب خطير على النفس البشرية يدخل منها الشيطان.

التقوى

التقوى يعني: المراقبة لله، يعني: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية من الخوف منه والمراقبة له، بأن تتصور أنك تحت الرصد الرباني وتحت النظارة الإلهية، وأن تعلم أن الله عز وجل مطلع عليك لا يخفى عليه من أمرك خافية؛ لأن الله يقول: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [النجم:32] ويقول: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ[المجادلة:7] فالله معك، يعلم السر وأخفى، يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فإذا علمت بهذا الرصد وهذه المراقبة من الله عز وجل حملك هذا على الخوف منه، هذا معنى المراقبة، أن تعمر باطنك من الداخل بالتقوى والمراقبة، أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل أمره وترك نهيه وبمراقبته عز وجل، حتى ولو خلت عنك أعين الرقباء:

وإذا خلوت بريبة في ظلمة     والنفس داعية إلى الطغيان

فاستح من نظر الإله وقل لهـا     إن الذي خلق الظلام يراني

إذا حان هذا وحصلت في قلبك المراقبة والشعور بأن الله مطلع عليك فتح الله بصيرتك.

أما إذا جعلت الله آخر من تخاف منه، يعني: كثير من الناس عنده مراقبة لأشياء لكن لا يراقب الله، يراقب الناس، يخاف من الناس، يستحي من الناس، فإذا لم يجد الناس ولم يخف من الناس ولم يراقب الناس ولم يبق إلا الله لم يخف من الله، وجرأ على الله، واعتدى على حرمات الله: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ[النساء:108] .. أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[التوبة:13] لا بد أن تكون المراقبة في قلبك أهم من كل مراقبة؛ لأنك إذا أحسست بهذا الشعور فإن قلبك يكون حياً باستمرار وبالتالي تبقى بصيرتك نافذة.

العمل بالسنة

السبب الرابع من أسباب نفاذ البصيرة: العمل بالسنة.

أعمال الإسلام تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عمل قلوب، وعمل ألسن، وعمل جوارح، فعمل القلب هو: الإيمان والتصديق، وعمل اللسان هو: الإعلان والذكر والشهادة، وعمل الجوارح هي: الطاعات والفرائض التي نمارسها بجوارحنا، وهذه الأعمال تنقسم إلى قسمين آخرين: ظاهرة وباطنة، فالباطنة في القلوب، والظاهرة ما نعمله من أعمال يراها الناس؛ فلا بد أن نعمر هذه الظواهر بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فنصلي كما كان يصلي صلى الله عليه وسلم، فعليك أن تعمر ظاهرك بالسنة يعني: ظاهر عملك، ليس معنى ظاهرك يعني: المظهر الشكلي وإنما الظاهر العملي، (صلوا كما رأيتموني أصلي) ونحج كما كان يحج صلى الله عليه وسلم، قال: (خذوا عني مناسككم) ونزكي كما أمرنا صلى الله عليه وسلم، ونصوم كما شرع لنا صلى الله عليه وسلم، ونعمر حياتنا في كل شئون حياتنا على هديه ومنهجه، ومن ذلك المظهر الخارجي للمسلم، يربي المسلم منا لحيته اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الأحزاب:21] من كان يرجو الله، من كان يرجو لقاء الله، من كان يرجو النجاة في اليوم الآخر فله في رسول الله أسوة حسنة، يعني: قدوة، والذي ليس له عند الله أمل ولا يرجو لقاء الله لا يتخذ رسول الله قدوة، فخير البرية أفضل من مشى على وجه الأرض هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أولى الناس بأن يكون قدوتك، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] .. وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7] وقد أمرنا أن نعفي لحانا، والقضية ليست قضية شعر، لا. القضية قضية انتماء وقضية اعتزاز وفخر وشعور بالعزة؛ لأنك تتبع وتنتمي وتقلد خير البشر صلوات الله وسلامه عليه، وبعد ذلك سنة نبوية ثابتة بأحاديث صحيحة، وإطلاقها واجب وإعفاؤها واجب وحلقها معصية، بل صرح العلماء بأن حلقها محرم، ومن أراد التأكد فليشتر شريطاً اسمه زينة الرجال جمع فيه الإخوة مجموعة من الكلمات للشيخ محمد بن عثيمين والشيخ صالح بن عبد الله بن حميد والشيخ عبد العزيز بن باز وبعض الدعاة، وذكروا فيها أحكام حلقها.

فنقول: اعمر ظاهرك بالسنة؛ لأنك ما إن تعمر ظاهرك بالسنة إلا ويحيي الله في قلبك الإيمان ويطلق بصيرتك، صحيح أنه شعر، لكن له أثر، هو لا يعبر عن شيء إلا عن انقيادك وخضوعك وإذعانك لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن تمردك عليه يشعر بأنك غير راضٍ، بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى، يقول الله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9] انتبه ينطبق عليك: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] نحن نؤكد على هذا الأمر في كل محاضرة لماذا؟ لأنها معصية ظاهرة، نلمسها في إخواننا المؤمنين، وليس معنى هذا أن اللحية كل شيء في الدين، لا. هي شيء من الدين، وبعض الناس ما عنده لحية وعنده في قلبه إيمان مثل الجبال، ولا ينقصه إلا هي، وبعض الناس ليس في قلبه إيمان ومعه لحية، فهذه كلحية أبي جهل لا تنفعه.

لكن نطلب أن يكون الظاهر صحيح والباطن صحيح حتى يكتمل الإنسان في الخير إن شاء الله، وهذه سنة نبوية، ومعلم من معالم الرجولة، وقد ذكرت هذا في بعض المحاضرات، وقد سألني بعض الإخوان يقول: هل حلقها مباح؟ قلت: لا. حلقها محرم وإعفاؤها واجب؛ لأن الشرع طلبه في أحاديث كثيرة (قصوا الشوارب) (

(من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بعمل أحب إليَّ مما افترضته عليه) أحب عمل تتقرب به إلى الله ما افترضه الله عليك، ما الذي افترض الله عليك؟

افترض الله عليك التوحيد، أول فريضة توحيد الله، إفراد الله بالعبادة، توحيد الله بالألوهية، وتوحيد الله بالربوبية، وتوحيد الله بالأسماء والصفات، وفي الألوهية بألا تصرف شيئاً من أنواع العبادة إلا له، وفي الربوبية بألا تعتقد أن الخالق، أو الرازق، أو المحيي أو المميت، أو المعطي، أو النافع أو الضار، أو المانع إلا الله، في الأسماء والصفات أن تثبت لله كل اسم وكل صفة أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله، وأن تنفي عنه كل ما نفى عن نفسه ونفى عنه رسوله صلوات الله وسلامه عليه.

والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم فريضة؛ لأن الله يقول في القرآن الكريم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] ويقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] فمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم فريضة، ما معنى المتابعة؟ أن تتخذه قدوة لك، فلا تزد ولا تنقص؛ لأنك إذا زدت ابتدعت، والزيادة في الدين بدعة، ولو كانت حسنة كما يقول بعض الجهلة يقول: نحن نزيد في الدين زيادة حسنة، نقول: لا. لا توجد زيادة حسنة: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) .. (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) الذي يزيد في الدين كالذي ينقص منه، يسعنا ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم وما وسع الصحابة وما وسع سلف هذه الأمة.

من أين جاءت هذه؟ أخذناها من كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا إله إلا الله توحيد الله، محمد رسول الله متابعة الله.

ثالث فريضة: الصلاة..الزكاة..الصيام..الحج..الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله يقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... [آل عمران:110] تنهي عن المنكر بلسانك أو بيدك، وأضعف شيء بقلبك، هل هناك أحد لا يستطيع أن ينكر المنكر بقلبه؟ لا يوجد أحد لا يستطيع؛ لأنك تستطيع ولا أحد يدري ماذا في قلبك، فإذا علم الله أنك تكره المنكر فأنت مؤمن، وإذا الله علم أنك تؤيد المنكر وتحب المنكر فكما يقول عليه الصلاة والسلام: (وليس بعد ذلك من الإيمان حبة خردل) الذي لا ينكر المنكر حتى بقلبه هل هو مؤمن؟ لا. من جاهد بيده فهو مؤمن، ومن جاهد بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهد بقلبه فهو مؤمن، ولكن من رضي وتابع.

الدعوة إلى الله فريضة: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل:125] من يحمل الدعوة إن لم تحملها أنت؟ اليهود والنصارى؟!

ليس معنى كونك داعية أن تكون واعظاً وخطيباً وعالماً كبيراً لا. ادع نفسك وادع زوجتك، الذي يدعو زوجته وتهتدي على يديه يبعث مبعث الأنبياء يوم القيامة؛ لأن النبي من بني إسرائيل يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، والنبي يأتي ومعه الرجل والنبي يأتي ومعه الرجلان، والنبي يأتي ومعه ثلاثة وهكذا، فالذي يدعو زوجته وأولاده داعية، والذي يدعو زوجته وأولاده وأسرته ومحيطه الأسري فهو أفضل، وكذلك الذي يتوسع قليلاً في حارته ومجتمعه وهكذا كلما زدت زاد الخير.

قراءة القرآن فريضة وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:4] الحب في الله فريضة، البغض في الله فريضة، هذه الفرائض تتقرب بها إلى الله عز وجل.

يقول عليه الصلاة والسلام: (وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) متى يحبك الله؟ إذا عملت النوافل، انظر التفريق بين المحبة للعمل والمحبة للعامل، المحبة للعمل إذا قدمته وهي الفرائض (وما تقرب إليِّ عبدي بعمل أحب إلي -أحب إلى الله- مما افترضته عليه) هذا يحبه الله، لكن أنت متى يحبك؟ إذا عملت شيئاً آخر مع الفريضة، ما هو الشيء؟ النوافل (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) يصلي العشاء أربع ركعات، لكن يقول: يا ربِ! أربع قليلة، يمكن أنني ما وفيتها ويمكن غفلت فيها، سأزيد اثنتين نافلة، ويذهب إلى البيت وقبل أن ينام يزيد اثنتين أو أربعاً أو ستاً أو ثماناً، ثم يصلي الوتر، وبعضهم يوفقه الله فينام ثم يستيقظ آخر الليل قبل الفجر بساعة أو ساعة إلا ربع أو نصف ساعة فيصلي اثنتين أو أربعاً أو ستاً أو ثماناً ثم يوتر، هذا يتملق لله، هذا يطلب عفو الله، هذا يقول: يا ربِ! أنت أحببت العمل فقدمته، والعامل أريد أن تحبه يا رب، فكيف تقبله؟ الله لا يقبلك ولا يحبك إلا بالنوافل (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) فيصلي الصلاة ويصلي وراءها نوافل، ويصوم رمضان ويصوم بعده ستة أيام من شوال، ويصوم يوم عرفة، ويصوم اليوم التاسع والعاشر من عاشوراء، ويصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويصوم الإثنين والخميس من كل شهر إذا وفقه الله وقدر على ذلك، ويزكي المال في رمضان أو في غيره إذا حال عليه الحول، وكلما رأى مسكيناً أعطاه، خاصة إذا قال لك المسكين: لله، انتبه! لا تقل: لا يوجد، فيجعله ربي حقاً، فتظل تبحث لا تجد شيئاً يجعلك الله فقيراً.

يحدثني أحد الإخوة في مكة المكرمة عن رجل من أهل الخير في مكة خرج من المسجد الحرام وسيارته واقفة أمام الموقف وهو من الأثرياء ومن الوجهاء، وقصد سيارته وركبها وشغلها، فوقف عليه رجل من الفقراء المساكين وقال له: لله ريال أتعشى به -وما أكثر الفقراء في مكة - يقول: ريالاً فقط آخذ به سندوتشاً أو عصيراً أو بسكويتاً أتعشى به -الرجل هذا من أهل الخير وينفق، لكن يقول: قد شغلت السيارة وقد وضعت رجلي على البنـزين وأريد أن أمشي، والأمر يحتاج أني أقف، وأدخل يدي في جيبـي وأخرج ريالاً أو خمسة أو عشرة وأعطيه- فيقول: تكاسلت عن العمل هذا فقلت له: على الله، يقول: فنظر الرجل إلى سيارتي (150000) ألفاً، وجيوبي وبطني منتفخة، وأقول لا يوجد شيء (على الله) يقول: فنظر لي بعين وقال لي: على الله! نعم. رزقي على الله وليس عليك، أنا ما سألتك لي سألتك لله، وما دام عييت فليس رزقي عليك، الذي خلقني سوف يرزقني ويعطيني أعظم مما تعطيني، يقول: ثم تركني، يقول: وبينما كان يدور الحوار بيني وبينه كان هناك امرأة تبيع (الفصفص) وتبيع الحلويات فنادت الرجل وأدخلت يدها في كيس وأعطته ريالاً -انظر الملايين ما نفعت، وهذه التي يمكن ليس لديها إلا هذا الريال أخرجت الريال وأعطته- يقول: فلما رأيتها تعطيه ريالاً وأنا معي الملايين ولم أعطه ريالاً شعرت كأن شخصاً ضربني في قلبي بخنجر، وقلت: ما قيمة ملاييني وما قيمة حياتي، يقول: فأوقفت السيارة وأدخلت يدي في جيبـي وأخرجت عشرة ريال ونزلت أبحث عن الرجل، يقول: بحثت عنه فما وجدته، ويقول: فكأن من سحبني وقادني إلى تلك المرأة فأعطيتها العشرة، أنفقتْ ريالاً فرد الله لها عشرة؛ لأن الله يقول: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39] .. يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276] فكان درساً لهذا الغني.

فعليك أن تنتبه، الفقير الذي يسوقه الله لك نعمة من نعم الله عليك، إذا ساق الله لك فقيراً وأنت في سيارتك أو في دكانك أو في مكتبك فهو نعمة ساقه الله إليك من أجل أن تنال الثواب على يديه، فلا ترده ولا تنهره انتبه! وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى:10] أعطه ولا تقل: ليس عندي شيء، إلا إذا لم يكن عندك شيء حقاً، لكن أن يكون جيبك مليء بالمال فتقول: ليس عندي شيء، لكن للببيسي نخرج الأموال، وللماء نخرج الأموال، وللدخان نخرج الأموال، وللجرائد نخرج الأموال، وللغداء وللعشاء وللسمك وللدجاج والأكل والشهوات، واللِعب واللُّعَب والأطفال نخرج الأموال، أمَّا لله فنقول: لا يوجد شيء، إذاً فمن الذي أعطاك المال؟! الله، يقول الله عز وجل: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33] الله يقول: يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6] ما الذي غرك بالله؟ غرك المال؟ المال مال الله، جئت إلى الدنيا وأنت عارٍ لا تملك خرقة واحدة، والله رزقك ورفعك وأعطاك مالاً فلماذا تبخل؟ فلا بد أن تنفق من المال في غير الزكاة.

وأيضاً الحج تحج الفريضة وتحج النافلة، تعتمر الفريضة وتعتمر النافلة، تقرأ القرآن..تأمر بالمعروف تنهى عن المنكر..تزيد في النوافل، لماذا؟ لتكون محبوباً عند الله، فإذا أحبك الله ماذا يحصل؟ اسمعوا وهنا الشاهد من الحديث قال: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) يصبح بصرك بصيرة ربانية، تنظر بنور الله، تسمع بأمر الله، تتكلم بأمر الله، عبداً ربانياً، لا تنظر إلى ما حرم الله؛ لأن نظرك رباني، نظرك محكوم بأمر الله، لا تسمع شيئاً حرمه الله؛ لأن أذنك أذن ربانية تضطرب وتهتز لأقل معصية لا ترضي الله عز وجل، (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه) فتقوم العلاقة بينك وبين الله عامرة، إذا سألت الله يعطيك.

قد يقول أحد الناس: أنا أسأل ولا يعطيني ربي، الله يعطيك لكن ليس الآن، إذا سألت وأنت حبيب الله فإن الله يستجيب لك بأحد ثلاثة أمور: إما أن يعطيك سؤالك، وإما أن يعطيك إياه في الآخرة، وإما أن يرد عنك من القضاء والقدر المر بقدر هذا الدعاء، فلا ينزل عليك شيء، (ولا يرد القضاء إلا الدعاء) هذا حديث في الترمذي والدعاء والقضاء يصطرعان بين السماء والأرض، فإذا نزل القضاء نزل مخففاً، وأحياناً يكون الدعاء أقوى من القضاء فيرده بإذن الله عز وجل، حتى ورد في الحديث: (إن المؤمن يوم القيامة ليعطى حسنات كأمثال الجبال، فيقول: يا رب! من أين هذه؟ -أنا ما عملت هذه- فيقول: هذه دعواتك التي كنت قد دعوتها في الدنيا ادخرتها لك) فيتمنى المؤمن أن الله ما استجاب له دعوة؛ لأن جميع الدعوات التي استجيبت في الدنيا ذهبت، والدعوات التي ادخرت في الآخرة بقيت، فالباقي أفضل من الذاهب -أيها الإخوة- (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له منه).

هذه -أيها الإخوة- أول أسباب قوة البصيرة، إذا أردت أن يفتح الله بصيرتك فأول سبب أن تحافظ على الفرائض وأن تزيد في النوافل، هذا أول شيء.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2927 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2927 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2804 استماع
أمن وإيمان 2676 استماع
حال الناس في القبور 2675 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2603 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2571 استماع
النهر الجاري 2476 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2466 استماع
مرحباً شهر الصيام 2401 استماع