معالم الدعوة إلى الله


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الأحبة في الله: هذا الدرس ضمن سلسلة دروس تأملات في السيرة النبوية، وعنوانه: (معالم الدعوة إلى الله).

والدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء والرسل، ووظيفة من أكرمه الله عز وجل بالسير على هديهم واتباع طريقهم من هذه الأمة إلى يوم القيامة، وليس أجل ولا أعلى ولا أرفع منزلة ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين، وهذا بنص كلام الله عز وجل، يقول ربنا عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33] أي: لا أحسن ولا أفضل؛ لأن عمل الداعية يقوم بدور الوساطة وتقريب العلاقات، وتصليح الصلات بين العباد وبين المعبود، فهو يحبب الناس إلى الله، ويحبب الله إلى الناس، وبالدعوة تصلح البشرية، ويظهر الخير، ويقمع الفساد، وتحصل البركة، ويرضى الرب عن الناس، فينجون من عذاب الله، ويكسبون الفلاح في الدنيا والآخرة، والرسل والأنبياء هم قادة الدعاة إلى الله، وخاتمهم أفضلهم بلا شك هو: محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، سماه الله داعية، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً [الأحزاب:45-46].

هذه صفات الرسول صلى الله عليه وسلم فهو شاهد على الأمم كلها، وعلى هذه الأمة، ومبشر بالرضوان والفلاح والسعادة لمن أطاعه، ونذير بالعذاب والدمار لمن عصاه، وبعد ذلك: وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً [الأحزاب:46] اللهم صل وسلم عليه.

سماه الله سراجاً أي: مضيئاً، والسراج فيه نور وفيه نار، الشمس سراج وهاج، عندما تجلس تحت الشمس يأتيك نور وتأتيك -أيضاً- حرارة، أما القمر إذا جلست تحت ضوئه فيأتيك نور من غير حرارة، لهذا قال الله: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان:61] فالرسول صلى الله عليه وسلم سماه الله "سراجاً" من الشمس وسماه "منيراً" من القمر، اللهم صل وسلم عليه، فجمع بين صفتي الشمس والقمر، أخذ من الشمس السراج، وأخذ من القمر الإنارة من غير الوهج والاحتراق، صلوات الله وسلامه عليه.

وأمره الله بأن يكون داعية قال الله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل:125] وأمره أن يخبر الناس فيقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108] أي: هذا ديني وهذا منهجي: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108] وما هو سبيله صلى الله عليه وسلم؟

الله أكبر! -يا إخواني- كثير من الأمة لا تعلم عن هذا السبيل أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا [يوسف:108] لوحدي، فإذا مت انتهت الدعوة؟ لا. مسئولية على أمتي: أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] يلزمك إذا كنت من أتباع محمد أن تكون داعية شئت أم أبيت، وإلا فلا تبعية.

الدعوة -أيها الإخوة- ليست أمراً هيِّناً ولا سهلاً، حتى يمكن ممارستها من غير ضوابط ومن غير معالم، ومن غير علم ومن غير هدى، بل إنها تعامل مع القلوب، تقريب للعباد إلى الله، إصلاح للنفس البشرية، ولذا لما كانت هذه الدعوة هي وظيفة الأنبياء والرسل وأتباعهم من العلماء والدعاة إلى الله كان لا بد أن يفهم الناس ما هي الدعوة؛ حتى لا تمارس من غير علم، أو من غير خبرة، نحن الآن نمنع شخصاً أن يقود سيارة في الشارع إلا ومعه رخصة، أليس كذلك؟

لو أن شخصاً أخذ سيارة وذهب يقودها بدون ترخيص وأحدث مشاكل، فإننا نمنعه ونجازيه، ونقول له: لماذا تقود بدون رخصة؟ وكذلك إذا كان التعامل مع الحديد فيه خطر على أرواح المسلمين، كذلك التعامل مع الدعوة بغير علم فيها خطر على عبادة الناس، وعلى عقائد الناس، وعلى دين الناس، فلا بد من معرفة المعالم الرئيسية التي ينبغي أن تعرف وتعلم عن هذه الدعوة.

وهذه المعالم نقتبسها ونأخذها من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه النموذج الإنساني الكامل للتطبيق الإسلامي في الدعوة إلى الله، خير خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، الداعية العظيم، الذي اكتملت فيه جميع الكمالات البشرية والإنسانية الموزعة على عموم الأمم، والموزعة على جميع الأنبياء، كل نبي فيه كمالات، لكن الله خصها وجمعها كلها ووضعها في محمد صلى الله عليه وسلم، وشهد له بالشهادة الربانية بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]صلوات الله وسلامه عليه.

الإخلاص من أهم معالم الدعوة إلى الله

هذه المعالم أبرزها وأولها وأساسها وأعظم شيء فيها: الإخلاص، والتجرد من جميع الأغراض، ومن جميع الأهواء، ومن جميع الأجور المادية أو المعنوية، ومن ثناء الناس، أو محبة الناس، أو تبجيل الناس، وحصر الغرض الوحيد فقط في نيل رحمة الله عز وجل، والنجاة من عذاب الله، وإنقاذ عباد الله من النار، هذا هو الغرض الأول، وقد جاء هذا في كلمة واحدة في القرآن الكريم: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] فهنا الإخلاص، فلا أدعو إلى نفسي، ولا أدعو إلى جاه، ولا إلى حزب، ولا إلى جماعة، ولا إلى هيئة، بل أدعو إلى الله، فعملي خالص لله، هذا أول شيء، وهذا يشكل القاعدة الأساسية للداعية، بمعنى: أنه إذا لم تقم دعوته على هذا الأساس فهي دعوة مقتولة من بدايتها ولو ظهرت، ولو أعطت معالم بسيطة، ولكن نهايتها إلى الزوال؛ لأنها مبنية على غير الأساس الذي هو: الإخلاص والتجرد ومعرفة الغرض الرئيسي الذي من أجله تتكلم.

من أجل ماذا تتكلم؟ أمن أجل أن يقال: فلان يتكلم أو أن يقال: فلان داعية؟

أجل أنت داعية إلى نفسك، وقد قيل، ولهذا ورد في الحديث: (إن أول من تسعر بهم النار ثلاثة، شهيد في نظر الناس ومنفق وعالم، فيؤتى بالشهيد، فيقول الله له: ماذا صنعت؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، ونصرت دينك حتى قتلت، فيقول الله عز وجل: كذبت، إنما فعلت ذلك ليقال: رجل جريء وقد قيل ) أي: شجاع، قالوها في الدنيا، ووجدت الذي أردت (اذهبوا به إلى النار، فيسحب على وجهه إلى النار، ويؤتى بالآخر فيقال له: ماذا صنعت؟ فيقول: يا رب! ما تركت مجالاً من مجال الخير إلا أنفقت فيه، فيقول الله عز وجل: كذبت، إنما فعلت ذلك ليقال: رجل جواد -أي: كريم، يحب الخير وفعل الخير- وقد قيل، اذهبوا به إلى النار، فيسحب على وجهه إلى النار، ويؤتى بالعالم أو الداعية -وهذه خطيرة نسأل الله السلامة من فضله- فيقال له: ماذا صنعت؟ قال: يا رب! أمرت ونهيت، وقلت، فيقال: كذبت، إنما فعلت ذلك ليقال: رجل عالم، وقد قيل، اذهبوا به إلى النار، فيسحب على وجهه إلى النار).

ولذا لا بد -أيها الإخوة- من مراجعة القلب باستمرار لمعرفة درجة الإخلاص، فإذا نزلت فحاسب نفسك، لا تنزل بحيث لا تقصد بعملك ولا بجهدك ولا بدعوتك ولا بكل كلمة تقولها إلا وجه الله، إذا وجدت في نفسك شيء من الرياء فاسكت ولا تتكلم، لا تكن من الذين قال الله فيهم: لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3].

عرض الدعوة على الناس

المعلم الثاني من معالم الدعوة إلى الله عز وجل بعد الإخلاص: عرض الدعوة بالذهاب إلى الناس، وعدم الانتظار حتى يأتيك الناس، فإن الأنبياء والدعاة إلى الله، أرسلهم الله عز وجل إلى الناس ولم يرسل الناس إليهم، وظيفة الأنبياء أنهم رسل، أي: مرسلون من عند الله يذهبون إلى الناس، لم يكلف الله الناس بالذهاب إلى الأنبياء، وإنما كلف الله الأنبياء بالرسالات وحملها إلى الناس، وورثة الأنبياء هم العلماء والدعاة، المطلوب منهم أن يحملوا الدعوة، وأن يعرضوها على الناس، ويذهبوا بها إلى الناس، وألا ينتظروا حتى يسألهم الناس، أو يأتي إليهم الناس في بيوتهم أو في أماكنهم، وخاتم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليه يقول الله فيه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] أي: أرسلناك لتذهب أنت رحمة، فهل هو: لفئة معينة، لقبيلة معينة، لجنسية معينة؟ لا. بل هو للعالمين، وكل ما سوى الله عالم، رحمة للأرض، رحمة للسماء، رحمة للحيتان في البحر، رحمة للدواب في البر، رحمة للطير في السماء، رحمة لكل شيء.

في يوم من الأيام جاءت إليه صلوات الله وسلامه عليه حمامة وجلست فوقه صلى الله عليه وسلم تبكي تهطل عيونها بالدمع، فقال للصحابة وهم لا يدرون: (من فجع هذه بفرخيها؟ قال أحد الصحابة: أنا، قال: ردها، قال: ولمَ؟ قال: إنها جاءت تشكي تقول: إنه سرق عليها فرخها) انظروا رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالطير.

ومر في يوم من الأيام في البادية على قوم قد نصبوا لهم خباءً، وقد اصطادوا لهم غزالاً -ظبياً- وجلسوا يوقدون النار، يريدون أن يذبحوا الظبي ويتعشوا به، فلما رآها هزت رأسها، وكأنها تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (أتدرون ماذا تقول؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تقول: إنها خرجت من جحرها وتركت أولادها وهم جائعون -وإنها الآن لا يهمها أن تذبحوها هي ميتة ميتة لكن يهمها الذي وراءها من الصغار- قالوا: وما تريد يا رسول الله؟! قال: أطلقوها لتذهب ترضع أولادها وترجع إليكم، قالوا: من يضمن أنها ترجع؟ -الظبية إذا انفكت لا ترجع- قال: أنا أضمن، قالوا: قبلنا ضمانك يا رسول الله! فأطلقوها، وجلس معهم النبي صلى الله عليه وسلم، وذهبت إلى الجبل تعدو إلى أن دخلت الجحر وأرضعت أولادها وجاءت، فلما جاءت ووقفت قالوا: هي لله ورسوله) اللهم صلِّ وسلم على رسول الله، رحمة للعالمين: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

والله يقول للأمم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك:8-9] (ألم يأتكم)؟ هذه فيها دليل على أن الدعاة هم الذين يذهبون إلى الناس، ويعرضون دعوتهم على الناس أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8] أي: قد أتاكم، ويقول عز وجل في آية أخرى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122] كان ميتاً بالكفر والمعاصي، وأحياه الله بالإيمان والدين وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122] جعل الله له نوراً -أي: ديناً يمشي به في الناس، يوزعه على الناس، يهدي به الناس إلى الله جل وعلا، هذا دليل على أن الداعية من مهمات دعوته: أن ينتقل بها، وأن يسلك بها من بيت إلى بيت، ومن قرية إلى قرية، ومن مدينة إلى مدينة، ومن دكان إلى دكان، أينما حل فدعوته معه، يوزع النور، ولا يحتقر شيئاً: (لا تحقرن من المعروف شيئاً) يمكن أن تقول كلمة لا تحسب لها حساباً ولا تحتمل أنها تؤثر لكن يمكن أن يفتح الله بها قلب هذا الفاسق، كلمة بسيطة، تراه على منكر، أو تأتي وقت صلاة وهو ليس في المسجد فتقول له: كذا وكذا، يمكن أن تؤثر هذه الكلمة فيه؛ لأن الله يقول: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم:24-25] والداعية مثله كمثل السحابة، السحابة تحمل المطر، ويرسلها الله عز وجل فيقع منها الغيث، وهذا الغيث يقع على كل مكان، لا يخص أناساً دون أناس، ولا يمنع منه شيء، تجد المطر أحياناً ينزل على البحر، رغم أن البحر لا يستفيد من المطر، ما رأيكم إذا نزل المطر على البحر هل يستفيد البحر من المطر؟ لا. لكن ينزل بأمر ربه، فينزل في البحر، وأحياناً يقع على الجبال وقممها، رغم أنها لا تستفيد كثيراً ولا يثبت الماء في رءوس الجبال، ويقع في صحاري قاحلة، ورمال وكثبان وليس فيها مراعي ولا أناس ولا أي شيء، ومع هذا ينزل.

وكذلك -أيها الإخوة- الداعية إلى الله مثل السحاب يطوف الأرض كلها، لا يخص مكاناً دون مكان، فلا يقول: أنا لا أتكلم إلا في المسجد!

لا. تكلم في المسجد والمدرسة والشارع والسيارة، وتكلم في المجلس الذي تجلس فيه مع الناس، وتكلم مع أنسابك، وتكلم مع إخوانك، المهم أينما حل نفع، يوزع البضاعة المجانية، ويهدي عباد الله إلى الله، مثله كمثل السحاب، الذي يمشي وينزل الخير على من يريد وعلى من لا يريد، قد تقول: لا فائدة، ولكن ما يدريك يا أخي! ما يدريك، هل الفائدة بيدك؟ الفائدة عند الله، كلمة تقولها يجعل الله فيها فائدة، وأقل شيء أنك بلَّغت وبرَّأت ذمتك: قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164].

موافقة عمل الداعية لقوله

المعلم الثالث من معالم الدعوة إلى الله: أن الداعية إلى الله عز وجل لا يتكلم بلسانه فقط، وإنما يتكلم من لسانه ومن قلبه، فإن الدعوة إذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان، أما إذا خرجت من القلب وصلت إلى القلب، هذه نظرية رياضية، كلام من اللسان يأتي إلى الأذن ويرجع؛ لأنه من اللسان إلى الأذن، لكن كلام القلوب، يخترق الآذان ويصل إلى القلوب، ولذا إذا أردت أن ينفع الله عز وجل الناس بكلامك فلا بد أن تتكلم من قلبك، بمعنى: أن تكون معتقداً كلامك الذي تقوله، ومطبقاً للشيء الذي تدعو الناس إليه، فلا تدعو الناس إلى ذكر الله وأنت غافل، ولا تدعو الناس إلى الصلاة وأنت تارك للصلاة، لا تدعو الناس إلى ترك الزنا وأنت تزني، لا تدعو الناس إلى ترك الربا وأنت مرابٍ، لا تدعو الناس لغض البصر وأنت تفتح بصرك إلى الحرام، لأن معناه: أنك كذاب، ولهذا يقول الله عز وجل: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3] ويقول: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:44] تدعو الناس وتنسى نفسك؟ ثم قال: أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] أين عقولكم؟!! الذي يدعو الناس وينسى نفسه ليس لديه عقل، وليس معنى هذا: أنك تقعد لا تدعو الناس ولا تدعو نفسك، لا. هذا فيه دعوة إلى دعوة نفسك أولاً، ودعوة غيرك في المرحلة الثانية.

ولذا فالداعية يدعو من قلبه، ومعنى هذا -أيها الإخوة- أن الكلام ليس بمجرد البلاغ، ولكن بحرقة وهمّ ورغبة، وحرص على هداية الناس؛ لأن بعض الدعاة وبعض المتكلمين يقول: إن عليك إلا البلاغ، أنا سوف أقول ولا يهمني، والمستمعون يقولون: ونحن ما علينا إلا السماع، فهذا عليه البلاغ وأولئك عليهم السماع، والعمل أين هو؟ هو لا يعمل، وهم لا يعملون، فالصحيح أن نقول: نحن علينا البلاغ بعد أن نتمسك بالعمل، والناس إذا رأوا الداعية متمسكاً بالكلام الذي يقوله فإنهم يعملون بكلامه، لماذا؟ لأن الأعمال أكثر تأثيراً في القلوب من الأقوال.

انظر أي داعية أو متكلم أو عالم، فإن الناس يراقبون سلوكه، فإن وجدوا تطابقاً بين السلوك وبين الكلام الذي يقوله أكد المعاني التي يقولها، وإذا وجدوا أي تنافر أو اختلاف ذهب كلامه من قلوبهم كما يزل الماء من الحجر أو الصفا، يقولون: هذا كذاب وليس صادقاً، ولذا تنظرون أنهم يراقبون الداعية -مثلاً- عند بذل المال، ويراقبونه إذا مر في السوق فإذا رأوه يغض بصره قالوا: والله هو صادق الآن ما شاء الله، لكن إذا رأوه وهو ينظر قالوا: هذا دجال، لماذا؟ لأنه يتكلم بلسانه ولا يتكلم بقلبه، فلا ينبغي أن يكون هم الداعية فقط هو تسطير الكلام، وشغل الوقت بدون حدث، وإنما يجب أن يكون همه أن يعمل الناس بهذه الدعوة، وأن يتمسك الناس بهذا الدين، حتى يفوزوا في الدنيا وفي الآخرة، وحتى ينجوا من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة، لعلم الداعية بمصيرهم وعاقبة أمرهم إن هم أطاعوا الله أو إن هم عصوه.

القضية ليست سهلة -يا إخوان- القضية قضية جنة ونار، قضية سعادة أبدية أو شقاء أبدي، الذي يطيع الله عز وجل يسلك سبيل النجاة، والذي يعصي الله يسلك سبيل الهلاك، ولذا فالداعية يعرف هذا، عنده في قلبه حرقة من أجل أن يتمسك الناس بالطاعة حتى يفوزوا، ومن أجل أن يترك الناس المعصية، حتى لا يضلوا ولا يهلكوا، ومن هنا -أيها الإخوة- نعلم مدى تأثير الآيات التي توضح حال الرسول صلى الله عليه وسلم عند دعوته لأمته، كان يتحسر صلوات الله وسلامه عليه، حتى قال الله له: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8].

ويقول: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ [الكهف:6] أي: مهلكها فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف:6].

ويقول عز وجل: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الأنعام:33] ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: (مثلي ومثلكم كمثل الفراش التي تتساقط في النار فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون).

الشخص إذا أوقد ناراً فمن حين أن يوقد النار تأتي الفراش إلى النار من بعيد من أجل أن ترى؛ لأنها تعيش في الظلام، فإذا وجدت نوراً جاءت إليه ولكنها لا تعلم أن هذا النور ناراً، فتأتي الفراشة وتقع، وتلك تقع، فماذا يصنع الذي حول النار؟ يبعدها، وهي ترفض، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم مثله يبعد الناس عن النار والناس يرفضون، ولهذا يتقطع فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم حزناً ورحمة بهذه الأمة التي تقتحم النار وهي لا تدري بالمصير، وهذا شأن الداعية الذي يدعو الأمة، فيدعو بحرارة، ويدعو بحرقة، ولا يدعو بلسان فقط، وإنما يدعو بقلب مؤثر، وبمعاناة وهم، وبحرص شديد على أن يسلك الناس هذا السبيل، وليس له مصلحة أصلاً إلا هداية الناس، وما أعد الله له من أجر إن اهتدوا على يديه؛ لأن من اهتدى على يدي أي داعية يأتي هذا المدعو المهتدي يوم القيامة في صحائفه، لا يعمل عملاً إلا ولذلك الأساسي صورة طبق الأصل من عمله، دون أن ينقص من أجره شيء، كما جاء في الحديث: (من دل على هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة دون أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دل على ضلالة -والعياذ بالله- كان عليه وزرها ووزر من عمل بها دون أن ينقص من أوزارهم شيء إلى يوم القيامة) هذا المعلم الثالث: أن يتكلم الداعية من قلبه ولسانه، لا من لسانه فقط.

الحرص على الرفق والابتعاد عن الغلظة

المعْلَم الرابع: أن تكون العبارة التي يتكلم بها شيقة، لينة، هينة، محببة إلى النفس، وأن يبتعد عن العبارة السيئة والقول الجاف، والكلمة الغليظة؛ لأن الداعية يتعامل مع قلوب الناس، والقلوب حساسة تأتي بها كلمة، وتطردها كلمة أخرى، ولهذا يقول الله عز وجل وهو يأمر موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون لإبلاغ الدعوة، والله يعلم أن الكلمة اللينة أو القاسية لا تفيد فرعون، فهو كافر كافر، لكنه يبين منهج الدعوة فيقول: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طـه:44].

وهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، يقول الله عز وجل: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ويقول: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159] وهذا واضح مكشوف في جميع مسائل الدعوة التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما) ولما بعث رسوليه إلى اليمن قال لهما في الرسالة: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا) إذا أردت أن تتكلم فابحث عن أفضل عبارة وأفضل كلمة؛ لأنها مفتاح للقلب، فإذا جئت بمفتاح مناسب لين دخلت القلب، وإذا جئت تدق الإنسان في قلبه بكلمة قاسية أعرض عنك، فلا يسمع منك ولا يذكر كلامك لأنك أوجعت قلبه بكلمة قاسية، والله يقول: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طـه:44] أنت لا تملك الهداية أصلاً، الهداية بيد الله، أنت تملك الوسيلة فقط والسبب الذي ينقل الناس إلى الدعوة وإلى الهداية، فيجب أن تكون الوسيلة طيبة من أجل أن تتيح الفرصة لهذا الإنسان فتنقله إلى الحياة الجادة، وتنقله من الضلال إلى الهدى، وتنقله من المعصية إلى الطاعة، وتنقله من الكفر إلى الإيمان، وتنقله من الشرك إلى التوحيد، لا بالضرب، ولا بالقوة، بل بالكلمة الطيبة، كالسلام.

يا أخي! ابحث عن أفضل عبارة، الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يكتب للكفار، يقول: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم) ولما جاءه الرجل من صناديد قريش يريد أن يفاوضه قال له: يا محمد! إنك جئت قومك بما لم يأت به أحد قومه، سفهت الأحلام، وسببت الآباء والآلهة، إن كان الذي يأتيك من الجن عالجناك، وإن كنت تريد مالاً جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كنت تريد زوجة زوجناك، ماذا تريد؟ فماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال له: (اسمع مني يا أبا الوليد) وكناه، والكنى محببة عند العرب، أنا عندما أناديك باسمك وأقول: يا فلان! تسمع، لكن إذا قلت: يا أبا فلان! تنبسط؛ لأنك تحب أن تدعى بولدك، الرسول صلى الله عليه وسلم كنى هذا الكافر، من أجل أن يمرر الكلام إليه، دعاه بالكنية، قال: (اسمع مني يا أبا الوليد! ثم قرأ عليه فواتح سورة فصلت).

ولما وصل إلى قول الله عز وجل: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13] فقام الرجل ووضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أسألك بالله والرحم ثم خرج، ولما رجع تغير وقال: "والله إني لأعلمكم بالشعر وأعلمكم بالنثر، والله ما هو بالشعر ولا بالنثر، والله إن أعلاه لمورق، وإن أسفله لمغدق، وإن عليه لحلاوة، وإن له لطلاوة، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه" أي: كلام الله.

فقالوا كلهم وهم الجالسون في السقيفة ينتظرون خبر المفاوضات، قالوا: صبأت مجرد مرة ذهبت إليه فغسل مخك ودين آبائك وأجدادك، والله لا تخرج حتى تقول فيه قولاً، ماذا يقول الناس عندما يسمعون كلامك هذا؟ معناه: لن يبقى أحد إلا وسيدخل في دين محمد، وبدءوا يضغطون عليه حتى قال: دعوني أفكر، ودخل بيته، وجلس يفكر ويقدر، ويقدم ويؤخر، ثم رجع إليهم وقال: نعم عرفت! قالوا: ما هو؟ قال: هذا سحر. قال الله عز وجل فيه: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:11-25].

قال الله له: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26] وسقر هي النار، طبقة من طباق جهنم وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ [المدثر:27] للتهويل والتعظيم لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ [المدثر:28] لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَر * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:29-30] تسعة عشر من الملائكة، ولما نزلت الآية وبلغها النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، وبلغها الصحابة للناس، سمع بها أبو جهل وسمع بها الوليد بن المغيرة ، وخاف فقال له أبو جهل : كم توعدك محمد؟ قال: تسعة عشر، قال: عليّ ثمانية عشر وأنت عليك واحد فقط، قال: ثمانية عشر أنا أضعهم فوق رأسي .. أنا أكفيكهم.

ولما أراد أن يسجد النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، منعه أبو جهل، قال: والله لئن سجدت مرة ثانية لأرضخن رأسك بهذا الحجر، ففرحت قريش، قالوا: دعوا أبا جهل يرضخ رأسه وتنتقم بني هاشم من بني مخزوم، وننتهي منه، وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم رغم التهديد؛ لأن الله قال: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ [العلق:19] وبعد ذلك جاء وما سجد مكانه، قرب قليلاً عند الكعبة وَاقْتَرِبْ [العلق:19] ولما جاء وسجد، قام كفار قريش وجاءوا إلى أبي جهل وقالوا: الرجل ليس عنده دين يتحداك، جاء يصلي، ويا ليت أنه صلى في مكانه الأول، بل يتحداك ويعاندك، ويصلي بجانب الكعبة، قال: وقد فعل؟ قالوا: نعم. فأتى وهو يحمل الحجر التي ما تحملها الرجال، وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، ولو رضخه بالحجر لقتله، وقبل أن يقرب منه وكان بينه وبينه مسافة، كع كما يكع الحمار، ووقعت الحجر على رجليه وكادت أن تكسر رجليه، ثم شرد، فضحك الناس، وجاءوا إليه فقالوا: مالك؟ قال: فحل اعترضني -الفحل هو: البعير- فاغراً فاه أنيابه السفلى تحت قدميه والأخرى فوق رأسه، يقول: والله لو تقدمت لابتلعني، يقول: فكعكعت ورجعت وراء، ولما أخبروا النبي قال: (ذاك جبريل، ولو أنه تقدم خطوة واحدة لابتلعه) قال الله عز وجل: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ [العلق:17] يقول: فليدع جماعته الذين سوف يسدون على الثمانية عشر: سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق:18] إذا دعا ناديه وجماعته دعونا الزبانية، ماذا يفعل أبو جهل مع هؤلاء؟

فأنت -يا أخي- عليك أن تكون كلمتك طيبة إلى أبعد درجات الطيب، لتكسب ذلك الرجل، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمته طيبة مع كافر، فكيف لا تكون كلمتنا طيبة مع المسلمين؟!

بعض الشباب -هداهم الله- محبون للخير، وعندهم إيمان وغيرة، ولكن ينقصهم العلم والخبرة، فإذا رأى رجلاً صاحب معصية عبس في وجهه، وقال: أبغضه في الله!

يا أخي! تبغضه في الله ابتداءً، البغض في الله ويكون آخر شيء، أول شيء أحبه في الله، ابتسم له في الله، قدره في الله، أكرمه في الله، من أجل أن يحبك ويحب الدين الذي تمثله، ويحب الدعوة التي تمثلها، وبعد ذلك تقول: جزاك الله خيراً.

فيقول: والله أخلاقك طيبة.

فتقول: وأنت أطيب.

فيقول: والله أنا أحببت الدين؛ لأني أحببتك أنت.

لكن عندما تبغضه من أول ما تراه ولا تسلم عليه، وبعد ذلك عندما تأتي تدعوه يقول: اذهب حسن أخلاقك أولاً؛ لأن أخلاقك سيئة، بعض الناس يجد اثنين معاً أحدهما حليق والآخر معه لحية، فيسلم على ذاك بوجه، ويسلم على ذلك بوجه آخر، وبطرف إصبعه، فيقول هذا الرجل: لماذا يعاملني هكذا؟ فهذا لا ينبغي يا أخي! لأنك حكمت على الظاهر، يمكن الذي تراه حليقاً باطنه أحسن من ألف رجل معه لحية، الله ينظر إلى الناس نظرة متكاملة، لا ينظر للشكل فقط، والشكل ليس كل شيء أيها الإخوة.

فالشكل شيء في الدين لا نغفله، شكل الإنسان في الدين شيء مطلوب أن يكون ذا لحية ويكون ثوبه قصيراً، ويكون عنده تمسك بالسنة، لكن هذا لا يكفي لوحده، لا بد أن يكون الشكل جيداً والمضمون -أيضاً- جيداً، وكذلك الذي يهمل شكله، نقول له: يا أخي! أصلح شكلك ما دمت طيباً، والدعاة إلى الله في تعاملهم مع الناس يجب أن يكونوا طيبين، وليس هذا من المداهنة كما يظن بعض الشباب أنها مداهنة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية يفرق بين المداهنة والمداراة، يقول: المداهنة هي: ترك شيء من الدين لشيء من الدنيا، تترك شيئاً من دينك من أجل أن تأخذ شيئاً من دنيا الناس، أما المداراة وهي في الشرع مطلوبة: هي ترك شيء من الدين لتحقيق شيء أعظم من الدين، فأنت عندما تترك شيئاً من الدين وهو البغض مع هذا الإنسان العاصي تركت البغض، لكن لتحقق شيئاً أعظم منه وهو أن تهديه إلى الله، وهذا مجرب وواقع، ينبغي أن نتمثله، وأن نسلك سبيل الدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة، وبالعبارة الشيقة، يقول الله: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53].

ابحث في قواميسك عن أحسن عبارة، وابتسم لأي شخص تريد أن تدعوه إلى الله، متى تبغضه؟ تبغضه في آخر مراحل الدعوة، إذا سلكت معه كل أسلوب وكل طريقة، وأحببته وأكرمته، وزرته وأهديت له وهو يقبل منك، وفي النهاية وقف معك وقال: لا تدعني ولا تقل لي: الله، ولا تأت لي بأي شيء من هذه الأمور، فعندها تقول: أبغضك في الله؛ لأنك أعذرت إلى الله، أما ما دام يقبل النصيحة منك فلا.

بعض الدعاة يقول: اليوم أدعوه، وغداً يستفيق أو أضربه، فتقول: من يوم أن تنصحه وقال لك: جزاك الله خيراً فيكفي، جئت اليوم الثاني وما عمل بنصيحتك فانصحه، ويقول: جزاك الله خيراً، شهراً، شهرين، سنة، عشر سنوات، ما دام أنه يقبل الدواء فقدم الدواء إلى أن يعافيه الله؛ لأن الهداية ليست بيدك، مثل المريض والطبيب، ما دام المريض يقبل الدواء فالطبيب يستمر في العلاج، لكن إذا رفض الدواء قال الطبيب: أخرجوه من المستشفى، لقد رفض العلاج.

وكذلك الداعية، ما دام المريض يقبل العلاج الرباني فنستمر في علاجه، ولا نبدله بغضاً، إلا إذا حدد موقفه، وأعلن رأيه في رفضه للدين، هناك البراء والبغض في الله؛ لأننا قد استكملنا واستنفدنا جميع الوسائل الشرعية التي يمكن بها أن ندعوه إلى الله؛ لأننا دعاة ولسنا جفاة.

هل معنى داعية أن يجذب الناس أم يطرد الناس؟! بعض الناس يفهم أن الدعوة طرد للناس، فأبغض هذا، وحَكَم على هذا، وكفر هذا، وفسق هذا، وفجر هذا، أنت لست داعية، أنت منفر للناس من الدين، أنت الآن عندما تدعو شخصاً إلى وليمة ماذا تقول له وأنت تريد أن تكرمه على عشاء أو غداء؟ تأتيه بأحسن عبارة، تقول: الله يبارك فيك يا أبا فلان! عندنا ضيوف، وأنت من أعز الناس عندنا، فلو تكرمت علينا بأن تتعشى معي الليلة.

انظر كيف العرض، فيقول هو مع هذا العرض الجيد: الله يخلف عليك ويجزيك خيراً، إن شاء الله آتي، لكن لو أتيت إليه تدعوه إلى وليمة تقول: اسمع .. الغداء عندي غداً! ماذا سيقول وأنت تعزمه على الغداء؟

يقول: لماذا تدعو علي من أجل لقمتك التي تعطيني؟ الله لا يخلف عليك، والله لا أجيب دعوتك، فإذا كان دعوة إلى أرز ولحم تحتاج إلى أسلوب، فكيف بدعوة إلى الجنة والنجاة من النار ألا تستحق أسلوباً طيباً؟! أم أنه لابد من العنف والشدة والكلام السيئ، والتفسيق والتبديع؟!

وأذكر فيما أذكر قصة ذكرتها في بعض الأشرطة، لرجل هيئة في إحدى مدن المملكة ، مرة وهو يدعو إلى الصلاة، مر على دكاكين مقفلة إلا جزاراً ما أقفل الدكان -ضحك عليه الشيطان والعياذ بالله وكانت ثيابه غير نظيفة- فمر عليه رجل الهيئة وكان محتجاً عندما رآه لم يغلق الدكان، قال: لماذا لا تصلي يا حمار! -بهذا النص- وذاك غضب، الشيطان راكب بين عينيه فلما سمع كلمة الحمار، أخذ الساطور -وهو متعلم في تقطيع الرءوس وتفتيتها، أي: مدرب لا يحتاج إلى دورة- قال: أنا حمار؟ قال: نعم. قال: تعال فلما رأى رجل الهيئة الساطور ورأى الرجل جاهزاً، تركه وذهب إلى بيته وغيَّر ثيابه، وأخذ له كوتاً غير الكوت، وخلع (البشت) وغير غترته الحمراء إلى بيضاء، ورجع إلى الرجل نفسه، وهو لا يزال مكانه، فقال له: السلام عليكم، كيف الحال يا أخي؟ الله يوفقك، الله يبارك فيك، الإيمان في وجهك -وهو ليس صادقاً، ما بوجهه إيمان ولا نور ولا شيء- يا أخي! الناس يصلون في المسجد وأنت من أهل الخير، وماذا تنفعك الحياة كلها بدون صلاة، إذا مت وأنت لا تصلي هل يوفقك الله؟

فكان الكلام مثل الماء على النار، قال: الله يجزيك خيراً، جاءني شخص قبل قليل قال: صلّ يا حمار! والله لو جاءني لضربت رأسه بالساطور والذي يكون يكون، قال: لا. هو الحمار، أما أنت فأنت رجل فيك خير، وأنت من أهل الخير، وأنت من أهل الفضل، قال: حسناً ماذا أفعل بثيابي هذه؟ قال: أما عندك ثياب غيرها؟ قال: لا. قال: اخلع هذه الثياب وأعطاه بعض ثيابه التي أتى بها من البيت، وأخذه معه إلى المسجد قال: لست متوضئاً، قال: توضأ، فتوضأ ودخل يصلي، وبينما هم راجعون، قال: ما رأيك الآن أريدك أن تتغدى عندي، قال: الدكان مغلق، قال: لا يهمك آتيك بالغداء، قال: لا. جئني بالعشاء، قال: العشاء ليس فيه خضار وليس فيه لحم، فأتى به بعد العشاء، وأكرمه وتعشى معه، وقرأ عليه كتاباً على الصلاة، وأهمية الصلاة.

قال: يا أخي! الرجل الذي قال لك: يا حمار! الله لا يجزيه خيراً، والله إنه كان مخطئاً، لكن سامحه لوجه الله عز وجل، قال: الله لا يسامحه، الله لا يعفو عنه، قال: أقول سامحه لوجه الله -يا أخي- ومن وقت أن رفض قال: ما رأيك أن ذلك الرجل كان أنا، أنا أخطأت عليك ورجعت قال: أنت؟ قال: نعم. قال: الله يسامحك، والله إنك ورطتني.

فالشاهد -أيها الإخوة- في الموضوع: أن الدعوة تكون بالتي هي أحسن، يقول الله عز وجل في هذا: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل:125] ويقول: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53].

ابحث عن أحسن شيء عندك في الدين، لا تنفعنا -أيها الإخوة- الغلظة والشدة والعنف والحماس والاندفاع، والغيرة الغير منضبطة بضوابط الشرع هذه ليست دعوة، هذه تنفير من الدين، وأنا أقول هذا الكلام -يا أيها الإخوة- من تجربة طويلة وليس كلاماً عادياً، أنا لي أكثر من ثلاثين سنة وأنا في الدعوة والحمد لله، ورأيت كيف أسلوب ممارسة كل الطرق مع هذه، فليس هناك أعظم من طريقة الإسلام وهي: الدعوة بالتي هي أحسن، هذه تحقق مصالح ولا يترتب عليها أي مفسدة، حتى في بيتك، ليس مع الناس فقط، زوجتك نفسها تعاملها بالتي هي أحسن، ولدك عامله بالتي هي أحسن، لا تعامله بالشدة والعنف، فإذا كان ولدك نائماً فأيقظه إلى الصلاة بالتي هي أحسن، فلان .. محمد .. حبيبي .. الله يوفقك .. الله يصلحك .. الله يشرح صدرك .. الله ينور بصيرتك .. اللهم يا رب! اهده .. هيا نذهب نصلي في المسجد .. الصلاة في المسجد بسبع وعشرين درجة، لكن أن تقول: قم صلِّ يا ولد! قم يا قليل الدين! حسبنا الله عليك .. الله يجعلها في وجهك .. الله يبتليك .. الله يضلك .. الله ينتقم منك. إذاً أنت الذي تدعو على ولدك، لا ينبغي هذا أيها الإخوة!

هذا دين، لا بد أن نكون على مستواه في التعامل حتى ننفع، وحتى يحقق الله بنا مصالح تترى بلا مفاسد، هذا المعلم الرابع، وهو: أن تكون الكلمة طيبة.

الدعوة إلى الله على بصيرة وعلم

الخامس من المعالم: أن يكون الداعية عالماً بما يدعو الناس به، وهذا معنى قول الله عز وجل: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] وبصيرة أي: على علم، لا أدعو على عمى، ولا على جهالة، ولا على ضلالة، بل لا بد أن أدعو على علم، وليس معنى هذا -أيها الإخوة- ألا يدعو الإنسان إلى الله حتى يصبح عالماً بكل شيء، وإنما المطلوب أن تدعو فيما علمت، أي: شيء علمته من الدين بلغه ولا تتجاوزه إلى غيره، لا تفهم من أنك تدعو بمجرد أنك عرفت شيئاً أن تدعو إلى كل شيء، ادع في الشيء الذي تعرفه، أما ما لا تعرفه فاسكت عنه إلى أن تتعلمه، أو ترجع فيه إلى العلماء والدعاة، أما أن تتخذ من نفسك داعية، عرفت هذه المسألة أو عرفت مائة مسألة، أو عرفت ألف مسألة، فتعطي لنفسك صفات الأهلية وأنك تجيب على كل مسألة، وأنك تتكلم في كل مسألة، وأنك تخوض في كل قضية؛ لأنك تكلمت أو أنك أصبحت بارزاً أو معروفاً، فهذا من الخطأ، وليس من العيب أن تقول لما لا تعرف: لا أدري. من العيب كل العيب أن تقول على الله بلا علم، فقد قرنه الله عز وجل بالمحرمات: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فلا بد -أيها الإخوة- من العلم، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: [رأس العلم لا أدري] وأيضاً ينبغي لك أن تبلغ ولو آية: (بلغوا عني ولو آية) بلغوا عني ولو حديثاً.

الصبر على الدعوة وتبعاتها

السادس من معالم الدعوة: الصبر.

الصبر على الأذى في سبيل الدعوة وعدم استعجال النتائج، وهذا شيء صعب على النفس، فإن الصبر مأخوذ من الصِبْر وهو: نبات مر المذاق، يقطع اللسان من المراراة، يقول:

الصبر كالصِبر مر في مذاقتـه     لكن عواقبه أحلى من العسل

الصبر مر لكن نهايته عسل، انظروا الصبر عند الطالب على المذاكرة، لكن في نهاية السنة عندما ينجح كيف يكون الفرح؟ هو صبر على الدراسة لكنه نجح آخر السنة، وصبر على السنوات الدراسية وتخرج آخر الأمر من الكلية، والمزارع صبر على الثمرة حتى أكل الثمر، والموظف صبر على العمل حتى استلم الراتب آخر الشهر، كل شخص يصبر على شيء يأخذ في النهاية ثمرة حلوة.

الصبر كالصبر مر في مذاقتـه     لكن عواقبه أحلى من العسل

وهذا الصبر يأتي بالتصبر وبالمجاهدة والمعاناة، وأقسامه ثلاثة:

صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، وهو عمل ميداني وليس عمل ذهني، بعض الناس يتصور أن الصبر شيء في الذهن.

الصبر عمل ميداني يبرز في الميدان، إذ بالإمكان أن يكون الإنسان من أعظم الناس صبراً لكن في الذهن، وإذا جاءه ميدان التطبيق فلا يصبر على أذى ذبابة وأذاها، فتراه يريد أن يضارب الذباب؛ لأنه ليس عنده صبر، فلابد من الصبر.

وأنت أيها الداعية! مطلوب أن يكون عندك من الصبر مثل الجبال؛ لأن الله يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35] إن الله لا يعجل لعجل أحد، قد تدعو شخصاً وتدعو أمك وزوجتك عشرات السنين ولا يستجيبون لك، اصبر ولا تستعجل، الهداية ليست بيدك، والله لا يعجل لعجلتك، والأمور بيده ليست بيدك، عليك أن تدعو والنتائج على الله.

فلا بد -أيها الإخوة- من الصبر في ممارسة العمل الدعوي، وعدم استعجال النتائج -وأيضاً- احتساب ما يلاقي الإنسان من الأذى في صحيفته؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في حكاية لقمان وهو يعظ ابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْ

هذه المعالم أبرزها وأولها وأساسها وأعظم شيء فيها: الإخلاص، والتجرد من جميع الأغراض، ومن جميع الأهواء، ومن جميع الأجور المادية أو المعنوية، ومن ثناء الناس، أو محبة الناس، أو تبجيل الناس، وحصر الغرض الوحيد فقط في نيل رحمة الله عز وجل، والنجاة من عذاب الله، وإنقاذ عباد الله من النار، هذا هو الغرض الأول، وقد جاء هذا في كلمة واحدة في القرآن الكريم: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] فهنا الإخلاص، فلا أدعو إلى نفسي، ولا أدعو إلى جاه، ولا إلى حزب، ولا إلى جماعة، ولا إلى هيئة، بل أدعو إلى الله، فعملي خالص لله، هذا أول شيء، وهذا يشكل القاعدة الأساسية للداعية، بمعنى: أنه إذا لم تقم دعوته على هذا الأساس فهي دعوة مقتولة من بدايتها ولو ظهرت، ولو أعطت معالم بسيطة، ولكن نهايتها إلى الزوال؛ لأنها مبنية على غير الأساس الذي هو: الإخلاص والتجرد ومعرفة الغرض الرئيسي الذي من أجله تتكلم.

من أجل ماذا تتكلم؟ أمن أجل أن يقال: فلان يتكلم أو أن يقال: فلان داعية؟

أجل أنت داعية إلى نفسك، وقد قيل، ولهذا ورد في الحديث: (إن أول من تسعر بهم النار ثلاثة، شهيد في نظر الناس ومنفق وعالم، فيؤتى بالشهيد، فيقول الله له: ماذا صنعت؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، ونصرت دينك حتى قتلت، فيقول الله عز وجل: كذبت، إنما فعلت ذلك ليقال: رجل جريء وقد قيل ) أي: شجاع، قالوها في الدنيا، ووجدت الذي أردت (اذهبوا به إلى النار، فيسحب على وجهه إلى النار، ويؤتى بالآخر فيقال له: ماذا صنعت؟ فيقول: يا رب! ما تركت مجالاً من مجال الخير إلا أنفقت فيه، فيقول الله عز وجل: كذبت، إنما فعلت ذلك ليقال: رجل جواد -أي: كريم، يحب الخير وفعل الخير- وقد قيل، اذهبوا به إلى النار، فيسحب على وجهه إلى النار، ويؤتى بالعالم أو الداعية -وهذه خطيرة نسأل الله السلامة من فضله- فيقال له: ماذا صنعت؟ قال: يا رب! أمرت ونهيت، وقلت، فيقال: كذبت، إنما فعلت ذلك ليقال: رجل عالم، وقد قيل، اذهبوا به إلى النار، فيسحب على وجهه إلى النار).

ولذا لا بد -أيها الإخوة- من مراجعة القلب باستمرار لمعرفة درجة الإخلاص، فإذا نزلت فحاسب نفسك، لا تنزل بحيث لا تقصد بعملك ولا بجهدك ولا بدعوتك ولا بكل كلمة تقولها إلا وجه الله، إذا وجدت في نفسك شيء من الرياء فاسكت ولا تتكلم، لا تكن من الذين قال الله فيهم: لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3].




استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2924 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2921 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2800 استماع
أمن وإيمان 2672 استماع
حال الناس في القبور 2671 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2596 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2568 استماع
النهر الجاري 2472 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2464 استماع
مرحباً شهر الصيام 2394 استماع