التبرج والسفور والحجاب


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يبقي فينا ولا منا شقياً ولا محروماً؛ فإن الشقي المحروم هو من حرم طاعة الله عز وجل في هذه الدنيا. شقيٌ في هذه الدار بالمعصية، ومحروم في الدار الأخرى من الجنة، يقول عليه الصلاة والسلام وهو يدعو: (اللهم لا تبق فينا شقياً ولا محروماً، ثم قال: أتدرون من الشقي المحروم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قاطع الصلاة أو تارك الصلاة).

السعي لبلوغ أعلى درجة في الجنة

أيها الإخوة! نحن في هذه الدار غرباء، ولا بد للغريب من الرحيل، وموعد الرحلة غير محدد، والمؤمن العاقل هو من يكون دائماً على أهبة الاستعداد للرحيل من هذه الدار، فهو لا يعرف متى يفاجئه القضاء، في ليله أو نهاره، بعد سنة أو يومٍ أو ساعة أو لحظة، فهو دائماً على أهبة الاستعداد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) والكيس هو: العاقل.

إننا في هذه الدنيا غرباء؛ ولكن بسبب طول المدة أصبحنا كأننا من أهلها، وإلا فلسنا من أهل هذه الدار، نحن جئنا إليها عراة فرادى، وسنخرج منها عراة فرادى، قال الله تعالى: لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف:48-49] إن هذا الكتاب هو كتاب الأعمال التي عملها الإنسان في هذه الدنيا، وما من يومٍ تشرق فيه الشمس إلا وصفحة جديدة من كتاب أعمالك تفتح لك في ذلك اليوم، وأنت الذي تملي والملائكة هم الذين يسجلون، فإن أمليت خيراً سجلوا خيراً، وإن أمليت شراً سجلوا شراً، فإذا غربت شمس ذلك اليوم طويت هذه الصفحة.

حتى إذا ما انتهت صفحات هذا الكتاب -وهو عبارة عن انتهاء عمرك في هذه الدنيا- ونقلت من هذه الدار إلى الدار الآخرة، نقلت ونقل معك هذا الكتاب، ثم هو يبقى معك إلى يوم القيامة، وفي يوم القيامة تتطاير الصحف، وتؤخذ الكتب إما باليمين وإما بالشمال قال تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ [الإسراء:13-14] الذي أمليت كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً * وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً * مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ [الإسراء:14-18] يعني: الدنيا عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء:18-20].

فأنت في هذه الدنيا تملي البيانات، وتملأ الملفات، وفي الحديث: (ما من يوم تشرق فيه الشمس إلا وملك ينادي مع هذا اليوم: يابن آدم! أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة).

الليل والنهار خزانتان تخزن فيهما الأعمال، والرحيل لا بد منه قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف:49] لأن أياديهم سوداء، وأعمالهم فظيعة، وجرائمهم شنيعة، ووجوههم -والعياذ بالله- مكفهرة من قلة الإيمان وكثرة المعاصي والذنوب، فإذا رأوا الكتاب قالوا: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].

فنحن -كما قلت، أيها الإخوة- في هذه الدنيا غرباء؛ لأننا جئنا إليها رغم أنوفنا، ولا يوجد أحد أعطي حرية الاختيار في المجيء إلى هذه الدار، وهل يوجد أحد أُخذ رأيه قبل أن يولد: أتريد أن تولد أم لا؟ لا. بل يأتي إلى الدنيا رغم أنفه، ولا يترك له حرية اختيار النوع: أيكون رجلاً أو امرأة؟ أيكون في هذه القرية أو في القرية الثانية؟ أيكون في هذه البلاد أو في بلاد أخرى؟ إنه يخلق ويولد ويوجد وفق مشيئة الله تبارك وتعالى، ثم هو يقضي هذه الفترة من العمر في هذه الحياة، حتى إذا ما انتهت تابعية السماء، وانتهى العمر المحدد من رب العالمين في هذه الدنيا؛ انتقل من هذه الدار رغم أنفه، ولا أحد يريد الموت!

طلب نعيم لا موت فيه

إن الإنسان في أول الحياة يتعب، ويكد ويكدح ويدرس السنين الطوال، فإذا ما كبر أولاده وأصبحت الأموال في قبضته، والأولاد في خدمته، والمجتمع كله يقدره ويجله؛ إذا بالموت يهدم عليه كل شيء.

لهوت وغرتك الأماني وعندما      أتمت لك الأفراح فوجئت بالقبر

تزينت له الدنيا من كل ناحية ثم فجأة يأتي الموت.

يقول الحسن البصري رحمه الله: [أبى الموت إلا أن ينغص على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيماً لا موت فيه! قالوا: أين يرحمك الله؟ قال: في الجنة!] قال تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] أي: غير منقوص.

فعلى المسلم العاقل الحازم أن ينتبه! لماذا أتى إلى هذه الدنيا؟ وما الذي أراده الله من خلقه؟ أخلقك الله -أيها المسلم- من أجل أن تأكل وتشرب كما يأكل الحيوان ويشرب؟! أم من أجل أن تمسي وتصبح، تنكح، وتأكل وتشرب، وتنام وتستيقظ، ويكون همك محصوراً في هذا؟ إذا كنت كذلك فاعلم أن الأنعام أيضاً همها محصور في هذا، قال عز وجل وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12].

أما المؤمنون فإنهم يدركون أن الله خلقهم لشيء غير هذا، يعرفون أن الله أوجدهم لطاعته، وخلقهم لعبادته، فهم يبذلون الليل والنهار، والسر والجهار، والأموال الطائلة، والأعمار الطويلة كلها في طاعة الله تبارك وتعالى، حتى إذا ما جاء الرحيل من هذه الدنيا؛ إذا بهم ينتقلون إلى دار الآخرة، وقد ملئوها بالعمل الصالح، يقول ابن القيم رحمه الله:

فحي على جنات عدنٍ فإنها      منازلنا الأولى وفيها المخيمُ

ولكننا سبي العدو فهل ترى      نعود إلى أوطاننا ونُسلمُ

وقد زعموا أن الغريب إذا نأى      وشطت به أوطانه فهو مغرمُ

وأي اغترابٍ فوق غربتنا التي      لها أضحت الأعداءُ فينا تحكمُ

فيا خاطب الحسناء إن كنت راغباً     فهذا زمان المهر فهو المقدمُ

فكن أيّماً عمن سوها فإنها      لمثلك في جنات عدنٍ تأيمُ

وكن مبغضاً للخائنات بحبها           لتحظى بها من دونهن وتكلمُ

إذا أردت الجنة -يا أخي المسلم- فأعد لها من الآن، ولا تغفل عن طاعة الله تبارك وتعالى حتى إذا نزل الموت إذا بك مفلس من العمل الصالح.

إذا جاء الموت، ورأيت الحقيقة، وقامت عليك الحجة، ورأيت مقعدك من الجنة أو من النار، ونظرت إلى الأولاد وهم يتبرءون منك، ونظرت إلى الأموال وهي لا تدفع عنك شيئاً، ونظرت إلى الأقارب وهم يمسكونك بأيديهم ويقلبونك على فراش الموت، ما يملكون حيلة في تلك اللحظات، ويتمنى الإنسان أنه يرجع إلى الدنيا، يقول الله تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:99-101].

أيها الإخوة! نحن في هذه الدار غرباء، ولا بد للغريب من الرحيل، وموعد الرحلة غير محدد، والمؤمن العاقل هو من يكون دائماً على أهبة الاستعداد للرحيل من هذه الدار، فهو لا يعرف متى يفاجئه القضاء، في ليله أو نهاره، بعد سنة أو يومٍ أو ساعة أو لحظة، فهو دائماً على أهبة الاستعداد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) والكيس هو: العاقل.

إننا في هذه الدنيا غرباء؛ ولكن بسبب طول المدة أصبحنا كأننا من أهلها، وإلا فلسنا من أهل هذه الدار، نحن جئنا إليها عراة فرادى، وسنخرج منها عراة فرادى، قال الله تعالى: لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف:48-49] إن هذا الكتاب هو كتاب الأعمال التي عملها الإنسان في هذه الدنيا، وما من يومٍ تشرق فيه الشمس إلا وصفحة جديدة من كتاب أعمالك تفتح لك في ذلك اليوم، وأنت الذي تملي والملائكة هم الذين يسجلون، فإن أمليت خيراً سجلوا خيراً، وإن أمليت شراً سجلوا شراً، فإذا غربت شمس ذلك اليوم طويت هذه الصفحة.

حتى إذا ما انتهت صفحات هذا الكتاب -وهو عبارة عن انتهاء عمرك في هذه الدنيا- ونقلت من هذه الدار إلى الدار الآخرة، نقلت ونقل معك هذا الكتاب، ثم هو يبقى معك إلى يوم القيامة، وفي يوم القيامة تتطاير الصحف، وتؤخذ الكتب إما باليمين وإما بالشمال قال تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ [الإسراء:13-14] الذي أمليت كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً * وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً * مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ [الإسراء:14-18] يعني: الدنيا عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء:18-20].

فأنت في هذه الدنيا تملي البيانات، وتملأ الملفات، وفي الحديث: (ما من يوم تشرق فيه الشمس إلا وملك ينادي مع هذا اليوم: يابن آدم! أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة).

الليل والنهار خزانتان تخزن فيهما الأعمال، والرحيل لا بد منه قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف:49] لأن أياديهم سوداء، وأعمالهم فظيعة، وجرائمهم شنيعة، ووجوههم -والعياذ بالله- مكفهرة من قلة الإيمان وكثرة المعاصي والذنوب، فإذا رأوا الكتاب قالوا: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].

فنحن -كما قلت، أيها الإخوة- في هذه الدنيا غرباء؛ لأننا جئنا إليها رغم أنوفنا، ولا يوجد أحد أعطي حرية الاختيار في المجيء إلى هذه الدار، وهل يوجد أحد أُخذ رأيه قبل أن يولد: أتريد أن تولد أم لا؟ لا. بل يأتي إلى الدنيا رغم أنفه، ولا يترك له حرية اختيار النوع: أيكون رجلاً أو امرأة؟ أيكون في هذه القرية أو في القرية الثانية؟ أيكون في هذه البلاد أو في بلاد أخرى؟ إنه يخلق ويولد ويوجد وفق مشيئة الله تبارك وتعالى، ثم هو يقضي هذه الفترة من العمر في هذه الحياة، حتى إذا ما انتهت تابعية السماء، وانتهى العمر المحدد من رب العالمين في هذه الدنيا؛ انتقل من هذه الدار رغم أنفه، ولا أحد يريد الموت!

إن الإنسان في أول الحياة يتعب، ويكد ويكدح ويدرس السنين الطوال، فإذا ما كبر أولاده وأصبحت الأموال في قبضته، والأولاد في خدمته، والمجتمع كله يقدره ويجله؛ إذا بالموت يهدم عليه كل شيء.

لهوت وغرتك الأماني وعندما      أتمت لك الأفراح فوجئت بالقبر

تزينت له الدنيا من كل ناحية ثم فجأة يأتي الموت.

يقول الحسن البصري رحمه الله: [أبى الموت إلا أن ينغص على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيماً لا موت فيه! قالوا: أين يرحمك الله؟ قال: في الجنة!] قال تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] أي: غير منقوص.

فعلى المسلم العاقل الحازم أن ينتبه! لماذا أتى إلى هذه الدنيا؟ وما الذي أراده الله من خلقه؟ أخلقك الله -أيها المسلم- من أجل أن تأكل وتشرب كما يأكل الحيوان ويشرب؟! أم من أجل أن تمسي وتصبح، تنكح، وتأكل وتشرب، وتنام وتستيقظ، ويكون همك محصوراً في هذا؟ إذا كنت كذلك فاعلم أن الأنعام أيضاً همها محصور في هذا، قال عز وجل وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12].

أما المؤمنون فإنهم يدركون أن الله خلقهم لشيء غير هذا، يعرفون أن الله أوجدهم لطاعته، وخلقهم لعبادته، فهم يبذلون الليل والنهار، والسر والجهار، والأموال الطائلة، والأعمار الطويلة كلها في طاعة الله تبارك وتعالى، حتى إذا ما جاء الرحيل من هذه الدنيا؛ إذا بهم ينتقلون إلى دار الآخرة، وقد ملئوها بالعمل الصالح، يقول ابن القيم رحمه الله:

فحي على جنات عدنٍ فإنها      منازلنا الأولى وفيها المخيمُ

ولكننا سبي العدو فهل ترى      نعود إلى أوطاننا ونُسلمُ

وقد زعموا أن الغريب إذا نأى      وشطت به أوطانه فهو مغرمُ

وأي اغترابٍ فوق غربتنا التي      لها أضحت الأعداءُ فينا تحكمُ

فيا خاطب الحسناء إن كنت راغباً     فهذا زمان المهر فهو المقدمُ

فكن أيّماً عمن سوها فإنها      لمثلك في جنات عدنٍ تأيمُ

وكن مبغضاً للخائنات بحبها           لتحظى بها من دونهن وتكلمُ

إذا أردت الجنة -يا أخي المسلم- فأعد لها من الآن، ولا تغفل عن طاعة الله تبارك وتعالى حتى إذا نزل الموت إذا بك مفلس من العمل الصالح.

إذا جاء الموت، ورأيت الحقيقة، وقامت عليك الحجة، ورأيت مقعدك من الجنة أو من النار، ونظرت إلى الأولاد وهم يتبرءون منك، ونظرت إلى الأموال وهي لا تدفع عنك شيئاً، ونظرت إلى الأقارب وهم يمسكونك بأيديهم ويقلبونك على فراش الموت، ما يملكون حيلة في تلك اللحظات، ويتمنى الإنسان أنه يرجع إلى الدنيا، يقول الله تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:99-101].

وإن البرزخ: حياة القبر، والحياة البرزخية منذ أن يموت الإنسان إلى أن يبعث من في القبور يوم القيامة.

لأن الحياة تنقسم إلى ثلاث مراحل: حياة الدنيا، وحياة البرزخ، وحياة الآخرة.

فالحياة الدنيا نقضيها نحن وإياكم كما تعرفون، والحياة البرزخية يقضيها أهل القبور في قبورهم منذ أن ماتوا وحتى يقوموا يوم القيامة، والحياة الآخرة من يوم القيامة حين يرث الله الأرض ومن عليها إلى مالا نهاية، وليس هناك وقت محدد بل هم فيها خالدون، أي: في النار أو الجنة.

هول يوم النشور

ينبغي للعاقل أن يتنبه، قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:99-101] يهرب الإنسان من أبيه، وأخيه، وأمه، قال الله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37] كل مشغول بنفسه ذلك اليوم، يأتي الولد إلى أبيه يقول: يا أبي! أنت ربيتني صغيراً، وغذوتني كبيراً، أسألك بحق بنوتي عليك أن تعطيني حسنة أرجح بها ميزاني؟ فيقول: يا ولدي! غذوتك صغيراً، وعطفت عليك كبيراً، أسألك بحق أبوتي عليك حسنة واحدة أثقل بها ميزاني، فيهرب كل من الآخر، ولا يأخذ أحد من الآخر شيئاً، لماذا؟ لأنهم يرون النار يحطم بعضها بعضاً، ويرون الجنة تتزين لأهلها، فإذا لا يوجد هناك عملة تنقذ إلا عملة الحسنات، فيود كل واحد أنه يفتدي من ذلك اليوم بملء الأرض ذهباً ولو كان يجده، لكنهم لا يجابون إلى ذلك أبداً، والناس في موقف عظيم لا يعلمه إلا الله:

مثل لنفسك أيها المغرور     يوم القيامة والسماء تمورُ

إذ كورت شمس النهار وأدنيت      حتى على رأس العباد تسيرُ

وإذا الجبال تقلعت بأصولها      ورأيتها مثل السحاب تسيرُ

وإذا البحار تأججت نيرانها      ورأيتها مثل الحميم تفورُ

وإذا الجنين بأمه متعلقٌ      خوف الحساب وقلبه مذعورُ

هذا بلا ذنبٍ يخاف لهوله      كيف المقيم على الذنوب دهورُ

يوم القيامة يشيب له الوليد!

أيها الإخوان! اتقوا يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً.. الطفل الصغير يشيب، والأم تذهل عما أرضعت، والحامل تضع حملها، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].

وإذا الجنان تزينت وتزخرفت      لفتىً على طول البلاء صبورُ

وإذا الجحيم تسعرت نيرانها           فلها على أهل الذنوب زفيرُ

أين أنت -يا أخي- في ذلك اليوم؟!

إنه هول عظيم يشيب له رأس الوليد.

يقول كعب الأحبار لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه: [يا أمير المؤمنين! اعمل عمل وَجِلٍ، فوالذي نفسي بيده! لو وافيت القيامة ومعك عمل سبعين نبياً إلى جانب عملك لظننت أنك لا تنجو يوم القيامة] ويقول: [اعمل عمل وَجِلٍ، فوالذي نفسي بيده! إن جهنم لتزفر يوم القيامة زفرة ما يبقى معها ملك مقرب، ولا نبي مرسل؛ إلا ويخر على ركبتيه جاثياً!].

فيا أخي! ليس بينك وبين هذا إلا أن يقال: فلان مات، وبعدها إما أن تكون في روضة من رياض الجنة إذا كنت من أهل الإيمان، وإما أن تكون في حفرة من حفر النار إذا كنت من أهل النفاق والعصيان، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

تقوى الله غوث كل مستغيث

فعلينا أن نتقي الله تبارك وتعالى، وألا نغفل عن هذا المصير الذي لا بد منه، ومن كان عنده شك وغفلة وتردد فلينظر إلى القبور، ويسألها لتحدثه بأخبار من فيها:

ما للمقابر لا تجيب      إذا رآهن الكئيب

حفرٌ مسقفة عليـ     هن الجنادل والكثيب

كم من حبيب لم تكن      عيني لفرقته تطيب

غادرته في بعضهن      مجندلاً وهو الحبيب

تترك أمك وأباك، وزوجتك وولدك، وهم أحب الناس إليك، تتركهم في حفرة مظلمة وتذهب عنهم، تبكي أياماً وليالي، ثم تسلو وتنسى، وأنت سوف تُترك في تلك الحفرة تتوسد فيها التراب، وسوف يكون غطاؤك وفراشك فيها التراب، وأمامك وخلفك التراب، لا فراش معك ، ولا أنيس، ولا قريب؛ إلا العمل، فإن كان العمل طاعة الله فأنعم بهذا المقام، وإن كان العمل معصية وغفلة فبئس المقام وبئس الورد المورود، لا حول ولا قوة إلا بالله.

هذا المقام ليس بعيداً عني ولا عنك.. ليس بيني وبينك وبين هذا المقام إلا أن يقال: فلان مات، وقد يقال: فلان مات هذه الليلة؛ لأن موت الفجأة من علامات الساعة، يخرج الرجل من بيته وهو يفكر بما سيفعله في سنينه الطوال فلا يعود إلا خبره، ما عاد أحد يموت اليوم في البيوت، لا يموتون إلا في المستشفيات والطرقات، فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

فعليك أن تكون دائماً مستعداً متأهباً حتى إذا جاء الموت تكون على أحسن حالة وأحسن هيئة وتقول: حياك الله، كما قالت تلك المرأة الصالحة التي جاءها ملك الموت وهي جالسة، فسلم عليها قالت: عليك السلام من أنت؟ قال: أنا ملك الموت، قالت: أهلاً وسهلاً بخير غائبٍ أنتظره.

امرأة مؤمنة علمت الحقيقة في هذه الدنيا، فقامت ليلها ونهارها في طاعة الله، لا يمكن أن تنطق بقول فاحش، أو تلعن، أو تتبرج، أو تختلط بالرجال، أو تؤخر الصلاة أو ترتكب معصية، ولهذا لما جاءها الموت قالت: أهلاً وسهلاً بخير غائب أنتظره، قال لها: هل لك من حاجة؟ -يعني: نعطيك فرصة- تقسمين أموالك، أو توصين أهلك وأولادك، قالت: أما أموالي وأولادي فالله خليفتي عليهم، أريد فقط أمراً واحداً، قال: ماذا؟ قالت: أمهلني حتى أصلي ركعتين، فإذا صليت وأنا في السجود فاقبضني فإني أكون أقرب إلى ربي في تلك اللحظة، فأعطاها ما أرادت.

لا تكن -يا أخي- مثل ذلك الذي كان في ملكه وجبروته وسلطانه، خرج يختال في مشيته، ويتبختر على حصانه، والخيل والموكب الملكي من أمامه ومن خلفه، ويظن أنه لن يموت.. نسي الموت، وظن أنه بهذه الأبهة وبهذا الملك والغطرسة سوف يخرج من سيئاته كما تخرج الشعرة من العجين، جاءه ملك الموت يعترضه ويمسك بخطام حصانه ويقول له: قف يا هذا! فقال الملك: أمثالك لا يجرءون على هذا، من أنت؟ قال: ادن مني، فدنا منه فقال له: أنا ملك الموت، قال: وما تريد؟ قال: قبض روحك الآن. قال: أمهلني لحظة. قال: لا. قد أمهلناك وأعطيناك فرصة طويلة، أما الآن فلا، فخر صريعاً بين يدي حصانه.

فلا يغرك الشباب إن كنت شاباً، وانظر إلى الأموات من الشباب؛ لأن شبابك إلى هرم، وعافيتك إلى سقم، وحياتك إلى موت، وغناك إلى فقر، وقصرك إلى قبر، وأنسك بأهلك وزوجتك وأطفالك وأقاربك وفراشك ومعاشك سيكون كله نهايته الحفرة المظلمة، فلا تغتر بهذا، إن مثل من يغتر بهذا مثله مثل إنسان في السجن، قالوا له وهو في سجنه: وسوف ينفذ فيك الإعدام غداً، فهذا عاقل قال لنفسه: ما دام الإعدام غداً فلا مجال لي أن أشتغل بطعام أو شراب أو لباس، إنما أشتغل بآخرتي، وأتوب وأستغفر الله عز وجل، وسوف أقوم هذه الليلة، وأصوم هذا النهار، فإذا جاءه الموت كان مستعداً.

لكن آخر قال: غداً يحلها حلال، وسيف الموت على كل رقبة، وإذا به قطع الصلاة، وارتكب المعاصي، وإذا به يفجعه الموت، فما نفعه شيء مما كان فيه.

العمل الصالح خير زاد في الآخرة

يا أخي المسلم! عليك أن تعلم أن المصير محقق وقريب، وليس بينك وبينه إلا أن تموت، وما ذلك ببعيد مني ولا منك.. انظر إلى الأموات وقل كما قال الأول:

أمر على المقابر كل حينٍ      ولا أدري بأي الأرض قبري

فأفرح بالغنى إن زاد مالي      ولا أبكي على نقصان عمري

يمر علي رضي الله عنه على أهل المقابر ويقول لهم: [السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون، أما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما النساء فقد تزوجت، هذه أخبارنا فما أخباركم؟] وما عندنا شيء تغير، الليل هو الليل، والنهار هو النهار، والأكل الذي كنا نأكله هو أكلنا، ولا شيء جديد، وتقطعت الأرحام، وظهر العلم، وقل العمل، وتباغض الناس بالقلوب، وتلاعنوا بالألسن -والعياذ بالله-.

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا أظهر الناس العلم، وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا الأرحام، عند ذلك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) ويقول: (إذا ظهر في أمة خمس عشرة خصلة حلَّ بها البلاء: إذا كانت الأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه وأباه، وتُعلم العلم لغير الدين، وظهرت الأصوات في المساجد -بالخصومات، والبيع والشراء، وإنشاد الضالة، والمحاكمات- وظهرت القينات -يعني: المغنيات- والمعازف، وشربت الخمور، وسميت بغير اسمها -والعياذ بالله- ولعن آخر هذه الأمة أولها، فلينتظروا زلزلة وريحاً حمراء وخسفاً ومسخاً) وهذا حصل كله، فيقول: [هذه أخبارنا -ما من شيء جديد- ثم قال: أما -والله- لو نطقوا لقالوا: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]].

تزود -يا أخي- من العمل الصالح، فإن خير الزاد التقوى، لن ينفع زادك من المال والعلم إلا إذا كان العلم مقروناً بالعمل، لن ينفعك زادك من الجاه، والسلطة، ومن العضلات والقوة، وإنما زادك من التقوى هو ما ينفعك في ذلك المكان الذي يتخلى فيه عنك كل قريب حبيب، ولا ينفعك إلا ما قدمت يداك، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2930 استماع
كيف تنال محبة الله؟ 2929 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2805 استماع
أمن وإيمان 2678 استماع
حال الناس في القبور 2676 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2605 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2572 استماع
النهر الجاري 2478 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2468 استماع
مرحباً شهر الصيام 2403 استماع