أنصفوا المرأة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعــد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أشكر الله جل وعلا على أن هيأ هذا اللقاء الطيب، وأن جمعنا بأحبة لنا في الدين في بيت من بيوت الله، نتدارس كتاب الله، ونسأل الباري جل وعلا أن يحف هذا المجلس بالسكينة، وأن يغشاه بالرحمة، وأن ينـزل عليه ملائكته، وأن يذكرنا في من عنده.

ثم أشكر لأخي فضيلة الشيخ الدكتور سعد علي ما ذكر؛ ولكن أقول: سامحه الله جل وعلا، وإن كان إحسان الظن بالمسلم أمر طيب، ومأمور به كل مسلم تجاه أخيه؛ ولكن أن يكون أمامه فإنه يعين بذلك الشيطان عليه، ويقطع عنقه، ونحن -ولله الحمد- أحوج ما نكون إلى ما في القلوب أكثر مما في الألسن؛ ولا شك أن اللسان دليل على القلب، إلا أن حضور المقصود قد يقطع هذا الأمر؛ ولكن أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني خيراً مما تظنون, وأن يغفر لي ما لا تعلمون، ولسان حالي وحال كل مسلم يقول:

إلهي لا تعذبني فإني     مقر بالذي قد كان مني

يظن الناس بي خيراً وإني     لشر الناس إن لم تعفُ عني

ثم قبل البدء بالمحاضرة تعلمون من خلال ما سبق في محاضرة أبها أنني ممن فوجئ بهاتين المحاضرتين، وأما هذه المحاضرة فما علمتُ بها إلا قبل الجمعة بنصف ساعة، وأُقحِمتُ فيها إقحاماً، ومثل هذا الأمر يجعل الإعداد لمثل هذه المحاضرة ضيقاً، وربما فيه من القصور ما فيه، وما أقول إلا أن لسان حالي معكم كنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يتلقى الركبان، أو أن يتلقى الجلب، فقدمت هنا طالباً فإذا بي مطلوباً، وقدمتُ معتزلاً فإذا بي وسط الناس؛ ولكن منكم العذر، فإن أصبتُ فمن الله، وإن أخطأتُ فمن نفسي ومن مكتب الدعوة والشيطان، ولا بأس في ذلك - وإن كانت ليست هناك مقارنة- لأنه واردٌ: من نفسي والشيطان؛ فلو أدخلنا مكتب الدعوة فلا بأس؛ لأنه هو السبب في مثل هذه العُجالة.

أولاً: أما عنوان المحاضرة -أيها الإخوة- فهو من العناوين الحَمَّالة الأوجه، أو هو كالوعاء يفسره كل صاحب هوىً على ما يريد، والحقيقة أن العنوان يقال: فيه وجهان، وكل وجه له قائلوه، مع اختلاف المراد من كل معنى.

فأما ما نريده نحن من هذا العنوان، فهو بهذا التفصيل: (أنصفوا المرأة) من باب قولنا من الرباعي: أنْصَفَ يُنْصِفُ إِنْصافاً، والمعنى، أي: عدل في الغير، وصدق في إعطائه حقه.

وأما على ما يُشاهَد من أطروحات مهلهلة، وشعارات متهاوية، وإن كان ظاهرها برَّاقاً، فإن من خلال ذلك يُراد النيل من واقع المرأة ونهش حريتها التي أراد الله جل وعلا أن تكون عليها.

فعنوان المحاضرة على منهجهم يكون: (أُنصفوا المرأة) أي: من باب نَصَفَ يَنْصُفُ نَصْفاً من الثلاثية، أي: اقطعوا المرأة نصفين، وإذا قطعَ الشيء نصفين قيل له: نَصَفَ.

والحقيقة أن هذا واقع كثير من كتابات العلمانيين، ومدعي تحرير المرأة، إذ لا يُعرف -أيها الإخوة- من أطروحاتهم إلا مثل هذا المعنى، عافانا الله وإياكم من ذلك.

ثانياً: في هذه الفترة وفترة مضت عشنا لحظات عصيبة جداً كل مسلم غيور يضع فيها يده على صدره، وكأنه يقول: حصن المرأة المسلمة هاهو يتهدم أمام ناظِريه.

وما ذاك إلا لكثرة ما يُرى من الطرح المشئوم، والإلحاد السافر، والعناد الأرعن من خلال قنوات متعددة تحمل من خلال أنامل كُتَّاب أغراض، ومعاول هدم لهذا الحصن الحصين، ولعل كثرتها وتوالي طرحها هو السبب الرئيس لإصابة بعض الغيورين لما يُسمى باليأس، أو ما يُسمى بهوس الهزيمة.

ولكن الذي ينبغي أن يعلمه المؤمن والمؤمنة: أن الله جل وعلا غالب على أمره، وأنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو أن تزني أمته، وأن انتشار مثل هذه المعاول الهدامة ليست في حقيقتها إلا سبب من الله وحكمة في أن يستيقظ أهل الإيمان من سباتهم، ويتفقدوا الخلل في سلوكهم، ويستكشفوا طرق المقاومة لمثل هذه الأفكار الهدامة، ومن ثَمَّ نسيان هذه المصائب جملة وتفصيلاً، واستئناف حياة أخرى يغلب عليها الفأل والرجاء، وهي أحفل بالعمل والإقدام، وفي ضوء ذلك ندرك قول القائل:

فإن تكن الأيام فينا تبدلتْ     ببؤسى ونُعمى والحوادث تفعلُ

فما ليَّنت منا قناة صليبة     ولا ذللتنا إلا للتي ليست تجمُلُ

ولكن رحلناها نفوساً كريمة     تحمَّل ما لا يُستطاع فتحملُ

وقَينا بحسن الصبر منا نفوسَنا     صحَّت لنا الأعراضُ والناس بدل

إن تهيب المرء المسلم بأن يقع في ضلالٍ ما يُبعده ذلك التهيب عن بعض المواقف، وينجيه من غوائله؛ بيد أن المرء الذي يخشى على حياته أن يتناول جرعة كبيرة من السم لوضوح خطرها، فإنه بذلك يستهين بتناول أجزاء دقيقة منها تكون مطوية في أطعمة مكشوفة، أو أطباق قذرة، أو أيدي ملوثة، أو ما شابه ذلك، ومن ثم يصيب بدنه من العلل ما قد يودي به، مثلما تودي به رصاصة قاتلة أو طعنة غادرة.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الخبر بقوله: (إن الشيطان قد أيس أن يُعبد في جزيرة العرب ؛ ولكن بالتحريش بينهم ) وحري بنا ونحن نتكلم عن بعض آراء ذوي الأهواء أن ننبه إلى الملابسات التي تجعل كثيراً منهم يوافق -مثلاً- أو يرفض، بل يؤمن ويكفر متى ما يرى الهيعة قد سارت في الاتـجاه الغالب، والعـامة من هـؤلاء -وللأسف الشديد- مع صاحب الدنيا إذا غلب ولو كان ذميماً، وأما الذين يعتنقون الحق المجرد ولو أثخنته الهزائم، ويغالون بنفاسته ولو مُرِّغ في التراب، فهؤلاء هم غرباء العالم.

والناس مَن يلق خيراً قائلون له     ما يشتهي ولأم المخطئ الهبلُ

لماذا عنوان هذه المحاضرة: (أنصفوا المرأة)؟! وهل المرأة مغبونة حتى تُنصف؟!

فأقول: أولاً: إن الإنصاف في الحقيقة هو إعطاء كل ذي حق حقه، بصرف النظر عن ماهية المنصف أو المنصف له.

ولا يُفهم منه ألبتة أن الإنصاف يكون بمعنى: المقاسمة هنا! أي: أن نقسم الشيء نصفين، كلا، هذا ليس إنصافاً، وإنما يُقال: صُلح قرر فيه الطرفان أن يتنازل كل واحد منهما عن النصف الآخر، والإنصاف في الطرح خلاف ذلك، بل هو بعبارة أخرى ما يسمى: بالعدل؛ بكل ما يحمل منها من معانٍ، حتى في حال العداوة, أو في حال القربى، كما قال الباري جل وعلا: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].

أو كما قال جل وعلا في حق القربى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء:135].

ثانياً: ينبغي علينا جميعاً أن نعي واقع الحديث عن المرأة، وأنها صارت محلاً لعبث العابثين، ودعاوى المدعين.

وأمر المرأة بعيد كل البُعد عن حقيقة كل زاعم منهم.

وكل يدَّعي وصلاً لليلى     وليلى لا تُقر لهم بِذاكا

مع أن معظم الطرح لقضية المرأة إنما هو في الحقيقة على طرفي ضد، إبَّان غيبة من علماء المسلمين وفقهائهم ودُعاتهم وأصحاب الرأي منهم، الذي يحمل مصداقية في طياته.

فمن هنا كان الطرح غير منصف، بل أبلغ ما يُقال فيه:

سارت مُشَرِّقَةً وسرتُ مُغَرِّبا     شتان بين مُشَرِّقٍ ومُغَرِّبِ

فالجل منهم تهيجهم بتلك الأطروحات بواعث مكشوفة، ويطلبون به غايات شتى، وإن شئتم فاسمعوا قول الشاعر:

لما رأيت نساءنا     يفحصن بالمعزاء شدا

وبدت لميس كأنها     بدر السماء إذا تبدا

وبدت محاسنها التي     تخفي وكان الأمر جِداً

نازلت كبشهم ولم     أرَ من نزال الكبش بُدا

لمن هذا الإقدام؟ إنه لوجه لميس الحسناء.

فمن هنا -أيها الإخوة والأخوات- كانت الدعوة إلى الإنفاق في فترة الغياب الفكري المسلم الصحيح الذي ينتشل قضية المرأة من الظلم والجور، حتى من أهلها ومن بني جلدتها والذين يتكلمون بلغتها.

وكان مالك بن أنس رحمه الله يشكو في زمانه قلة الإنصاف، ولم تزل قلة الإنصاف قائمة بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم.

وما هذا التغيب الكامل عبر وسائل متعددة للطرح الإسلامي الفريد نحو قضية المرأة إلا سبب للغفلة أو التغافل أو التجاهل بعبارة أصح عن تلك الصيحات الصادقة، التي كان يطلقها علماء الإسلام ودعاتُهم في التحذير من أن تكون قضية المرأة عِلْكاً ملتصقاً في أحذية أهل الفساد والإفساد من غربيين حاقدين أو مستغربين.

وتلك الصيحات التي ظهر للأمة صدق منطقها في هذا الوقت، ووقع ما كان يُسمع من تحذير حول أقنعة التغرير وقُفَّازاته على حد قول القائل:

بذلتُ لهم نُصحي بمنعرج اللوا     فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ

وإن هذه الظروف العصيبة التي يشهدها العالم الإسلامي بأسره، من انفتاح فكري وثقافي مركباً تركيباً مزجياً لا بد من مواجهتها في أسرع وقت ممكن قبل فوات الأوان؛ وإلا فأنىَّ للناس إذا فاتهم ذلك ذكراها؟!

وحينئذٍ يصدق علينا قول القائل:

ذب الحمار بأم عمروٍ     فلا رجَعَتْ ولا رجع الحمارُ

قد يتساءل البعض: لماذا الحديث عن المرأة؟

أيوجد ثَمَّ مشكلة تستدعي الحديث عن مخلوق ليس جديداً على البشر؟!

أم أن الحديث عنها يُحدث نوع تسلية وإماتة للوقت بالتفكه بذاتها؟!

أم أن الأمر ليس هذا ولا ذاك؟!

فالجواب: هو أن الأمر ليس هذا ولا ذاك، بل إن الأمر أبعدُ من هذا وأجل، إننا حينما نتحدث عن المرأة فإننا نتحدث عنها على أنها شقيقة الرجل ولها شأن في المجتمع، حيث إنها نصف البشرية، ثم هي تلج النصف الآخر، فكأنها بذلك كالأمة الكاملة.

يضاف إلى ذلك أننا في المجتمع الحديث نجد أن الحديث عن المرأة صحافةً وإعلاماً، بل وعلى مستوى المنتديات والجمعيات الظاهر منها والباطن، نجد أن الحديث عنها يحتمل حيزاً كبيراً من تفكير الباحثين، فكان لزاماً على كل داعية أو موجه أو عالم قبل ذلك أن يكون مشغولاً بمثل هذه القضية الكبرى، يفرح لاستقامتها، ويأسى لعوجها وعدم استقرارها، ويتفرس أيضاً -وهذا أمر واجب- في الأطروحات المتعلقة بها؛ ليميز بذلك الخبيث من الطيب.

فلا هو يسمع للمتشائمين، ولا يشافع المتهورين، بل يكون وقافاً عند تعاليم الدين الحنيف، كما يُعرف من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا كما يصوره أطروحات النساء الحمقاوات، أو أهواء الرجال المسعورين.

كما أن من الأسباب في هذا الطرح، بل إنه السبب الأهم: ألا وهو ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه قال: (ما تركتُ بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء )، وفي رواية عند مسلم : (فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ).

إضافة إلى ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قبل وفاته بثلاثة أشهر -فيما رواه البيهقي وغيره- من الوصية بالنساء خيراً وأنهن عَوان عند الرجال، أي: أسيرات.

أضيفوا إلى ذلك -أيها الإخوة والأخوات- أن الحديث عن المرأة هو محاولة لإيقاظ ذوي الغَرَر، من أجل أن ينتبهوا للمؤامرة ضد المرأة، وأنها في الحقيقة جُزء من مشروع استعماري خطير كبير شامل، وما هذا المشروع إلا ليغير وجه الحياة، ويقتلع المجتمع الإسلامي من جذوره، ناهيكم عن غفلة المرأة المسلمة، ووَسْنَتِها الملغومة، والتي غيَّبَتْها عن أن تعي واقعها المرير، والذي يصوره أحد الكتاب فيقول:

يُحكى أن رجلاً وقف على طرف غصن من شجرة، يقطعه من ناحية الجذع، دون أن يتنبه إلى حتمية السقوط الذي سيصير إليه إذا انقطع الجذع، فإذا مر من ينبهه إلى هذا المصير الذي انتهى إليه فيما بعد، نهض يعدو خلفه ليقول له: لقد عرفت أمر سقوطي قبل حصوله، فلن أدعك حتى تنبئني بنهايتي متى تحين.

أيها الإخوة: إن هذه الصورة الغريبة من هذا الرجل الساذج وهو يقف على غصن الشجرة، لَيُمَثِّل في الحقيقة واقع المرأة المسلمة اليوم في اندفاعها المحموم وراء المجهول، وهذا المجهول لم تجرب يوماً ما أن تسأل نفسها عن غايته ومحتواه، وهذا المجهول هو الذي أضاع شخصيتها وصرفها عن حقيقته، وجعلها كالكرة تتخبطها مضارب اللاعبين، فتتهادى في كل اتجاه ومكان، وهذا المجهول لا يُتاح التخلص من ضغطه وقهره إلا للمرأة التي تستطيع أن تعزل نفسها ضمن حصانة من الشرع الحكيم.

المرأة في الجاهلية الحديثة

لقد وصلت المرأة المسلمة إلى مطلع هذا العصر مصونة الفطرة من الانحلال والانحراف، على الرغم من كل ظروفها السيئة، ولكنها ما إن طلت على مفاسد الغرب حتى اجتالتها شياطينه، فإذا هي تتخبط في مستنقعه، وتقع في حمئه المشين، لا تريد بذلك مستقراً، ولا تهتدي طريقاً للوصول إلى الرفعة والعزة.

لقد راع المرأة من الغرب فريقه الطامي وظرافة منتجاته، فرضيت بالسير وراء الهابطات من نسائه، تتبع آثارهن في كل زيٍ ومسلك، حتى أصبحت لا ترضى عن ثوبها إلا بمقدار انطباقه على نماذجهن الواردة في أزياء الهابطات من نساء هوليود وأشباههن.

حتى إنك -أيها المرء المسلم- إذا ما رأيت ثوبها طويلاً أو ثوب بعضهن يستر بعض العورة، فاعلم أنه صورة من ذلك النموذج الجديد -إلا من رحم الله- ولقد صدق من قال:

على وجه مَيٍّ مسحة من ملاحة     وتحت الثياب الخزي لو كان باديا

أم ترَ أن الماء يخثر طعمُه     وإن كان لون الماء أبيض صافيا؟

ورسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح يقول: {أيقظوا صويحبات الحجر، فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة }.

أيها الإخوة: لقد بات أمر المرأة في مهب الأعاصير، فليس من الحكمة أن يُترك زمامه للدعوات الساقطة، يقذف به حيث يشاء أولو الأهواء.

أيها الأحبة: إن الحديث عن المرأة بوجه عام قد يفرض على المتحدث في هذا الإطار أن لا يصرف النظر عن وضع المرأة في القديم؛ ليتاح له الإلمام الواجب بمنـزلتها لدى الأمم.

المرأة في الجاهلية القديمة

لا جرم -أيها الإخوة- فإن الناظر في واقع المرأة قبل الإسلام لن يجد ما يسره، إذ يرى نفسه أمام تخبط عالمي هنا وهناك تجاه المرأة وقضيتها، ويعجب كل العجب من اختلاف الفئات والقبائل في نظرتها للمرأة، حيث تترواح شهوداً فتتولى المرأة زمام الملك، كـالزباء وبلقيس التي قال الله عنها على لسان هدهد سليمان: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23].

بل ولربما ادعت المرأة النبوة، كـسجاح رضي الله عنها قبل الإسلام، فيضحك عليها بعض قومها، ثم يهجوها فيقول:

أضحت نبيتنا أنثى نلاعبها     وأضحى أنبياء الناس ذكرانا

وقد مارست المرأة الفرعونية قبل الإسلام الحكم والكهنوت، ومن أشهر من عُرِفَت في ذلك: كارت ، وكيلوا باترا ، ونفرتيتي .

هذا إذا كان وضع المرأة في الصعود، أو أن تتراوح هبوطاً فيكون الوأد مصيرها خشية الفاقة والعار، وإن سلمت من ذلك فإنها ستعيش زرية مهانة في الأسرة والمجتمع، طفلة وشابة يستعبدها الرجال في ذلة وامتهان، إن سئلت فلا تُجاب، وإن احتيج إليها فإنما هو للسقي والاحتطاب ولقط النوى، وإن تسامت المرأة في الجاهلية شيئاً ما فإنما هو لإبراز غلة الشهوة في ازدراء ونظرات شذرى.

ويوم خروج هذه المرأة إلى الدنيا يومٌ تسود فيه وجوه الجاهلية، وبُشرى البشير بها سخطٌ وإغضابٌ، وأن بشراها هي أن تدفن حية في التراب: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُـوءِ مَا بُشِّـرَ بِهِ أَيُمْسِـكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58-59].

وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9].

أيها الإخوة والأخوات: تلك عقول فارقها في الحقيقة رشدها؛ لطول عهدها بنور السماء، وهدي الأنبياء، وهؤلاء رجال صنعتهم الوثنية ، وربتهم الكهانة، فأصبحت فصاحة ألسنتهم وكرم أيديهم ومنطقهم في الشعر الذي صُوِّر إلى أن قيل:

ألهى بني تغلب عن كل مكرمة     قصيدة قالها عمرو بن كلثوم ِ

وصارت شجاعة أبدانهم كل ذلك أصح بروقاً تومض ولا تضيء، وترعد فلا تمطر.

ولعل الطابع البارز في حكم العالم القديم على المرأة هو أنها موضع اللذة فحسب، لا وزن لها إلا بمقدار ما تطلبه نزوة الرجل ورغبتُه، وليست معركة ذي قار عن التاريخ ببعيد، وهي من أضخم المعارك في الجاهلية، وأكثرها بلاءً، وإنما نشبت بسبب امرأة جميلة أرادها كسرى، وأباها النعمان بن المنذر عليه، ولقد صدق من قال:

سقراط أعطى الكأس وهي منية     شفتي محب يشتهي التقبيلا

الجاهلية في الحقيقة نالت من المرأة أقصى منال فحرمتها حق الحياة، حتى بيعت وسبيت ووئدت.

كانت المرأة في ظل أكيد

سلعة كانت في أسواق العبيد

وأدوها

كبلوها بحديد

كانت الدنيا ظلاماً مطبقاً

وثياب الظلم لفحاً محرقاً

فأتى الهادي عليهم مشفقاً

يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه: [[إذا سرك أن تعـلم جهـل العرب، فاقـرأ قـول الله جل وعلا: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ [الأنعام:140] ]]

إذاً: من خلال هذه الملامح -أيها الإخوة والأخوات- ندرك جميعاً ولا ريب كيف جمحت الجاهلية بالمجتمع العربي، فشذَّ عن سواء السبيل، وانطلق يخبط في مهامه الحياة ودروبها خبط العُشَراء.

المرأة في الإسلام

في طوايا هذا الظلام وإبَّانه ينبعث فجر الإسلام، فتسمع في الدنيا لأول مرة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، ويُسمع قوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228] ويُسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا إن كل شيء من أمور الجاهلية تحت قدمي موضوع } ويُسمع قوله صلى الله عليه وسلم: {استوصوا بالنساء خيراً } ويُسمع قوله صلوات الله وسلامه عليه: {لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم هو يضاجعها }.

وبذلك -أيها الإخوة- يضع الإسلام الأسس الكبرى لكيان المرأة الجديد، الذي ما لبث أن آتى ثماره في ظل المدرسة النبوية، وهي مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا المرأة إمام يُستفتى بأعظم المسائل، كـعائشة رضي الله عنها.

أو فقيهة كـأم الدرداء رضي الله تعالى عنها، حيث تقول: [[لقد طلبت العبادة في كل شيء، فما أحببت لنفسي شيئاً أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم ]].

أو أن تكون عالمة، كابنة سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى لما أن دخل بها زوجها وكان من تلاميذ سعيد ، فلما أن أصبح أخذ رداءه يريد أن يخرج، فقالت له زوجتُه: "إلى أين؟ فقال: إلى مجلس سعيد أتعلم العلم، فقالت له: اجلس أعلمك علم سعيد ".

أو كابنة الإمام مالك رحمه الله تعالى إمام دار الهجرة، حيث كانوا يقرءون عليه في الموطأ ، فإن لَحَن القارئ في حرف أو زاد أو نقص تدق ابنته الباب، فيقول أبوها للقارئ: ارجع، فالغلط معك، فيرجع فيجد الغلط معه.

أو مثل كريمة بنت محمد بن حاتم المروزي كانت من راويات صحيح البخاري المعتبرة عند المحدثين.

بل -أيها الإخوة والأخوات- لقد أحسن الإسلام في المرأة بنتاً بعد أن كانت تسبى وتوأد، فيـقـول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه : {إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعاً وهات، ووأد البنات }.

وقد قال واثلة بن الأسقع : [[ إن من يُمن المرأة تبشيرها بالأنثى قبل الذكر؛ وذلك أن الله قال: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49] ]].

بل قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: {من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو -وضم أصابعه- معاً }، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

قالوا له: ماذا رزقتا     فأصاخ ثُمَّةَ قال: بنتا

وأجل من ولد النساء     أبو البنات فلم جزعتا

نالوا بفضل البنت ما     كبتوا به الأعداء كبتا

وكما أحسن الإسلام إلى المرأة بنتاً، فقد أحسن إليها كذلك زوجة، وجعل الزواج لبني البشر نسباً وصهراً وسكناً ومودة ورحمة وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].

وقد قال عنها صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : {تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك }.

خير ما يتخذ الإنسان من     دنياه كيما يستقيم دينه

قلب شكور ولسان ذاكر     وزوجة صالحة تعينه

وختاماً: في هذه العُجالة: فإن الإسلام قد كرم المرأة المسلمة، أماً وقد كرمها بعد شبابها وزواجها وتعلمها، وقرن طاعتها بالأمر بعبادته سبحانه وتعالى والنهي عن الشرك به: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36].

وخص الأم ببعض هذه الوصايا بالتذكير بزيادة حقها على حق الأب وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ

لقد وصلت المرأة المسلمة إلى مطلع هذا العصر مصونة الفطرة من الانحلال والانحراف، على الرغم من كل ظروفها السيئة، ولكنها ما إن طلت على مفاسد الغرب حتى اجتالتها شياطينه، فإذا هي تتخبط في مستنقعه، وتقع في حمئه المشين، لا تريد بذلك مستقراً، ولا تهتدي طريقاً للوصول إلى الرفعة والعزة.

لقد راع المرأة من الغرب فريقه الطامي وظرافة منتجاته، فرضيت بالسير وراء الهابطات من نسائه، تتبع آثارهن في كل زيٍ ومسلك، حتى أصبحت لا ترضى عن ثوبها إلا بمقدار انطباقه على نماذجهن الواردة في أزياء الهابطات من نساء هوليود وأشباههن.

حتى إنك -أيها المرء المسلم- إذا ما رأيت ثوبها طويلاً أو ثوب بعضهن يستر بعض العورة، فاعلم أنه صورة من ذلك النموذج الجديد -إلا من رحم الله- ولقد صدق من قال:

على وجه مَيٍّ مسحة من ملاحة     وتحت الثياب الخزي لو كان باديا

أم ترَ أن الماء يخثر طعمُه     وإن كان لون الماء أبيض صافيا؟

ورسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح يقول: {أيقظوا صويحبات الحجر، فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة }.

أيها الإخوة: لقد بات أمر المرأة في مهب الأعاصير، فليس من الحكمة أن يُترك زمامه للدعوات الساقطة، يقذف به حيث يشاء أولو الأهواء.

أيها الأحبة: إن الحديث عن المرأة بوجه عام قد يفرض على المتحدث في هذا الإطار أن لا يصرف النظر عن وضع المرأة في القديم؛ ليتاح له الإلمام الواجب بمنـزلتها لدى الأمم.

لا جرم -أيها الإخوة- فإن الناظر في واقع المرأة قبل الإسلام لن يجد ما يسره، إذ يرى نفسه أمام تخبط عالمي هنا وهناك تجاه المرأة وقضيتها، ويعجب كل العجب من اختلاف الفئات والقبائل في نظرتها للمرأة، حيث تترواح شهوداً فتتولى المرأة زمام الملك، كـالزباء وبلقيس التي قال الله عنها على لسان هدهد سليمان: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23].

بل ولربما ادعت المرأة النبوة، كـسجاح رضي الله عنها قبل الإسلام، فيضحك عليها بعض قومها، ثم يهجوها فيقول:

أضحت نبيتنا أنثى نلاعبها     وأضحى أنبياء الناس ذكرانا

وقد مارست المرأة الفرعونية قبل الإسلام الحكم والكهنوت، ومن أشهر من عُرِفَت في ذلك: كارت ، وكيلوا باترا ، ونفرتيتي .

هذا إذا كان وضع المرأة في الصعود، أو أن تتراوح هبوطاً فيكون الوأد مصيرها خشية الفاقة والعار، وإن سلمت من ذلك فإنها ستعيش زرية مهانة في الأسرة والمجتمع، طفلة وشابة يستعبدها الرجال في ذلة وامتهان، إن سئلت فلا تُجاب، وإن احتيج إليها فإنما هو للسقي والاحتطاب ولقط النوى، وإن تسامت المرأة في الجاهلية شيئاً ما فإنما هو لإبراز غلة الشهوة في ازدراء ونظرات شذرى.

ويوم خروج هذه المرأة إلى الدنيا يومٌ تسود فيه وجوه الجاهلية، وبُشرى البشير بها سخطٌ وإغضابٌ، وأن بشراها هي أن تدفن حية في التراب: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُـوءِ مَا بُشِّـرَ بِهِ أَيُمْسِـكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58-59].

وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9].

أيها الإخوة والأخوات: تلك عقول فارقها في الحقيقة رشدها؛ لطول عهدها بنور السماء، وهدي الأنبياء، وهؤلاء رجال صنعتهم الوثنية ، وربتهم الكهانة، فأصبحت فصاحة ألسنتهم وكرم أيديهم ومنطقهم في الشعر الذي صُوِّر إلى أن قيل:

ألهى بني تغلب عن كل مكرمة     قصيدة قالها عمرو بن كلثوم ِ

وصارت شجاعة أبدانهم كل ذلك أصح بروقاً تومض ولا تضيء، وترعد فلا تمطر.

ولعل الطابع البارز في حكم العالم القديم على المرأة هو أنها موضع اللذة فحسب، لا وزن لها إلا بمقدار ما تطلبه نزوة الرجل ورغبتُه، وليست معركة ذي قار عن التاريخ ببعيد، وهي من أضخم المعارك في الجاهلية، وأكثرها بلاءً، وإنما نشبت بسبب امرأة جميلة أرادها كسرى، وأباها النعمان بن المنذر عليه، ولقد صدق من قال:

سقراط أعطى الكأس وهي منية     شفتي محب يشتهي التقبيلا

الجاهلية في الحقيقة نالت من المرأة أقصى منال فحرمتها حق الحياة، حتى بيعت وسبيت ووئدت.

كانت المرأة في ظل أكيد

سلعة كانت في أسواق العبيد

وأدوها

كبلوها بحديد

كانت الدنيا ظلاماً مطبقاً

وثياب الظلم لفحاً محرقاً

فأتى الهادي عليهم مشفقاً

يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه: [[إذا سرك أن تعـلم جهـل العرب، فاقـرأ قـول الله جل وعلا: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ [الأنعام:140] ]]

إذاً: من خلال هذه الملامح -أيها الإخوة والأخوات- ندرك جميعاً ولا ريب كيف جمحت الجاهلية بالمجتمع العربي، فشذَّ عن سواء السبيل، وانطلق يخبط في مهامه الحياة ودروبها خبط العُشَراء.

في طوايا هذا الظلام وإبَّانه ينبعث فجر الإسلام، فتسمع في الدنيا لأول مرة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، ويُسمع قوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228] ويُسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا إن كل شيء من أمور الجاهلية تحت قدمي موضوع } ويُسمع قوله صلى الله عليه وسلم: {استوصوا بالنساء خيراً } ويُسمع قوله صلوات الله وسلامه عليه: {لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم هو يضاجعها }.

وبذلك -أيها الإخوة- يضع الإسلام الأسس الكبرى لكيان المرأة الجديد، الذي ما لبث أن آتى ثماره في ظل المدرسة النبوية، وهي مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا المرأة إمام يُستفتى بأعظم المسائل، كـعائشة رضي الله عنها.

أو فقيهة كـأم الدرداء رضي الله تعالى عنها، حيث تقول: [[لقد طلبت العبادة في كل شيء، فما أحببت لنفسي شيئاً أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم ]].

أو أن تكون عالمة، كابنة سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى لما أن دخل بها زوجها وكان من تلاميذ سعيد ، فلما أن أصبح أخذ رداءه يريد أن يخرج، فقالت له زوجتُه: "إلى أين؟ فقال: إلى مجلس سعيد أتعلم العلم، فقالت له: اجلس أعلمك علم سعيد ".

أو كابنة الإمام مالك رحمه الله تعالى إمام دار الهجرة، حيث كانوا يقرءون عليه في الموطأ ، فإن لَحَن القارئ في حرف أو زاد أو نقص تدق ابنته الباب، فيقول أبوها للقارئ: ارجع، فالغلط معك، فيرجع فيجد الغلط معه.

أو مثل كريمة بنت محمد بن حاتم المروزي كانت من راويات صحيح البخاري المعتبرة عند المحدثين.

بل -أيها الإخوة والأخوات- لقد أحسن الإسلام في المرأة بنتاً بعد أن كانت تسبى وتوأد، فيـقـول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه : {إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعاً وهات، ووأد البنات }.

وقد قال واثلة بن الأسقع : [[ إن من يُمن المرأة تبشيرها بالأنثى قبل الذكر؛ وذلك أن الله قال: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49] ]].

بل قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: {من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو -وضم أصابعه- معاً }، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

قالوا له: ماذا رزقتا     فأصاخ ثُمَّةَ قال: بنتا

وأجل من ولد النساء     أبو البنات فلم جزعتا

نالوا بفضل البنت ما     كبتوا به الأعداء كبتا

وكما أحسن الإسلام إلى المرأة بنتاً، فقد أحسن إليها كذلك زوجة، وجعل الزواج لبني البشر نسباً وصهراً وسكناً ومودة ورحمة وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].

وقد قال عنها صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : {تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك }.

خير ما يتخذ الإنسان من     دنياه كيما يستقيم دينه

قلب شكور ولسان ذاكر     وزوجة صالحة تعينه

وختاماً: في هذه العُجالة: فإن الإسلام قد كرم المرأة المسلمة، أماً وقد كرمها بعد شبابها وزواجها وتعلمها، وقرن طاعتها بالأمر بعبادته سبحانه وتعالى والنهي عن الشرك به: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36].

وخص الأم ببعض هذه الوصايا بالتذكير بزيادة حقها على حق الأب وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ

وبعدُ أيها الأحبة: فقد وضع الإسلام للمرأة سياجاً قوياً مانعاً من الضياع، إذا هي أخذت به نجت، وإن هي أضاعته ضلت وهلكت، وذلك -أيها الإخوة- هو سياج الحشمة والعفاف، الذي يكون من مقتضاه: الحجاب الشرعي، والقرار في البيوت، والبُعد عن مزاحمة الرجال، فتصبح المرأة بذلك كجوهرة في صدفة لا يعرفها إلا الخواص من الناس، والإسلام جرى في الاختلاط بين الرجل والمرأة خطراً محققاً، فهو يباعد بينهما إلا في الزواج بقول الباري جل وعلا: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33].

ولقولـه: وَإِذَا سَـأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]

فقد روى البخاري رحمه الله تعالى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم -أي: من صلاته- مكث قليلاً، قال ابن شهاب رحمه الله تعالى فتُرى -والله أعلم- لكي ينفذ من ينصرف من النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم، أي: الرجال.

ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت والطواعين المتصلة . انتهى كلامه رحمه الله.

أضيفوا إلى ذلك -أيها الإخوة والأخوات- شيوع الطلاق، والعنوس، بسبب فُشُو التبرج والزينة والاختلاط؛ لأن المرء العاقل المسلم إنما يبحث عن المرأة العفيفة المحتشمة، فإذا ما اضمحل الحياء، وانتزع من صدور النساء، وانعدمت الغيرة لدى الرجال؛ فسدت الأخلاق، وتعثر بذلك غض البصر، ووقع المرء في شرك بلاء العشق والمحنة به والذي يتلف الدنيا والدين.

إن الرجال الناظرين إلى النسا     مثل الكلاب تطوف باللحمانِ

إن لم تصن تلك اللحومَ أسودُها     أُكلت بلا عوض ولا أثمانِ

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30].

إن من آثار الاختلاط بين الجنسين، وإطلاق البصر هنا وهناك، والذي يودي بدوره إلى هذا الشر العظيم، وإلى كل بلية ومعصية، فالبصر إذاً هو الشرارة الأولى، وهو كذلك سهم مسموم إلى فؤاد كل ناظر.

كل الحوادث مبدأها من النظرِ     ومعظم النار من مستصغر الشررِ

كم نظرة فتكت بقلب صاحبها     فتك السهام بلا قوس ولا وترِ

وللاختلاط -أيها الإخوة- صور متنوعة، تتراوح هذه الصور لكل مجتمع بحسب ما فيه من الشر والتقصير، فمن ذلك -على سبيل المثال-: الاختلاط بين الجنسين، ولو كانوا إخوة بعد التمييز، كأن يجتمعوا في المضاجع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيما رواه أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ).

وهنا نكتة لطيفة: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اختلاط الأخ مع الأخت في المضجع، مع أن المحرم قد لا يفكر في جوانب الشهوة بمحارمه، كما يكون التفكير مع الأجنبية عنه، وهذا أمر مُشاهد معلوم، ومع ذلك جاء النهي عنه صلى الله عليه وسلم ليُستدل به على ما هو أعظم من ذلك، وهو الاختلاط بالأجنبية عنه.

ومن صور الاختلاط أيضاً: اتخاذ الخدم الرجال، واختلاطهم بالنساء، وحصول الخلوة بهن، وكذا اتخاذ الخادمات بدون محرم، وهذا بلية عظمى، وشرارة كبرى دخلت بلاد المسلمين، فانتشر أُوارُها، نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية.

ومن ذلك أيضاً: السماح للخطيبين بالمصاحبة والمخالطة التي تجر بذاتها إلى الخلوة قبل العقد الشرعي، والذي يجر بلا شك إلى ما لا تُحمد عقباه حينئذٍ.

ومن ذلك أيضاً: ما يجري في عادات بعض الناس وبُعدهم عن الله جل وعلا من خلال استقبال المرء أقارب زوجها الأجانب عنها، أو أصدقائهم ومجالستهم، سواء كان ذلك في حضرتهم، أو في حال غيبتهم.

وكذا أيضاً: الاختلاط في دور التعليم، كالمدارس، والجامعات، والمعاهد، والدروس الخصوصية، وهي أشد أنواع الاختلاط خطراً لعدة أسباب منها:

أولاً: طول الوقت الذي يلتقي فيه الجنسان، بحيث يمتد إلى أكثر من خمس ساعات في اليوم.

ثانياً: البُعد عن الرقيب الفعلي من الأسرة، كأحد الأبوين، أو المحارم، أو نحو ذلك.

ثالثاً: وجود العلل الداعية إلى أضرار الاختلاط، وذلك من خلال إقامة الحُجج لطلب الدروس والواجبات من زميل الدراسة -مثلاً- أو الاستفسار عن مقررات المنهج ونحو ذلك.

وقولوا مثل ذلك في اختلاط الوظائف، والمنتديات والجمعيات ونحوها مهما اختلفت مشاربها ومآربها.

وما أحسن ما أجاب به أحمد وفيق باشا حينما سأله أحد الغربيين قائلاً: لماذا تبقى النساء في الشرق محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن، من غير أن يخالطن الرجال.

فأجابه على عجالة لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن.

إن أعداء الإسلام -أيها الإخوة- يدركون قيمة الحجاب، وأثر قرار المرأة في بيتها في حماية المرأة المسلمة، وصيانة عفتها وطهارتها؛ لذلك نراهم يشنون على حجاب المرأة حرباً شعواء لا هوادة فيها، فيصفونه بالظلم تارة، وبالجور تارة، وبالتخلف أخرى، وتارة هو دخيل على حياة المسلمين، ولأنه أيضاً يحول دون تقدم المجتمع، وهم بذلك يبينون للمرأة المسلمة الخروج من بيتها بسبب وبدون سبب، وفي الحقيقة: ما بأعداء الإسلام رحمة للمرأة المسلمة، ولا عطف عليها، وما بهم غيرة على الإسلام، ولا حب للمسلمين، إنما هو لا غير الحقد الدفين، والكيد المضمر، والكراهية المدفونة في نفوسهم هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119].

لقد ترقت المفاهيم السياسية والبيئية والاجتماعية في هذا العالم الفسيح، حتى أصبح كل ذي لب وبصيرة يملك بقوة الفطنة والحد ما يكشف له اليد الصهيونية ، والحقد الدفين على الأمم والشعوب بتدميرها عقدياً واجتماعياً وأخلاقياً، تساوقاً مع مقررات حكماء بني صهيون خذلهم الله.

إن اليهود قد شنوا الحرب على حجاب المرأة المسلمة منذ القديم، منذ أن تآمروا على نزع حجاب امرأة كانت في سوق بني قينقاع وهي جالسة، فجاء رجل يهودي وربط طرف ثوبها من أسفله إلى أعلاه، وهي لا تشعر، فلما قامت واقفة انكشفت سوأتها، وبدت عورتها، فضحك اليهود، واستنفرت المرأة من حولها، وقامت بسبب ذلك صراعات لا يزيدها الزمن إلا اشتعالاً واضطراماً؛ لأن اليهود يدركون جيداً أن إفساد المرأة إفساد للمجتمع المسلم.

ولكن من المؤسف -أيها الإخوة وال

وإليكم -أيها الإخوة- عبارات قشيبة نلقي من خلالها الضوء على نسائنا، ونساء الغرب الحاقد، فأقول: إن الذين حدثونا من إخواننا المسلمين الذين عايشوا أهل الغرب سنين عديدة، يقولون: لقد اختبرت المرأة هناك وذُلَّت، حتى بذلت ما نراه نحن أعز شيء عليها وهو العرض في سبيل ما نراه أهون شيء علينا وهو الخبز.

بدلَّت بالجمة رأساً أزعراً

وبالثنايا الواضحات الدردرا

كما اشترى المسلم إذ تنصرا

ولقد كتب الخبيث الراحل توفيق الحكيم كلاماً عن الفتاة التي فرضت نفسها عليه، وساكنته الدار، وعاشرته معاشرة الأهل، لا تريد من ذلك إلا أن تجد سقفاً يُسكنها، ومائدة تشبعها.

ثم ذكر عن نفسه أنه كيف ملها، ثم طردها بعد ذلك.

لقد استترت المرأة المسلمة، فعزت بذلك، وتمنعت فطُلبت، وعرضت المرأة الغربية نفسها فهانت؛ لأن كل معروض مهان.

كان الشاعر العربي الأول يقول إذا بدى له من المرأة كف أو معصم دار رأسُه وثارت نفسه، وانطلق بالشعر لسانُه، كما قال أحدهم:

بدا لي منها معصم حين شمرت     وكف خضيب زُينت ببنانِ

فوالله لا أذكر وإن كنتُ ذاكراً     بسبع رميتُ جمراً أم بثمانِ

أو كما قال الآخر:

قل للمليحة في الخمار الأسود     ماذا فعلتِِ بناسك متعبدِ

قد كان شمر للصلاة إزاره     حتى وقفتِ له بباب مسجدِ

ردي عليه صلاته وزكاته     لا تفتنيه برب دين محمدِ

والآخر يقول:

لها بشر مثل الحرير ومنطقٌ     رخيم الحواشي لا هراءٌ ولا نثْرُ

وعينان قال الله كونا فكانتا     فعولان بالألباب كما تفعل الخمْرُ

وليس بغائب عن جلنا أن أغزل بيت قالته العرب، هو قول جرير :

إن العيون التي في طرفها حَوَر     قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حَراك له     وهن أضعف خلق الله إنسانا

أو قول الرصافي :

عيون المها بين الرصافة والجسر     جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

إذاً: كل هذه المشاعر إنما تفيض حينما تكشف المرأة عن محاسنها، وهي المعروفة بالحجاب.

وأما المرأة الغربية فإن الرجل يراها على الساحل، ويرى منها أعلاها وأدناها، فينظر إلى ساقها فإذا هو ورجل الكرسي على حد سواء.

ومن هنا كسد عندهم حب الزواج؛ لأنه رباط دائم، يرتبط الرجل مختاراً؛ ليصل إلى إرواء غريزته بما أباح الله جل وعلا.

هذا هو الدافع الأول للزواج، فلماذا يربط الغربي نفسه به إذا كان يستطيع أن يرويها وهو طليق حر، ومن أمثلة الغرب في ذلك: إذا استطعت شراء اللبن فلم تشترِِ البقرة كلها؟

وقيل: إن نساء الغرب أسعد عيشاً أو أعز وأكرم من نسائنا كلا. ليس في الدنيا أعز ولا أكرم من نساء المسلمين ورجال المسلمين، وإن الغرب أبعد الناس عن الغيرة، فهل يتمالك مسلم نفسه أن يكون في حفلة ما، فيأتي إليه رجل فيقول له: من فضلك! هل تسمح لي؟ فما هو ظنكم؟! يسمح له بماذا؟! إنه يريد أن يقول له: من فضلك! هل تسمح لي أن أرافق زوجتك؟ أو أن أرافق أختك؟ أو أن أرافق بنتك؟ ليضم صدرها إلى صدره، ويدها إلى يده، ووجهها إلى وجهه، وساقها إلى ساقه.

ليس في الدنيا مسلم ولا مسلمة يرضى بهذا.

هذه هي حال نساء الغرب، ومن سار في ركابهن.

فهل نساء الغرب اليوم في خير مما يدعونا إلى أن نسير في ركبابهن، وأن ندور وراءهن كما يدور الحمار على رحاه؟ كلا.

وقد صدق من قال:

لقد ركع القوم لجيفة     يبين لذي اللب إنتانُها

أيها الإخوة والأخوات! هذا شيء من حال الغرب بعد تجربة مديدة في المناداة بتحرير المرأة وخروجها من بيتها، وهاهم الآن بعقلائهم ومفكريهم يعانون من هذه الظاهرة، والتي وصلت إلى ما وصلت إليه بعد مراحل ما يُسمى: المرأة والعمل السياسي، والذي أوجزه لكم على عُجالة؛ لأن الوقت قد ضاق.




استمع المزيد من الشيخ سعود الشريم - عنوان الحلقة اسٌتمع
ربما تصح الأجسام بالعلل 2767 استماع
السياحة من منظور إسلامي 2556 استماع
لا أمن إلا في الإيمان!! 2468 استماع
حاسبوا أنفسكم 2426 استماع
العين حق 2382 استماع
كيف نفرح؟ 2348 استماع
مفهوم السياحة ومخاطرها [1] 2297 استماع
رحيل رمضان 2245 استماع
مفاهيم رمضانية 2169 استماع
مخاصمة السنة 2164 استماع