خطب ومحاضرات
الأذى والابتلاء في حياة المؤمنين
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
وبعد:
أيها الأحبة: هذا الدرس يلقى في مسجد الشربتلي، بحي الربوة، بمدينة جدة ، بعد مغرب يوم السبت الموافق: (29/ رجب عام 1418 للهجرة)، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وهو ضمن السلسلة المعنونة: بـ(تأملات في السيرة النبوية) وعنوان هذه المحاضرة: (الأذى والابتلاء في حياة المؤمنين).
إن الابتلاء سنّة ربانية، يبتلي الله عز وجل بها من يدعي الإيمان؛ لأن الادعاء سهل، لكن إثبات صحة هذا الادعاء أمرٌ عسيرٌ، فمن السهل عليك أن تدعي ملكية عمارة أو شارع كامل، أو مدينة بأسرها؛ أو دولة بأسرها، لكن إذا طُلب منك إثبات ملكيتك بالدلائل فإنه من الصعب على الإنسان أن يثبته إلا إذا كان صادقاً في هذا الادعاء.
فادعاء الإيمان ليس أمراً هيناً نظراً لأن ثمرة هذا الادعاء سعادة الدنيا والآخرة، فالذي يكون مؤمناً حقيقياً فإن الإيمان الحقيقي يضمن له الفوز في الدارين، والسعادة في الحياتين، فهذه الثمرة ليست سهلة حتى يكون الإيمان سهلاً، لذا فإن الله لا يترك الناس عند هذه الدعوى، بل لا بد من ابتلائهم؛ يقول الله عز وجل في أول سورة العنكبوت: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2] لا يفتنون أي: لا يُختبرون: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3] ويقول عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142] ويقول عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
ومجال الامتحان والابتلاء والفتنة لا يحدده العبد؛ وإنما الذي يحدده هو الله، وإذا استعجل العبد الفتنة وطلبها وكله الله إلى نفسه، وخلى بينه وبين نفسه، ولهذا لا تتمن الفتنة ولا البلاء ولكن سل الله العافية، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تتمنوا لقاء العدو) لأن بعض الصحابة كانوا يقولون: متى نراهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو ولكن إذا لقيتموهم فاثبتوا) وآخرون استعجلوا القتال فقال لهم الله: لا يوجد قتال، لا يوجد إلا صلاة وصوم فقط، ففي فترة الاستضعاف التي كانت تعيشها الأمة في بداية عهد النبوة، لم يكن قد أذن بالقتال؛ لأن القوة غير متكافئة، والإمكانيات غير متقابلة، فالمؤمنون في قلة وفي ضعف، والكفر كان في قوة، فأي مناوشة للكفر بقتال معناه القضاء على الإسلام، وهذه سنّة ثابتة في حياة الأمة إلى يوم القيامة، فحينما تكون الأمة مستضعفة فليس من مصلحتها أن تواجه القوة الكافرة، ولكن الأولى أن ينصرف الناس إلى شيء آخر غير القتال.
قال الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77] أي: عن القتال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء:77] أي: لما كتب الله عليهم القتال، كان أول من انتكس هم هؤلاء الذين كانوا يقولون: متى القتال؟ فلا تستعجل، وعليك أن تعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة وعلى كتاب وسنّة، وإذا فرض الله عليك البلاء من غير طلب منك ولا سؤال له، فإن الله عز وجل يعينك ويثبتك، وصوره كثيرة:
فمن صور الابتلاء: الابتلاء بالتكاليف الشرعية: كالصلاة والصوم والزكاة والحج، فهذا من البلاء؛ لأن فيه تعباً ومشقة.
ومن صور الابتلاء: الابتلاء بتحريم المحرمات من الشهوات؛ لأن في النفس البشرية ميل إلى الشهوات، فالله حرمها والنفس تريدها.
وتصديق الأخبار -أيضاً- من الابتلاء، فالله أخبرنا في القرآن، وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم في السنّة بأشياء يلزمنا أن نصدق بها، حتى ولو لم تهضمها عقولنا؛ لأن عقولنا محدودة، نعم. لها قدرة على الاستيعاب والفهم، ولكن هذا العقل لا يستطيع أن يلم بكل حقائق الكون، فعليك أن تقبلها مادامت عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا مجال إن جاءت أن تحكم عقلك فيها؛ لأنك إذا أردت أن تخضعها لذلك فلعلك تخطئ، ومعناه: أنك قدمت العقل على أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله قد ذكر أن أهل الإيمان إيمانهم في قلوبهم، ليس في عقولهم، قال الله تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:1-3] والغيب ما لا يدركه العقل! فنحن آمنّا بالله رغم أننا لم نره، ولكنه أخبرنا عن نفسه في كتابه، وأخبرتنا عنه رسله في جميع الرسالات، وعرفناه بالعقل، وعرفناه بآياته ومخلوقاته التي بثها في الكون، فلا ينبغي لنا أن نعطي العقل أكبر من حجمه، بحيث نقول: لا نؤمن بالله حتى نراه بأعيننا، ونلمسه بأيدينا!
ولما أراد موسى عليه السلام أن يمارس هذه العملية وهو كليم الله ومن أولي العزم، قال الله: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] ولما كلمه الله سبحانه وتعالى وأعطاه موعداً للمقابلة مرة ثانية، قال عز وجل: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] يريد أن يرى رب العالمين، فإنه ليس عند موسى شك في الله؛ لأنه كلمه، لكن من باب حب الاستطلاع، يريد أن ينظر بعينه إلى الله، فقال له الله عز وجل: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] أي: لن تثبت عينك ولن تستطيع أن تتحمل قوة رؤية الله: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143] جبل الطور: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] أي: أنه يمكن لك ولكن بشرط أن تكون مثل الجبل بالقوة، ولكنك لست في قوة الجبل: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً [الأعراف:143] هذا الجبل الأشم المخلوق من الحجارة الصم، صار دكاً كله، ولكن أين موسى؟ موسى بعيد عن الجبل، لم ينظر موسى إلى الله، وإنما تجلى الله للجبل، فمن أثر تجلي الله على الجبل خر موسى صعقاً وقال: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143].
فعقلك أيها الإنسان محدود وإمكانياتك محدودة، فإذا جاءت الأدلة من الكتاب أو من السنة، فهذا معناه أن الأمر انتهى وآمنا بالله؛ لأنه لا أحد أصدق من الله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122].
وإذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر صدقنا به حتى ولو لم تقبله عقولنا.
من صور البلاء أيها الإخوة: ما يتعرض له المؤمن من فتنة في دينه، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا يكون دائماً في فترات ضعف الأمة، حينما يصير للكفر قوة وللباطل غلبة، لا يرضى الكافر أن يبقى المسلم معافى في دينه وفي عقيدته، بل يتحرش به، ويفتنه في دينه، وهذا تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بداية الدعوة الإسلامية بشكل أكبر، وتذكره كتب السيرة وسوف نستعرض بعضه في هذه اللحظات في هذه الليلة المباركة.
لم تُجدِ جميع الوسائل ولا الأساليب ولا الطرق التي عملها كفار قريش، لصد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعوته، وما بقي إلا القوة، وكما يقال: آخر العلاج الكي، فحملوا معول الهدم، وبدءوا في الأذية والابتلاء للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة من السابقين الأول رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان أبو لهب -عليه من الله ما يستحق- إذا سمع عن رجل أنه أسلم وله شرف وله منعة، أنبه وشتمه وقال له: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنضعفن رأيك، ولنضعن شرفك.
وإذا كان تاجراً جاء إليه وقال له: سوف نكسد تجارتك، ونهلك مالك.
وإن كان ضعيفاً، ضربه وآذاه وأغرى به غيره.
بلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم استفحل الأذى حتى في الفترة التي أعلن فيها النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة، وأضحى يظهر شعائر الدين، مثل الصلاة عند الكعبة، فلم تستطع قريش أن تصبر؛ فقد روى مسلم في صحيحه : أن أبا جهل قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب، قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وصلى حول الكعبة، فقام كفار قريش وأخبروا أبا جهل ، فجاء وهجم على النبي صلى الله عليه وسلم، وما فاجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، كأن شيئاً يهدده، فقيل له: مالك؟ -لأن الناس لا يرون شيئاً، إنما يرونه يتقي بيديه كأن أحداً يصفعه، قيل له: مالك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو دنا مني؛ لاختطفته الملائكة عضواً عضواً) قال: وأنزل الله عز وجل: كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى [العلق:6]إلى قوله عز وجل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى [العلق:9-10] ثم قال عز وجل: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19].
يروي البخاري أيضاً عن عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [رأيت
وهذا من مواقف أبي بكر الخالدة، أنه منع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الكافر.
وروى البخاري ومسلم أيضاً من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، و
وآذى عتبة بن أبي لهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفل في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) فاستجيب دعاؤه، وأكله السبع وهو في الزرقاء في الشام ، إذ كانوا في سفر، وكان ينام وسط الناس خوفاً من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى إليه الأسد وأكله من وسطهم وهم نيام.
ابتلاء الصحابة رضي الله عنهم وتعرضهم للأذى
هذا بعض الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وأوذي أيضاً معه الصحابة، ومنهم أبو بكر قام خطيباً في المسجد الحرام، فضربه المشركون ضرباً عنيفاً وممن ضربه عتبة بن ربيعة ، جعل يضربه بالنعل على وجهه، حتى سال الدم فلم يعرف وجهه من كثرة الدماء.
وممن ضُرب من الصحابة عبد الله بن مسعود ، وكان أول من جهر بالقرآن بين أظهر المشركين، وحذره النبي صلى الله عليه وسلم من عدوان المشركين عليه، وعندما فعل ذلك ضربوه على وجهه حتى أثروا فيه، فقال له الصحابة: هذا ما خشينا عليك، فقال: ما كان أهون أعداء الله عز وجل منهم الآن، والله لئن شئتم لآتينهم غداً بمثلها.
وممن أوذي أيضاً عثمان بن مظعون ، وقصته يا إخواني تبعث على العجب وتبين لنا قوة إيمان هؤلاء الرجال، عثمان بن مظعون رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة ولكن قريشاً رفضت أن يدخل أحدٌ إلا في جوار أحد، فدخل في جوار الوليد بن المغيرة ، وهو من كبار قريش، ولما رأى عثمان بن مظعون الأذى الذي يقع على الذين دخلوا في غير جوار، ورأى نفسه لا أحد يؤذيه لأنه في جوار رجل عظيم، فقدم إلى مجلس قريش ولما قدم إلى مجلس قريش في مكة وفيهم لبيد بن الأبرص شاعر جاهلي، يقول:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل |
قال عثمان: صدقت، فلما جاء بالشطر الثاني:
وكل نعيم لا محالة زائل |
قال: كذبت، فإن نعيم الجنة لا يزول، قال: لبيد الشاعر الجاهلي: يا معشر قريش! والله ما كنت أظن أن أؤذى وأنا في مجلسكم! فقال رجل من القوم: إن هذا من سفهاء قومه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قولهم شيئاً، فرد عليه عثمان حتى تفاقم الأمر، فقام إليه ذلك الرجل فلطمه على عينه ففقأها، والوليد بن المغيرة قريب منه، وقبل ذلك رأى عثمان بن مظعون أن الصحابة يتعرضون للأذى فجاء إلى مكة وقال: إني قد تركت جوارك يا وليد إلى جوار الله، لأنه يريد أن يأتيه أذى، فهو يرى الصحابة يؤذون وهو لا يؤذى، فقال: خرجت من جوارك يا وليد بن المغيرة إلى جوار الله، ولما جاء في مجلس قريش وآذوه والوليد جالس ينظر، قال له: يا ابن أخي والله إن كانت عينك لفي غنى مما أصابك، لقد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان : بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في ذات الله! -الله أكبر! لا إله إلا الله!!- وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس ، فقال له الوليد : هلم يا ابن أخي إن شئت فعد إلى جواري، فقال: لا، وترك جوراه.
وممن كان يعذب أيضاً من الصحابة، الزبير بن العوام كان يعذبه عمه، ويعلقه في حصير ويشعل عليه النار، ويقول: ارجع إلى الكفر فيقول الزبير : لا والله لا أرجع.
آل ياسر وما نالهم من البلاء
وأول أسرة تعرضت للعذاب وكلها أسرة موالي، كلها أرقاء، أسرة آل ياسر، رضي الله عنهم وأرضاهم، كانت هذه الأسرة يضرب بها المثل فيما لاقاه المستضعفون من الابتلاء في أول تاريخ الإسلام، وقد كان بنو مخزوم وهم أسياد آل ياسر يخرجون بهم إذا حميت الظهيرة، فيعذبونهم برمضاء مكة ، ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة وهم يعذبون، فنظر إليهم، وقال لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) وكانت أول شهيدة في الإسلام هي سمية بنت خياط أم عمار وزوجة ياسر ، طعنها أبو جهل عليه من الله ما يستحق، مر عليها وهي مقيدة بيديها وأرجلها في الرمضاء وهي تقول: أحد أحد، فطعنها بالرمح في قبلها وماتت، وكانت أول من أريق دمه وأول شهيدة نالت شرف الشهادة في سبيل الله في الإسلام، وأيضاً مات زوجها ياسر ، مات شهيداً من شدة العذاب، ورمي ابنه عبد الله بسهم فمات، وتفننوا في إيذاء عمار بن ياسر ولد سمية ، حتى أجبروه في يوم من الأيام على أن يتلفظ بكلمة الكفر بلسانه، وقد ذكر جمهور المفسرين، أن سبب نزول قول الله عز وجل: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل:106] أنها نزلت في عمار؛ لأنهم عذبوه حتى انتهى صبره، ثم قالوا له: والله لا نتركك من هذا العذاب حتى تسب محمداً، وتكفر بمحمد، فقال كلمة الكفر مضطراً، ثم لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكا إليه وقال: (يا رسول الله! والله ما تركوني حتى نلت منك وسببتك، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال: إن عادوا فعد) ونزل قول الله عز وجل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ [النحل:106].
بلال بن رباح وصبره على الأذى في سبيل الله
عمر المخزومي يجعل بلالاً سيداً، رغم أنه في ميزان الناس عبد، لكنه في ميزان الإسلام والإيمان والدين سيد، بلغ درجة جعلت عمر المخزومي يجعله سيداً من سادات المسلمين رضي الله عنه وأرضاه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (إيه
لأن الوضوء سلاح المؤمن، وأنت مخلوق للعبادة، وما دام أنك مخلوق للعبادة، فيجب أن تكون مستعداً باستمرار للعبادة، وتكون مستعداً باستمرار للعبادة بالوضوء، بحيث إذا أردت تصلي إذا بك متوضئاً، وإذا دخلت فريضة إذا بك متوضئاً، المهم أنك دائماً على طهارة، وبعد ذلك إذا توضأت وصليت ركعتين، صار نور على نور، فالصلاة نور والوضوء نور، ولهذا كان هذا العمل العظيم الذي يفعله هذا الرجل العظيم، وأقره النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم فيعتبر من سننه صلى الله عليه وسلم بالإقرار.
يقول بلال أعطشوني يوماً وليلة، ثم أخرجوني فعذبوني في الرمضاء في يوم حار.
وعندما رآه أبو بكر في هذه الحالة، ساوم سيده على شرائه، فاشتراه وأعتقه رضي الله عنه وأرضاه.
خباب بن الأرت وصبره على الابتلاء
وكانوا يضجعونه على الرضف وهي الحجارة المحماة، ومع ذلك لم ينالوا منه ما أرادوا من الردة، بل كان ثابتاً ثبوت الجبال على عقيدته، وله قصة مشهورة مع العاص بن وائل ، وهو من صناديد قريش والقصة مذكورة في البخاري ومسلم والذي يرويها هو نفسه، خباب بن الأرت ، يقول: كنت قيناً -أي حداداً- في مكة ، فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه، فقال: لا أعطيتك حتى تكفر بمحمد، فقال: لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يميتك الله ثم يبعثك، قال: أجل إذا أماتني الله ثم بعثني، فسوف أقضيك، من باب التهكم والاستهزاء، فأنزل الله عز وجل فيه قوله سبحانه وتعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً [مريم:77-78].
ثم استفحل الأذى حتى في الفترة التي أعلن فيها النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة، وأضحى يظهر شعائر الدين، مثل الصلاة عند الكعبة، فلم تستطع قريش أن تصبر؛ فقد روى مسلم في صحيحه : أن أبا جهل قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب، قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وصلى حول الكعبة، فقام كفار قريش وأخبروا أبا جهل ، فجاء وهجم على النبي صلى الله عليه وسلم، وما فاجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، كأن شيئاً يهدده، فقيل له: مالك؟ -لأن الناس لا يرون شيئاً، إنما يرونه يتقي بيديه كأن أحداً يصفعه، قيل له: مالك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو دنا مني؛ لاختطفته الملائكة عضواً عضواً) قال: وأنزل الله عز وجل: كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى [العلق:6]إلى قوله عز وجل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى [العلق:9-10] ثم قال عز وجل: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19].
يروي البخاري أيضاً عن عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [رأيت
وهذا من مواقف أبي بكر الخالدة، أنه منع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الكافر.
وروى البخاري ومسلم أيضاً من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، و
وآذى عتبة بن أبي لهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفل في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) فاستجيب دعاؤه، وأكله السبع وهو في الزرقاء في الشام ، إذ كانوا في سفر، وكان ينام وسط الناس خوفاً من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى إليه الأسد وأكله من وسطهم وهم نيام.
هذا بعض الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وأوذي أيضاً معه الصحابة، ومنهم أبو بكر قام خطيباً في المسجد الحرام، فضربه المشركون ضرباً عنيفاً وممن ضربه عتبة بن ربيعة ، جعل يضربه بالنعل على وجهه، حتى سال الدم فلم يعرف وجهه من كثرة الدماء.
وممن ضُرب من الصحابة عبد الله بن مسعود ، وكان أول من جهر بالقرآن بين أظهر المشركين، وحذره النبي صلى الله عليه وسلم من عدوان المشركين عليه، وعندما فعل ذلك ضربوه على وجهه حتى أثروا فيه، فقال له الصحابة: هذا ما خشينا عليك، فقال: ما كان أهون أعداء الله عز وجل منهم الآن، والله لئن شئتم لآتينهم غداً بمثلها.
وممن أوذي أيضاً عثمان بن مظعون ، وقصته يا إخواني تبعث على العجب وتبين لنا قوة إيمان هؤلاء الرجال، عثمان بن مظعون رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة ولكن قريشاً رفضت أن يدخل أحدٌ إلا في جوار أحد، فدخل في جوار الوليد بن المغيرة ، وهو من كبار قريش، ولما رأى عثمان بن مظعون الأذى الذي يقع على الذين دخلوا في غير جوار، ورأى نفسه لا أحد يؤذيه لأنه في جوار رجل عظيم، فقدم إلى مجلس قريش ولما قدم إلى مجلس قريش في مكة وفيهم لبيد بن الأبرص شاعر جاهلي، يقول:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل |
قال عثمان: صدقت، فلما جاء بالشطر الثاني:
وكل نعيم لا محالة زائل |
قال: كذبت، فإن نعيم الجنة لا يزول، قال: لبيد الشاعر الجاهلي: يا معشر قريش! والله ما كنت أظن أن أؤذى وأنا في مجلسكم! فقال رجل من القوم: إن هذا من سفهاء قومه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قولهم شيئاً، فرد عليه عثمان حتى تفاقم الأمر، فقام إليه ذلك الرجل فلطمه على عينه ففقأها، والوليد بن المغيرة قريب منه، وقبل ذلك رأى عثمان بن مظعون أن الصحابة يتعرضون للأذى فجاء إلى مكة وقال: إني قد تركت جوارك يا وليد إلى جوار الله، لأنه يريد أن يأتيه أذى، فهو يرى الصحابة يؤذون وهو لا يؤذى، فقال: خرجت من جوارك يا وليد بن المغيرة إلى جوار الله، ولما جاء في مجلس قريش وآذوه والوليد جالس ينظر، قال له: يا ابن أخي والله إن كانت عينك لفي غنى مما أصابك، لقد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان : بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في ذات الله! -الله أكبر! لا إله إلا الله!!- وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس ، فقال له الوليد : هلم يا ابن أخي إن شئت فعد إلى جواري، فقال: لا، وترك جوراه.
وممن كان يعذب أيضاً من الصحابة، الزبير بن العوام كان يعذبه عمه، ويعلقه في حصير ويشعل عليه النار، ويقول: ارجع إلى الكفر فيقول الزبير : لا والله لا أرجع.
استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اتق المحارم تكن أعبد الناس | 2930 استماع |
كيف تنال محبة الله؟ | 2929 استماع |
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً | 2805 استماع |
أمن وإيمان | 2678 استماع |
حال الناس في القبور | 2676 استماع |
توجيهات للمرأة المسلمة | 2605 استماع |
فرصة الرجوع إلى الله | 2572 استماع |
النهر الجاري | 2478 استماع |
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله | 2468 استماع |
مرحباً شهر الصيام | 2403 استماع |