أهمية الإيمان


الحلقة مفرغة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله هذه الوجوه الطيبة، وجمعنا الله وإياكم في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة في دار كرامته، ومستقر رحمته.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أشكر نادي الشباب الرياضي في مدينة الرياض ، ممثلاً في مجلس إدارته وهو سمو الأمير خالد بن سعد بن فهد، وبقية أعضاء المجلس وهيئة الإدارة، والرياضيين، وأشكر هذه الوجوه الطيبة التي جاءت لا تريد شيئاً إلا الله، طابت فطاب مسعاها وممشاها، وأسأل الله عز وجل أن يجعل مصيرها طيباً، وأن يجعلنا جميعاً ممن يقال لهم يوم القيامة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73].

أشكر النادي على ترتيب هذه المحاضرة، التي تلبي الحاجة الماسة في قلوب الشباب، وتقدم البناء المتكامل لهم، والرعاية الشاملة لأرواحهم، كما تقدمها لأجسادهم، فإن المسئولية الملقاة على عاتق مسئولي رعاية الشباب، تقتضي منهم توجيه الاهتمام للإنسان بشقيه: المادي والروحي، وأما التركيز على الجانب الجسدي، وإهمال الجانب الروحي، فلا يمكن القول به؛ لأن الإنسان بروحه لا بجسده.

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته     أتطلب الربح مما فيه خسران

أقبل على الروح واستكمل فضائلها     فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

إن توجه الأندية الرياضية إلى هذا الأمر هو مقتضى الواجب، ونرجو الله عز وجل أن يبارك في هذا التوجه، وفي جهود المخلصين، الذين يرعون شباب هذه الأمة؛ هذه الأمة التي شرفها الله بهذا الإيمان وهذا الدين، والتي أكرمها الله بهذه الرسالة السماوية الخالدة، التي ينبغي أن تعتز بها كمظهر حضاري تتميز به على سائر أمم الأرض وشعوبها.

نحن أمة القرآن.. أمة الإسلام.. أمة الإيمان.. ولنا الشرف والفخر أن نقف على أرض صلبة، من العلم الراسخ في الأعماق، الذي يقدم لنا التفسير الحقيقي لغوامض هذه الحياة، يوم أن ضلت البشرية، وتاهت في متاهاتها، وضاعت في دياجيرها وظلماتها، ولم تعرف إلا العلم الظاهر المتمثل في المادة: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].

هذا التوجه توجه مبارك، ينبغي زيادته وتشجيعه؛ لأنه الوضع الصحيح، فالأندية الرياضية مراكز تربوية، إنما وضعت في الأصل لرعاية الشباب في جميع نواحي الحياة: روحياً، وجسدياً، وثقافياً، واجتماعياً، وفي جميع دور الحياة، حتى نُخرج للمجتمع شاباً متكاملاً مرعياً من كل جانب، دون تغليب جانب على آخر، بل في توازن وتكامل واتساق، فلقد ارتضى الله لنا دين الإسلام حيث قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] وقال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143] فأسأل الله عز وجل أن يبارك في هذه الجهود، وأن يزيد منها.

أيها الإخوة في الله: إن قضية الإيمان قضية رئيسية من قضايا الإنسان، بل هي لب حياته، فالإنسان بغير إيمان لا معنى لوجوده.. ما الذي يشعرك من أنت؟ ما الذي يجيبك على التساؤلات التي تتردد في صدرك؟ هل تستطيع المادة أن تفك مغاليق قلبك؟ أو أن تحل أسرار هذا الكون؟ لا.

إن الإيمان هو الذي يقدم لك هذا، ليست قضية الإيمان قضية هامشية يمكن للإنسان أن يناقشها، أو أن يتجاهلها، لا. إنها قضية الوجود الإنساني المكرم، أو الوجود الحيواني الهابط، إنها قضية سعادة أبدية، أو شقاء أبدي، إنها قضية الجنة أو النار.

إن الإنسان بغير إيمان سعفة في مهب الريح، انظروا إلى الدول الكافرة يوم أن غاب عنها الإيمان، وعاشت في ظل المادة، التي طورتها وطوعتها، واستغلتها أعظم استغلال، ما قيمة الإنسان في ظل المادة بعيداً عن الإيمان؟ لا قيمة له، قيمته أقل من قيمة حذائه الذي في قدمه، فلو أنك سألت الرجل صاحب المنصب الكبير: ما الحكمة من حذائك الذي في قدمك؟ لقال: الانتعال، ووقاية القدم، وما الحكمة من قلمك الذي في جيبك؟ لقال: الكتابة، وما الحكمة من معطفك الذي على كتفك؟ فيقول: الدفء، وتقول له: ما الحكمة من عينك التي في رأسك؟ فيقول: النظر، وما الحكمة من يديك التي في أعلى جسدك؟ فيقول: الحماية، فتقول له: إذاً وما الحكمة منك أنت؟ يقول: لا شيء. فحذاؤه في قدمه لها حكمة، أما هو بكامله لا حكمة له، والذي لا حكمة له لا معنى له ولا قيمة له.

إن الإنسان بغير إيمان يبقى سعفة في مهب الريح، وحشرة من الحشرات في هذا الكون، بل بهيمة من بهائمه، لا هم له إلا الاستغراق في شهوات البطن والفرج، والتنافس والتكالب على المادة والرغيف، يعيش بعقلية الحيوانات، يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12] ويقول: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]، ويقول: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].

زودهم الله بإمكانيات وقدرات يستطيعون بها أن يتعرفوا على سر وجودهم، والحكمة من خلقهم، فعطلوا هذه الوسائل كلها، واستعملوها فقط فيما يستعملها الحيوان، ولذا إذا أتينا بحيوان، ووضعنا أمامه العلف، انطلق إليه بفكره، وإذا عطش انطلق وراء الماء، وإذا رأى أنثاه انطلق إليها ونزا عليها، فهو يفكر في كل ما يفكر فيه الإنسان الذي يعيش بغير دين، وما تفكير الكافر والإنسان الذي بغير دين إلا في الطعام، والشراب، والزوجة، والعمارة، والسيارة، والوظيفة، أما ما عدا هذا فلا يفكر فيه، فهذه عقلية الحيوانات، وقضية التطور والتحسين في مستوى المعيشة ليست هي سر الوجود.

في أمريكا قمة التطور الإنساني، هناك كلاب تعيش في ناطحات السحاب، وقد رأيت صوراً لكلاب تلبس بدلات، الكلب يلبس بدلة (وكرفتة)، وقال لي أحد الإخوة: إنه رأى كلباً يأكل في المطعم، وهو جالس على كرسي، وأمامه شوكة وملعقة، هذا كلب متحضر! لكن هل بين الكلب المتحضر الذي يعيش في ناطحات السحاب، وبين الكلب الذي يعيش في المزبلة فرق؟ لا. فهذا كلب متحضر، وهذا كلب بدوي، والجميع كلاب.

إن الحضارة ليست عمارة، أو لباساً، أو مركباً، أو منصباً، الحضارة هي: مبادئ.. مفاهيم.. عقائد.. أخلاق.. فإذا تجرد الإنسان من المبدأ والعقيدة والخلق الإنساني فماذا بقي له؟ ولهذا تجدون أناساً في الدول الغربية الكافرة لا يألفون أمهاتهم، ولا آباءهم، ولا إخوانهم، ولا أبناءهم، ولا بناتهم، وإنما يألفون كلابهم، فتراه يمشي والكلب معه، ويأكل وهو بجواره، لقمة له ولقمة لكلبه، والطيور على أشباهها تقع.

إن الإنسان بغير الإيمان حيوان، وليته حيوان لكنه أضل، كما قال الله عز وجل: بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].

بل إنهم يقرون بهذا يوم القيامة، يوم يحشرون إلى النار، وتصبح الحيوانات تراباً، فيتمنون لو أنهم كانوا حيوانات في الدنيا، ليصبحوا تراباً في الآخرة، يقول عز وجل: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً [النبأ:40] أي: عندما يرى الحيوانات وقد تحولت إلى تراب، يقول: يا ليتني كنت واحداً منها، شاركها في الحياة، ولم يشاركها في المصير، بل وينفون عن أنفسهم العقول يوم القيامة، ويقولون: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10-11].فالإيمان ليس شيئاً هامشياً حتى تأخذ به، أو تُخيّر فيه، بل إنه قضية وجود. هل تريد أن تعيش الوجود الإنساني المكرم، الذي كرمك الله به؟ إذا كان الجواب: نعم، فعليك أن تأخذ بالإيمان، وبغير الإيمان تهبط إلى الوجود الحيواني، وتشارك سائر الحيوانات فيما هي فيه، مع الفارق، والفارق في ماذا؟ في الظاهر فقط، فالحيوان ينام في الحضيرة، وأنت تنام في العمارة، لكن العقلية والتفكير والآمال واحدة، فأنت عقليتك محصورة في بطنك كيف تملؤها، وفي شهوتك كيف تقضيها، وفي آمالك وأطماعك كيف تحققها!

سر تكريم الله للإنسان

الإيمان -أيها الإخوة- ضروري؛ لأنه يرفع الإنسان إلى الدرجة التي كرمه الله بها، لقوله عز وجل: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70] بم كَرّم الله الإنسان؟ فكر، وانظر إلى سائر المخلوقات، ثم قم بإجراء موازنة ومقارنة، لتعرف سر التكريم، هل التكريم بالقوة؟ لا. فالحيوانات فيها من هو أقوى من الإنسان وأشجع، الأسد ملك الغاب، أشجع من أي حيوان، ولو أن التكريم بالشجاعة لكان الأسد أفضل مخلوق، لكن ليس التكريم بهذا.

يقال: إن أسداً وضبعاً وثعلباً خرجوا إلى الغابة للصيد، فاصطادوا كبشاً وغزالاً وأرنباً، فقال الأسد للضبع: قسّم العشاء، فقال: الأمر سهل! الكبش لي، والغزال لك، والأرنب للثعلب، فغضب الأسد غضبة قوية، وضربه على رأسه فقتله، ثم قال للثعلب: قسّم أنت. قال: الأمر سهل! الكبش غداؤك، والغزال عشاؤك، والأرنب فطورك يا سيدي، فقال الأسد: ما أعظم هذه القسمة! من علمك هذا يا ذكي؟ قال: علمني هذا الغبي وهو ميت.

فحياة الحيوانات قائمة على شريعة الغاب، والبشرية الآن في ظل غياب الدين قائمة على شريعة الغاب.

لمن الحياة في العالم؟ للأقوى. ليس للأفضل، ولا للأكمل، بل الفاضل الكامل إذا كان ضعيفاً فليس هناك من يقدره، والخبيث الفاشل إذا كان قوياً فالكل يخاف منه، في ظل غياب الإيمان والدين، ولو كان الإيمان موجوداً لكانت الحياة للأتقى لا للأقوى، وللأعلم لا للأجهل.

فَسِرُّ التكريم الذي كرم الله به الإنسان، ليست الشجاعة، ولا القوة، ولا ضخامة البدن، إن سر التكريم: الدين، والإيمان، والإسلام، وقد يقول شخص: لا. بل سر التكريم العقل، فنقول له: لا. إن العقل مع كل مخلوق، حتى مع أبلد الحيوانات، فأبلد حيوان يضرب به المثل في البلادة وهو الحمار، ضرب الله به مثلاً لليهود، وقال فيهم: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5] يقول العلماء: وهذا مثلٌ ينطبق على كل من تشبه بأخلاق اليهود، حينما يحمل القرآن ولا يستفيد منه شيئاً، فمثله كمثل الحمار يحمل أسفاراً.

فبالرغم من أنه بليد، ولكن مع بلادته معه عقل، يستطيع أن يستعمله في الوظيفة التي خلقه الله لها، فما هي وظيفة الحمار؟ بينها الله في القرآن حيث قال عز وجل: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8] الوظيفة: أنه وسيلة للركوب، ولذا يعرف كيف يقف، وينتظر حتى تحمل عليه، فإذا نزلت مشى، وإذا سافرت به في طريق يعرفها أو يحفظها فإنك تراه يمشي فيها لوحده، وإذا سافرت به بعد سنة في تلك الطريق الأولى فإنه لا يجهلها أو ينكرها، هذه وظيفته، وإذا دفعته إلى النار فإنه يرفض، إذا أوقدت ناراً، أو حفرت حفرة، وأتيت بحمار وأنت تجره بخطامه إلى طرفها، هل ينقاد لك ويلقي بنفسه في النار؟ لا.

ودائماً أذكر قصة قالها لي أحد العلماء من اليمن، قصة فيها عبرة لمن له قلب، وأنا لا أكررها عبثاً، بل أريد من أصحاب العقول أن ينتبهوا لها، يقول هذا الشيخ: إن هناك أناساً يزرعون التبغ (الدخان) ويحصل عندهم قحط شديد، وينحبس المطر، ويوفرون الماء في الآبار لسقيا أشجار التبغ (الدخان) وتضعف الحيوانات، ويبدو عليها الهزال، حتى تظهر أضلاعها على ظهورها، ولا تجد من الأكل إلا الطين من الأرض، يقول: فيؤتى بمجموعة من التبغ الأخضر كالبرسيم، فيقدم إلى الحمار، فإذا اقترب منه وشمه رفضه وهز رأسه، الحمار يترك هذا التبغ وهو أخضر، وبعض البشر يشربونه وهو محروق يابس، لماذا لم يأكله الحمار؟ لأن عنده عقلاً، يعرف أن هذا حار ومزعج وأنه يضره.

لكن بعض البشر يشتري علبة الدخان وقد كُتب عليها: تحذير رسمي: (التدخين يضر بصحتك فلا تدخن!) فلا يقرأ، ولو اشترى علبة مانجو أو بسكويت، ووجد تاريخ الصلاحية قد انتهى لأقام الدنيا وأقعدها، وذهب إلى البلدية وخاصم صاحب البقالة، وقال له: كيف تبيع طعاماً قد انتهت صلاحيته؟ وفعلاً لا يجوز غش المسلمين، ولكن الشاهد كيف أنه يشتري علبة الدخان ولا يفكر؟

وكل طعام معلب في الدنيا عليه تاريخ صلاحية، إلا الدخان ليس عليه تاريخ صلاحية؛ لأنه فاسد من يوم أن صنعوه، بل كتبوا عليه: (التدخين مضر بصحتك فلا تدخن!) وعلبة الدخان بأربعة ريالات، وعلبة البسكويت بريال، أين عقول بعض البشر؟ إنهم يلغونها، وإلا لو حكموا عقولهم وفكروا لوجدوا أن ممارسة التدخين عادة سيئة، ينبغي التمرد عليها، والانتصار عليها، وإعلان رفضها، والابتعاد منها.

صحيح أن العادة تأسر الإنسان، لكنها تأسر الإنسان الضعيف، ضعيف الشخصية، الذي أصبح تافهاً ولا يستطيع أن يتحكم بنفسه، أما القوي فتجده ينتصر على إرادته، ويعلن رجولته.

فليس سر التكريم -أيها الإخوة- عند الإنسان هو العقل، ولكنه الإيمان والدين، وسآتي لكم بدليل من القرآن الكريم، نبي الله سليمان أوتي ملكاً لم يكن لأحد من بعده، قال تعالى حاكياً عن سليمان: وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35] فسخر الله له الجبال والطير والوحوش والجن والإنس، وكانت مملكته مملكة عظيمة، وكان مجلس الحكم عنده يمثل فيه جميع فئات المخلوقات؛ أمة الطير، وأمة السباع، وأمة الوحوش، وأمة الحشرات، وكل الأمم موجودة، وكان يعرف أفراد المملكة كلها ويتفقدهم، وفي يوم من الأيام تفقد المملكة، وكانت أمة الطير من بينها، وكم أنواع الطيور؟ آلاف الأنواع في الأرض، ولكن لم يغب عن ذهن سليمان واحد منها اسمه الهدهد: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:20-21] قال الله عز وجل: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [النمل:22] أي: تأخر فترة غير طويلة، ثم جاء بمنطق الثقة والقوة، ورغم أنه طائر يخاطب ملكاً ونبياً من الأنبياء، إلا أنه يقول له: أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22] أي: علمت أمراً لم تعلمه أنت، واكتشفت خبراً لا تدري عنه أنت، إنه خبر مهم، إنهم قوم يشركون بالله، يعبدون غير الله: أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّه [النمل:22-24].

انظروا إلى العقلية! والله إن عقلية هذا الطائر أعظم من عقلية ملايين البشر في هذا الزمان، هدهد يغضب لله، لا يرضى أن يُعبد غير الله، لا يرضى أن يُشرك بالله، ويقول بعد ذلك: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّه [النمل:25] أي: كيف يسجدون للشمس؟ من خلقهم؟ من أوجدهم؟ من فطرهم؟ من يميتهم؟ من يبعثهم؟ من يحاسبهم؟ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّه [النمل:25] يستغرب هذا الطائر أن تنصرف العقول عن عبادة خالقها وفاطرها وموجدها، إلى عبادة مخلوق وهي الشمس! وهذه عقلية أخرى.

أيمكن بعد هذا أن نقول: إن الإنسان أكرمه الله بالعقل؟ لا. فعقلية الطائر أفضل!

البعوضة الصغيرة (النامس) يقول ابن القيم في كتاب له اسمه: مفتاح دار السعادة ، يتكلم فيه عن أسرار خلق الله بما يدهش العقول: حشرة صغيرة تقف على ست قوائم، وهذه القوائم ذات مفاصل، وهذه المفاصل داخلها عظام رقيقة دقيقة، يجري فيها المخ والدم.. يقول الناظم:

يا من يرى مد البعوض جناحها     في ظلمة الليل البهيم الأليلِ

ويرى نياط عروقها في نحرها     والمخ في تلك العظام النّحلِ

ويرى ويسمع كل مـا هو دونه     في قاع بحر مظلم متجلجلِ

امنن عليّ بتوبة أمحو بها     ما كان مني بالزمان الأولِ

هذه البعوضة الصغيرة فيها أسرار من الخلق لا يعلمها إلا الله، علماء التشريح عندما يشرحونها يقفون مذهولين، مبهورين، إن تشريح وظائف أعضائها الآن شيء معجز، فمعها في رأسها قرنا استشعار، بمنزلة (الرادار)، ولها خرطوم مثقوب يمص به الدم، أدق من الشعر، ولها رأس، وبطن، وذيل، وأجنحة، وست قوائم بمفاصل وعظام .. إنها تركيبية عجيبة، وبعد ذلك في رأسها مخ أعظم من مخ الإنسان. إذا أرادت أن تعيش، فإنها تسلب دمك أيها الإنسان؛ لأن قوت البعوض هو دم الإنسان، فهي تعيش على أعلى وأعز شيء في حياتك، وهو الدم، فعدوك إذا أراد أن يتهددك يقول لك: والله لأشربن من دمك، والبعوضة تقول كذلك: والله لأشربن من دمك، ومع هذا كله فهي لا تشرب من دمك في خفية أو ذلة، بل بعد المواجهة، فأنت تنام على سريرك، فتدخل البعوضة التي بإمكانها أن تلدغك في قدمك أو ساقك أو في يدك، لكن تقول: لا يصلح أن ألدغه قبل أن أعلمه، فتأتي إلى أذنيك وتحدث صوتاً: (طنين)، فإذا سمت صوت طنين البعوضة ذهب النوم عنك، لا يأتيك النوم أبداً، وبعد ذلك ماذا تفعل؟ من الناس من يكون متعباً، لا يستطيع أن يقوم ويحاربها، فيتنغص نومه، ثم يأتي ببطانيته ويدخل رأسه تحتها، وكذلك أقدامه وجوانبه، ويبقى محاصراً لنفسه داخل البطانية، خوفاً من البعوضة، ويصبر على الأذى، ولكن مع شدة الأمر فإنه يرفع البطانية قليلاً من عند رأسه، لعله يأتيه الهواء .. لماذا كل هذا؟ إنها بعوضة يا مسكين! لا إله إلا الله ما أضعفك! بالله هل من حقك أيها الإنسان الضعيف -يا من تخاف من البعوضة- أن تعصي الله؟!!

إذا كانت الملائكة الغلاظ الشداد لا تعصي الله ما أمرها، وهي الملائكة العظيمة الخلقة، ذكر الإمام السيوطي في صحيح الجامع الصغير حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (أُذن لي أن أتحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام) هذه فقط الرقبة يا صاحب الأصابع الأربع، أنت الآن رقبتك أربع أصابع ومع ذلك تتكبر على الله، لكن تذكر يوم أن تموت كيف سيكون وضعك، فأنت الآن قوي بالعضلات، وقوي بالمال، وقوي بالمنصب والجاه، وقوي بكل شيء، لكن تذكر يوم أن تقف في يوم من الأيام، وأنت بين أهلك مصروع على جنبك، لا تملك -والله- من القوة مثقال ذرة، أقدامك ملفوفة، وأطرافك باردة، ومفاصلك متفككة، وأنت في وضع ضعيف، والله هو الذي يتولاك في تلك اللحظات، وقد تحدى الناس وقال: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا [الواقعة:83-87] هل تستطيعون ردها؟ لا والله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:87]؟ لا والله.

أنت ضعيف أمام بعوضة، تخنق نفسك وتكتمها من أجل ألا تلدغك، وبعض الناس يقول: كيف تلدغني بعوضة وأنا رجل؟ لا بد أن أقاومها، فيقوم برجمها بالبطانية، ويشعل المصباح، ويتفحص الجدران، والسطوح، والأسقف .. أين ذهبت البعوضة؟ لعلها خلف الدولاب.. فوق العمامة أو الثوب.. على عباءة المرأة.. في أي مكان.. وبعض الناس يلوي رقبته وعينه في السقف، فإذا لم يجدها رجع، فإذا رجع ونام جاءت وقالت: هأنذا موجودة لست بغائبة، وبعضهم لا يأتيه النوم إلى أن يقتلها، وكيف يقتلها؟ بمحاولات معظمها فاشلة، تقف البعوضة على الجدار، وأثناء وقوفها ترسل حركة من قرني الاستشعار، هذه الحركة تقوم بدور (الرادار) في التقاط الأجسام الغريبة المتجهة إليها، فإذا جاء الإنسان يضربها طارت، لكن بعض الناس ذكي، يعرف الطيران المنخفض، فيأتي لها من تحت، حتى لا تكتشفه أجهزة الرصد التي عندها، ثم يضربها، فإذا ضربها فإنه مرة يصيبها وعشراً يخطئها.

هذه البعوضة يا إخوان! عندها مخ أم لا؟ نعم عندها مخ، وكذلك كل الحيوانات، إذاً ليس العقل هو سر التكريم، إنما سر التكريم هو الدين والإيمان، فمن أين جاء هذا الكلام؟ جاء من قول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الحج:18].

يا أخي! لست الذي تطيع الله وحدك، وإذا عصيته فهو غني عنك، قد أطاعه من في السماوات والأرض: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً [مريم:93-94] .. يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الجمعة:1] .. سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد:1] .. أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [آل عمران:83] وأنت تعي يا صاحب الرقبة ذات الأصابع الأربع؛ تعي أنك إذا لم تطع ربك فمن يمنعك منه؟ لا إله إلا الله! إنك إذا عصيت الله فإنك تفقد تكريم نفسك، يقول الله عز وجل في سورة الحج، والخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً موجه إلى كل الأمة: أَلَمْ تَرَ [الحج:18] أي: يا محمد! وهذه الآية كأنها تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتسلية لقلبه وهو يرى الكفر، والتكذيب، والرد، والرفض لدعوة الإسلام من قبل الكفار والمشركين، الذين قست قلوبهم على الكفر ولم تلن لدين الله، فيقول الله له: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الحج:18].

أي: إذا لم يسجد لله هؤلاء، فقد سجد لله كل شيء، وإذا لم يطع الله هؤلاء، فقد أطاع الله كل شيء: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18] فمن أهانه الله بترك دينه فمن يكرمه بعد الله؟! إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18].

أجل أيها الإخوة! نخلص من هذا إلى أن الإيمان ضروري، من أجل أن نعيش عيشة الكرامة، حتى نعيش عيشة الإنسانية الفاضلة المكرمة، إذ بغير الإيمان ليس بين الإنسان وبين الحيوان فرق، بل إن الحيوان أفضل منه.

الإيمان -أيها الإخوة- ضروري؛ لأنه يرفع الإنسان إلى الدرجة التي كرمه الله بها، لقوله عز وجل: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70] بم كَرّم الله الإنسان؟ فكر، وانظر إلى سائر المخلوقات، ثم قم بإجراء موازنة ومقارنة، لتعرف سر التكريم، هل التكريم بالقوة؟ لا. فالحيوانات فيها من هو أقوى من الإنسان وأشجع، الأسد ملك الغاب، أشجع من أي حيوان، ولو أن التكريم بالشجاعة لكان الأسد أفضل مخلوق، لكن ليس التكريم بهذا.

يقال: إن أسداً وضبعاً وثعلباً خرجوا إلى الغابة للصيد، فاصطادوا كبشاً وغزالاً وأرنباً، فقال الأسد للضبع: قسّم العشاء، فقال: الأمر سهل! الكبش لي، والغزال لك، والأرنب للثعلب، فغضب الأسد غضبة قوية، وضربه على رأسه فقتله، ثم قال للثعلب: قسّم أنت. قال: الأمر سهل! الكبش غداؤك، والغزال عشاؤك، والأرنب فطورك يا سيدي، فقال الأسد: ما أعظم هذه القسمة! من علمك هذا يا ذكي؟ قال: علمني هذا الغبي وهو ميت.

فحياة الحيوانات قائمة على شريعة الغاب، والبشرية الآن في ظل غياب الدين قائمة على شريعة الغاب.

لمن الحياة في العالم؟ للأقوى. ليس للأفضل، ولا للأكمل، بل الفاضل الكامل إذا كان ضعيفاً فليس هناك من يقدره، والخبيث الفاشل إذا كان قوياً فالكل يخاف منه، في ظل غياب الإيمان والدين، ولو كان الإيمان موجوداً لكانت الحياة للأتقى لا للأقوى، وللأعلم لا للأجهل.

فَسِرُّ التكريم الذي كرم الله به الإنسان، ليست الشجاعة، ولا القوة، ولا ضخامة البدن، إن سر التكريم: الدين، والإيمان، والإسلام، وقد يقول شخص: لا. بل سر التكريم العقل، فنقول له: لا. إن العقل مع كل مخلوق، حتى مع أبلد الحيوانات، فأبلد حيوان يضرب به المثل في البلادة وهو الحمار، ضرب الله به مثلاً لليهود، وقال فيهم: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5] يقول العلماء: وهذا مثلٌ ينطبق على كل من تشبه بأخلاق اليهود، حينما يحمل القرآن ولا يستفيد منه شيئاً، فمثله كمثل الحمار يحمل أسفاراً.

فبالرغم من أنه بليد، ولكن مع بلادته معه عقل، يستطيع أن يستعمله في الوظيفة التي خلقه الله لها، فما هي وظيفة الحمار؟ بينها الله في القرآن حيث قال عز وجل: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8] الوظيفة: أنه وسيلة للركوب، ولذا يعرف كيف يقف، وينتظر حتى تحمل عليه، فإذا نزلت مشى، وإذا سافرت به في طريق يعرفها أو يحفظها فإنك تراه يمشي فيها لوحده، وإذا سافرت به بعد سنة في تلك الطريق الأولى فإنه لا يجهلها أو ينكرها، هذه وظيفته، وإذا دفعته إلى النار فإنه يرفض، إذا أوقدت ناراً، أو حفرت حفرة، وأتيت بحمار وأنت تجره بخطامه إلى طرفها، هل ينقاد لك ويلقي بنفسه في النار؟ لا.

ودائماً أذكر قصة قالها لي أحد العلماء من اليمن، قصة فيها عبرة لمن له قلب، وأنا لا أكررها عبثاً، بل أريد من أصحاب العقول أن ينتبهوا لها، يقول هذا الشيخ: إن هناك أناساً يزرعون التبغ (الدخان) ويحصل عندهم قحط شديد، وينحبس المطر، ويوفرون الماء في الآبار لسقيا أشجار التبغ (الدخان) وتضعف الحيوانات، ويبدو عليها الهزال، حتى تظهر أضلاعها على ظهورها، ولا تجد من الأكل إلا الطين من الأرض، يقول: فيؤتى بمجموعة من التبغ الأخضر كالبرسيم، فيقدم إلى الحمار، فإذا اقترب منه وشمه رفضه وهز رأسه، الحمار يترك هذا التبغ وهو أخضر، وبعض البشر يشربونه وهو محروق يابس، لماذا لم يأكله الحمار؟ لأن عنده عقلاً، يعرف أن هذا حار ومزعج وأنه يضره.

لكن بعض البشر يشتري علبة الدخان وقد كُتب عليها: تحذير رسمي: (التدخين يضر بصحتك فلا تدخن!) فلا يقرأ، ولو اشترى علبة مانجو أو بسكويت، ووجد تاريخ الصلاحية قد انتهى لأقام الدنيا وأقعدها، وذهب إلى البلدية وخاصم صاحب البقالة، وقال له: كيف تبيع طعاماً قد انتهت صلاحيته؟ وفعلاً لا يجوز غش المسلمين، ولكن الشاهد كيف أنه يشتري علبة الدخان ولا يفكر؟

وكل طعام معلب في الدنيا عليه تاريخ صلاحية، إلا الدخان ليس عليه تاريخ صلاحية؛ لأنه فاسد من يوم أن صنعوه، بل كتبوا عليه: (التدخين مضر بصحتك فلا تدخن!) وعلبة الدخان بأربعة ريالات، وعلبة البسكويت بريال، أين عقول بعض البشر؟ إنهم يلغونها، وإلا لو حكموا عقولهم وفكروا لوجدوا أن ممارسة التدخين عادة سيئة، ينبغي التمرد عليها، والانتصار عليها، وإعلان رفضها، والابتعاد منها.

صحيح أن العادة تأسر الإنسان، لكنها تأسر الإنسان الضعيف، ضعيف الشخصية، الذي أصبح تافهاً ولا يستطيع أن يتحكم بنفسه، أما القوي فتجده ينتصر على إرادته، ويعلن رجولته.

فليس سر التكريم -أيها الإخوة- عند الإنسان هو العقل، ولكنه الإيمان والدين، وسآتي لكم بدليل من القرآن الكريم، نبي الله سليمان أوتي ملكاً لم يكن لأحد من بعده، قال تعالى حاكياً عن سليمان: وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35] فسخر الله له الجبال والطير والوحوش والجن والإنس، وكانت مملكته مملكة عظيمة، وكان مجلس الحكم عنده يمثل فيه جميع فئات المخلوقات؛ أمة الطير، وأمة السباع، وأمة الوحوش، وأمة الحشرات، وكل الأمم موجودة، وكان يعرف أفراد المملكة كلها ويتفقدهم، وفي يوم من الأيام تفقد المملكة، وكانت أمة الطير من بينها، وكم أنواع الطيور؟ آلاف الأنواع في الأرض، ولكن لم يغب عن ذهن سليمان واحد منها اسمه الهدهد: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:20-21] قال الله عز وجل: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [النمل:22] أي: تأخر فترة غير طويلة، ثم جاء بمنطق الثقة والقوة، ورغم أنه طائر يخاطب ملكاً ونبياً من الأنبياء، إلا أنه يقول له: أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22] أي: علمت أمراً لم تعلمه أنت، واكتشفت خبراً لا تدري عنه أنت، إنه خبر مهم، إنهم قوم يشركون بالله، يعبدون غير الله: أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّه [النمل:22-24].

انظروا إلى العقلية! والله إن عقلية هذا الطائر أعظم من عقلية ملايين البشر في هذا الزمان، هدهد يغضب لله، لا يرضى أن يُعبد غير الله، لا يرضى أن يُشرك بالله، ويقول بعد ذلك: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّه [النمل:25] أي: كيف يسجدون للشمس؟ من خلقهم؟ من أوجدهم؟ من فطرهم؟ من يميتهم؟ من يبعثهم؟ من يحاسبهم؟ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّه [النمل:25] يستغرب هذا الطائر أن تنصرف العقول عن عبادة خالقها وفاطرها وموجدها، إلى عبادة مخلوق وهي الشمس! وهذه عقلية أخرى.

أيمكن بعد هذا أن نقول: إن الإنسان أكرمه الله بالعقل؟ لا. فعقلية الطائر أفضل!

البعوضة الصغيرة (النامس) يقول ابن القيم في كتاب له اسمه: مفتاح دار السعادة ، يتكلم فيه عن أسرار خلق الله بما يدهش العقول: حشرة صغيرة تقف على ست قوائم، وهذه القوائم ذات مفاصل، وهذه المفاصل داخلها عظام رقيقة دقيقة، يجري فيها المخ والدم.. يقول الناظم:

يا من يرى مد البعوض جناحها     في ظلمة الليل البهيم الأليلِ

ويرى نياط عروقها في نحرها     والمخ في تلك العظام النّحلِ

ويرى ويسمع كل مـا هو دونه     في قاع بحر مظلم متجلجلِ

امنن عليّ بتوبة أمحو بها     ما كان مني بالزمان الأولِ

هذه البعوضة الصغيرة فيها أسرار من الخلق لا يعلمها إلا الله، علماء التشريح عندما يشرحونها يقفون مذهولين، مبهورين، إن تشريح وظائف أعضائها الآن شيء معجز، فمعها في رأسها قرنا استشعار، بمنزلة (الرادار)، ولها خرطوم مثقوب يمص به الدم، أدق من الشعر، ولها رأس، وبطن، وذيل، وأجنحة، وست قوائم بمفاصل وعظام .. إنها تركيبية عجيبة، وبعد ذلك في رأسها مخ أعظم من مخ الإنسان. إذا أرادت أن تعيش، فإنها تسلب دمك أيها الإنسان؛ لأن قوت البعوض هو دم الإنسان، فهي تعيش على أعلى وأعز شيء في حياتك، وهو الدم، فعدوك إذا أراد أن يتهددك يقول لك: والله لأشربن من دمك، والبعوضة تقول كذلك: والله لأشربن من دمك، ومع هذا كله فهي لا تشرب من دمك في خفية أو ذلة، بل بعد المواجهة، فأنت تنام على سريرك، فتدخل البعوضة التي بإمكانها أن تلدغك في قدمك أو ساقك أو في يدك، لكن تقول: لا يصلح أن ألدغه قبل أن أعلمه، فتأتي إلى أذنيك وتحدث صوتاً: (طنين)، فإذا سمت صوت طنين البعوضة ذهب النوم عنك، لا يأتيك النوم أبداً، وبعد ذلك ماذا تفعل؟ من الناس من يكون متعباً، لا يستطيع أن يقوم ويحاربها، فيتنغص نومه، ثم يأتي ببطانيته ويدخل رأسه تحتها، وكذلك أقدامه وجوانبه، ويبقى محاصراً لنفسه داخل البطانية، خوفاً من البعوضة، ويصبر على الأذى، ولكن مع شدة الأمر فإنه يرفع البطانية قليلاً من عند رأسه، لعله يأتيه الهواء .. لماذا كل هذا؟ إنها بعوضة يا مسكين! لا إله إلا الله ما أضعفك! بالله هل من حقك أيها الإنسان الضعيف -يا من تخاف من البعوضة- أن تعصي الله؟!!

إذا كانت الملائكة الغلاظ الشداد لا تعصي الله ما أمرها، وهي الملائكة العظيمة الخلقة، ذكر الإمام السيوطي في صحيح الجامع الصغير حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (أُذن لي أن أتحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام) هذه فقط الرقبة يا صاحب الأصابع الأربع، أنت الآن رقبتك أربع أصابع ومع ذلك تتكبر على الله، لكن تذكر يوم أن تموت كيف سيكون وضعك، فأنت الآن قوي بالعضلات، وقوي بالمال، وقوي بالمنصب والجاه، وقوي بكل شيء، لكن تذكر يوم أن تقف في يوم من الأيام، وأنت بين أهلك مصروع على جنبك، لا تملك -والله- من القوة مثقال ذرة، أقدامك ملفوفة، وأطرافك باردة، ومفاصلك متفككة، وأنت في وضع ضعيف، والله هو الذي يتولاك في تلك اللحظات، وقد تحدى الناس وقال: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا [الواقعة:83-87] هل تستطيعون ردها؟ لا والله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:87]؟ لا والله.

أنت ضعيف أمام بعوضة، تخنق نفسك وتكتمها من أجل ألا تلدغك، وبعض الناس يقول: كيف تلدغني بعوضة وأنا رجل؟ لا بد أن أقاومها، فيقوم برجمها بالبطانية، ويشعل المصباح، ويتفحص الجدران، والسطوح، والأسقف .. أين ذهبت البعوضة؟ لعلها خلف الدولاب.. فوق العمامة أو الثوب.. على عباءة المرأة.. في أي مكان.. وبعض الناس يلوي رقبته وعينه في السقف، فإذا لم يجدها رجع، فإذا رجع ونام جاءت وقالت: هأنذا موجودة لست بغائبة، وبعضهم لا يأتيه النوم إلى أن يقتلها، وكيف يقتلها؟ بمحاولات معظمها فاشلة، تقف البعوضة على الجدار، وأثناء وقوفها ترسل حركة من قرني الاستشعار، هذه الحركة تقوم بدور (الرادار) في التقاط الأجسام الغريبة المتجهة إليها، فإذا جاء الإنسان يضربها طارت، لكن بعض الناس ذكي، يعرف الطيران المنخفض، فيأتي لها من تحت، حتى لا تكتشفه أجهزة الرصد التي عندها، ثم يضربها، فإذا ضربها فإنه مرة يصيبها وعشراً يخطئها.

هذه البعوضة يا إخوان! عندها مخ أم لا؟ نعم عندها مخ، وكذلك كل الحيوانات، إذاً ليس العقل هو سر التكريم، إنما سر التكريم هو الدين والإيمان، فمن أين جاء هذا الكلام؟ جاء من قول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الحج:18].

يا أخي! لست الذي تطيع الله وحدك، وإذا عصيته فهو غني عنك، قد أطاعه من في السماوات والأرض: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً [مريم:93-94] .. يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الجمعة:1] .. سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد:1] .. أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [آل عمران:83] وأنت تعي يا صاحب الرقبة ذات الأصابع الأربع؛ تعي أنك إذا لم تطع ربك فمن يمنعك منه؟ لا إله إلا الله! إنك إذا عصيت الله فإنك تفقد تكريم نفسك، يقول الله عز وجل في سورة الحج، والخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً موجه إلى كل الأمة: أَلَمْ تَرَ [الحج:18] أي: يا محمد! وهذه الآية كأنها تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتسلية لقلبه وهو يرى الكفر، والتكذيب، والرد، والرفض لدعوة الإسلام من قبل الكفار والمشركين، الذين قست قلوبهم على الكفر ولم تلن لدين الله، فيقول الله له: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الحج:18].

أي: إذا لم يسجد لله هؤلاء، فقد سجد لله كل شيء، وإذا لم يطع الله هؤلاء، فقد أطاع الله كل شيء: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18] فمن أهانه الله بترك دينه فمن يكرمه بعد الله؟! إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18].

أجل أيها الإخوة! نخلص من هذا إلى أن الإيمان ضروري، من أجل أن نعيش عيشة الكرامة، حتى نعيش عيشة الإنسانية الفاضلة المكرمة، إذ بغير الإيمان ليس بين الإنسان وبين الحيوان فرق، بل إن الحيوان أفضل منه.

السبب الثاني من أسباب أهمية الإيمان وضرورته: أنه يقدم لك التفسير الصحيح للحياة.

ما هي الحياة أيها الإخوة؟ اسأل نفسك: ما الحياة؟ ومن أين جئت؟ ولماذا جئت؟ وأين سوف تذهب بعد أن تموت؟ وما دورك في الحياة؟ هذه الأسئلة تتردد في ذهنك فمن يجيب عليها؟ أأنت تجيب؟ لا. لماذا؟ لأنك لم تأت بنفسك أنت، بل إنك لا تعرف كيف خلقت، يقول الشاعر:

لا تقل كيف استوى كيف النزول     أنت لا تعرف كيف أنت ولا كيف تبول

إنك لما خلقت وجيء بك إلى هذه الحياة لم يؤخذ رأيك حتى تقدم التفسير لنفسك؛ بل جيء بك رغماً عنك، ولهذا لا تعرف سر وجودك من نفسك، بل لا بد أن تعلم ذلك ممن خلقك.

كنت اليوم في مطار أبها، ونحن ننتظر إقلاع الطائرة التي تأخرت لأسباب، تأخرت قرابة أربع ساعات، فطال الوقت على الناس، وشعروا بالضيق، وكنت في زاوية من الصالة، وتجمَّع عليّ بعض الإخوة، فاستغللت الموقف وقلت لهم: ما رأيكم في هذا الانتظار؟ قالوا: صعب جداً، قلت: ما رأيكم بالانتظار يوم القيامة؟ يقف العباد يوم القيامة سبعين سنة انتظاراً لفصل القضاء، واليوم الواحد من أيام الآخرة كألف سنة: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]. القلوب واجفة، والأبصار شاخصة، والأجسام عارية، والبطون خاوية، والرعب مجلل لأهل الموقف، يقول الله: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:18-19]. فأبصارهم شاخصة في ذلك اليوم الرهيب، وهم وقوف كلهم ينتظرون فصل القضاء.

إذا حدثنا الناس عن هذا الكلام، فإنهم يفكرون بعقلية هذه الدنيا، تراهم ينظرون كيف تسير الأيام، وقالوا: اليوم الواحد مثل ألف سنة، كيف؟ اليوم عندنا على دورة الشمس والقمر، إن اليوم أربع وعشرون ساعة، نقول لهم: يا جماعة! الأمر مختلف؛ لأن عالم الآخرة غير عالم الدنيا. إن نسبة عالم الدنيا إلى الآخرة كنسبة عالم البطن إلى الدنيا، فلو أننا جئنا بطفل يريد أن يخرج للحياة قبل خروجه بساعة أو ساعتين، وأمسكنا به وقلنا له: يا طفل! أنت سوف تخرج بعد ساعة إلى عالم فيه جبال، وأشجار، وأنهار، وبحار، وسماوات، وأرض، وطائرات، وسيارات، وملاعب، وعمارات، وشوارع، وناس يمشون ويأكلون ويشربون، ثم فكر هذا الجنين بعقلية بطن أمه، ونظر إلى الأجواء المحيطة به، ورأى الطحال أمامه، والكبد عن يساره، والرئة من هنا، والعمود الفقري بين عينيه، فماذا سيقول لنا؟ سيقول: أنتم رجعيون، عقليتكم قديمة، فأين الجبال التي تقولون؟ وأين الأنهار التي تدعون؟ ليس هناك إلا بطن أمي، لكن متى يراها؟ إذا خرج من هذا البطن ورأى العالم.

أما الذين يعيشون ويفكرون بعقلية الطفل الذي لا زال في بطن أمه، فإننا حينما نحدثهم عن الآخرة، يقولون: أين أين؟ فنقول: سترونها والله، كما قال الله عز وجل: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:1-8].

إن الإنسان لا يمكنه بمفرده أن يقدم لنفسه التفسير الحقيقي لهذه الحياة؛ لأنه لم يخلق الحياة ولم يخلق نفسه، ولا بد إذا أردنا العلم الصحيح عن الحياة والإنسان والكون أن نسأل خالقها، ألا وهو الله، وكيف نسأله؟ نسأله عن طريق الإيمان به، عن طريق كتابه وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وبغير ذلك لا نعرف هذه الحياة، نعرف منها الظاهر فقط، نعرف الأكل، والشرب، والنوم، والنكاح، كما أن الحيوانات تعرفه، لكن هل نعرف لماذا جئنا وأين نذهب بعد الموت؟

إن قضية البعث بعد الموت قضية لازمة، مثلها مثل قضية الموت، فكما أن الله خلقنا فإنه يميتنا ويبعثنا؛ لأن الله ذكر قضيتين وجعلهما متلازمتين في القرآن: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] هل استطاع شخص أن يخرج على قاعدة الموت؟ ويقول: أنا فلان بن فلان والله لن أموت؟ لا يستطيع أحد أن يخرج من سنة الله في الموت، ولا أن يفلت من سنة الله في البعث، لأنه قال: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:31]. فالذي يقدم لك التفسير الحقيقي لهذه الحياة هو الإيمان والدين، ويقدم لك أيضاً تفسيراً لنفسك، فيُعلمك من أنت، فأنت فيك أسرار غير الأسرار الظاهرة، بعض الناس يتصور عندما تقول له: من أنت؟ أنك تسأله عن نسبه، فيقول لك: أنا فلان بن فلان بن فلان، ومم تتكون؟ قال: أتكون من رأس، ورقبة، وجذع، وأرجل، وأيدي، وجهاز هضمي، وتنفسي، ودموي، وعقلي، وسمعي، وبصري.. من كل هذه الأجهزة، نقول: لا. هذه ليست أنت، بل أنت شيء آخر، بدليل أنه إذا خرج هذا الشيء الآخر منك تذهب قيمتك.

الآن إذا مات شخص وخرجت روحه، هل يبقى لعينه قيمة؟ أو لأذنه قيمة؟ أو لرئته قيمة؟ أو لقلبه قيمة؟ أو لكليته قيمة؟ أبداً. ولا شيء، بل الآن في عمليات زرع الأعضاء، إذا مات شخص، فإنهم يأخذون قلبه، ويضعونه في شخص آخر حي، لماذا عمل في هذا ولم يعمل في الأول؟ لأن الراكب نزل، من هو الراكب؟ أنت. فمن أنت؟ أنت الروح. فما الروح؟ اسأل الكافر قل له: ما الروح؟ يقول: لا أدري، نعم إن الكافر لا يدري من هو.

لكن المؤمن يعرف الروح عن طريق أمر الله؛ وقد سئل النبيُ صلى الله عليه وسلم عن الروح، فقال الله: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] إذا أردت أن تعرف روحك فسر على أمر الله تعرف من أنت، إن الكافر لا يعرف من هو، ولكنه يعرف عيونه، ولهذا أبدع في طب العيون، ويعرف أذنيه، ويعرف قلبه، ولكنه لا يعرف روحه؛ لأنه لم يبذل جهداً في معرفة الروح، ومن الذي يخبره عن الروح؟ إنه الله، والإيمان به، والاستقامة عليه، والالتزام به، والرضوخ والانقياد له، فإذا عرفت هذا عرفت نفسك، أما بغير هذا فلن تعرف من أنت .. هذه الأهمية الثانية.

الأهمية الثالثة: إن الإيمان يكسبك أيها الإنسان! طعم الحياة ولذتها.

إن الحياة أيها الإخوة! لها لذة وطعم، ولكن هذا الطعم وهذه اللذة ليست في الشهوات، ولا في الملذات، ليست في كأس، ولا غانية، ولا نغمة، ولا نومة، ولا رحلة، ولا نزهة، ولا في شيء من هذا، فمهما تمتعت -والله الذي لا إله إلا هو- مهما تمتعت من متاع الدنيا، وأنت بعيد عن الإيمان، فإنك تعيش في عذاب لا يعلمه إلا الله، العذاب الذي يعاني منه الناس وهو موجود في قلوبهم، سببه بعدهم عن الله تبارك وتعالى، قد يقول قائل: لم؟ لأنك تلبي فقط متطلبات جسمك وكيانه، فتعطيه الأكل والشرب، والشهوات، والرحلات، والسهرات، والنوم، والعلاج، فتبني هذا الجسد، لكن تهمل روحك وكائنك الداخلي، فكوب البرتقال، والتمشية، والنزهة لا يستفيد منها إلا جسدك، أما روحك فإنها تكون في عذاب، إلى أن يأتيها غذاؤها، وغذاؤها من أين أيها الإخوة؟ إنه من الإيمان بالله، من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولذا يخبر الله عز وجل أن الذي يعرض عن دين الله، وعن كتاب الله، والإيمان به، وعن السير على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما يعذبه الله في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فالضنك والشقاء والضيق، فمهما تمتعت، فمتع الحياة كلها لا تلبي رغباتك من راحة القلب، فأنت تشعر عندما تدخل المسجد وتقرأ آية من كلام الله، أو تركع ركعة لله، أو تسجد سجدة لله، أو تذكر الله وتستغفره، أن سروراً دخل إلى قلبك هو أعظم من جميع لذائذ الحياة، لكن بغير الإيمان والدين فإنه سوف يبقى شيء في الداخل ينغص حياتك مهما تمتعت، سوف يبقى شيء يلذع قلبك، يقول لك: إن الشهوات ليست هي الحل، ولهذا يقول الله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126].

إنك لا تخسر بالإيمان شيئاً، إن الإيمان يُصلح لك الدنيا قبل الآخرة، يتصور بعض الناس أن للإيمان آثاره ونتائجه في الآخرة فقط، لا. إن للإيمان آثاراً في الدنيا قبل الآخرة، يقول الله عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [النساء:134] فثواب الله عز وجل في الدنيا والآخرة وفي دين الله تبارك وتعالى: الأمن، والطمأنينة، والاستقرار، والرضا، وأنت لا تفرح بهذه الحياة، لماذا؟ لأنك تعبد الله، تسير على الخط الصحيح، حتى لو جاءك الموت فإنك تفرح، ترجو لقاء الله وتحبه، وهذا لا تجده أبداً إلا في الإيمان والدين، وفي الخضوع لشريعة الرحمن تبارك وتعالى، وبغيره العذاب، والقلق، والحيرة، والاضطراب.

هأنتم ترونهم في الغرب والشرق يعيشون تحت ظل الكفر، ويعانون من ضغط المادة والحضارة ما لو وضع على الجبال الراسيات لأرضها أو صدعها، يتخلصون من الحياة، ويهربون من ضغوطها بالانتحار والموت، وبالأعمال التي يتصورون أنها مبدعة وخارقة، وهدفهم منها الموت .. سباق السيارات التي يسمونها (الرالي)، هل ترون أنه سباق سيارات؟ هل تتصورون أنها شجاعة منهم، أو رغبة في الرياضة؟ لا. لكنها عملية انتحار، هو يعرف نفسه أنه سوف يذهب منتحراً من أعلى جبل، أو من على بئر، لكن تجده يقول: أنتحر وآخذ لي سيارة، وقبل أن أموت أحقق رقماً قياسياً عالمياً، ويذكر اسمي، فيذهب بسيارته ويسابق، فإذا رأيته تقول: هذا مجنون. هذا ضرب من ضروب الهروب من الحياة، لماذا؟ بسبب الضغوط التي تثقل قلوبهم بكفرهم، وببعدهم عن الله تبارك وتعالى.

فيا أخي في الله! أنت بالإيمان تكسب كل شيء، ولا تخسر شيئاً مهماً، وبالنفاق والكفر والعياذ بالله! تخسر كل شيء، ولا تكسب شيئاً مهماً .. بالإيمان تكسب سعادة الدنيا، فتعيش مرتبطاً بالله متصلاً به، تتلقى تعليماتك وتصوراتك وأفكارك وتوجيهاتك كلها من الله، في كل دقيقة من دقائق حياتك، وكل جزئية من جزئياتك، حتى في الأكل، نعم تأكل، لكن الأمر من الله علمك كيف تأكل وتشرب، فتأكل وتشرب بيمينك، وعلمك كيف تنام، فإنك تنام على شقك الأيمن ذاكراً لله، وعلمك كيف تدخل دورة المياه، فإنك تقدم رجلك اليسرى، وتستعيذ بالله من الخبث والخبائث، وعلمك كيف تأتي زوجتك نعم، فإنك تمارس هذا باسم الله، لا باسم الشيطان الرجيم.

هذا شرف، وأي شرف أيها الإخوة! أي شرف أعظم من أن تعيش في الأرض وتوجيهاتك كلها من الله؛ تسير في الشارع وأنت مأمور من الله بغض بصرك، وبرد السلام، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبمساعدة الضعيف، هذه كلها أوامر من الله .. تدخل مكتبك لتمارس عملك وعندك أوامر من الله .. تدخل سوقك لتبيع وتشتري وعندك أوامر من الله .. أي شرف أيها الإخوة! أعظم من هذا الشرف؟! وأي مجد أعظم من هذا المجد؟! إنه شرف الإيمان بالله، شرف العيش على كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . هذا في الدنيا أيها الإخوة.

وبعد ذلك لا يحرمك الإيمان من شيء، يقول الله عز وجل في متع الحياة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] كلْ مما جعله الله طيباً في هذه الأرض كلها .. يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً [المؤمنون:51] تزوج، وإذا لم تكتف بواحدة فاثنتين أو ثلاث أو أربع، لكن الحرام لا. لم؟ لأنك طيب، والله طيب ويأمرك بالطيب، ويجعل لك زوجة طيبة خالصة لك، لكن القذرين الخبثاء لا يألفون إلا الخبث والعياذ بالله! فالإيمان عندما حرم عليك الزنا لم يرد تعذيبك، بل أراد كرامتك، وعندما حرم عليك الخمور لم يرد تعذيبك، وإنما أراد صيانتك، وعندما حرم عليك المخدرات، لم يرد حرمانك من ملذات الحياة، وإنما أراد تكريمك وتفضيلك، وجعلك إنساناً ذا عقلية متميزة، لا تلغيها ولا تذهبها بالمخدرات.

إذاً أنت بالإيمان لا تخسر شيئاً، بل تكسب كل شيء .. تكسب الدنيا، وهل الدنيا فقط هي المكسب؟ لا. يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح، في ضرب نسبة ومقارنة بين الدنيا والآخرة: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم ثم ينزعها فلينظر بم ترجع؟) هل ترجع إصبعك بقطرات من محيط الآخرة؟ والله خسارة عليك يا أخي! أن تضيع الآخرة من أجل هذه القطرات.

ويوم أن تموت وتتخلى عنك الحياة، يأتيك الإيمان ليسعفك في تلك اللحظات، يقول الله عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].وبعد ذلك إذا انسلخت من الحياة، وانتزعت منها، وسللت منها كما تسل الشعرة من العجين، إذا كنت صاحب منصب فإنهم ينزلونك من منصبك، أو كنت صاحب عمارة فإنهم ينزلونك من عمارتك، أو كنت صاحب أولاد فإنهم يتبرءون منك، أين توضع؟ في القبر، في الحفرة المظلمة، من ينفعك هناك؟ ينفعك الإيمان، يقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:30-31]. وبعد ذلك يوم يُبعث الناس من قبورهم لفصل الجزاء والحساب يوم القيامة، لا خوف عليك ولا أنت تحزن: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:70-71].هل خسرت شيئاً بسبب الدين؟ لا. هل خسرت الزنا؟ لا. لأن الزنا تركه ليس بخسارة بل هو ربح، هل خسرت الربا؟ لا هل خسرت الشرك بالله؟ لا. هل خسرت الخمور؟ لا. هل خسرت المحرمات كلها؟ لا. لكنك ربحت؛ ربحت العزة، والتوحيد، والصلاة، والصلة بالله، ربحت الزكاة، والمواساة لإخوانك في الله، ربحت الصيام وهو أزكى العبادات، ربحت الحج والوقوف بعرفات، ربحت ذكر الله في الأرض، وذكره لك في السماء، ربحت الصدق، والبر، والوفاء، والمروءة، والشهامة، والكرم، والشجاعة، ربحت كل خُلُقٍ كريم أمر الله به.

هذا في الدنيا وبعد ذلك تربح الدنيا والآخرة.

إذاً: أيها الإخوة! هل الإيمان ضروري أم لا؟ إنه -والله- من أهم ضرورات الإنسان.

لقد مارس الإنسان في أطوار حياته ضروباً من الممارسات، في التعرف على قضية الإيمان، فمنهم من اعتمد على مبدأ السببية، وهو أن لكل حدَثٍ مُحدِث، ولكل مخلوق خالق، نظروا بعقولهم، قال البدوي في القديم: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، أفلا يدل ذلك على السميع البصير؟! مبدأ السببية يلزمك أن تؤمن بالله؛ لأن الله يقول: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36] .. اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الزمر:62-63].

وبعضهم استجاب لداعي الفطرة، وداعي الفطرة الذي جعله الله فيك يقضي بأن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، يقول الله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30]. فالدين القيم هو الفطرة، وهو اللباس الذي فُصِّل على مقاسك، وإذا أخذت اللباس المناسب استراحت نفسك، وإذا لبست ما ليس لك لم تسترح، ولهذا فصل للشر ( ماركس ) و( لينين ) و( استالين ) فصلوا له لباساً، وماركس ولينين يهودٌ أبناء زنا، ليسوا هم الذين خلقوا الإنسان حتى يفصلوا له اللباس، ففصلوا له لباساً لا يصلح، وهو لباس الشيوعية ، وبدءوا يُلبسون هذا اللباس للشعوب بالحديد والنار، وسجنوا وقتلوا ملايين البشر في سبيل إبقاء هذا المبدأ، وفي النهاية يصادمون سنة الله، والله غالب على أمره، وإذا بالشعوب تنتفض وتخلع هذا اللباس الخبيث، وتقول: تسقط الشيوعية، لماذا؟ لأنه لباس لم يفصله الله.

فلباسك أنت أيها المسلم! الإيمان والدين: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30] والذي يلبس لباساً مناسباً يستريح فيه، لكن إذا كان مقاس ثوبك مثلاً ( 58) وأخذت لك ثوباً مقاسه (30) يصلح لطفل عمره أربع سنوات، ولبسته، ولكنه ليس على قياسك، ويصل الثوب إلى سرتك، وعندما تخرج إلى الشارع، ماذا يحكم عليك الناس؟ يقولون: مجنون! انظروا إلى هذا المهبول، يلبس ثوب ولده! فتقول: يا جماعة أليس هذا بثوب؟ يقولون: ثوب، لكنه ليس مناسباً لك.

وإذا لبست حذاءً لولدك، واستطعت أن تدخل إصبعك الكبيرة فيه، ومشيت به في الشارع، أو ذهبت به إلى العمل، ماذا يقول لك الناس؟ يقولون: أصبح مجنوناً جاء في حذاء ولده! سبحان الله! من يلبس حذاء ليست له، أو ثوباً ليس له يقال عنه: مجنون، إذاً كيف بمن يعتنق ديناً محرفاً باطلاً ليس له؟! كيف بمن يعيش على مبدأ ليس له؟ إنه مجنون -والله- ألفُ مجنون، بل يوم القيامة يقولون عن أنفسهم: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10]. فالبس اللباس الذي أجازه الله، فطرة الله، دين الله، الدين الذي شرعه الله هو الإيمان، حتى تستريح وتسعد في الدنيا والآخرة.

ولكن أيها الإخوة! قد يسأل سائل فيقول: ما هو الدين؟ أو ما هو الإيمان الذي تعنيه؟

الإيمان الذين نريده -أيها الإخوة- هو ما فسره علماؤنا، علماءُ أهل السنة والجماعة ، يقولون: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وأركانه ستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى.

ومعنى الإيمان: الجزم والتصديق، وظهور آثار هذا الجزم على عملك، فتؤمن بالله أي تراقبه وتعبده، وتؤمن بملائكة الله أي تعرف أدوارهم، وتتشبه بأخلاقهم في طاعة الله، وتؤمن برسل الله أي تصدق بهم كلهم، وليكن قدوتك خاتم المرسلين سيدنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وتؤمن بكتب الله المنزلة، ثم تخضع لآخر كتاب منزّل، والمهيمن على كل الكتب، وهو القرآن، وتؤمن بالقضاء والقدر من الله، فترضى بما قسم الله لك، وتؤمن بالبعث بعد الموت، فتعمل لما ينجيك من عذاب الله بعد الموت.

هذا مقتضى الإيمان، وهناك تعريف جديد، يقول العلماء فيه: إن الإيمان عمل قلبي، وقناعة ذهنية، تبلغ أعماق النفس البشرية، وتحيط بها من جميع جوانبها الثلاثة.

وجوانب النفس ثلاثة:

إدراك، وإرادة، ووجدان.

فالإدراك يعني: المفاهيم والمعارف والحقائق التي تفهمها، قضايا الإيمان هي كل ما أخبر الله به، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، يجب الإيمان بها، ثم تترجم هذا الإيمان في إرادات تبعث على الخضوع والانقياد والإذعان لكل أحكام الشرع، فلا ترفع رأسك على أمر لله، أمرك الله بغض بصرك فلا تنظر به إلى حرام، وأمرك بحفظ سمعك فلا تسمع به حراماً، وأمرك بكف لسانك فلا تطلقه في حرام، وأمرك بصيانة فرجك فلا تقع به في حرام، وأمرك بحفظ بطنك فلا تدخل فيها إلا حلالاً، وأمرك بكف يدك فلا تمدها إلى حرام، وأمرك بكف رجلك فلا تحملك إلى حرام، وأمرك بالعبادة، والصلاة، والزكاة، وببر الوالدين، ونهاك عن كل محارمه، ثم أذعنت وحققت الإيمان.

الثالث: الوجدان، وهو أن يكون لك قلب حي، يحترق على الإيمان، قلب يعيش هموم المسلمين، وهموم الدين، ويفرح لله، ويغضب لله، ويحب ويكره في الله، يعيش من أجل الله، يضحي بحياته في سبيل الله، يصبغ حياته كلها بمنهج الله، يبرمج كل شئون دنياه وآخرته على وفق دين الله .. إذا ركبت معه في السيارة ترى الإيمان معه في السيارة، وإذا نظرت إلى وجهه رأيت الإيمان في وجهه، وإذا رأيت لباسه ترى الإيمان في شكله، وإذا دخلت غرفة نومه ترى الإيمان في غرفة نومه، حياته كلها مبرمجة ومصبوغة بالإيمان، هذا هو الذي نريده ونعنيه، وغير ذلك لا يسمى إيماناً، ومن عاش هذا -أيها الإخوان- فسينعم في الدنيا والآخرة، ومن رفض وأبى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:227].

أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا وإياكم الإيمان الخالص، واليقين الصادق، وأن يدلنا ويوفقنا للعمل الصالح، وأن يثبتنا عليه حتى نلقاه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أيها الإخوة: (المؤمن للمؤمن كالبنيان أو كالبنان يشد بعضه بعضاً) ... (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كأعضاء الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) إخوانكم في العقيدة والدين والإيمان، يعيشون في أفغانستان ، وقوى الشر والطغيان والإلحاد تتكالب عليهم من كل حدب وصوب، حتى قرأنا في آخر الأخبار أنهم يتعرضون لمجاعة، وأن المجاهدين الآن يبيعون أسلحتهم ليشتروا طعاماً لأطفالهم ونسائهم، وكتب لي أحد قادة المجاهدين يقول لي: إنه يموت في كل يوم مائتا طفل من الجوع! يموتون جوعاً ونحن نموت شبعاً وتخمة، ونقذف بشتى أصناف الأطعمة في القمائم، أيليق هذا بنا أيها الإخوة؟!

تموت الأسد في الغابات جـوعاً     ولحم الضأن تأكله الكلاب

الآن الكلاب في الشوارع لم تعد تأكل اللحم والأرز، لأنها شابعة، وإخوانكم يموتون جوعاً، وفي أيديكم فضول أموال منّ الله بها عليكم، إن مقتضى شكر الله على نعمة المال التي بأيدنا أن نواسي إخواننا أولاً، لنسقط عنا جزءاً من عهدة الجهاد، فإن الجهاد ليس فرضاً على الأفغان فقط، إنه فريضة الله على كل مسلم، فعلى كل مسلم الدفاع عن الإسلام، يقول الله عز وجل: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:41] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصف:10-11] فإن قعدت عن الجهاد بنفسك فلا تقعد عن الجهاد بمالك؛ لأن (من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا) والآن شهر رمضان على الأبواب، وإخوانكم يصومون ويموتون جوعاً، يموتون جوعاً قبل رمضان، فكيف إذا جاء رمضان؟!! كيف يفطرون؟ ونحن أصابتنا التخمة من كثرة الأكل، معظم الناس الآن يستعد لرمضان بقائمة من الطلبات، بعض النساء قد قدمت كشف الطلبات لزوجها من قبل أسبوع.. كرتون شعيرية، وكرتون شربة، وكرتون قطر الموز، للمحلبية، والحبة تكفي شهرين، ومع ذلك تريد كرتوناً، لماذا؟ من أجل أن تصنف الأطعمة وتعددها، ثم يأكلون من كل نوع لقمة أو لقمتين، والباقي يرمى في القمامة، وإخواننا يموتون جوعاً.

يا إخواني! المؤمن تحت ظل صدقته يوم القيامة، إذا أنفق نفقة وجدها، يقول الله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245].فالمال مال الله، ساقه الله إليك من حيث لا تحتسب، ثم يطلب منك أن تقرضه، سبحان الله! أي فضل هذا؟! المال مال الله، يقول: خذ. ويعطيك، ثم تقرضه من أجل أن يضاعفه لك، ولم ترضَ بذلك!! وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].

إن صدقتك التي تقدمها اليوم تجدها غداً، فقد جاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنهم ذبحوا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم شاة، فأنفقتها حتى لم يبق منها إلا كتفها، فلما سألها الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (هل بقي شيء؟ قالت: ذهبت كلها إلا كتفها، قال: لا يا عائشة! قولي: بقيت كلها إلا كتفها) لماذا؟ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96] .. وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].

يا إخواننا! إن علينا مسئولية أمام الله في هذا الأموال التي بين أيدينا، يجب أن نساهم وأن نتبرع في كل فرصة ومناسبة تتاح، لمد إخواننا المجاهدين، ومعنا في هذا المكان المبارك بعض الإخوة المخولين من قبل الهيئات الرسمية، لجمع التبرعات لإخواننا المجاهدين، وسوف يكونون عند الأبواب لجمع التبرعات، ولا تخرج هذه الليلة إلا بمساهمة، اجعل لك نصيباً يا أخي! أطعم واحداً من المجاهدين في هذه الليلة، فلو أن سيافاً طرق عليك الباب، وقال لك: جئتك من الأفغان، وأريدك أن تطعمني هذه الليلة، ماذا تقول له؟ ليس عندي شيء، لا. ستقول: مرحباً، ولو أطعمته من لحمك، لماذا؟ لأنك تحبه في الله، فأطعمه الآن وهو هناك بإرسال مبلغ من المال، خمسمائة ريال، مائتين ريال، مائة ريال، خمسين ريالاً، أو أقل منها؛ لأن بعض الناس يفتح كيس النقود فإذا رأى خمسمائة جعلها على جنب، ومائة على جنب، وخمسين على جنب، وعشرة على جنب، كل هذه لمن؟ هذه للمرأة، امرأتك إذا طلبتك وقالت: أريد أن أخرج إلى السوق لأشتري أشياء، وأعطيتها خمسمائة ستقوم برميها في وجهك، تقول: ما هذه الخمسمائة؟! هذه لا تكفي لشراء نعل، أريد ألفين أو ثلاثة، فيقول: حاضر، خذي، وإذا لم يعطها فقد تضربه، لكن إذا طُلب منه نفقة في سبيل الله فإنه قد يبخل، وقد يخرج خمسة أو أقل من ذلك، كيف تنصر ديننا بخمسة؟!

في غزوة العسرة جاء أبو بكر بماله كله، وعمر جاء بنصف ماله، وقال عمر : [لا أسبق أبا بكر إلا هذا اليوم] فلما جاء عمر بنصف ماله، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟ قال: نصف المال) وإذا بـأبي بكر يحمل ماله كله على كتفه، لم يبق درهماً واحداً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأولادك يا أبا بكر ؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله) فقال عمر: [فعلمت أني لا أسبق أبا بكر إلى خير أبداً] هؤلاء الذين يحبون الله ورسوله، نريد مساهمة مجزية، مساهمة تجدها عند الله يوم القيامة. واعلم أنك -والله- ما تقدم شيئاً إلا تلقاه، لن يضيع الله مما قدمت شيئاً، بل يربيه، يربي الله لك الصدقة، كما جاء في الحديث: (إن الله ليربي لأحدكم صدقته كما يربي أحدكم فلوه) فكما تربي فلوك يربي الله صدقتك، تأتي وهي مثل الجبال يوم القيامة.

وأذكر لكم قصة واقعية، يحدثني بها من أثق فيه، وعاش أحداثها ويعرف الذي وقعت له في جبال عسير .. كان هناك رجل مسافر، فآواه المبيت في ليلة مطيرة وذات رياح عاتية إلى أن دخل ونام في غار -كهف في الجبل- وبينما هو نائم -وبهذا الكهف كان قبراً- رأى في المنام رجلاً وامرأة ومعهما بقرة يحلبونها ويشربون لبنها، ولكن الذي أشكل عليه أن البقرة لا جلد لها، جلدها مسلوخ، ودماؤها تقطر من لحمها، فتقدم إلى الرجل وقال: يا أخي! ما شأنك؟ من هذه المرأة ومن أنت؟ وما هذه البقرة التي ليس عليها جلد؟ قال: هذه زوجتي وأما البقرة فإنه عندما كنا في الدنيا أحياء، أصابت الناس مجاعة، فشعرنا بحاجتهم إلى اللحم، فذبحنا هذه البقرة، وقسمناها على الفقراء والمساكين، فما بقي بيت في القرية إلا وأكل من لحمها، غير أننا أخذنا الجلد وبعناه، فلما مت أنا وزوجتي، أعطانا الله بقرة في الجنة غير أنه لا جلد لها.

يقول: أتأسف على شيء في حياتي، أتأسف على الجلد، يا ليتني أنفقته في سبيل الله كما أنفقت البقرة، فيا أخي! أنفق في سبيل الله، ضع مبلغاً من المال تجده عند الله تبارك وتعالى، أسأل الله أن يأخذ بقلوبنا وإياكم إلى ما يرضيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2930 استماع
كيف تنال محبة الله؟ 2929 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2805 استماع
أمن وإيمان 2678 استماع
حال الناس في القبور 2676 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2605 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2572 استماع
النهر الجاري 2478 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2468 استماع
مرحباً شهر الصيام 2403 استماع