انتهى رمضان لكن النفحات لاتنتهي - سهام علي
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
ولى رمضان بذكرياته الجميلة وأجوائه المحببة إلى النفس ، لكنه ترك بصماته الرائعة المحفورة في نفوسنا؛ ألا وهي طعم القربى من الله، ولذة العبادة، وما أطيبه من طعم وما ألذه من شعور.فشعور الإنسان أنه يرضي خالقه العظيم، وأنه بالتالي يحظى برعاية هذا الخالق وحمايته، يبعث على الإحساس بالسكينة والأمن والطمأنينة، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّـهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد آية: 28].
لذا لا يتصور بعد كل ذلك أن يفرط المسلم في ما حصل عليه أو يتراجع عما وصل إليه خلال الشهر المبارك وخاصة أن الأمر أصبح سهلا لإعتياده طوال شهر كامل.
هذا بخلاف أن النفحات الربانية لا تنتهي.
منها على سبيل المثال لا الحصر أذكار الصباح والمساء التي تمثل حصن المسلم لأنه يكون في معية الله وحفظه ومن حافظ عليها فإنه يجني منها فوائد جمة، وفي الأمر تفصيل يحتاج إلى مساحة منفردة لأن العبد ينعم بفائدة كل ذكر على حدة في الدنيا والآخرة، بل يمكن أن نطلق عليها وصف الغنيمة الباردة إذ يحصل المؤمن على الأجر كاملا دون أن يتكبد أى مشقة بدنية أو تكلفة مالية.
نذكر منها فقط ذلك الحديث المبشر فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح أو يمسي اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حمله عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك أعتق الله ربعه من النار فمن قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار ومن قالها ثلاثا أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار فإن قالها أربعا أعتقه الله من النار» (الترغيب والترهيب؛ رقم: [1/307]).
وقد اخترنا هذا الذكر تحديدا لأن العتق من النار هو غاية المؤمن، وقد قال تعالى: { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران من الآية:185].
كذلك الفروض المعروفة بدءًا بالصلاة وإنتهاءً بالحج مرتبة حسب الأهمية والتكرار والاستطاعة، ثم بعد ذلك النوافل التي من جنس الفروض.
ففي الحديث القدسي إنَّ اللهَ تعالى قال : « مَنْ عادَى لي ولِيًّا فقد آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ ، وما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبدي بِشيءٍ أحبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عليهِ ، وما زالَ عَبدي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حتى أُحِبَّهُ ، فإذا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يسمعُ بهِ ، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بهِ ، ويَدَهُ التي يَبْطِشُ بِها ، ورِجْلَهُ التي يَمْشِي بِها ، وإنْ سألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ ، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ ، وما تَرَدَّدْتُ عن شيءٍ أنا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن قَبْضِ نَفْسِ المُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ المَوْتَ وأنا أَكْرَهُ مَساءَتَهُ».(السلسلة الصحيحة؛ رقم: [1640]).
و مما ذكر في الصلاة قول أبي هريرةأنه سمع رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول : «أرأيتُم لو أن نهرًا بباب أحدِكم، يغتسل فيه كلَّ يوم خمسًا، ما تقول : ذلك يبقيمن دَرَنه .
قالوا : لا يُبقي من درنِه شيئًا، قال : فذلك مثلُ الصلواتِ الخمسِ، يمحو اللهُ بها الخطايا » (صحيح البخاري ؛ رقم: [528]).
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«الجمُعةُ إلى الجمُعةِ كفَّارةُ ما بينهما ما لم تُغْشَ الكبائرُ»(اصحيح الجامع؛ رقم: [3110].)
و في إحدى نوافل الصلاة قال صلى الله عليه وسلم: «منْ صلَّى أربعًا ، قبلَ الظُّهرِ ، وأربعًا بعدها ، لم تَمسَّه النَّارُ»(صحيح النسائي؛ رقم: [1816]).
أما عن الصدقة قد قال الله تعالى: { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّـهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة الآية:261].
كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلُّ نفسٍ كُتِبَت عليها الصَّدقةُ كلَّ يومٍ طلَعت فيهِ الشَّمسُ ، فمَن ذلِكَ أنيعدِلَ بينَ الاثنينِ صدقةٌ ، وأن يعينَ الرَّجلَ على دابَّتِهِ فيحملَهُ عليها صدقة ويرفَعَ متاعَهُ عليها صدقةٌ ، ويميطُ الأذى عنِ الطَّريقِ صدقةٌ ، والكلِمةُ الطَّيِّبةُ صدقةٌ ، وَكُلُّ خُطوةٍ يَمشي إلى الصَّلاةِ صدقةٌ»(مسند أحمد؛ رقم: [16/249]).
أما عن الصوم فهو ليس قاصرا بالطبع على رمضان وقد قال صلى الله غليه وسلم: «من صامَ رمضانَ ، ثم أتبعهُ بستٍ من شوالَ ، فذلك صيامُ الدهرِ»(سنن الترمذي؛ رقم: [759]).
فإذا أضاف إليها نوافل الصيام الأخرى كان خيرا عظيما.
أما الحج و العمرة فقد ورد فيهما قول النبي صلى الله عليه وسلم: «العمرةُ إلى العمرةِ كفَّارَةٌ لمَا بينَهمَا ، والحجُّ المبرورُ ليسَ لهُ جزاءٌ إلا الجن َّةُ » ( صحيح البخاري ؛ رقم: [1773]).
أما باب الحسنات فهو باب واسع واسع؛ فمنه قوله صلى الله عليه وسلم:
« إنَّ اللهَ كتب الحسناتِ والسَّيِّئاتِ ثمَّ بيَّن ذلك ، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعمَلْها كتبها اللهُ له عنده حسنةً كاملةً ، فإن هو همَّ بها وعمِلها كتبها اللهُ له عنده عشرَ حسناتٍ إلى سبعِمائةِ ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ ، ومن همَّ بسيِّئةٍ فلم يعمَلْها كتبها اللهُ له عنده حسنةً كاملةً ، فإن هو همَّ بها فعمِلها كتبها اللهُ له سيِّئةً واحدةً». (صحيح البخاري؛ رقم: [6491]).
أما عن قيام الليل وخاصة الثلث الأخير ففيه الخير كله فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كان ثُلُثُ الليلِ أو شَطْرُه يَنزِلُ اللهُ إلى سماءِ الدنيا فيقولُ هل من سائلٍ فأُعطيَه هل من داعي فأستجيبَ له هل من تائبٍ فأتوبَ عليه هل من مستغفِرٍ فأغفرَ له حتى يَطْلُعَ الفجر َ»(تخريج كتاب السنة؛ رقم: [498]).
هذا فضلا عن الأجر الذي يناله أهل الإبتلاءات والكرب قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة الآيات:155:157].
كذلك أجر عباد الله الراحمين ويكفينا التذكير بقصة البغي التي دخلت الجنة لأنها سقت كلبًا.
وهذا يبين عظم الجزاء لكل مبادر بعمل الخير مهما استصغرته النفوس.
أما ثواب العائدين التائبين، فالقصة المشهورة عن قاتل المائة نفس تبين سعة رحمة الله ومغفرته، فمن فاته رمضان يستطيع أن يبدأ صفحة جديدة مع ربه وباب التوبة مفتوح دائمًا على مصراعيه فقد قال تعالى: { وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّـهَ يَجِدِ اللَّـهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}[ النساء آية: 110].
كذلك قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر آية:53].
كذلك الحديث المعروف عن فرحة الله بعودة عبده التائب قال صلى الله عليه وسلم:
«لَلَّهُ أشَدُّ فرَحًا بِتوبةِ عبدِهِ حِينَ يَتوبُ إليه ؛ من أحدِكمْ كان على راحلَتِه ، بأرضِ فلاةٍ ، فانْفلَتَتْ مِنهُ ، وعليْها طعامُهُ وشَرابُهُ ، فأيِسَ مِنْها ، فأتَى شجرَةً ، فاضْطجعَ في ظِلِّها ، قدْ أيِسَ من راحلَتِه ، فبيْنما هوَ كذلِكَ ، إذْ هوَ بِها قائمةٌ عِندَهُ ، فأخَذَ بِخطامِها ، ثمَّ قال – من شِدَّةِ الفرَحِ - : اللهُمَّ أنتَ عبدِي ، وأنا ربُّكَ ! أخْطَأَ من شِدَّةِ الفرَحِ»
(صحيح الجامع؛ رقم: [5030]).
و هذه هي مجردمجموعة ضئيلة جدا من الأمثلة فهي في النهاية تمثل غيضا من فيض ولا تعدل قطرة في بحر عطاء الله وكرمه والله واسع عليم.
فهل يليق بالعبد المؤمن بعد كل هذه المنح والعطاءات أن يتراخى أو يتخاذل ولا يقتنص الفرص وهو في أمس الحاجة إلى عون الله وتوفيقه ورحمته؟