أرشيف المقالات

قضاة زينوا ساحات القضاء

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
دأب الغرب العلماني على توجيه الانتقادات للمنهج الإسلامي فيما يتعلق بسجل حقوق الإنسان بالتلميح تارة وبالتصريح تارة أخرى، ونسي هذا المشفق على حقوق الإنسان ماضيه الاستعماري الذي قام على قهر الشعوب الضعيفة وسلب خيراتها، كما نسي حاضره الذي يقدم النفعية والمصلحة الشخصية على النزعة الإنسانية، حتى صارت كلمة "حقوق الإنسان" شعارًا أجوف مفرغًا من محتواه العملي..
بل نسي الغرب روعة الإسلام في تحقيق المساواة بين أبنائه أمام القانون، فلقد ازدان تاريخ القضاء في الإسلام ببدائع من مواقف قضاة العدل، وزها بروائع من انصياع خاصة المسلمين وعامتهم لشرع الله ونزولهم عند أحكامه، فكان له في العدل السبق والتفرد بين حضارات الدنيا بأسرها. خطورة منصب القضاء: لما كان العدل دعامة الأمم الراشدة، حرص الإسلام على تأكيد أهمية دور القضاء وخطورة موقعه في الأمة الإسلامية، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل} [النساء: 58].
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا" (مسلم).
لكن بريق منصب القضاء وعلو قدره، جعل النفوس الضعيفة تهفو إليه لتحوز الشرف والمكانة في الدنيا، متغافلة عن عبء القيام بحقه من واجبات العدل، فكان في المنصب هلاكها يوم القيامة؛ لذلك حرص المرء على الشرف بطلب الولايات أشد إهلاكًا له من حرصه على المال، فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها والرياسة على الناس والعلو في الأرض أضرّ على العبد من طلب المال، وضرره أعظم والزهد فيه أصعب، فإن المال يبذل في طلب الرياسة، وطلب الشرف بالولاية خطر جدًّا، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزها.. قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
وقلّ من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فيوفق بل يوكل إلى نفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنه-: " يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها" (البخاري). من أجل هذا هاب الصالحون منصب القضاء وتبعاته، وحرصوا على دفعه عن أنفسهم.
ويروي لنا تاريخ الإسلام في ذلك مواقف مضيئة، نذكر منها ما رُوي من أن عثمان بن عفان عرض على ابن عمر -رضي الله عنهما- القضاء، فأَبَى، ولما ألح عليه لقبوله مذكرًا إياه بأن أباه كان يقضي، قال عبد الله: "إن أبي كان يقضي، فإذا أشكل عليه شيء سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أشكل على النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل، وإني لا أجد من أسأل". وروي أن الخليفة الوليد بن عبد الملك أراد أن يولي (يزيد بن مرثد) القضاء، فبلغ ذلك يزيد، فلبس فروة وقلبها، فجعل الجلد على ظهره والصوف خارجًا، وأخذ بيده رغيف خبز وعرقًا (أي عظم عليه لحم)، وخرج بلا رداء ولا قلنسوة (أي حاسر الرأس) ولا نعل ولا خف، وجعل يمشي في الأسواق ويأكل، فقيل للوليد: إن يزيد قد اختلط (أي خرف)، وأُخبر بما فعل، فتركه الوليد. وسأل بعضهم وكيعًا عن مقدمه هو وابن إدريس وحفص على هارون الرشيد، فقال: كان أول من دعا به أنا.
فقال لي هارون: يا وكيع، إن أهل بلدك طلبوا مني قاضيًا، وسموك فيمن سموا، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي.
فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير، وإحدى عيني ذاهبة، والأخرى ضعيفة.
فقال هارون: اللهم غفرًا، خذ عهدك أيها الرجل وامض.
فقلت: يا أمير المؤمنين، والله لئن كنت صادقًا إنه لينبغي أن لا يقبل مني، ولئن كنت كاذبًا، فما ينبغي أن تولي القضاء كذابًا.
فقال: اخرج.
فخرجت، ودخل ابن إدريس، وسمعناه يسلم سلامًا خفيًّا، فقال له هارون: أتدري لما دعوتك؟ قال: لا.
قال: إن أهل بلدك طلبوا مني قاضيًا، وإنهم سموك لي فيمن سموا، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي، وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة، فخذ عهدك وامض.
فقال له ابن إدريس: وأنا وددت أني لم أكن رأيتك.
فخرج، ثم دخل حفص فقبل عهده. وجمع عدي بن أرطاة بين إياس بن معاوية والقاسم بن محمد، وقال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أولِّي أحدكما قضاء البصرة، فماذا تريان؟ فقال كل منهما عن صاحبه: إنه أولى منه بهذا المنصب، وذكر من فضله وعلمه وفقهه ما شاء الله أن يذكر.
فقال عدي: لن تخرجا من مجلسي هذا حتى تحسما هذا الأمر.
فقال له إياس: أيها الأمير، سل عني وعن القاسم فقيهي العراق الحسن البصري ومحمد بن سيرين، فهما أقدر الناس على التمييز بيننا.
وكان القاسم يزورهما ويزورانه، وإياس لا تربطه بهما رابطة، فعلم القاسم أن إياسًا أراد أن يورطه، وأن الأمير إذا استشارهما أشار به دون صاحبه، فما كان منه إلا أن التفت إلى الأمير وقال: لا تسأل أحدًا عني ولا عنه -أيها الأمير- فوالله الذي لا إله إلا هو إن إياسًا أفقه مني في دين الله، وأعلم بالقضاء، فإن كنت كاذبًا في قسمي هذا فما يحل لك أن توليني القضاء، وأنا أقترف الكذب، وإن كنت صادقًا فلا يجوز لك أن تعدل عن الفاضل إلى المفضول.
فالتفت إياس إلى الأمير وقال: أيها الأمير، إنك جئت برجل ودعوته إلى القضاء فأوقفته على شفير جهنم، فنجّى نفسه منها بيمين كاذبة لا يلبث أن يستغفر الله منها وينجو بنفسه مما يخاف.
فقال له عدي: إن من يفهم مثل فهمك هذا لجدير بالقضاء حريّ به، ثم ولاّه قضاء البصرة. مواقف ناصعة: منصب القضاء في الإسلام من أعلى المراتب؛ لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر: 20].
فكأن القاضي نائب عن الله في حكمه وفتواه، يقول الإمام الغزالي: "إنه أفضل من الجهاد؛ لأن طباع البشر مجبولة على التظالم، وقلّ من ينصف من نفسه، والإمام مشغول بما هو أهم منه، فوجب من يقوم به، فإن امتنع الصالحون له منه أثموا، وأجبر الإمام أحدهم".
ولقد جاءت دوحة الإسلام برجال وقضاة أفذاذ، قوّالين بالحق، أمّارين بالمعروف، لا يعصون الخالق في طاعة المخلوق، وهؤلاء هم الذين تحتاج الأمة إلى أمثالهم؛ إذ الأمة لا تحتاج إلى شيء من الأخلاق احتياجها إلى العدل والمساواة وعدم الإغضاء على تعدي حدود الله رهبةً من السلطان..
هؤلاء الذين تحيا بهم الأمم، وتشرق بهم الأيام، وتعلو بهم قداسة الحق، فتطيب بهم الأيام. فمن مواقفهم الناصعة مع ذوي السلطان ما رُوي أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- افتقد درعًا له كانت أثيرة عنده، ثم ما لبث أن وجدها في يد رجل يهودي يبيعها في سوق الكوفة، فلما رآها عرفها، وقال: هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا وفي مكان كذا.
فقال الذميّ: بل هذه درعي، وفي يدي يا أمير المؤمنين، وبيني وبينك قاضي المسلمين.
فقال علي: أنصفت! فهلم إليه.
فلما صارا عند شريح القاضي في مجلس القضاء، قال شريح لعلي -رضي الله عنه-: لا ريب عندي في أنك صادق فيما تقوله يا أمير المؤمنين، ولكن لا بد لك من شاهدين.
فقال عليّ: نعم مولاي قنبر وولدي الحسن يشهدان لي.
فقال شريح: ولكن شهادة الابن لأبيه لا تجوز.
فقال علي: يا سبحان الله! رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"( الترمذي) فقال شريح: بلى يا أمير المؤمنين، غير أني لا أجيز شهادة الولد لوالده.
عند ذلك التفت عليّ إلى الذمي، وقال: خذها، فليس عندي شاهد غيرهما.
فقال الذمي: ولكني أشهد بأن الدرع درعك يا أمير المؤمنين.
ثم أردف قائلاً: يا لله! أمير المؤمنين يقاضيني أمام قاضيه، وقاضيه يقضي لي عليه، أشهد أن الدين الذي يأمر بهذا لحقّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ويذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء: أن الخليفة أبو جعفر المنصور كتب إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة كتابًا فيه: (انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر، فادفعها إلى القائد).
فكتب إليه سوار: (إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر، فلست أعطها لغيره إلا ببينة).
فكتب إليه المنصور: (والله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد).
فكتب إليه سوار: (والله الذي لا إله إلا هو، لا أخرجها من يد التاجر إلا بحق).
فلما وصل كتابه إلى المنصور قال: (ملأتها والله عدلاً، فصار قضاتي تردني إلى الحق). ومنهم القاضي المنذر بن سعيد البلوطي الذي وَلِي القضاء بقرطبة أيام عبد الرحمن الناصر، وناهيك مِن عدل أُظهر ومن فضل أُشهر ومن جور قبض ومن حق رُفع ومن باطل خُفض..
كان مهيبًا صليبًا غير جبان ولا عاجز ولا مراقب لأحد من خلق الله في استخراج حق ورفع ظلم، استعفى مرارًا من القضاء، فما أُعفي.
ويُروى أن الناصر أراد أن يبني قصرًا لإحدى نسائه، وكان بجوار المكان دار صغيرة وحمام لأيتام تحت ولاية القاضي، فطلب شراءه.
فقالوا: إنه لا يباع إلا بإذن القاضي، نسأله بيعه.
فقال القاضي: "لا، إلا بإحدى ثلاث: حاجة الأيتام، أو وهن البناء، أو غبطة الثمن".
فأرسل الخليفة خبراء قدروهما بثمن لم يعجب القاضي، فأباه، وأظهر الخليفة العدول عنهما والزهد فيهما.
وخاف القاضي أن يأخذهما جبرًا، فأمر بهدم الدار والحمام وباع الأنقاض بأكثر مما قدر الخبراء.
وعزّ ذلك على الخليفة، وقال له: ما دعاك إلى ذلك؟ قال أخذت بقول الله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]، لقد بعت الأنقاض بأكثر مما قدرت للدار والحمام، وبقيت للأيتام الأرض، فالآن اشترها بما تراه لها من الثمن.
قال الخليفة: أنا أولى أن أنقاد إلى الحق، فجزاك الله عنا وعن أمتك خيرًا. ومواقف العدل حتى مع الأبناء فلذات الأكباد، ومما يُروى في ذلك أن ابن شريح القاضي قال له يومًا: يا أبت، إن بيني وبين قوم خصومة، فانظر فيها، فإن كان الحق لي قاضيتهم، وإن كان لهم صالحتهم.
ثم قصّ عليه قصته، فقال له شريح: انطلق فقاضهم.
فمضى إلى خُصُومِه، ودعاهم إلى المقاضاة، فاستجابوا له.
ولما مثلوا بين يدي شريح، قضى لهم على ولده، فلما رجع شريح وابنه إلى البيت، قال الولد لأبيه: فضحتني يا أبت! والله لو لم أستشرك من قِبل لما لمتك.
فقال شريح: يا بُنَيّ، والله لأنت أحب إليَّ من ملء الأرض من أمثالهم، ولكن الله عز وجل أعز عليَّ منك، لقد خشيت أن أخبرك بأن الحق لهم فتصالحهم صلحًا يفوت عليهم بعض حقهم، فقُلْتُ لك ما قلت.
وقد كفل ولد لشريح رجلاً، فقَبِل كفالته، فما كان من الرجل إلا أن فرّ هاربًا من يد القضاء، فسجن شريح ولده بالرجل الفارّ، وكان ينقل له طعامه بيده كل يوم إلى السجن. "إن لنا نحن أبناء هذه الحضارة دين على الشعوب التي حررتها حضارتنا يجب أن نسترده، لا بالتفاخر الكاذب ولا بالأماني والأباطيل، بل بمعرفتنا لقدر أنفسنا وقيمة حضارتنا وسمو تراثنا واستحقاقنا؛ لأنْ نكون الأمة الوسط التي تشهد على الناس، وتقودهم إلى الخير والحق والكرامة، ولعلنا فاعلون إن شاء الله" ـــــــــــــــــــــــــــــــ د.
خالد سعد النجار

شارك الخبر

المرئيات-١