الطريق إلى الهداية [1، 2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الإخوة في الله: أولاً جزى الله القائمين على مدرسة تحفيظ القرآن الكريم في هذا المسجد خيراً، حينما هيأت هذا اللقاء، وأعادت للمسجد بعضاً من رسالته، فإن المسجد كان كل شيء في حياة المسلمين، وجزاكم الله خيراً حينما أجبتم الدعوة وجئتم لتشجعوا داعي الإيمان، ولتحضروا مجالس الذكر التي تحتاج إليها القلوب أكثر من حاجة الأرض إلى المطر، فإن غيث القلوب هو العلم، وغيث الأرض هو المطر، وأنتم ترون أن الأرض إذا حُبس عنها المطر أجدبت وأقحلت وتغير شكلها ولم تؤتي خيراً، وكذلك القلوب إذا حرمت من سماع العلم والذكر فإنها تجدب وتقصر وتقسو ولا يأتي منها خير.

وترون الأرض إذا نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وكذلك قلوب أهل الإيمان إذا نزل عليها العلم -وأعني بالعلم هنا علم الكتاب والسنة: قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم- وسمعت الذكر والعلم الإيماني اهتزت كما تهتز الأرض، تهتز وتضطرب، وتخاف وتوجل وتشفق، ثم بعد هذه الحركة القلبية تزداد إيماناً، عبر الله عز وجل في الأرض المادية فقال: اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5] وقال في قلوب المؤمنين وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً [الأنفال:2] فتنبت القلوب حينما تسمع العلم من كل زوج بهيج من العمل الصالح، والبعد عما حرم الله.

وما دام الأمر كذلك فإن من الضروري أن يحرص المسلم على حضور مجالس الذكر ومتابعتها، وأن يجعلها في صلب برنامجه اليومي، ولا يجعلها على الهامش بحيث إن تيسرت حضر وإن لم تتيسر لم يحضر، وإنما يجعلها شيئاً رئيسياً وضرورياً في حياته؛ لأنها غذاء لقلبه، والله تبارك وتعالى يقول: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22] ويقول: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:28-29].

هذه مقدمة لبيان فضل هذه المجالس التي نسأل الله عز وجل أن يجعلها في ميزان الحسنات، وأن يجعل الجلوس فيها وسماع العلم وقوله خالصاً لوجه الكريم.

إن نعمة الهداية والدين والالتزام، والسير على الصراط المستقيم، من أجلِّ نعم الله على العبد؛ لأنها نعمة ترافقك آثارها في هذه الحياة، وعند الموت، وفي القبر، وعلى الصراط، وفي أرض المحشر حتى تدخل الجنة ببركة نعمة الإيمان.

إن الكفر والمعصية والنفاق والضلال مصيبة، ونكبة على الإنسان في هذه الدنيا وعند الموت، وفي القبر، وعلى الصراط وفي عرصات القيامة، ويوم يسحب على وجهه ويقذف على أم رأسه في النار، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

والناس اليوم يتطاحنون، ويتناحرون، ويتسابقون في سبيل تحصيل المال، وكثرة العيال، وعلو المنصب والجاه، وهذه النعم: نعمة المال والأولاد والمنصب والجاه نِعمٌ لا تنفع في الآخرة يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].. وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى [سبأ:37] لا يقربك مالك، ولا ولدك، ولا جاهك عند الله خطوة واحدة، إلا بمؤهلات الإيمان والعمل الصالح وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37].

الإيمان غذاء الروح وراحة البدن

نعمة الإيمان هي النعمة التي ينبغي أن نحرص على الحصول عليها، وأن نَجِد السير في سبيل تحقيقها، وإذا حصلت فينبغي لنا أن نقبض عليها، وأن نعض عليها بالنواجذ حتى لا نحرمها؛ لأنها ترافقك في هذه الدنيا، فأنت في الدنيا بنعمة الإيمان تعيش حلاوة هذه الحياة؛ لأن هذه الدنيا لها طعم، ولذة هي لذة الإيمان، يقول ابن تيمية رحمه الله: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة)، ولما سجن رحمه الله في سجن القلعة في دمشق كان يقول لسجانه: (ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، سجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة)، وكان ابن القيم رحمه الله يقول: (والله إنا كنا نزوره في السجن ولسنا مسجونين وقد جمعت علينا هموم الأرض فوالله ما إن نرى وجهه وهو بين الجدران وفي الحديد حتى يسرى عن قلوبنا).

وهذا بسبب نعمة الإيمان التي يقول الله فيها: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:139-140]ويقول: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104].

فالمؤمن بإيمانه يعيش في سعادة ولو لم يمكن من في شيء من ملذات هذه الحياة، والله لو سكن الكوخ، وركب الحمار أو مشى على قدميه، ولبس الثياب البالية المقطعة، وأكل من خشن العيش ومعه الإيمان؛ فوالله إنه في سعادة أعظم من سعادة الملوك، يقول أحد السلف: لو يعلم أهل الجاه والسلطان ما نحن فيه من اللذة والسرور لجالدونا عليها بالسيوف، أما بغير نعمة الإيمان، فوالله لو سكن الإنسان أعظم عمارة، ولو امتطى أحدث موديلات السيارات، ونكح أجمل الزوجات، وتغذى بأشهى المأكولات، وامتلك الملايين من الريالات وهو ليس ذا إيمان فوالله ما يزداد إلا عذاباً وشقاء؛ لأنه بهذه الإمكانات المادية إنما يرفه عن جسده؛ لأن الإنسان مكون من عنصرين: عنصر مادي وعنصر روحي، فالعنصر المادي الجسد غذاؤه من الأرض، لكن العنصر الروحي غذاؤه من السماء، فإن لم يتكامل في غذاءيه بعنصريه المادي والروحي فإنه يعيش مشلولاً، مقسوماً لا تحصل له السعادة إلا بالتكامل في حياته في مطالب الروح والجسد.

ولكن إذا سعُدت الروح حتى ولو لم تكتمل مطالب الجسد فإن الروح هي الراكب. يقول ابن القيم رحمه الله: الإنسان بدنه مركوب وروحه راكب، ودائماً القيمة للراكب. لو جاءك ضيف على دابة من وسائل الأولين وأدخلت حماره في المجلس، وأدخلت الصيف مكان الحمير ما ظنك بهذا؟ هل يعد هذا إكراماً؟! فيعيب عليك يقول: كيف تضعني هنا وتضع الحمار في المجلس، وإذا جاء العشاء قدمت العشاء للحمار وتركته بدون عشاء، وإذا جاء سألك قلت: والله ما أردت إلا إكرامك، أنا أعلم أن هذا الحمار هو الذي جاء بك، وهو الذي حملك وتعب حتى أوصلك عندي فأردت أن أكرمه؛ لأن إكرام الحمار إكرام لصاحبه، فيقول: صحيح، لكن الكرامة الكبيرة لي أنا، وأعط الحمار ما يستحق من الكرامة، أما أن تحرمني وتعطيه فهذا خطأ.

وكذلك الناس الآن يكرمون المركوب ويتركون الراكب، يكرمون المركوب وهو الجسد بالغذاء الحسن، واللباس الجميل، والمسكن الجميل، والمركب المريح، وإذا أصيب بمرض سارعنا في علاجه، وإذا جاءه الحر أخذنا الملابس الخفيفة للتخفيف عنه، وإذا جاء البرد لبسنا الملابس الشتوية لمقاومته، لا نريد أن ينال هذا المركوب شيء، والراكب محروم من غذائه، مسجون ما أعطيناه من حقه شيئاً، ولذا عاشت أرواحنا في ضيق، وعاشت أجسادنا في سعة:

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته     أتعبت نفسك فيما فيه خسران

أقبل على الروح واستكمل فضائلها     فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

أما ترون حينما ينام الإنسان، إذا تعب الإنسان في عمله، أو سفره، أو مذاكرته؛ فإنه يحصل له إرهاق وتعب، ويشعر بانحطاط في قواه، ووهن في عضلاته وهو يريد أن يرتاح، فما الذي يحصل لو أراد الإنسان أن يرتاح هكذا بدون نوم؟ كلما نام جاء شخص وأيقظه، وهو مستلقٍ على السرير، يقول له: استرح لكن لا تنم؟

أنت تريد أن ترتاح من العمل والتعب فخذ راحتك على السرير، ولكن إياك أن تنام، وكلما نام صب عليه الماء، ما رأيكم هل يرتاح هذا النائم؟! لا وإنما يرتاح إذا نام، لماذا؟ يقول العلماء: لأن الروح الراكب تنزل من المركوب، فيجد الجسد راحة من عدم ركوب الراكب، ولذا الإنسان إذا تعب طول يومه ثم نام ساعة أو نصف ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات، يقوم بعد النوم وهو نشيط كأنه ما عرف التعب، فما الذي حصل له؟ هل دخل في ورشة النوم؟! لا يوجد فيه ورشة، إنما الذي حصل أن الروح نزلت من هذا الجسد وبعدت في إجازة قصيرة لكنها سوف تعود، أما لو ذهبت ولم تعد فقد أصبح هذا موتاً، ولذا إذا أتيت إلى النائم بالرائحة عند أنفه يشمها فلا يشمها رغم أن حاسة الشم موجودة، وتأتي إليه بالأصوات الخفيفة عند أذنه فلا يسمعها، وتفتح عينه وتمرر أمامه أجساماً فلا يراها.

أجل العين ليست هي التي ترى، والأذن ليست هي التي تسمع، والأنف ليس الذي يشم، ولو وضعت في فم النائم قطعة سكر ما أحس بها، تريد أن تنادي الذي يشم، ويسمع، ويرى ويتذوق أين هو؟ ليس موجوداً الآن، تريد أن تناديه؛ أيقظه وقل له: فلان.. فلان، فإذا استيقظ فأعطه الرائحة يشمها، وأعطه الشيء يراه، ما الذي كان غائباً؟ الروح، إذا ذهبت الروح نزل الراكب من على الجسد فيرتاح الإنسان، وإذا رجعت بقي، مثل الآن الذي يركب سيارته باستمرار ولا يتوقف لابد أن يريحها، والذي يركب حماره ويسافر من أرض إلى أرض دائماً وما ينزل من على حماره سيموت الحمار، وكذلك هذه الروح.

لا سعادة تعدل سعادة الإيمان

هذه الحياة كلها؛ لذتها وطعمها في حياة الروح، وإذا حُرِم الإنسان من غذاء الروح -الغذاء الإيماني- عاش في عذاب وشقاء، ولذا ترون البشرية اليوم في الشرق والغرب، في أوروبا وأمريكا بلغوا من التطور والتقدم والاكتشافات العلمية ما لا يصدقه العقل، أراحوا الجانب الجسدي لأبعد درجة، لدرجة أنه في أمريكا يقال: في المناطق الباردة ينامون وعليهم بطانيات كهربائية يضبط العيار عنده فيجعله مثل الخيمة الصغيرة، ويربط (الفيش) بالكهرباء وبعد ذاك عنده عيار يضبط به درجة الحرارة، كم يريد من الحرارة. عشرين .. ثلاثين، وينام طوال الليل على هذا، بالرغم من هذا التكييف الذي يحصل له، وبالرغم من أن كل شيء في الدنيا مهيأ إلا أنهم في عذاب، حتى إن أعلى دول العالم نسبة في الانتحار هي أعلى دولة نسبة في التقدم والرقي وهي الدول الإسكندنافية: الدنمارك والسويد والنرويج أعلى نسبة الانتحار فيها؛ لأنهم ما وجدوا السعادة ولا الراحة في كل ما حققوه لأنفسهم من الماديات، فلما لم يجدوا راحة بل وجدوا أنهم في ضيق تخلصوا من الحياة بالانتحار.

يفكر أحدهم ويقول: أنا لماذا أعيش؟ فيقول: أنا أعيش من أجل أن أموت، فما دام أني أعيش من أجل أن أموت فأموت من الآن، لماذا أجلس سنة أو سنتين أو عشر وأنا آكل وأشرب وأصبح وأمسي حتى أموت، فيقفز قفزة إلى الموت ليتخلص من هذه الحياة، لكن الذي يقدم لك الراحة والطمأنينة، وينزع من قلبك القلق والاضطراب والحيرة، ويوجد في قلبك الاستقرار والأمان هو الإيمان، هو دين الله عز وجل، هي الهداية.

ولا تسعد في هذه الدنيا إلا بالهداية؛ لأن من الناس من يتصور أن آثار الدين فقط في الآخرة، ولهذا يقول: الدين سيحرمني من لذات الدنيا، فأنا أتمتع فيها والآخرة بعد ذلك، وهذا خطأ، الدين آثاره معك في الدنيا قبل الآخرة، والكفر معك آثاره في الدنيا قبل الآخرة، الكفر يزرع في قلب الإنسان الخوف والقلق، والحيرة والضلال، والتيه وعدم الرضا، مهما شبع ومهما ولغ من الشهوات؛ لكنه لا يجد الراحة والطمأنينة .. إن كانت أموال فهي عليه وبال، يقول الله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55] إن كن زوجات وأولاد يقول الله عز وجل: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] ليس بديلاً للإيمان شيءٌ في هذه الحياة، فلا يوجد في الدنيا بديل للإيمان لإسعاد الإنسان في هذه الحياة.

نعمة الإيمان هي النعمة التي ينبغي أن نحرص على الحصول عليها، وأن نَجِد السير في سبيل تحقيقها، وإذا حصلت فينبغي لنا أن نقبض عليها، وأن نعض عليها بالنواجذ حتى لا نحرمها؛ لأنها ترافقك في هذه الدنيا، فأنت في الدنيا بنعمة الإيمان تعيش حلاوة هذه الحياة؛ لأن هذه الدنيا لها طعم، ولذة هي لذة الإيمان، يقول ابن تيمية رحمه الله: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة)، ولما سجن رحمه الله في سجن القلعة في دمشق كان يقول لسجانه: (ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، سجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة)، وكان ابن القيم رحمه الله يقول: (والله إنا كنا نزوره في السجن ولسنا مسجونين وقد جمعت علينا هموم الأرض فوالله ما إن نرى وجهه وهو بين الجدران وفي الحديد حتى يسرى عن قلوبنا).

وهذا بسبب نعمة الإيمان التي يقول الله فيها: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:139-140]ويقول: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104].

فالمؤمن بإيمانه يعيش في سعادة ولو لم يمكن من في شيء من ملذات هذه الحياة، والله لو سكن الكوخ، وركب الحمار أو مشى على قدميه، ولبس الثياب البالية المقطعة، وأكل من خشن العيش ومعه الإيمان؛ فوالله إنه في سعادة أعظم من سعادة الملوك، يقول أحد السلف: لو يعلم أهل الجاه والسلطان ما نحن فيه من اللذة والسرور لجالدونا عليها بالسيوف، أما بغير نعمة الإيمان، فوالله لو سكن الإنسان أعظم عمارة، ولو امتطى أحدث موديلات السيارات، ونكح أجمل الزوجات، وتغذى بأشهى المأكولات، وامتلك الملايين من الريالات وهو ليس ذا إيمان فوالله ما يزداد إلا عذاباً وشقاء؛ لأنه بهذه الإمكانات المادية إنما يرفه عن جسده؛ لأن الإنسان مكون من عنصرين: عنصر مادي وعنصر روحي، فالعنصر المادي الجسد غذاؤه من الأرض، لكن العنصر الروحي غذاؤه من السماء، فإن لم يتكامل في غذاءيه بعنصريه المادي والروحي فإنه يعيش مشلولاً، مقسوماً لا تحصل له السعادة إلا بالتكامل في حياته في مطالب الروح والجسد.

ولكن إذا سعُدت الروح حتى ولو لم تكتمل مطالب الجسد فإن الروح هي الراكب. يقول ابن القيم رحمه الله: الإنسان بدنه مركوب وروحه راكب، ودائماً القيمة للراكب. لو جاءك ضيف على دابة من وسائل الأولين وأدخلت حماره في المجلس، وأدخلت الصيف مكان الحمير ما ظنك بهذا؟ هل يعد هذا إكراماً؟! فيعيب عليك يقول: كيف تضعني هنا وتضع الحمار في المجلس، وإذا جاء العشاء قدمت العشاء للحمار وتركته بدون عشاء، وإذا جاء سألك قلت: والله ما أردت إلا إكرامك، أنا أعلم أن هذا الحمار هو الذي جاء بك، وهو الذي حملك وتعب حتى أوصلك عندي فأردت أن أكرمه؛ لأن إكرام الحمار إكرام لصاحبه، فيقول: صحيح، لكن الكرامة الكبيرة لي أنا، وأعط الحمار ما يستحق من الكرامة، أما أن تحرمني وتعطيه فهذا خطأ.

وكذلك الناس الآن يكرمون المركوب ويتركون الراكب، يكرمون المركوب وهو الجسد بالغذاء الحسن، واللباس الجميل، والمسكن الجميل، والمركب المريح، وإذا أصيب بمرض سارعنا في علاجه، وإذا جاءه الحر أخذنا الملابس الخفيفة للتخفيف عنه، وإذا جاء البرد لبسنا الملابس الشتوية لمقاومته، لا نريد أن ينال هذا المركوب شيء، والراكب محروم من غذائه، مسجون ما أعطيناه من حقه شيئاً، ولذا عاشت أرواحنا في ضيق، وعاشت أجسادنا في سعة:

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته     أتعبت نفسك فيما فيه خسران

أقبل على الروح واستكمل فضائلها     فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

أما ترون حينما ينام الإنسان، إذا تعب الإنسان في عمله، أو سفره، أو مذاكرته؛ فإنه يحصل له إرهاق وتعب، ويشعر بانحطاط في قواه، ووهن في عضلاته وهو يريد أن يرتاح، فما الذي يحصل لو أراد الإنسان أن يرتاح هكذا بدون نوم؟ كلما نام جاء شخص وأيقظه، وهو مستلقٍ على السرير، يقول له: استرح لكن لا تنم؟

أنت تريد أن ترتاح من العمل والتعب فخذ راحتك على السرير، ولكن إياك أن تنام، وكلما نام صب عليه الماء، ما رأيكم هل يرتاح هذا النائم؟! لا وإنما يرتاح إذا نام، لماذا؟ يقول العلماء: لأن الروح الراكب تنزل من المركوب، فيجد الجسد راحة من عدم ركوب الراكب، ولذا الإنسان إذا تعب طول يومه ثم نام ساعة أو نصف ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات، يقوم بعد النوم وهو نشيط كأنه ما عرف التعب، فما الذي حصل له؟ هل دخل في ورشة النوم؟! لا يوجد فيه ورشة، إنما الذي حصل أن الروح نزلت من هذا الجسد وبعدت في إجازة قصيرة لكنها سوف تعود، أما لو ذهبت ولم تعد فقد أصبح هذا موتاً، ولذا إذا أتيت إلى النائم بالرائحة عند أنفه يشمها فلا يشمها رغم أن حاسة الشم موجودة، وتأتي إليه بالأصوات الخفيفة عند أذنه فلا يسمعها، وتفتح عينه وتمرر أمامه أجساماً فلا يراها.

أجل العين ليست هي التي ترى، والأذن ليست هي التي تسمع، والأنف ليس الذي يشم، ولو وضعت في فم النائم قطعة سكر ما أحس بها، تريد أن تنادي الذي يشم، ويسمع، ويرى ويتذوق أين هو؟ ليس موجوداً الآن، تريد أن تناديه؛ أيقظه وقل له: فلان.. فلان، فإذا استيقظ فأعطه الرائحة يشمها، وأعطه الشيء يراه، ما الذي كان غائباً؟ الروح، إذا ذهبت الروح نزل الراكب من على الجسد فيرتاح الإنسان، وإذا رجعت بقي، مثل الآن الذي يركب سيارته باستمرار ولا يتوقف لابد أن يريحها، والذي يركب حماره ويسافر من أرض إلى أرض دائماً وما ينزل من على حماره سيموت الحمار، وكذلك هذه الروح.

هذه الحياة كلها؛ لذتها وطعمها في حياة الروح، وإذا حُرِم الإنسان من غذاء الروح -الغذاء الإيماني- عاش في عذاب وشقاء، ولذا ترون البشرية اليوم في الشرق والغرب، في أوروبا وأمريكا بلغوا من التطور والتقدم والاكتشافات العلمية ما لا يصدقه العقل، أراحوا الجانب الجسدي لأبعد درجة، لدرجة أنه في أمريكا يقال: في المناطق الباردة ينامون وعليهم بطانيات كهربائية يضبط العيار عنده فيجعله مثل الخيمة الصغيرة، ويربط (الفيش) بالكهرباء وبعد ذاك عنده عيار يضبط به درجة الحرارة، كم يريد من الحرارة. عشرين .. ثلاثين، وينام طوال الليل على هذا، بالرغم من هذا التكييف الذي يحصل له، وبالرغم من أن كل شيء في الدنيا مهيأ إلا أنهم في عذاب، حتى إن أعلى دول العالم نسبة في الانتحار هي أعلى دولة نسبة في التقدم والرقي وهي الدول الإسكندنافية: الدنمارك والسويد والنرويج أعلى نسبة الانتحار فيها؛ لأنهم ما وجدوا السعادة ولا الراحة في كل ما حققوه لأنفسهم من الماديات، فلما لم يجدوا راحة بل وجدوا أنهم في ضيق تخلصوا من الحياة بالانتحار.

يفكر أحدهم ويقول: أنا لماذا أعيش؟ فيقول: أنا أعيش من أجل أن أموت، فما دام أني أعيش من أجل أن أموت فأموت من الآن، لماذا أجلس سنة أو سنتين أو عشر وأنا آكل وأشرب وأصبح وأمسي حتى أموت، فيقفز قفزة إلى الموت ليتخلص من هذه الحياة، لكن الذي يقدم لك الراحة والطمأنينة، وينزع من قلبك القلق والاضطراب والحيرة، ويوجد في قلبك الاستقرار والأمان هو الإيمان، هو دين الله عز وجل، هي الهداية.

ولا تسعد في هذه الدنيا إلا بالهداية؛ لأن من الناس من يتصور أن آثار الدين فقط في الآخرة، ولهذا يقول: الدين سيحرمني من لذات الدنيا، فأنا أتمتع فيها والآخرة بعد ذلك، وهذا خطأ، الدين آثاره معك في الدنيا قبل الآخرة، والكفر معك آثاره في الدنيا قبل الآخرة، الكفر يزرع في قلب الإنسان الخوف والقلق، والحيرة والضلال، والتيه وعدم الرضا، مهما شبع ومهما ولغ من الشهوات؛ لكنه لا يجد الراحة والطمأنينة .. إن كانت أموال فهي عليه وبال، يقول الله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55] إن كن زوجات وأولاد يقول الله عز وجل: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] ليس بديلاً للإيمان شيءٌ في هذه الحياة، فلا يوجد في الدنيا بديل للإيمان لإسعاد الإنسان في هذه الحياة.

عند الموت هناك الساعات الحرجة، وهناك يقال:

ستعلمي حين ينجلي الغبار     أفرس تحتك أم حمار

هناك تنكشف الأغطية يقول الله: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22].

عند لحظات الموت للإنسان المؤمن فإنه يتعرف على ثمرة الإيمان، ويحمد الله الذي هداه إلى الإيمان، وثبته بالإيمان بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وفي القبر يجيب، وجنانه ثابت، ولسانه طلق ويقول: ربي الله وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، ويوم القيامة يُبعث أبيض الوجه يقرأ كتابه بيمينه، ويقول: هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20] ويمر على الصراط كالبرق الخاطف، ويوزن عمله فيرجح ميزانه، ثم يرد الحوض على النبي صلى الله عليه وسلم فيشرب شربة لا يظمأ بعدها أبداً، هذا الحوض كيزانه وأوانيه عددها كعدد نجوم السماء، وماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منه شربة واحدة لم يظمأ بعدها أبداً.

ثم بعد ذلك يدخل الجنة ويقال له: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:70-71] في نعيم أبدي سرمدي، هذه كلها هي ثمرة الإيمان والعمل الصالح.

أما الكفر مع المال، أو الملك، أو الجاه، والأولاد فهذه لا تنفع شيئاً، بل تكون على صاحبها وبالاً في الدنيا والقبر، وعند الموت لا ينفعك المال ولا الأولاد ولا الجاه، وفي القبر لا تدخل القبر بمالك أو بكرسيك أو وظيفتك أو ملابسك أو ببدلة رسمية أو بنجوم أو بأولاد أو بأحد معك: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94] ثم بعد ذلك يوم القيامة تأتي في السؤال فلا تعرف، من ربك ما دينك من نبيك؟ لأنك ما ثبت على الدين هنا فلا تثبت على الجواب هناك وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

ويوم القيامة يقوم الإنسان فزعاً مذعوراً خائفاً؛ لأنه قد أمن الله في الدنيا فيخوفه الله يوم القيامة، فلا يجمع الله على عبده أمنين، ولا خوفين، من خاف الله في الدنيا أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] أما من أمن هنا فهناك الخوف الذي يقطِّع قلوبهم والعياذ بالله: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [المعارج:44] ذلة وخوف ومهانة يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج:43-44].

ويأتون إلى الصراط كي يعبروا عليه فلا يمكنون من العبور؛ وأنهم لا يجدون وسائل نقل من العمل الصالح، وهذا ليس عنده شيء ولو كان هنا عنده ملايين، ولو عنده سيارة مرسيدس آخر موديل، وعمارة، ووظيفة، لكنه تركها وراءه وما أخذها معه إلى الآخرة، فيأتي على الصراط يريد مرسيدس، ولكن لا يمشي هناك إلا العمل وليس معه عمل، فماذا يحصل؟

من أول خطوة يضعها على الصراط يسقط، فيهوي في النار -والعياذ بالله- وبعد ذلك يريد أن يأخذ كتابه بيمينه ويريد أن يأخذ الجنة حتى بالكذب، ويرى أهل الإيمان يأخذون كتبهم بأيمانهم فيمد يمينه فتضربه الملائكة بمطرقة من حديد على كتفه فتخر يمينه فليس له يمين، فلا يستطيع أن يأخذ إلا بالشمال، فإذا أخذ كتابه بشماله قال: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:25-27] يقول: ليتني مت وما بعثت، ثم يتذكر ما الذي أضله وألهاه في الدنيا فيقول: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ [الحاقة:28] كان يلهث وراء المال كالكلب لا يشبع من كثير ولا يقنع بقليل، مثل جهنم: هل من مزيد.

وطالب الدنيا مثل شارب البحر، كلما ازداد شربه ازداد عطشه، يملأ بطنه فيزداد ويلتهب جوفه، وهكذا طالب الدنيا مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29] أي: ذهب عني السلطان، وذهبت عني الوظيفة، وذهبت عني المنزلة والمنصب والجاه، ويسترحم ولكن لا يرحم يقول الله: خُذُوهُ هذا الكذاب هذا الفاجر خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة:30] والغل هو وضع القيد في الرقبة مع اليدين والقدمين، توضع يديه مع قدميه في رقبته في غل واحد ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:31-32] اسلكوه: تدخل السلسلة من فمه وتخرج من دبره، ينظم فيها كما تنظم الخرزة في المسبحة، لماذا؟ قال: إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:33-37] أعاذنا الله وإياكم من ذلك، ويأتي يريد أن يزن أعماله وليس معه شيء، ما عمل إلا السوء -والعياذ بالله- فيرجح ميزانه بالسيئات.

وبعد ذلك يرد الحوض فتطرده الملائكة من بعيد، ما له طريق إلى الحوض، ثم يكردس في النار، أعاذنا الله وإياكم من النار كما قال الله عز وجل: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:71-72].

هذه آثار نعمة الإيمان، فهل هناك أعظم من هذه النعمة؟ لا والله، والله إن الأحرى والأجدر بالعاقل ألا يشتغل عن الآخرة وأن يجعل همه في كيف يحصِّل نعمة الإيمان، ثم كيف يثبت عليها.

أما كيفية تحصيل هذه النعمة؛ فسبيلها سهل، وطريقها يسير، كما يقول ابن القيم : هلمَّ لتدخل على الله من أقرب الطرق وأوسع الأبواب؛ لأن من الناس من يريد الهداية ولكن الشيطان يضخمها عليه، ويقول له: أنت لا تستطيع أن تهتدي، والدين ثقيل وكبير جداً، ولا مانع من أن تتدين لكن لا تأخذ الدين بعروقه -كما يقولون- وإنما خذ ورقة من رأس الدين، وعندها هل سيكون معك دين؟

إذا أردت أن تزرع شجرة في بستانك فماذا يتطلب الأمر منك؟

أن تأخذ (الشتلة) بعروقها، لكن لو جئت تأخذ من رأس الشجرة ورقة وتغرسها في البستان، فهل تغرس لك شجرة؟ لا. لابد أن يؤخذ الدين بكليته، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] لا يوجد دخول جزئي أو نصفي، أو فيما أريد وأترك ما لا أريد فلا آخذ من الدين، إلا الذي يوافقني، لا. لابد أن تأخذ الدين جملة واحدة؛ لأن التشليح في الدين لا يصلح، هل تأخذ سيارة ناقصة، لو جئت تشتري سيارة، وجئت تنظر إلى الإطارات وإذا بالإطار فيه ثلاثة مسامير والرابع ليس موجوداً فيعتبر هذا عيباً فيها، فلن تشتريها، وإذا اشتريتها تذهب بها على أن تكمل النقص، لا تريد أن تمشي في سيارتك وهي تنقص مسماراً واحداً، لكن من الناس من يريد ديناً؛ لكن ليس معه من الدين إلا ما يعادل مسماراً واحداً، بعض الناس ما معه من الدين إلا (البوري)، يعني: معه إسلام لكن ليس فيه شيء، لو نظرنا إلى شخص ركّب له في رأسه (بوري) ووضع له (حجاراً) ويمشي في الشارع ويضرب (بوري) نقول: ما هذا؟ يقول: سيارة أما تنظرون إليها؟ نقول: والله هذا مهبول وليس معه عقل، ومن الناس من ليس معه من الدين إلا المساحات، أو العيون.

الهداية لا تعني العصمة من المعاصي

نحن لا ندعي أن صاحب الدين كامل لا يعصي الله عز وجل، لا. فالعصمة للأنبياء، والعاصم هو الله، لكن نعني أنك تضع نفسك وتخضع كل حياتك لدين الله، عينك تخضعها للدين فلا تنظر بها إلى الحرام، وإذا نظرت مرة تستغفر وتتوب، أما أن تخصص عينيك للشر وللشيطان وأنت تصلي في المسجد فهذا حرام، لكن من يوم تخرج من صلاة العصر إلى المغرب وأنت في المعارض والأسواق تتتبع أعراض المسلمين، وتتلصص على محارمهم، وتملأ عينيك من الحرام وتقول: يا شيخ! أنا أصلي والحمد لله!

نعم. صليت ولكنك ما اتقيت الله في هذه العين، والله يقول: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].

أنت تخضع عينيك لدين الله ولكن لست بمعصوم، فقد تقع منك زلة و(قد) هنا لما يستقبل من الزمان على التقليل، وقد يقع منك شيء، فإذا وقع شيء تقول: أستغفر الله وأتوب إليه، ولذا شرع الاستغفار وشرعت التوبة، وبيّن الله أنه غفور رحيم، ولا يكون كذلك إلا لمن يخطئون ويذنبون؛ لأن هذه صفة من صفات الله، قال عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

معنى الدخول الكلي في الدين أنك تقول: يا رب أنا عبدك وأنت خالقي وسيدي ومولاي وإلهي، وأنا عبدك خاضع بين يديك، أخضع كل حياتي لأمرك، فعيني لا أنظر بها إلا ما تريد، وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عن ربه عز وجل قال: (يقول الله تبارك وتعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بعمل أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) إذا أحبك الله أصبحت عبداً ربانياً، لا تسمع إلا ما يحبه الله (كنت سمعه الذي يسمع به) هل تسمع شيئاً يغضب الله؟ لا. لماذا؟ لأن أذنك هذه ربانية.

(وبصره الذي يبصر به) تصبح عينك هذه عيناً ربانية مهتدية؛ لأنها تبصر بالله، هل يمكن أن تبصر حراماً؟ لا.

(ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه)

لا بد من الدخول الكلي بكل جوارحك، بسمعك، وبصرك، ولسانك، وبطنك، وفرجك، وقدمك، ويدك، تخضع نفسك لله، وتمشي في الخط، هذا معنى الاستسلام لله، الإسلام هو: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك والبراءة من أهله؛ هذا معنى الإسلام.

فرح الله بتوبة العبد

يقول ابن القيم: هيا إلى الدخول على مولاك، فإنه أشد فرحاً بعودتك من رجل فرت عليه ثم وجدها كما جاء في الحديث: (كان في فلاة ومعه راحلته، وعليها زاده ومتاعه، فضلت عنه ولم يجدها، فبحث عنها حتى أيس منها، فنام تحت ظل شجرة ينتظر الموت فردها الله عليه، فلما أفاق وإذا بها واقفه عند رأسه عليها متاعه وزاده وماؤه فقال من شدة الفرح...) لأنه كاد أن يموت حقيقة، إذا ما رجعت لمات، لكن كان في رجوعها حياة له، فكأنه قد حكم عليه بالموت والإعدام والله أعتقه.

ما رأيك في هذا الإنسان؟ إنسان حكم عليه بالقصاص وأخرج إلى السوق في ساعة الإعدام، ونزل من السيارة، ورأى (العساكر) مصطفة، ورأى الجموع محتشدة، وهو موثق بالقيود يساق إلى ساحة الإعدام، ووضع في القيد وقرأ عليه الحكم، وقبل إطلاق الرصاص عليه أو ضرب رأسه بالسيف قال له صاحب الدم: فكوه، هو معتوق لوجه الله، ما رأيكم في فرحة هذا الإنسان؟ هل يمكن أن تقاس؟ لو أخذنا شريحة من قلبه وحللناها كيف سيكون وضعه؟ وكيف هي نفسيته؟ هل في الدنيا أسعد منه وأعظم حالة منه في تلك اللحظات؟ لا. فهذا الرجل لا يوجد في الدنيا أعظم حالة منه لما كان سيموت، ويوم استيقظ وإذا بالراحلة موجودة عند رأسه فقام وقال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من فرحة هذا الرجل براحلته) لا إله إلا الله ما أعظم حلم الله، وما أعظم عفوه ورحمته! يفرح بك ربك إذا رجعت إليه أعظم من فرحة هذا الرجل الذي كاد أن يموت، أي فرح هذا، وأي نعمة هذه من الله عز وجل.

كيفية إصلاح الأزمنة الثلاثة بالعمل الصالح

أنت يا إنسان! بين ثلاثة أوقات -أنا وأنت وكل كائن على وجه الأرض بين ثلاثة أزمنة- زمن مضى، وزمن مستقبل، وزمن حاضر، هل هناك غير هذه الأوقات الثلاثة؟

قال: أما الماضي كله فتصلحه بالاستغفار والتوبة، وهذا عمل قلبيٌ ولا تعب فيه، فلو أن الله كلفنا بأن أي ذنب عملته لابد أن تكفر عنه، وأي صلاة تركتها لابد أن تقضيها، وأي صوم ما صمته لابد أن تصومه، وكل كلمة قلتها تجازى عليها، لكن من رحمة الله تبارك وتعالى أنك إذا عملت أي عمل، أو أسأت أي سيئة، أو قصرت أي تقصير في الماضي ثم تبت فإن الله يغفر الذنوب جميعاً، يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان:68]قتل وإراقة دم وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68] زنا وفاحشة وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:68-70] الماضي تستغفر الله فيه، وتتوب إلى الله من الذنوب والله يغفرها ويقلبها حسنات، هذا فضل أم ليس بفضل؟ أتعبٌ أن تقول: أستغفر الله؟ أم مشقة أن تقول: أتوب إلى الله مما عملت؟

لا والله ليس فيه تعب ولا مشقة، هذا الماضي كله.

والمستقبل: قال: والمستقبل تصلحه بالنية الحسنة؛ بأن تعزم على ألا تعصي الله، وهل في هذا تعب أن تعزم وتنوي بأنك لن تعمل سيئة؟ ليس فيه تعب، عمل قلبي ليس فيه مشقة عليك، ماذا بقي؟ ما دام ذهب الماضي، وذهب المستقبل ما بقي إلا الحاضر، ما هو الحاضر؟

لحظتك هذه التي أنت فيها يقول:

ما مضى فات والمؤمل غيب     ولك الساعة التي أنت فيها

الساعة التي أنت فيها الآن اجتهد فيها ألا تعصي الله، وأن لا تضيع أمر الله فقط، هل في هذا تعب؟ لا والله ليس فيه تعب، يقول معاذ بن جبل -والحديث في سنن الترمذي وسنن أبي داود وهو حديث صحيح- قال: (أصبحت في سفر وناقتي بجوار ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله! أخبرني عن عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج بيت الله الحرام ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال له: ألا أدلك على أبواب الخير؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17]ثم قال: يا معاذ ! ألا أدلك على مِلاك ذلك كله -ألا أدلك على السور الذي يجمع لك أركان الإسلام، وعموده وذروة سنامه ورأسه، ويجمع لك أبواب الخير كلها- قلت: بلى يا رسول الله! قال: كف عليك هذا وأخذ بلسان نفسه، قال: قلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).

إن طريق الهداية سهلة جداً، ويسيرة على من يسرها الله عليه، وهي أنك تعلن التوبة والاستغفار من ذنوبك وخطاياك التي قد اقترفتها في الماضي مهما كثرت؛ لأنها ليست كثيرة على الله، يقول سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ [الزمر:53]، يقول الواحدي رحمه الله كما في تفسير ابن كثير: إن هذه أرجى آية في كتاب الله، أولاً: قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (قل: يا عبادي)، و(عبادي) هنا عبارة فيها تلطف وتشويق أنه: يا مذنبين ما زلتم عبادي، يا مسرفين في الذنوب ما زلتم عبادي.

(قل: يا عبادي) يدعوهم الله، وبعد ذلك يصفهم أنهم الذين أسرفوا أي: أكثروا من الذنوب والخطايا والمعاصي: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53] (إن) هنا حرف توكيد ونصب، فأكد ربنا تبارك وتعالى مغفرة الذنوب بهذا المؤكد، ثم أكد بتوكيد لفظي أخير قال: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53] أي: مهما كثرت، ثم قال تذييلاً مناسباً: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] أي: فلا تستغربوا يا أهل الذنوب، ويا أهل الآثام، ويا أهل الإسراف؛ لا تستغربوا أن الله يغفر الذنوب؛ لأنه هو الغفور الرحيم، فمهما كثرت الخطايا والذنوب والمعاصي من زنا أو من خمور أو لواط أو شرك أو عقوق أو فجور أو أي شيء من الذنوب فإن الله يغفرها كلها: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].. نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49-50].

فعليك أن تتوب إلى الله تبارك وتعالى مما كان في الماضي، ولا يوجد في الدنيا من يقول: أنا لا أستطيع أن أستغفر، أو لا أستطيع أن أقول: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه؛ إلا رجل محروم شقي ليس فيه خير، هذا الذي لا يستغفر ولا يتوب إلى الله، هذا لا يريد الله، ولا يحب الله، ولا الجنة، نقول له: الماضي كله بذنوبه يذهب، بل يبدل الله سيئاتهم حسنات، إذا كان عليك مليون سيئة يجعلها الله مليون حسنة، أي فضل هذا -أيها الإخوة- وأي كرم؟

لو أن عندك شخص أسأت إليه، كأن سرقت عليه ألف ريال -مثلاً- وبعد ذلك اعترفت في يوم من الأيام وأتيت عنده وقلت: يا أخي أنا كنت في يوم من الأيام في دكانك وسرقت عليك ألف ريال، والآن أشعر بصحوة في ضميري وأخاف من لقاء ربي، ولذا أنا أعترف لك بأن عندي ألف ريال، فأنا جئت بهذه الألف لك، وأنا أريدك أن تعفو عني، إذا كان كريماً جداً فسيقول لك: سامحك الله، وفلوسنا رجعت والحمد لله، وإذا كان كريماً وأعز قليلاً فسيقول لك: جزاك الله خير وسامحك الله، والله أنا لا أعلم عن هذه الألف، لكن ما دام أن فيك خيراً وجئت من أجل صحوة الضمير فالألف لك سامحك الله، لكن هل هناك شخص في الدنيا يعطيك الألف ويقول: هذه ألف أخرى من عندي جائزة؟! لكن أكرم الأكرمين تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً ويبدلها كلها حسنات، فليس هناك شخص يأتي ويقول: لا أستطيع أن أستغفر، بل تستطيع أن تستغفر إذا كنت تريد الهداية.

والمستقبل: لا يوجد شخص يستطيع أن يقول: لا أستطيع أن أنوي الخير، لماذا؟ قل: إن شاء الله ما أسرق، ولا أزني، ولا أترك فريضة، ولا أعق والدي، أسأل الله أن يعينني، وبهذا تكون قد أصلحت الماضي والمستقبل.

بقي معك الحاضر فاجتهد فيه، إذا خرجت من المسجد ورأيت امرأة فغض بصرك؛ لأن الله يراك، إذا دخلت البيت وسمعت أغنية فأغلقها؛ لأن الله يسمعك في هذه اللحظة ويراك، أو عُرض عليك حرام فلا تأكله؛ لأن الله عز وجل يعلم حالك، فإذا أذن المؤذن فقم إلى المسجد ولا تنم؛ لأن الله يراك، فإذا ظللت على ذلك يوماً ثم يومين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة.. فستشعر في أول الطريق بنوع من الوحشة والضيق؛ لأنك تتعود على أمر لم تتعوده، لكن دائماً كل الطريق تسير في أولها يكون ففيها صعوبة أليس كذلك؟

الطفل الصغير إذا بدأ يمشي كيف يمشي؟ أيجري مباشرة أم كيف يفعل به أهله؟ يوقفونه أول شيء، وينظرون أنه أتى بشيء من الدنيا، وبعد ذلك يأتي أبوه يقول: تعال فيأتيه يخطو الأولى، لكن لا يستطيع أن يأخذ رجله، فيمد له أبوه أصبعه يمسكها وينقل الخطوة الثانية بعد مشقة، هذا أول يوم، وثاني يوم ينقل الثانية، وبعد أسبوع يمشي، وبعد شهر يمكن يخرب البيت كله، وتقول أمه: اربطوه برجله، وهي من قبل كانت تقول: يا رب تمشيه يا رب تسيره، لكن إذا مشى أشاهد بعض الأمهات تربطه بحبل تقول: مؤذٍ.

نحن لا ندعي أن صاحب الدين كامل لا يعصي الله عز وجل، لا. فالعصمة للأنبياء، والعاصم هو الله، لكن نعني أنك تضع نفسك وتخضع كل حياتك لدين الله، عينك تخضعها للدين فلا تنظر بها إلى الحرام، وإذا نظرت مرة تستغفر وتتوب، أما أن تخصص عينيك للشر وللشيطان وأنت تصلي في المسجد فهذا حرام، لكن من يوم تخرج من صلاة العصر إلى المغرب وأنت في المعارض والأسواق تتتبع أعراض المسلمين، وتتلصص على محارمهم، وتملأ عينيك من الحرام وتقول: يا شيخ! أنا أصلي والحمد لله!

نعم. صليت ولكنك ما اتقيت الله في هذه العين، والله يقول: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].

أنت تخضع عينيك لدين الله ولكن لست بمعصوم، فقد تقع منك زلة و(قد) هنا لما يستقبل من الزمان على التقليل، وقد يقع منك شيء، فإذا وقع شيء تقول: أستغفر الله وأتوب إليه، ولذا شرع الاستغفار وشرعت التوبة، وبيّن الله أنه غفور رحيم، ولا يكون كذلك إلا لمن يخطئون ويذنبون؛ لأن هذه صفة من صفات الله، قال عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

معنى الدخول الكلي في الدين أنك تقول: يا رب أنا عبدك وأنت خالقي وسيدي ومولاي وإلهي، وأنا عبدك خاضع بين يديك، أخضع كل حياتي لأمرك، فعيني لا أنظر بها إلا ما تريد، وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عن ربه عز وجل قال: (يقول الله تبارك وتعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بعمل أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) إذا أحبك الله أصبحت عبداً ربانياً، لا تسمع إلا ما يحبه الله (كنت سمعه الذي يسمع به) هل تسمع شيئاً يغضب الله؟ لا. لماذا؟ لأن أذنك هذه ربانية.

(وبصره الذي يبصر به) تصبح عينك هذه عيناً ربانية مهتدية؛ لأنها تبصر بالله، هل يمكن أن تبصر حراماً؟ لا.

(ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه)

لا بد من الدخول الكلي بكل جوارحك، بسمعك، وبصرك، ولسانك، وبطنك، وفرجك، وقدمك، ويدك، تخضع نفسك لله، وتمشي في الخط، هذا معنى الاستسلام لله، الإسلام هو: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك والبراءة من أهله؛ هذا معنى الإسلام.

يقول ابن القيم: هيا إلى الدخول على مولاك، فإنه أشد فرحاً بعودتك من رجل فرت عليه ثم وجدها كما جاء في الحديث: (كان في فلاة ومعه راحلته، وعليها زاده ومتاعه، فضلت عنه ولم يجدها، فبحث عنها حتى أيس منها، فنام تحت ظل شجرة ينتظر الموت فردها الله عليه، فلما أفاق وإذا بها واقفه عند رأسه عليها متاعه وزاده وماؤه فقال من شدة الفرح...) لأنه كاد أن يموت حقيقة، إذا ما رجعت لمات، لكن كان في رجوعها حياة له، فكأنه قد حكم عليه بالموت والإعدام والله أعتقه.

ما رأيك في هذا الإنسان؟ إنسان حكم عليه بالقصاص وأخرج إلى السوق في ساعة الإعدام، ونزل من السيارة، ورأى (العساكر) مصطفة، ورأى الجموع محتشدة، وهو موثق بالقيود يساق إلى ساحة الإعدام، ووضع في القيد وقرأ عليه الحكم، وقبل إطلاق الرصاص عليه أو ضرب رأسه بالسيف قال له صاحب الدم: فكوه، هو معتوق لوجه الله، ما رأيكم في فرحة هذا الإنسان؟ هل يمكن أن تقاس؟ لو أخذنا شريحة من قلبه وحللناها كيف سيكون وضعه؟ وكيف هي نفسيته؟ هل في الدنيا أسعد منه وأعظم حالة منه في تلك اللحظات؟ لا. فهذا الرجل لا يوجد في الدنيا أعظم حالة منه لما كان سيموت، ويوم استيقظ وإذا بالراحلة موجودة عند رأسه فقام وقال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من فرحة هذا الرجل براحلته) لا إله إلا الله ما أعظم حلم الله، وما أعظم عفوه ورحمته! يفرح بك ربك إذا رجعت إليه أعظم من فرحة هذا الرجل الذي كاد أن يموت، أي فرح هذا، وأي نعمة هذه من الله عز وجل.




استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2924 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2921 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2800 استماع
أمن وإيمان 2672 استماع
حال الناس في القبور 2671 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2596 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2568 استماع
النهر الجاري 2472 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2464 استماع
مرحباً شهر الصيام 2394 استماع