علاقة الروح بالجسد


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قبل البدء في الموضوع الذي سنتكلم فيه، أحب أن أشير إلى السنن الرواتب وأهميتها في الإسلام، ففي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى في يومٍ اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة).

وهذه الاثنتي عشرة ركعة أخبر بها أهل العلم نقلاً من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، هي: أربع ركعات قبل صلاة الظهر، واثنتين بعدها، واثنتين بعد صلاة المغرب، واثنتين بعد صلاة العشاء، واثنتين قبل صلاة الفجر، فيصبح المجموع اثنتي عشرة ركعة.

وابن القيم رحمه الله تعالى يقول في كتابه: زاد المعاد في هدي خير العباد : "إن من يطرق باب ربه في كل يوم أربعين مرة لجدير أن يفتح له".

المعروف أن عدد ركعات الفرائض الخمس هي: سبع عشر ركعة، اثنتين في الفجر، وأربع في الظهر، وأربع في العصر، وثلاث في المغرب، وأربع في العشاء: سبعة عشرة ركعة هذه ركعات الفريضة، وعلى فرض أن الإنسان أدى اثنتي عشرة ركعة يكون مجموعها مع الفرائض: تسعاً وعشرين ركعة، وثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في صلاة الليل في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة).

فإحدى عشرة ركعة لقيام الليل مع الوتر، واثنتا عشرة ركعة الرواتب، وسبع عشرة ركعة فرائض، فيكون المجموع: أربعين ركعة، وفي كل ركعة ركن من أركانها، وهي قراءة سورة الفاتحة.

مكانة سورة الفاتحة من الصلاة

سورة الفاتحة هي الشاملة الجامعة الشافية الكافية التي تكفي عن القرآن كله ولا يكفي القرآن كله عنها، فلو أن إنساناً صلى وبدأ بسورة البقرة وختم بسورة الناس ولم يقرأ الفاتحة لكانت صلاته باطلة وغير صحيحة، ولو أن إنساناً افتتح بسورة الفاتحة فقط ولم يقرأ بعدها شيئاً من القرآن لكانت صلاته صحيحة، فالفاتحة تُغني عن القرآن ولا يغني عنها القرآن كله، يقول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87] فذكرها الله عز وجل مقدمة لوحدها، وامتنَّ بها على رسوله صلى الله عليه وسلم، والقرآن العظيم أيضاً آتاه الله محمداً صلى الله عليه وسلم.

في كل ركعة من ركعات الصلاة وفي كل آية من سور الفاتحة وأنت تناجي ربك، تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] كما جاء في الحديث: (قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله عز وجل: حمدني عبدي، فإذا قال العبد: الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: مجدني عبدي، فإذا قال العبد: مالك يوم الدين، قال الله عز وجل: عظمني عبدي -هذه ثلاث لله، وبقي أربع من السبع- قال: فإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله عز وجل: هذه بيني وبين عبدي) هذه مقسومة، فمنه العبادة ومني الإعانة، وفي قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، تقديم المفعول على الفعل وهو يفيد الاختصاص، ما قال: نستعينك، ولا قال: نعبدك، وإنما قال: إياك؛ أي: نختصك يا رب لوحدك عمن سواك بالعبادة، ونختصك أيضاً بالاستعانة فلا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك، فيقول الله عز وجل: (هذه بيني وبين عبدي فمنه العبادة ومني الإعانة) فوالله لولا أن الله أعانك على العبادة ما عبدته.

والله لولا الله ما اهتدينا     ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينـا     وثبت الأقدام إن لاقينا

والله عز وجل يقول: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] ومن لوازم العبادة أن تطلب من الله عز وجل كل حوائجك وجميع شئونك، وأعظم حاجة لك وأعظم شأن أن تفوز به في الدنيا والآخرة: أن تطلب منه أن يعينك على العبادة كما تطلب منه أن يعينك على الرزق وأمور الحياة، واطلبه في كل حين ووقت على أن يعينك على عبادته، فتقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فيقول الله: (هذه بيني وبين عبدي). (فإذا قال العبد: اهدنا الصراط المستقيم) أي: دلنا وأرشدنا وأقمنا على الصراط المستقيم، وكأن سائلاً يقول: وأي صراط تعنون؟ وأي طريق تريدون؟ إنها طرق، وشعاب، وفجاج، ولكن هناك طريقاً واضحاً؛ طريقاً أبلج ليله كنهاره لا يزيغ عنه إلا هالك: عليه الأعلام والمعالم واللوحات الإرشادية، فلا يمكن أن يضل إنسان سار بهذا الطريق، ألا وهو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، كأن سائلاً يقول: أي طريق؟ فيقول الله عز وجل: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أي صراط؟ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] من هم الذين أنعم الله عليهم؟ هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحين؛ هؤلاء الذين أنعم الله عليهم: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء:69] والنبيون لا شك أنهم صفوة أهل الأرض، فقد اختار الله عز وجل هؤلاء الأنبياء والرسل ليكونوا سفراء بينه وبين خلقه؛ فهم صفوة خلق الله، وهم -أيضاً- بينهم درجات في التفاوت، يقول الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] حتى الرسل فيهم تفاضل، وأفضلهم على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد ولد آدم، يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا صاحب اللواء يوم العرض ولا فخر، وأن صاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة ولا فخر) صلوات الله وسلامه عليه صلاة دائمة متتابعة ما تتابع الليل.

موقف الأنبياء في يوم القيامة

أولو العزم من الأنبياء خمسة وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، ويوم القيامة هؤلاء الأنبياء يتخلون عن الشفاعة ويقولون: (إن ربنا اليوم قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله: اذهبوا إلى غيري) يريد الناس وهم يقفون في عرصات القيامة من يشفع لهم إلى ربهم لفصل القضاء؛ لأنهم وقوف في اليوم العظيم الذي طوله خمسين ألف سنة للانتظار فقط، وقضية سنة، أو عشر، أو عشرين، أو مائة، أو ألف .. في التعداد الذهني سهلة .. لكنها في التطبيق صعبة جداً؛ لا يمر اليوم ولا الليلة على الإنسان إلا بصعوبة لولا أن الإنسان يغالط نفسه بكثرة الأعمال والمشاغل والالتزامات، ولو أنه جلس في مكان مثل المسجون فلن تمر عليه الليلة إلا كأنها سنة، فهؤلاء في يوم القيامة لا يمر عليهم اليوم بسهولة؛ لأنه ليس هناك شغل، ولا لعب، ولا أكل، ولا مباريات ولا تمشيات ولا وظائف؛ ليس هناك إلا عرصات حارة، وشمس تدنو من الرءوس تغلي منها أدمغة العباد، والقلوب فارغة، والأنظار شاخصة، والأهوال هائلة، وهم وقوف ينتظرون فصل القضاء، فيأتون إلى الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم، فكل نبي يقول: نفسي نفسي، لا أسألك اليوم إلا نفسي! اذهبوا إلى غيري.

ونحن الآن -ولله المثل الأعلى- إذا كان المدير غضبان وأراد رجل أن يقضي حاجةً من عند المدير، فإنه يختار أولاً لقضاء هذه الحاجة أحب الناس إلى المدير، يقول: يا فلان! أنا أريد حاجة وأريد منك أن تدخل معي إلى المدير، أو تيسرها عن طريقك، فالمدير لا يرد لك طلباً، فهذا الوسيط سواء كان موظفاً أو قريباً لهذا المسئول لا يأتي المدير إلا في أحسن أحواله النفسية، إذا جاء إلى السكرتير قال: لابد أن أدخل إلى المدير، ماذا يقول له السكرتير؟ يقول: لا. أرجوك لا تأتي اليوم اذهب فالمسألة خطيرة .. المدير غضبان إلى أبعد درجة؛ إذا دخلت عليه فإنه سيصرخ في وجهك؛ فلا يمكن أن يدخل الإنسان، لكن إذا جاءه ودخل عليه وقال له: كيف الأجواء؟ قال: -أربعة وعشرون قيراطاً- المدير مبسوط! زار اليوم جميع المكاتب ورأى ما يسره، ورأى العمل يسير في الخط الصحيح، فهو مبسوط! ادخل الآن .. اطلب تجد .. فربنا يوم القيامة وله المثل الأعلى يغضب، ومن غضبه أنه يدمر الكون كله: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ *وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الأنفطار:1-4]. ويقول الله عز وجل: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير:1-7].

أحداث هائلة جداً! تهز القلوب! وهذه تكون كلها يوم القيامة، فالقضية ليست قضية عادية، فيوم القيامة تكون الدنيا كلها على غير الوضع الأول: القبور بعثرت، والناس حشرت، والأمور كلها في غير وضعها الطبيعي، والله عز وجل قد أذن بالجزاء -أذن بفصل القضاء- فلا يوجد أحد يستطيع أن يأتي إلى الله ليسأله الشفاعة، وكل إنسان يقول: نفسي نفسي: لا أسألك اليوم إلا نفسي، ففي هذه اللحظات يأتون إلى نوح .. فيقول: إن لي دعوة وقد استنفذتها ودعوت على قومي، وقلت: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26] وانتهت دعوتي، ثم يأتون إلى إبراهيم عليه السلام، فيقولون له: يا إبراهيم: أنت خليل الله عز وجل وأنت أبو الأنبياء .. اشفع لنا إلى ربنا، فيقول: إني قد كذبت ثلاث كذبات، وإن ربي قد غضب اليوم غضباً لا أستطيع على مواجهته. أتدرون ما كذبات إبراهيم عليه السلام؟ يقول المفسرون: إن كذبته التي ظنها كذبة هي في الحقيقة ليست بكذبة، لكن موازين الأنبياء ومقاييسهم حساسة إلى أبعد الدرجات.

قال العلماء: الأولى لما خرجوا في يوم عيدهم ليذبحوا لأصنامهم ولآلهتهم، قالوا له: هيا معنا، هيا يا إبراهيم، ماذا قال؟ قال: إني سقيم؛ يقول: أنا مريض اليوم ولا أستطيع أن أخرج، وحق له أن يكون مريضاً! وقد كان مريضاً، أي: ذو كبدٍ مقروحة على الدين؛ لأنهم كانوا يعبدون غير الله، ففي قلبه لوعة وحرقة، وهذا شأن المؤمن الذي يتألم ويتقطع قلبه حينما يرى حدود الله تنتهك، وشريعة الله لا تحكم، وفرائض الله لا تؤتى، إنه يتقطع ويذوب قلبه في جوفه كما يذوب الملح في الماء، أما صاحب الإحساس البارد، والدم -والعياذ بالله- المتجمد؛ فإنه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ولا يتمعر وجهه في الله عز وجل -لا يغار ولا يغضب لله- هذا قلبه متقطع، وقال: إني مريض في قلبي، أنا مقروح في كبدي! أنا لا أستطيع أن أخرج معكم في عيدكم، فظنها كذبة صلوات الله وسلامه عليه.

والثانية: أنه لما قدم إلى مصر وكانت معه زوجته سارة ؛ وكانت امرأة ذات جمال، وقد عُرف ملك مصر بأنه رجل شهوانيٌُ خبيث يحب النساء، فلما أخبر عن زوجة إبراهيم طلبها من أجل -والعياذ بالله- أن يفعل بها الفاحشة، فلما جيء بها سأل إبراهيم، قال: ما هي لك؟ فكان إبراهيم ذكي: أي: لو قال: زوجتي لقتله وأخذها، لكن قال له: أختي؛ وهو يعني أنها أخته في الإسلام، إذ ليس على وجه الأرض مسلم إلا هي وهو، فقال: هاتها. نريد أن نأخذها .. طبعاً يستطيع أن يأخذ أخت الشخص لكن لا يستطيع أن يأخذ زوجته، فأخذها وأُمر بإبراهيم إلى السجن، فبقي في قلب إبراهيم ألم شديد على زوجته وغيرة عظيمة على عرضه، ولكن الله حفظه؛ لأنه نبي، فكشف له الحجب بينه وبينها، فكان في السجن وهو يتابع حركاتها وينظر إليها في كل حركة، فلما أُخذت وأُدخلت إلى غرفة النمرود أراد أن يمد يده عليها، فكلما مد يده صلبه الله وجعله كالحديدة الواقفة، فإذا رجع عنها عادت له الحياة، فإذا مد يده تصلب، وإبراهيم يرصد الموقف وهو في السجن، ينظر العملية ليطمئن قلبه ويعلم أن الله عز وجل حفظه في عرضه، وبعد أن مارس التجربة أكثر من مرة، قال: هذه جنية أخرجوها؛ فجاءوا وأخرجوها من عنده، ورجعت إليه.

هذا إبراهيم، يقول: لا أستطيع إني قد كذبت! اذهبوا إلى غيري. فيأتون إلى موسى ويقولون: أنت كليم الله .. فيقول: إني قد قتلت نفساً بغير حق، وإني لا أستطيع، فيقول: اذهبوا إلى عيسى. فيأتون إلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيقول: اذهبوا إلى محمد. ولا يذكر عيسى ذنباً، هكذا في الحديث: ما ذكر ذنباً، لكن قال: اذهبوا إلى محمد.

قال: (فيأتونني -صلوات الله وسلامه عليه- فأسجد تحت العرش وأثني على الله، ويفتح الله عليَّ من المحامد ما لم أكن أعرف، فيقال لي: ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: أمتي أمتي أمتي) يشفع صلوات الله وسلامه عليه لأمته، فالذي يريد أن يكون من أهل شفاعته هو من الذين أنعم الله عليهم، قال عز وجل: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69] النبيين: هذه أعلى درجات البشر، الصديقين: الدرجة الثانية بعد البشر وليسوا بأنبياء؛ لكنهم أقوام اصطفوا وتم اختيارهم، وهم: أتباع الرسل الذين صدقوه، مثل: عيسى، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وبعدها: وَالشُّهَدَاءِ [النساء:69] الشهداء ولو كانوا ما عاصروا الأنبياء، فإنهم في المنزلة الثالثة، وبعدها: وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] ماذا بقي بعد هؤلاء الأربعة؟! لم يبق إلا العصاة والمجرمون واللوطة والزناة والسكارى والقتلة والمرابون -والعياذ بالله- وعاقو الوالدين .. المهم فاعل كل جريمة بقي بعد هؤلاء الأربعة.

علاقة السنن الرواتب بالصراط المستقيم

أنت تقول: دلني يا رب وأرشدني وأقمني على صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، ثم تقول: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] أي: لا تدلني على طريق المغضوب عليهم ولا الضالين. والمغضوب عليهم هم اليهود؛ لأن معهم علمٌ ولم يعملوا به فغضب الله عليهم. والضالون: هم النصارى؛ لأنهم يعبدون الله على جهل وضلال -والعياذ بالله- فضلوا عن صراط الله المستقيم، فاليهود عندهم كتاب، وقد قال الله تعالى فيهم: إنهم يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم، قال: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146] يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم -أي: صفاته كاملة عندهم- لكنهم -والعياذ بالله- غضب الله عليهم؛ لأنهم مكابرون -قوم بهت- يعرفون الحق ولكنهم يرفضونه، ولهذا يقول أحد السلف : (من عصى من علمائنا -أي: الذين يعرفون الدين- ففيه شبه من اليهود، ومن عبد الله على جهل وضلال من عبادنا ففيه شبه من النصارى) وطريق السلامة من اليهود والنصارى أن تعبد الله على علم وبصيرة.

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فإذا قال العبد بعدها: آمين، أي: اللهم استجب، قال الله عز وجل: (هذه لعبدي ولعبدي ما سأل). نسأل الله وإياكم من فضله.

فأنت إذا حافظت على السنن الرواتب وأخذت أقل الوتر -وهي واحدة- فإنك بها تكون قد طرقت باب ربك في كل يومٍ ثلاثين مرة، فإن أخذت بأكثر أنواع الوتر وهو إحدى عشر ركعة تكون قد طرقت باب ربك أربعين مرة، وجدير أن يفتح لك، فإن باب الله عز وجل واسع وهو كريم، ولا يرد من سأله: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] ويقول ربنا تبارك وتعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] وهذا الذي أؤكد عليه؛ لأن هناك بعض التساهل من بعض الشباب حفظهم الله وأصلحهم ووفقهم في أداء السنن الرواتب، فقد تجد كثيراً منهم يصلون الفريضة ثم يخرجون ولا يصلون النافلة، والذي يترك النافلة فإنه سيترك بعد ذلك الفريضة؛ لأن الشيطان وأنت تواجهه يجد عندك خطوط دفاعات، فيجب أن يكون عندك خط دفاع أول، وثانٍ، وثالث، بحيث إذا انهزمت في الخط الأول فعندك خط ثاني، وهذه خطط العسكريين الآن؛ يضعون خطوطاً في مواجهة الأعداء: الخط الأول يسمونه: الخط الحار أو الخط الشاغل أو خط النار، هذا المواجهة باستمرار، والخط الثاني أشد، والخط الثالث أشدها فليس وراءه إلا الموت.

فأنت في مواجهة الشيطان أمام صراعات، يجب أن يكون لك في العبادة خط ناري ساخن وهو الأول واسمه كثرة النوافل؛ ما إن تتاح لك فرصة حتى تصلي.

الخط الثاني الذي إذا هزمت وغلبت وشغلت ولم تستطع فلا تتخل عنه وهو خط الرواتب، إذ لا يمكن أن تترك الراتبة مهما كان عذرك، وشغلك، وكسلك وتعبك؛ لأن الرواتب هذه لا خيار فيها، ولا مساومة عليها، بل الحرص كل الحرص عليها.

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية : عن رجل يصلي الفريضة ولا يؤدي الراتبة؟ قال: ذاك رجل فاسق تُرد شهادته. وأشكل هذا الكلام على بعض أهل العلم حينما سمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث في الصحيحين واللفظ للبخاري : (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن صليت المكتوبات ولم أزد على ذلك شيئاً، أأدخل الجنة؟ قال: نعم، وقال: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) قالوا: هذا الرجل يصلي الفريضة فقط، فكيف نحكم بفسقه، فتأوله رحمه الله وهو من أئمة العلم الهداة الذين لديهم بصائر عظيمة في كشف الأسرار والأدلة من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: إن هذا الرجل صادق، والرسول صلى الله عليه وسلم زكاه، وتزكية الرسول صلى الله عليه وسلم له لا تكون إلا بوحي، وأنه سيحافظ على الفرائض حتى يموت، ولا شك أن من حافظ على الفرائض حتى يموت فهو مسلم يدخل الجنة، لكن الغالب أن من يحافظ على الفرائض فقط ولا يصلي النوافل أنه في نهاية الأمر يترك الفرائض.

وهذا مشاهد ومجرب؛ لأنه ليس عنده إلا خط دفاع واحد، فإذا جاءه الشيطان ليحاربه في الصلاة وتركها أين يرجع؟ ليس هناك إلا الكفر، وليس بعد ترك الصلاة إلا الكفر، ولكن إذا كسلت في النوافل فإنك ترجع إلى الخط الثاني، فإذا هزمك الشيطان وتغلب عليك في لحظة من اللحظات أو وقت من الأوقات وتركت الراتبة فإن معك الفريضة، لكن من يحرص على النافلة والراتبة والفريضة لا يمكن أبداً أن يضيع الفريضة، فهذه اسمها رءوس أموال، ويوجد أرباح سائلة دائماً وكثيرة، فرءوس الأموال: الفرائض، والأرباح الثابتة: هذه الرواتب، والأرباح الكثيرة في المواسم: بقية النوافل.

أهمية السنن الرواتب يوم الحساب

أخي المسلم! إنك لا تعلم يوم القيامة هل تقبل منك فريضتك أم ترد؟ وكما جاء في الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة الصلاة؛ فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن ردت رد سائر عمله) أيضاً: إذا حاسب الله العبد وردت عليه بعض فرائضه ونقصت عليه قال الله تعالى: (انظروا هل لعبدي من نوافل، فإن كان له نوافل أخذت ثم أكملت بها فرائضه، فإن لم يكن له نافلة طرح في النار)والعياذ بالله.

ومن منا يضمن أن يأتي بفريضته كاملة، هل أحد يضمن؟ أعطيكم مثالاً في يومنا هذا: صلينا المغرب ثلاث ركعات، من منا يضمن أنه صلى المغرب ثلاث ركعات ولم تخطر له خاطرة، أي: ولم يحصل له وسواس في شيء من أمور الدنيا؟

الجواب: لا أحد. ليس هناك أحد أبداً .. مستحيل. هل قال شخص: والله إني كبرت تكبيرة الإحرام وسلمت تسليمة الختام، وما خطر في قلبي من التكبيرة حتى التسليم شيء إلا الله والجنة والنار والدار الآخرة والقبر والعذاب، ولم أفكر في زوجة ولا عشاء ولا ولد ولا دراسة ولا سمرة ولا مباراة ولا لعبة ولا سهرة، هل يستطيع أحد أن يقول هذا؟ لا.

ولذا إذا أردنا أن نجري امتحاناً عملياً ونكتب في ورقة ونقسمها على الحاضرين في هذا المجلس -وأنتم الصفوة إن شاء الله- ونقول لكم: السؤال الأول: ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى؟

السؤال الثاني: ماذا قرأ الإمام في الركعة الثانية؟ كل واحد يجيب ويطبق الورقة ويأتي بها لنجري هذا الاستفتاء لنعرف من هم الذين عرفوا قراءة الإمام، وقد أكون وأنا الإمام نسيت ماذا قرأت؛ لأني ربما أقرأ وقلبي ليس معي، ولو سألنا هذا العمود الموجود في المسجد، وقلنا: يا عمود، يا مسلح، يا أسمنت، ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى؟ هل تظنه يرد؟ ماذا يقول العمود؟ يقول: لا أعلم، فلو أتينا بعمود ثان بشري من الموجودين وقلنا: يا عمود يا بشري يا متحرك: ماذا قرأ الإمام؟ وقال: لا أعلم، فما الفرق بين العمودين؟! هل يوجد فرق؟ الفرق هو: أن هذا ثابت وهذا متحرك، ولكن الثابت أكثر وجوداً من المتحرك في المسجد؛ فالمتحرك جلس ربع ساعة وهذا جلس أربعاً وعشرين ساعة، نعم. فالعمود قد يكون أفضل، فالخشوع في الصلاة الآن مفقود عند كثير من الناس .. سواء المتكلم أو السامع إلا من رحم الله عز وجل!!

فإذا أتيت يوم القيامة وصليت المغرب ثلاث ركعات؛ لكن الله لم يكتب لي منها إلا ركعة واحدة؛ لأنه جاء في الحديث: (للعبد من صلاته ما حضر فيها قلبه، يكتب للعبد من صلاته: نصفها، ثلثها، ربعها، خمسها، سدسها، ثمنها تسعها، عشرها، وبعضهم لا يكتب له من صلاته شيء)

فإذا جِئتُ يوم القيامة وقد كُتب لي -إذا كنت من الخاشعين- ثلثها أو ثلثين، أو ركعتين؟! قال: أين هي؟ قال: هذه ركعتين في العشاء ، وركعتين في السمرة، وركعتين في العمارة، وركعتين مع الأولاد، والذي لله بقي لله وسجل لك، والذي ليس لله ذهب للناس، يقول الله تعالى: (انظروا هل له شيء؟)، أي: يكمل به صلاته .. فإذا جئت وما عندك ما ترقع به فمن أين ترقع يوم القيامة؟ لم يبق إلا النار، لا إله إلا الله! فالرواتب مهمة -يا إخواني- جداً جداً.

بعض الشباب يلعب عليهم الشيطان، ويأتيهم من باب ما يحبون، فعندما يشم في قلوبهم الرغبة في فعل الخير يقول لهم: قد سمعتم في الحديث الصحيح (إن أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة) فيقول للإنسان: أنت صليت الفريضة من أجل أن تصير صلاتك فضيلة فصل النافلة في البيت، فإذا دخل الإنسان البيت نسي الله، ونسي الصلاة، فأول ما يدخل والعشاء أمامه، هل سيفكر في صلاة والسفرة موجودة؟ وبعد أن يتعشى أو يتغدى إذا كان بعد صلاة الظهر يغسل يديه وبعدها يدخل غرفته ليسمع أو يقرأ جريدة أو كتاباً أو ينام .. وذهبت السنن! ويأتي الشيطان ليضحك عليه، يأتي إليه ويتلفت فيه وقد ضيع الصلاة وضيع الفريضة فيأتي إليه ويضحك عليه ويقول: مغفل! تريد الفضيلة؟! ضيعناك منها كلها، لا فضيلة ولا غيرها.

فإن كنت من أهل الحرص الشديد وتعرف أنك بمجرد أن تدخل البيت تصلي النافلة، أو عندك ترتيبات خاصة لا تنام إلا بعد أداء الراتبة فأمر حسن، وإلا فصلها في المسجد؛ لأن حفظها خير من ضياعها .. نريد الربح مثلما يقولون، نريد أن نذهب إلى البيت لنصلي صلاة النافلة لنحصل على فضيلة فنضيعها ولا نصليها أصلاً، فاحرص عليها في مسجدك وعود نفسك باستمرار عليها حتى تصبح شيئاً طبيعياً، انظروا الآن آبائنا وكبار السن فينا والعوام منا الذين لم يطلبوا العلم ولم يعرفوا كثيراً من الأحكام الشرعية، ولكنهم لما ألزموا أنفسهم بالرواتب، فهم من يوم أن خلقوا لا يستطيعون تركها، وكثير من كبار السن معنا في هذا المسجد وفي كثير من المساجد إذا صلى لا يمكن أبداً أن تقول له: هيا، يقول: لم أصل السنة، طيب .. هذه نافلة، قال: لا يا شيخ! هذه سنة الرسول صلى الله عليهم وسلم، فأصبحت جزءاً من صلاته التي يصليها، بينما شبابنا إلا من عصم الله يصلي الفرض ويخرج، ماذا بك؟ قال: هذه سنة يا شيخ! ماذا بالسنة، والرسول يقول: (من رغب عن سنتي فليس مني) السنة أي: الطريقة، هذه طريقة النبي صلى الله عليه وسلم! أسنها لك وأمرك بها لتتركها، وتفرط فيها؟! هذه مصيبة أيها الإخوة!

أما موضوعنا فلا يزال امتداداً للمواضيع السابقة عن الروح ورحلتها العظيمة منذ أن تستقر في الإنسان وحتى تستقر في الجنة أو في النار.

سورة الفاتحة هي الشاملة الجامعة الشافية الكافية التي تكفي عن القرآن كله ولا يكفي القرآن كله عنها، فلو أن إنساناً صلى وبدأ بسورة البقرة وختم بسورة الناس ولم يقرأ الفاتحة لكانت صلاته باطلة وغير صحيحة، ولو أن إنساناً افتتح بسورة الفاتحة فقط ولم يقرأ بعدها شيئاً من القرآن لكانت صلاته صحيحة، فالفاتحة تُغني عن القرآن ولا يغني عنها القرآن كله، يقول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87] فذكرها الله عز وجل مقدمة لوحدها، وامتنَّ بها على رسوله صلى الله عليه وسلم، والقرآن العظيم أيضاً آتاه الله محمداً صلى الله عليه وسلم.

في كل ركعة من ركعات الصلاة وفي كل آية من سور الفاتحة وأنت تناجي ربك، تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] كما جاء في الحديث: (قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله عز وجل: حمدني عبدي، فإذا قال العبد: الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: مجدني عبدي، فإذا قال العبد: مالك يوم الدين، قال الله عز وجل: عظمني عبدي -هذه ثلاث لله، وبقي أربع من السبع- قال: فإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله عز وجل: هذه بيني وبين عبدي) هذه مقسومة، فمنه العبادة ومني الإعانة، وفي قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، تقديم المفعول على الفعل وهو يفيد الاختصاص، ما قال: نستعينك، ولا قال: نعبدك، وإنما قال: إياك؛ أي: نختصك يا رب لوحدك عمن سواك بالعبادة، ونختصك أيضاً بالاستعانة فلا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك، فيقول الله عز وجل: (هذه بيني وبين عبدي فمنه العبادة ومني الإعانة) فوالله لولا أن الله أعانك على العبادة ما عبدته.

والله لولا الله ما اهتدينا     ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينـا     وثبت الأقدام إن لاقينا

والله عز وجل يقول: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] ومن لوازم العبادة أن تطلب من الله عز وجل كل حوائجك وجميع شئونك، وأعظم حاجة لك وأعظم شأن أن تفوز به في الدنيا والآخرة: أن تطلب منه أن يعينك على العبادة كما تطلب منه أن يعينك على الرزق وأمور الحياة، واطلبه في كل حين ووقت على أن يعينك على عبادته، فتقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فيقول الله: (هذه بيني وبين عبدي). (فإذا قال العبد: اهدنا الصراط المستقيم) أي: دلنا وأرشدنا وأقمنا على الصراط المستقيم، وكأن سائلاً يقول: وأي صراط تعنون؟ وأي طريق تريدون؟ إنها طرق، وشعاب، وفجاج، ولكن هناك طريقاً واضحاً؛ طريقاً أبلج ليله كنهاره لا يزيغ عنه إلا هالك: عليه الأعلام والمعالم واللوحات الإرشادية، فلا يمكن أن يضل إنسان سار بهذا الطريق، ألا وهو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، كأن سائلاً يقول: أي طريق؟ فيقول الله عز وجل: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أي صراط؟ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] من هم الذين أنعم الله عليهم؟ هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحين؛ هؤلاء الذين أنعم الله عليهم: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء:69] والنبيون لا شك أنهم صفوة أهل الأرض، فقد اختار الله عز وجل هؤلاء الأنبياء والرسل ليكونوا سفراء بينه وبين خلقه؛ فهم صفوة خلق الله، وهم -أيضاً- بينهم درجات في التفاوت، يقول الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] حتى الرسل فيهم تفاضل، وأفضلهم على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد ولد آدم، يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا صاحب اللواء يوم العرض ولا فخر، وأن صاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة ولا فخر) صلوات الله وسلامه عليه صلاة دائمة متتابعة ما تتابع الليل.

أولو العزم من الأنبياء خمسة وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، ويوم القيامة هؤلاء الأنبياء يتخلون عن الشفاعة ويقولون: (إن ربنا اليوم قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله: اذهبوا إلى غيري) يريد الناس وهم يقفون في عرصات القيامة من يشفع لهم إلى ربهم لفصل القضاء؛ لأنهم وقوف في اليوم العظيم الذي طوله خمسين ألف سنة للانتظار فقط، وقضية سنة، أو عشر، أو عشرين، أو مائة، أو ألف .. في التعداد الذهني سهلة .. لكنها في التطبيق صعبة جداً؛ لا يمر اليوم ولا الليلة على الإنسان إلا بصعوبة لولا أن الإنسان يغالط نفسه بكثرة الأعمال والمشاغل والالتزامات، ولو أنه جلس في مكان مثل المسجون فلن تمر عليه الليلة إلا كأنها سنة، فهؤلاء في يوم القيامة لا يمر عليهم اليوم بسهولة؛ لأنه ليس هناك شغل، ولا لعب، ولا أكل، ولا مباريات ولا تمشيات ولا وظائف؛ ليس هناك إلا عرصات حارة، وشمس تدنو من الرءوس تغلي منها أدمغة العباد، والقلوب فارغة، والأنظار شاخصة، والأهوال هائلة، وهم وقوف ينتظرون فصل القضاء، فيأتون إلى الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم، فكل نبي يقول: نفسي نفسي، لا أسألك اليوم إلا نفسي! اذهبوا إلى غيري.

ونحن الآن -ولله المثل الأعلى- إذا كان المدير غضبان وأراد رجل أن يقضي حاجةً من عند المدير، فإنه يختار أولاً لقضاء هذه الحاجة أحب الناس إلى المدير، يقول: يا فلان! أنا أريد حاجة وأريد منك أن تدخل معي إلى المدير، أو تيسرها عن طريقك، فالمدير لا يرد لك طلباً، فهذا الوسيط سواء كان موظفاً أو قريباً لهذا المسئول لا يأتي المدير إلا في أحسن أحواله النفسية، إذا جاء إلى السكرتير قال: لابد أن أدخل إلى المدير، ماذا يقول له السكرتير؟ يقول: لا. أرجوك لا تأتي اليوم اذهب فالمسألة خطيرة .. المدير غضبان إلى أبعد درجة؛ إذا دخلت عليه فإنه سيصرخ في وجهك؛ فلا يمكن أن يدخل الإنسان، لكن إذا جاءه ودخل عليه وقال له: كيف الأجواء؟ قال: -أربعة وعشرون قيراطاً- المدير مبسوط! زار اليوم جميع المكاتب ورأى ما يسره، ورأى العمل يسير في الخط الصحيح، فهو مبسوط! ادخل الآن .. اطلب تجد .. فربنا يوم القيامة وله المثل الأعلى يغضب، ومن غضبه أنه يدمر الكون كله: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ *وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الأنفطار:1-4]. ويقول الله عز وجل: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير:1-7].

أحداث هائلة جداً! تهز القلوب! وهذه تكون كلها يوم القيامة، فالقضية ليست قضية عادية، فيوم القيامة تكون الدنيا كلها على غير الوضع الأول: القبور بعثرت، والناس حشرت، والأمور كلها في غير وضعها الطبيعي، والله عز وجل قد أذن بالجزاء -أذن بفصل القضاء- فلا يوجد أحد يستطيع أن يأتي إلى الله ليسأله الشفاعة، وكل إنسان يقول: نفسي نفسي: لا أسألك اليوم إلا نفسي، ففي هذه اللحظات يأتون إلى نوح .. فيقول: إن لي دعوة وقد استنفذتها ودعوت على قومي، وقلت: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26] وانتهت دعوتي، ثم يأتون إلى إبراهيم عليه السلام، فيقولون له: يا إبراهيم: أنت خليل الله عز وجل وأنت أبو الأنبياء .. اشفع لنا إلى ربنا، فيقول: إني قد كذبت ثلاث كذبات، وإن ربي قد غضب اليوم غضباً لا أستطيع على مواجهته. أتدرون ما كذبات إبراهيم عليه السلام؟ يقول المفسرون: إن كذبته التي ظنها كذبة هي في الحقيقة ليست بكذبة، لكن موازين الأنبياء ومقاييسهم حساسة إلى أبعد الدرجات.

قال العلماء: الأولى لما خرجوا في يوم عيدهم ليذبحوا لأصنامهم ولآلهتهم، قالوا له: هيا معنا، هيا يا إبراهيم، ماذا قال؟ قال: إني سقيم؛ يقول: أنا مريض اليوم ولا أستطيع أن أخرج، وحق له أن يكون مريضاً! وقد كان مريضاً، أي: ذو كبدٍ مقروحة على الدين؛ لأنهم كانوا يعبدون غير الله، ففي قلبه لوعة وحرقة، وهذا شأن المؤمن الذي يتألم ويتقطع قلبه حينما يرى حدود الله تنتهك، وشريعة الله لا تحكم، وفرائض الله لا تؤتى، إنه يتقطع ويذوب قلبه في جوفه كما يذوب الملح في الماء، أما صاحب الإحساس البارد، والدم -والعياذ بالله- المتجمد؛ فإنه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ولا يتمعر وجهه في الله عز وجل -لا يغار ولا يغضب لله- هذا قلبه متقطع، وقال: إني مريض في قلبي، أنا مقروح في كبدي! أنا لا أستطيع أن أخرج معكم في عيدكم، فظنها كذبة صلوات الله وسلامه عليه.

والثانية: أنه لما قدم إلى مصر وكانت معه زوجته سارة ؛ وكانت امرأة ذات جمال، وقد عُرف ملك مصر بأنه رجل شهوانيٌُ خبيث يحب النساء، فلما أخبر عن زوجة إبراهيم طلبها من أجل -والعياذ بالله- أن يفعل بها الفاحشة، فلما جيء بها سأل إبراهيم، قال: ما هي لك؟ فكان إبراهيم ذكي: أي: لو قال: زوجتي لقتله وأخذها، لكن قال له: أختي؛ وهو يعني أنها أخته في الإسلام، إذ ليس على وجه الأرض مسلم إلا هي وهو، فقال: هاتها. نريد أن نأخذها .. طبعاً يستطيع أن يأخذ أخت الشخص لكن لا يستطيع أن يأخذ زوجته، فأخذها وأُمر بإبراهيم إلى السجن، فبقي في قلب إبراهيم ألم شديد على زوجته وغيرة عظيمة على عرضه، ولكن الله حفظه؛ لأنه نبي، فكشف له الحجب بينه وبينها، فكان في السجن وهو يتابع حركاتها وينظر إليها في كل حركة، فلما أُخذت وأُدخلت إلى غرفة النمرود أراد أن يمد يده عليها، فكلما مد يده صلبه الله وجعله كالحديدة الواقفة، فإذا رجع عنها عادت له الحياة، فإذا مد يده تصلب، وإبراهيم يرصد الموقف وهو في السجن، ينظر العملية ليطمئن قلبه ويعلم أن الله عز وجل حفظه في عرضه، وبعد أن مارس التجربة أكثر من مرة، قال: هذه جنية أخرجوها؛ فجاءوا وأخرجوها من عنده، ورجعت إليه.

هذا إبراهيم، يقول: لا أستطيع إني قد كذبت! اذهبوا إلى غيري. فيأتون إلى موسى ويقولون: أنت كليم الله .. فيقول: إني قد قتلت نفساً بغير حق، وإني لا أستطيع، فيقول: اذهبوا إلى عيسى. فيأتون إلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيقول: اذهبوا إلى محمد. ولا يذكر عيسى ذنباً، هكذا في الحديث: ما ذكر ذنباً، لكن قال: اذهبوا إلى محمد.

قال: (فيأتونني -صلوات الله وسلامه عليه- فأسجد تحت العرش وأثني على الله، ويفتح الله عليَّ من المحامد ما لم أكن أعرف، فيقال لي: ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: أمتي أمتي أمتي) يشفع صلوات الله وسلامه عليه لأمته، فالذي يريد أن يكون من أهل شفاعته هو من الذين أنعم الله عليهم، قال عز وجل: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69] النبيين: هذه أعلى درجات البشر، الصديقين: الدرجة الثانية بعد البشر وليسوا بأنبياء؛ لكنهم أقوام اصطفوا وتم اختيارهم، وهم: أتباع الرسل الذين صدقوه، مثل: عيسى، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وبعدها: وَالشُّهَدَاءِ [النساء:69] الشهداء ولو كانوا ما عاصروا الأنبياء، فإنهم في المنزلة الثالثة، وبعدها: وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] ماذا بقي بعد هؤلاء الأربعة؟! لم يبق إلا العصاة والمجرمون واللوطة والزناة والسكارى والقتلة والمرابون -والعياذ بالله- وعاقو الوالدين .. المهم فاعل كل جريمة بقي بعد هؤلاء الأربعة.




استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2924 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2921 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2800 استماع
أمن وإيمان 2672 استماع
حال الناس في القبور 2671 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2596 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2568 استماع
النهر الجاري 2472 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2464 استماع
مرحباً شهر الصيام 2394 استماع