وفي أنفسكم أفلا تبصرون [2،1]?!


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

أيها الإخوة في الله: أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل التفرق من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يبقي فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً.

إن سعي المسلم والتماسه لحلق الذكر بالمساجد، وحبه لهذه الرياض النضرة في هذه البقاع الطاهرة هو دليل على صحة قلبه، وصحة القلب هدف للإنسان في هذه الحياة؛ لأنه لا ينفع في يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم، والذي يَرِدُ على الله ويفد عليه وقلبه مريض أو ميت، فإنه يخسر الخسارة التي لا تعوض، ويدمر التدمير الذي لا نجاة بعده.

وسعيك -أيها الأخ في الله- والتماسك لهذه المجالس الطيبة دليلٌ على حبك لله، وحبك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً: فإن من نتائج مجالس الذكر وحلق العلم أنها تبعث على العمل، والذي يُتابع مجالس الذكر ولا يكون لها أثراً واضحاً في سلوكه وعبادته وتصرفاته وعقائده وأخلاقه فهذا لم يحضرها حقيقةً، فإن الحضور الحقيقي هو الذي يستلزم الانقياد بعد سماع الأمر ومعرفة النهي، فيفترض في الإنسان بعد معرفته لأمر الله ونهيه أن ينتهي ويأتمر، فهذا هو معنى طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأما مجرد السماع فقط دون أن يغير الإنسان من واقعه، أو أن يزيد هذا السماع في عباداته ويكف عن معاصيه وزلاته، فهذا سماع لا ينفع بل يضر يوم القيامة؛ لأنه حجة الله على عبده.

والذي نتصوره -إن شاء الله-أن حرصك على هذا المجلس دليلٌ على رغبتك في الاستماع والاقتداء والاتباع والعمل بما تسمع رغبةً بما عند الله، وخوفاً من لقاء الله، وهذا هو الذي نحسبه فيك ولا نزكي على الله أحداً، ونسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يزيدنا توفيقاً وهداية وفلاحاً وصلاحاً ببركة هذه المجالس المباركة.

قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34].

أيها الإخوة في الله: يروي الإمام الترمذي في سننه حديثاً يذكر فيه بعض الأذكار التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها حينما يستيقظ من النوم، وأنتم تعلمون أن الذكر من أبرز خصائصه صلوات الله وسلامه عليه، حتى قالت عائشة في الحديث الصحيح: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله في سائر أحواله) كان ذاكراً لله في كل حركة وسكنة من حركات حياته، ومن ضمن الحركات والمتغيرات اليومية التي تجري على الإنسان يقظته بعد النوم، هذه اليقظة وردت فيها عدة أذكار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

منها: (الحمد الله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور).

ومنها: الحديث الذي أذكره لكم الآن وهو عند الترمذي ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم حينما يستيقظ من النوم: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي، ورد عليَّ روحي، وأذن لي بذكره) ثلاث كلمات، يحمد الله صلوات الله وسلامه عليه على هذه النعم العِظام، نعمٌ جزيلة نتقلب فيها ولا ندري لها وزناً، ولكن العبد الرباني يعرف قيمة النعمة، وخير عباد الله على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعرف قدر النعمة ويعرف قدر مُسديها ومنعمها فيحمد الله الذي لا إله إلا هو عليها، ويقول إذا استيقظ من النوم مُشعراً نفسه ومستشعراً عظمة هذه النعمة يقول: (الحمد لله).

والحمد لله كلمة عظيمة، معناها: الثناء والتمجيد والتعظيم والاعتراف والشكر؛ لأنها تستلزم كل هذه المعاني. وجميع آيات الثناء على الله عز وجل، تستلزم الشكر والصبر والاعتراف والعبودية والانقياد؛ والحمد لله هي الكلمة العظيمة التي يقولها أهل الجنة بعد فراغ الأمر والحساب حيث يقولون: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74] وأيضاً: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75].

الحمد لله، أي: الثناء المطلق لله، والألف واللام هنا لاستغراق جميع المحامد، أي: كُل حمدٍ وثناء وتبجيل وتعظيم، فإنما نرفعه ونقدمه لله الذي لا إله إلا هو.

إن المسلم في حالة اليقظة من النوم يذكر نعمة الله فيقول: (الحمد الله الذي عافاني في جسدي)، وأنت تتقلب في الليل على فراش في نِعَمِ الله، جميع أجهزتك تشتغل من غير خلل ولا عطب، أجهزة مُعقدة بِدْءاً من رأسك إلى أخمص قدمك، فكم من مفصلٍ وعظم وعِرْق وخلية وجهاز وأداة كلها تعمل، ولو تعطلت واحدة من هذه الأجهزة أو تعطل عِرْق من هذه العروق، أو تعطل مفصل من هذه المفاصل، أو حصل في أحد هذه الأجزاء خلل بسيط لتغيرت عليك حياتك، وأنت تعرف هذا.

نعمة الأضراس

إذا آلمك ضرسك كيف تظلم الحياة في وجهك وتصيح وتقول: كل شيء إلا الضرس، لماذا؟ لأنك لا تحس بأي ألم إلا ألم الضرس، ولهذا يضربون به مثلاً في تكاليف العرس التي تثقل كاهل الإنسان فيقولون: (العرس نزعة ضرس) يعني أهم عمل، وأهم وأثقل شيء عند الإنسان.

فالضرس الذي يسوس على الإنسان يجد له ألماً، لكن قبل أن يسوس عليك ضرسك، كم معك من أضراس وأسنان مركبة، صف من فوق وصف من تحت، وهي تشتغل بالليل والنهار، وبعض الناس لا يعطيها إجازة ولو ساعة، فهل هذه نعمة أم لا؟ إي والله نعمة من نعم الله العظيمة أن تبقى لك أسنانك سليمة باستمرار وأنت تستعملها، وتصور من قد خلعت له الأسنان وركب تركيبة.

يقول العلماء: إن هذه الأسنان هي القوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب الله أن يمتعه بها في قوله: (ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا) لأن عليها وعلى وجودها يترتب أكلك للطعام، فالذي ليس عنده أسنان كيف يأكل الطعام؟ فمن الشيوخ كبار السن من يأكل الطعام ولا يحس له بطعم، والذي عنده تركيبة يأكل الطعام ويمضغه لكن ليس له طعم، فإن الطعم يأتي عن طريق إحساس الإنسان بلذة الطعام عن طريق الأضراس.

فهذه نعمة ضرسك الموجود، وليس هو ضرساً واحداً؛ بل اثنين وثلاثة وأربعة والضواحك والأنياب والثنايا، ولو تعطل منها ضرس واحد لتغيرت عليك حياتك، وقد عافاك الله فيها، فله الحمد والمنة.

نعمة السمع

جهازك السمعي (الأذن) نعمة من نعم الله عليك، تستقبل الأصوات عبر هذا الجهاز -المكرفون- وبعدها تنقلها رأساً عبر القناة السمعية إلى الطبلة، ومن الطبلة تهتز وترد هذه الأصوات إلى داخل الرأس، والرأس يرسلها إلى الدماغ، والدماغ يترجم هذه الأصوات ويعلم أن هذا صوت فلان وذاك صوت فلان.

فهذه نعمة من نعم الله عليك، ولو كانت الطبلة مخروقة أو دخلت فيها حشرة وأنت راقد وخرقت هذه الطبلة ما حالك؟ والطبلة عبارة عن غشاء من أرق الأغشية، ولكنه محروس بفضل الله ونعمته، فجميع الأجهزة في الإنسان إذا نام تكون مغطاة إلا الأذن لا تتغطى، لماذا؟ لأنه لو غطيت لما استيقظ الإنسان؛ لأن الله يقول عن أصحاب الكهف: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً [الكهف:11] لما أراد الله أن يوقظهم أيقظ آذانهم فسمعوا؛ ولهذا إذا أردت أن توقظ شخصاً تأتي عند رأسه وأذنه، وتقول: فلان قم، فيسمعك فيصحو، لكن لا تأتي وتكلمه عند عينه أو رجليه؛ لأن هذه الأذان هي التي تنقل هذه الأصوات، وهي نعمة من الله عليك.

نعمة البصر

نعمة العين وما أجلها من نعمة! امتن الله بها في القرآن فقال: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ [البلد:8] فهذه من أعظم النعم، والناس اليوم يصرفون هذه النعمة في معصية الله، والله لو شاء لطمس على أعينهم، ولكنه مدهم بهاتين العينين وطلب منهم أن يستعملوها فيما يرضيه وأن يستعينوا بها على ما يحبه في هذه الدنيا، وبدلاً من ذلك استعملت العين في الحرام عند كثيرٍ من الناس، فسخروا أبصارهم للنظر إلى ما حرم الله بالليل والنهار، ينظرون إلى النساء والجرائد والمجلات والأفلام والمسلسلات، وينظرون إلى الناس بعين الازدراء والاحتقار والحسد على ما متعهم الله به من النعم، وهذه المناظر كلها محرمة، وقد قال الله في القرآن الكريم: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] وقال: وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه:131].

فأنت بهاتين العينين اللتين هما من أجلِّ نعم الله عليك ينبغي أن تشكر هذه النعمة، فلا تستعملها في معصية الله، وهي والله الذي لا إله إلا هو من أجلِّ النعم؛ لأنك إذا فقدتها فقدت لذة الحياة كلها، والمرء منّا لا يعرف النعمة إلا إذا سلبها، فمتى يعرف الواحد منا العافية؟ إذا مرض.

ومتى يعرف نعمة الشبع؟ إذا جاع، ومتى يعرف نعمة الحرية؟ إذا سُجن، ومتى يعرف نعمة الغنى؟ إذا افتقر، كذلك لا تعرف نعمة البصر إلا إذا مرضت عينك.

ولو أن شخصاً منا أجرى تجربة بسيطة وأطبق عينه لمدة خمس دقائق، وأنا حاولت يوماً من الأيام أن أطبق عيني وضبطت الساعة وجعلتها مثلاً على الساعة السابعة إلا خمساً وقلت لن أفتحها إلا السابعة، وبعد دقيقة شعرت بضيق كبير، وبإمكانكم أن تجربوا، ضاقت عليَّ الأرض وأريد أن أفتح عيناي؛ لكن قد ألزمت نفسي أني لا أفتح فتراني لا أطالع في الساعة، وفي نفس الوقت أنتظر وبعد فترة بعيدة قمت وفتحت عيني وطالعت وإذا بها لم تمض إلا دقيقة واحدة، وأنا قد أصابني دوار من كثرة الإغماض، وأظلمت الحياة في وجهي، ثم قلت: بقي أربع دقائق فصبرت وصبرت حتى مللت، وأخيراً فتحت قليلاً ولم تمضِ إلا دقيقتان، ولم تنته الخمس الدقائق إلا بعد تعب، لماذا؟ لأنني سُجنت لما أظلمت عليَّ عيني ولم أعد أرى شيئاً.

فأنت عندما تفتح عينيك ترى العالم والألوان والجمال والسماء والأرض والليل والنهار والأشجار والأنهار والبحار والسيارات والطائرات والمباني، وما يزين الناس به بيوتهم من طلاءات ومفارش وكنبات وغرف نوم، وما يُمتِع به الناس أبصارهم من أزواجٍ جميلات، وملابس مزركشات، وسيارات وموديلات، كل هذا من أجل ماذا؟ من أجل نعمة العين، وإلا فالذي لا يبصر ماذا عليه؟ فلو أدخلته في مجلس طوله مائة مترٍ أو مجلس طوله متر تراه يريد أن يجلس فقط.

لكن الذي أعطاه الله نعمة البصر، يقول: أريد مجلساً طويلاً؛ لماذا؟ قال: المجلس الواسع يشرح الصدر، إذا جلست في غرفة طويلة انشرح صدري، أما ذاك الأعمى فإنه لا يدري هل هو في مجلس مائة متر فينشرح صدره أو في غرفة عرضها متراً في متر.

وكذلك الآن الكهرباء لماذا يتفنن الناس بالثريات؟ ولو انطفأت الكهرباء في الليل وهم ساهرون أليس أصحاب الأبصار كلهم ينزعجون وترتبك عليهم حياتهم، ويبحثون عن بديل من كبريت ومصباح، أما الأعمى فلا يدري؛ لأن الكهرباء منطفئة عنده مدى الحياة إلا أن يشاء الله.

وأنت ربي أعطاك عينين، فهذه نعمة من نعم الله عليك، لا تعرف قدرها إلى إذا سلبتها، وهذه النعمة معك في كل وقت، ترى فيها متى شئت على مدار أربع وعشرين ساعة، ألا تعلم أن هذه النعمة أنت مسئول عنها يوم القيامة: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8] فما هو النعيم؟ فهل نتصور أننا مسئولون عن البطون فقط؟ لا، فكل نعمة يجريها الله عليك أنت مسئولٌ عنها بين يدي الله، هل حفظتها أم ضيعتها؟ هل شكرتها أم كفرتها؟ هل سخرتها واستخدمتها فيما يرضي مُسديها ومنعمها، أم استخدمتها فيما يغضبه؟ أليست هذه العين من الله؟ هل أنت اشتريتها أو ركبتها في مصنع أو ورشة؟ هل أمك أو أبوك أخذوها ووضعوها في رأسك؟ فمن الذي أعطاك إياها؟

إنه الله.

إذاً: أليس الله بقادر على أن يسلبك العينين يوم أن كنت في بطن أمك؟ كان بالإمكان أن تخرج وليس لك عيون، فليس بيدك شيء، وكذلك الآن أليس الله بقادر على أن يسلبك هذه النعمة؟ بلى، فمن يعوضك نعمة البصر؟ قد يقول شخص منا: المستشفيات، فنقول له: إن المستشفيات الآن عاجزة عن أن تعمل عمليات لبعض العيون، حتى في أرقى المستشفيات التخصصية للعيون في العالم يأتيهم الأعمى ويقولون: لا يوجد فائدة.. القرنية عندك ملتهبة.. لا نستطيع بأي حال من الأحوال، فكيف يأتون لك بعين، فهذه نعمة العين.

إذاً: هل تبيع هذه النعمة؟! حتى تعرف قدرها؟ لنعمل مزايدة على عين من عيون شخص منا، فنعطيه مليون ريال أو مليونين، أو عشرة ملايين، والله الذي لا إله إلا هو -أنا عن نفسي- لو أعطيت الأرض من أولها إلى آخرها وقيل لي: تعال نجعلك ملكاً أو رئيساً على جميع دول الأرض ونأخذ عينك فلن أعطيهم، لماذا؟ لأنك تملك الأرض كلها فأنت أغنى أهل الأرض بعين، وأعطاك الله عينين، فهذه نعمة اشكروا الله عليها.

فأنت تقول في استيقاظك: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي) عافاني في أسناني وأذني وعيني وأنفي.

نعمة الأنف

ومن نعم الله عليك نعمة الأنف الذي جعله الله في وسط الوجه، وقبل أن يدخل الهواء إلى الرئتين يمر عليه، ويقوم هو عبر الشعيرات الهوائية الموجودة في باطن الأنف بتصفيته وتنقيته من الأتربة والغبار، ولذلك ترى أنك إذا اشتغلت في ذلك اليوم بأي عمل فيه تراب وغبار، ثم جئت تستنثر وتتوضأ فإنه يخرج من أنفك تراب، فهذا التراب لو لم توجد الشعيرات لكان رأسك ممتلئ طيناً؛ لكن الله يحجز عنك هذه الأتربة عن طريق هذه الشعيرات فلا يدخل شيء، فإذا دخل الهواء من الأنف لا يدخل مباشرةً إلى الرئة، كان بالإمكان أن يدخل من الفم، لكن جعل الله له ممراً من الأنف إلى أن ينزل بواسطة البلعوم إلى القصبة الهوائية ثم إلى الرئة باستمرار، وفي هذه الرحلة يحصل تكييف للهواء؛ لأن درجة حرارة الهواء الخارجي -أحياناً- تكون أقل من درجة حرارة الجسم، فحرارة الجسم في الغالب (37 درجة)، لكن تكون درجة حرارة الهواء الخارجي (21 درجة)، فإذا دخل الهواء البارد إلى الرئة فجأة، فإنه يحصل للإنسان زكام، فالهواء يدخل من الأنف والأنف يدفئه باستمرار ويدخل إلى الجسد وهو على درجة حرارة الجسد، ولذا ترون الإنسان في أيام البرد يصير أنفه أحمر، لماذا؟ لأن الشعيرات الدموية الموجودة فيه تعمل أكثر لكي تدفئ الهواء، فلا ينزل الهواء إلا مكيفاً، فهذه نعمة من نعم الله عليك.

وإذا أصبت بالزكام وجلست أسبوعين أو ثلاثة وأنت لا تشم تعيش حياتك كلها بصعوبة جداً، ولا تطعم شيئاً من ألذ المأكولات، ولا تشم شيئاً من الروائح العطرية؛ لأن الحاسة عندك ليست سليمة، هذه نعمة من نعم الله عليك، وفتش في نعم الله عليك.

نعمة العقل

ومن نعم الله: نعمة العقل الذي هو مصرف لهذا الإنسان، فإذا سلب من الإنسان العقل كيف يتحول؟ إنه يفقد القدرة على التصرف السليم، فيتصرف تصرفات غير مسئولة أو غير معقولة، ويخاف أهله منه، يُكتِّفُونه ويجلسون عند رأسه، ويقولون: انتبهوا! لا يفتح الباب، لا يقفز من الشُّبَاك، انتبهوا! لا تجعلوا عنده كبريتاً، أبعدوا النار من عنده؛ لماذا؟ لأنه لا يضبط تصرفاته، ولهذا امتن الله علينا بهذه النعمة فقال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78].

فهذه الثلاث النعم لو سلبها الله من البشر، فلا عقول ولا أسماع ولا أبصار ماذا بقي معهم؟ بقيت كتل بشرية لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر، فهل تصنع هذه الكتل حضارة؟ وهل تخترع مخترعات؟ وهل تركب الطائرات؟ وهل تصنع سيارات؟ وهل تبني العمارات؟ وهل تؤلف المؤلفات؟ وهل تبني الجامعات؟ وهل تنتج هذه الحضارات؟ لا. لماذا؟ لأنه لا عقل يعقل ولا سمع يسمع ولا عين تبصر، ماذا بقي من الناس؟ بقي منهم الأشكال التي لا قيمة لها، لكن هذه النعم من الله تبارك وتعالى.

العقل نعمة من نعم الله الذي لا إله إلا هو؛ لأنه بمنزلة المصرف لك بحيث لا تمشي إلا في الصواب، فبغير العقل لا يدري ماذا يعمل الإنسان، فعليك أن تشكر الله على نعمة العقل.

نعمة اللسان

ومن نعم الله: جهاز اللسان الذي هو آية من آيات الله، امتن الله به في القرآن وقال: وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ [البلد:9] فالهواء الخارج يسمونه في الطب ثاني أكسيد الكربون وهو محروق ليس له فائدة، بحيث لو جلس الإنسان يستنشق ثاني أكسيد الكربون المحروق يموت، وهو يستنشق الأكسجين ويحوله إلى الرئة ويصفي به الدم وبعد ذلك يصعد ثاني أكسيد الكربون، فهذا الهواء الخارج محترق وسام، ورغم أنه سام إلا أنه لا يخرج هباء، وإنما ركب الله تبارك وتعالى في الحلق الأوتار والحبال الصوتية فتستفيد من الهواء الخارج وتتكلم به، ولهذا يقولون: إن الذي يريد أن يقرأ القرآن أو يتكلم فعليه أن يستنشق نفساً طويلاً ثم يقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] فالهواء الذي كان في الرئة ما الذي جعله يصعد ليصبح كلاماً وهو هواء فاسد، لا تعلم أنت ولا أعلم أنا ولا يعلم أحد، لسان يتكلم بكل فصاحة وبيان، ويعرف الكلام وهذا لا يدري كيف، والذي يقرأ كلام ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة وهو يتكلم على نعمة الله في خلق هذا اللسان، يرى العجب العجاب، كيف أن هذه اللحمة التي لا تدري كيف تعرف الأصوات وتتكلم بالأصوات ممكن أن أتكلم لكم الآن بصوتي وممكن أن أقلد لكم صوتاً آخر، فكيف صعد هذا الصوت؟ باللسان، وهذا اللسان يعرف الأطعمة كلها، هذا حار، وهذا بارد، وهذا حلو، وهذا حامض، وهذا فيه لذعة، وهذا فيه حموضة، جميع الأطعمة كلها تعرفها عن طريق لسانك، هذه نعمة من نعم الله عليك.

وبعد ذلك في داخل الفم يقوم بدور عامل الخلطة، فالذي يعمل الخلطة يأتي -مثلاً- بكيس من سمنت ورمل وخرسان وما تصلح إلا بعامل وماء و(كريك)، وهذا هو الذي تعمله أنت الآن، تدخل لقمة رز، ومعها قليل لحم، من الذي يخلطها داخل ويسويها ويقلبها؟ الأسنان تطحن وهذا الكريك (اللسان) يقلب إلى أن تنضبط الخلطة، فإذا كانت مستساغة نزلها على المعدة، والمعدة تقوم بدورها في الهضم، هذه نعمة الله في اللسان.

نعمة المريء والبلعوم ولسان المزمار

بعد اللسان في رأس الرقبة توجد (ماسورتان): ماسورة اسمها (المريء) وهو الذي يدخل منه الطعام، وماسورة ثانية اسمها البلعوم، وهي التي يسمونها (القصبة الهوائية) وهي التي يدخل منها الهواء.

وهاتان الماسورتان يقف بينهما جندي نسميه باللسان العامي (الطراعة)، واسمها في الطب: (لسان المزمار).

ومهمته: إذا أتى طعام يفتح مجرى الأكل ويسد مجرى الهواء، وإذا أتى هواء يسد مجرى الطعام ويفتح مجرى الهواء، ولا يسمح بمرور الاثنين في وقت واحد -عسكري مضبوط- وأحياناً يصدر من الدماغ أمر لهذا العسكري بالسماح بدخول هواء ودخول طعام، يعني: شخص يأكل ويتكلم ماذا يحصل عنده؟ يحصل الشرقة، وهي أن العسكري هذا لم يعد يعرف ينفذ أمر من، فهناك هواء يريد أن يدخل ويخرج؛ لكي يتكلم الشخص، وطعام يريد أن يدخل، فتدخل حبة رز في ماسورة الهواء وليس هو بمجرى لها، ولو دخلت هذه واستقرت في الداخل ماذا يحصل؟ يحصل الموت، لا يوجد دواء إلا أن يموت الإنسان مباشرة، حيث إنه لا تستطيع هذه القصبة الهوائية أن تتحمل حبة رز تدخل، فإذا دخلت الحبة هل يموت الإنسان بسبب هذه الغلطة؟

لا. فالله عز وجل رحيم بهذا الإنسان، فتصدر أوامر من العقل إلى الرئة بوجود جسم غريب دخل عليكم اطردوه، فرأساً يبدأ الإنسان يسعل كثيراً، وهذه هي عملية طرد لهذا الجسم الغريب ولهذه الحبة من هذا المجرى فتخرج، فإذا خرجت قال: الحمد الله ذهبت الشرقة.

هذه نعمة يا أخي! لو عطل الله منك لسان المزمار أو خرب ماذا تعمل؟

يا أخي! كلك آيات من آيات الله: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] أفلا تتفكر من الذي أعطاك هذه الإمكانات وهذه القدرات إلا الله الذي لا إله إلا هو.

المريء نسميه باللسان العامي (القرط) يعني الغضروف، وهي مفتوحة باستمرار، فهي مجرى الهواء لماذا؟ لأن الإنسان يحتاج إلى الهواء باستمرار، فجعلت هذه الماسورة مفتوحة وأنت قائم أو نائم، وأنت ماشٍ أو جالس، في أي وقت مفتوحة والهواء شغال.

وبعد ذلك في المنام ركب الله هاتين الرئتين وركب لها عضلات لا إرادية تشتغل بغير إرادة منك، عضلة الرئة باستمرار تضخ الهواء، لو أن الله جعل عضلة الرئة إرادية بحيث من أراد الحياة يشغل رئته، والذي لا يريد الحياة يوقف، فما رأيكم: هل يشتغل شخص بشيء غير رئته؟ كل منا يريد ألا يقبض؛ لأنه إذا أوقف الرئة مات، لكن جعل الله هذه الرئة تتحرك بالهواء وأنت راقد، والهواء يطلع وذاك ينزل، لا إله إلا الله ما أعظم نعم الله علينا!

أما العضلة الثانية لمجرى المريء الخاص بالطعام فماسورة مجوفة ذات عضلات تسمح بنزول الشيء ولا تسمح بخروجه، إذا دخل فيها شيء تنقبض إلى تحت بحيث لا تبقى لقمة في حلقك، بمجرد أن ترميها تقوم العضلة تضغط على تلك وتضغط تضغط إلى أن تستقر في بطنك، ولولا وجود هذه العضلة لاحتاج كل منا إلى أن يدفع كل لقمة ويدخل وراءها سيخاً كيما ينزلها، لكن من وقت ما تبلعها ما الذي يوصلها إلى المعدة؟ هذا فم المعدة مسافة (30سم)، فما الذي يدخل اللقمة إلى هنا؟ أو تشرب على كل لقمة ماء، لكن يمكن أن تكون اللقمة كبيرة، من الذي يمشي لك هذه اللقمة؟ لقد كفاك الله هذه المئونة، وجعل العضلة هذه بمجرد ما تنزل بها الحبة تنقبض إلى تحت لكي تعصرها إلى أن تنـزلها وتنفتح بعدها، لكن هذه العضلة لا تسمح بخروج شيء، وهذه العضلة النازلة مفتوحة، لكن لا تسمح بخروج الطعام؛ بدليل أنك إذا قمت بالانتكاس أو مارست حركة من حركات الرياضيين أنه يحصل الانتكاس والمعدة تتشقلب، لكن هل سمعنا أن واحداً انتكس على رأسه ونزل من بطنه إلى الماسورة شيء؟ لم ينزل شيء، لماذا؟ لأن الماسورة هذه إذا انتكس الواحد لا تسمح بنزول شيء، إلا في حالة واحدة وهي حالة الاستفراغ فإذا امتلأت المعدة، وأحس الإنسان بضيق، فالله عز وجل يعطيه قدرة على أنه ينقر حلقه، ونقر الحلق هذا هو عملية تهييج لهذا البلعوم أن هناك طعاماً زائداً دعه يتخلص منه، فيعود الشخص (أع، أع) حتى يخرجه، أو يكون الإنسان مريضاً، فهذه نعمة أيها الإخوة! من نعم الله عليك أيها الإنسان.

نعمة المعدة والكبد

ينزل الطعام إلى المعدة التي هي جهاز غريب جداً مكون من اللحم، فمعدة الإنسان ليست مكينة حديدية، بل هي جهاز لحمي، لكن هذا الجهاز اللحمي يهضم اللحم، ولا يهضم نفسه، يعني هناك خاصية أنك تأكل اللحم وتنزله، تقوم هذه المعدة بإفراز مواد حمضية قلوية شديدة مثل الأسيد، يعرف الإنسان طعمها إذا حدث له قيء وقاء وصعد شيء يسمونه مر، يعني: حامض جداً، هذا هو الموجود في معدة كل الناس.

ومن خصائص هذه المادة: أنها تأتي على الطعام النازل إليها فتذيبه وتصهره وتحلله تحليلاً كاملاً، وبعد ذلك ينتقل هذا الطعام المهضوم المنتهي المطحون إلى الأمعاء، والأمعاء تقوم بدور عظيم في عملية استخلاص المواد الغذائية النافعة وتحويلها إلى الجسد واستخلاص المواد الغذائية الغير نافعة وتحويلها كفضلات، وبعد ذلك عبر مواسير طويلة لا يعلمها إلا الله.

هذه المعدة معقدة، فلو رأيتم الآن الذبيحة لما تذبح وترى (الخولاني الكبير)، وترى (العماصير والمرابض) هذه كلها تقوم بأدوار عظيمة، فيك أنت مثلها وأعقد منها.

ومع هذا الجهاز أيضاً الجهاز الهضمي فيه الكبد، وهذا الكبد يقوم بوظائف كبيرة جداً في الجسم، وهو بمنزلة معمل كيماوي معقد الأدوار.

نعمة الكلى

بعد ذلك الكلى معلقة في ظهر الإنسان وهي بمنزلة الصفايات، وهي التي تقوم بعملية تنقية الدم من السموم والأملاح والمواد الفاسدة، وإذا فشلت الكلية عند الإنسان استطاعت الكلية الأخرى أن تقوم بهذا الدور، وكان الناس في الماضي قبل المستشفيات إذا فشلت الكلى يموت، لأنه لا يستطيع أن يعيش بغير كلى، لكن في هذا الزمان بعد تقدم العلم والحمد الله استطاعوا اختراع جهاز في المستشفى يسمونه الكلية الصناعية، والكلية الصناعية دولاب كبير يقوم بدور الكلية الصغيرة، فهم يأتون بالإنسان الذي عنده فشل كلوي ويجرون له عملية، ويقومون بسحب الدم منه في ذلك اليوم الذي يريدون أن يعملوا له فيها غسيلاً، في كل ثمانية وأربعين ساعة يغسلون دمه مرة واحدة، يسحبون الدم كله ويرسلونه إلى المكينة -الكلية الصناعية- فتقوم بتصفيته وإعادته مصفى عبر ماسورة ثانية إلى جسده .. أربع ساعات، والإنسان مستلق على السرير، ملق يديه يشعر بتعب ومعاناة لا يعلمها إلا الله، من أجل أن الدم يسحب كله ويذهب إلى الكلية هذه وتصفيه، أتدرون كم تصفي هذه الكلية؟ تصفي ما نسبته من السموم والأملاح الموجودة فيه عشرة في المائة فقط! وتسعين في المائة موجود في الدم، لكنها تصفي عشرة في المائة التي فيها خطر على جسم الإنسان، والباقي تضر الإنسان على المدى البعيد لكنه لا تستطيع تصفيتها، وأنت ربي معلق لك صفايتين في ظهرك تصفي لك كل أمورك ولا تدري ولا تشكر الله عليها.

ولا يعرف نعمة الكلية إلا الذي ليس عنده كلى، يقول لي أحد الإخوة وقد أصيب بمرض فشل كلوي وجلس سنة وهو يعمل الغسيل هذا، والغسيل يكلف الدولة الغسلة الواحدة أكثر من ألف وخمسمائة ريال، لكن الآن في كل مستشفى كلية صناعية وأدوار تراهم بغير طوابير طالعين نازلين يغسلون بدون دفع أجرة، وهذا من فضل الله عز وجل.

وصاحب الكلية الصناعية يعاني ألماً لا يعلمه إلا الله؛ بل إن شكله يتغير، أحد الإخوة أعرفه قد تغير لونه من البياض إلى السواد، والله قابلته يوماً من الأيام فضحك لي على عادته، لكن أنا تعجبت: من هذا الذي يضحك لي وأنا لا أعرفه، إلى أن قربت وهو يضحك وإذا بي أعيد الذاكرة، عرفت ملامحه لكن اللون ليس لونه، تغير لونه كاملاً، قلت: فلان؟ قال: نعم، قال: ماذا فيك؟ وأنا خفت أن أقول: إنك تغيرت، فيصير في نفسه شيء من أجل المرض، قلت: يا أخي أنا من زمان لم أرك، فاشتبه عليَّ، فقعدت أسأله مالك؟ قال: الحمد لله أنا مصاب بالفشل الكلوي، وأجروا لي عملية، وأخذوا الكلى كلها، وأنا الآن أعمل غسيل كل ثمانية وأربعين ساعة، وقد تغير لونه، ولما سألت الدكتور بعدها، قال: إن المسام في الجلد تتعبأ وتتغير بفعل المواد التي لا تزال في الدم والتي لا تستطيع هذه الكلى الصناعية أن تصفيها، وأنت لا تشعر بهذه النعمة.

أحد الإخوة عمل عملية نقل كلية من أحد أقربائه والآن يعيش بدون غسيل، يعيش بكلية واحدة، ويقول لي: يا أخي! ما أعظم نعمة الله علينا في الكلى، لم يذكر نعمة العين ولا نعمة الأذن، لم يذكر إلا نعمة الكلى، يقول: الحمد لله، قلت: ماذا بك؟ قال: يا أخي! كنت في هم! أذهب مشوار كل يوم أطلع من مكة إلى جدة أغسل كل يوم، ولابد يكون معي مرافق؛ لأني لا أستطيع بعد الغسيل أن أقود السيارة فيرجعني هذا المرافق، كل ثمانية وأربعين ساعة يذهب ويأتي، يقول: راحت حياتي كلها طلعة ونزلة وغسيل، والآن الحمد لله فأنا أجلس في بيتي والكلية الصناعية معلقة في ظهري، قلت ومن قبل كنت تدري بها قال: والله ما شعرت بها إلا الآن.

هذه الكلية الصناعية يتصور بعض الناس الآن منا أو أنا كنت أفهم أن وجود الكلية الصناعية بمجرد أن توضع في جسم الإنسان تعمل مباشرةً، لا. لا بد أن يتناول يومياً جرعة من الدواء يسمونها مقابل رفض الجسم للعضو الغريب؛ لأن الكلية هذه ليست للجسم هذا، هي غريبة عليه ومحتمل في ساعة من الساعات أن يقول الجسم: من الذي أتى بكِ هاهنا، يرفضها، ورفضها يعني لا يتعامل معها فيموت الإنسان، فماذا يعمل الأطباء؟! يعطونه جرعة يومياً من دواء معين مع قارورة يأخذها في جيبه باستمرار، قلت: ما هذه؟ قال: هذه ثمنها ألف ريال تكفيني شهراً واحداً، ألف ريال شهرياً يعني راتب شخص، قلت: من أين تستلمها؟ قال: أستلمها من المستشفى بالمجان، تصرفها الدولة -بارك الله فيها- للناس بالمجان الذين عندهم فشل كلوي، ويعيشون على هذا المضاد، ويتناول هذه الجرعة بنسب معينة، مرة يكثر ومرة يقلل، بحسب التحاليل، والتحاليل كل شهر حتى يروا هل الجسم راضٍ عنها؟ فيعطونه -إن كان غير راضٍ- زيادة في الجرعة حتى يرضى الجسم، ولكن لابد من هذه المادة، هذا نعمة يا أخي! تذكر نعمة الله عليك، الحمد الله الذي عافاني في جسدي.

نعمة القلب

القلب: قلب الإنسان المضخة التي تضخ الدماء إلى الجسد، فيها مواسير وأوردة وشرايين، وبعد ذلك حركة باستمرار، وإذا توقف ماذا يحصل؟ يسمونه سكتة قلبية، لكن الله عز وجل أعطى هذا القلب قوة، ولذلك يقول الأطباء: إن القلب من أهم وأقوى الأعضاء وأجلدها وأصبرها، قليل هم الذين توقفت قلوبهم، لكن نجد آخرين فشلت كلاهم، وعميت أعينهم، وهذا يحصل بكثرة، أما القلب فنادر، لماذا؟ لأن الله أعطاه قوة؛ لكي لا يموت الإنسان بسببه.

فلو أن الله جعل قلباً تقليداً (تايوان) ولله المثل الأعلى، فماذا يصير؟ بمجرد وقوع أقل ضربة في قلبك تموت، لكن لديك قلب (أصلي) لا يقف بإذن الله، وشغال بالليل والنهار، الأمعاء، الكلى، الكبد، البنكرياس، كل الأجهزة، بعدها تأتي إلى جهازك العضلي، جهازك الدموي، جهازك الهيكلي، كل هذه أجهزة عافاك الله فيها، ولو فتشنا الجميع واحداً واحداً لوجدنا أنه معافى من رأسه إلى قدمه، ويذهب إلى بيته فيجد زوجته معافاة من رأسها إلى قدمها، هذه نعمة يا إخواني! وأولادنا معافون كلهم والذي عنده مرض بسيط رأساً الصيدلية مليئة، والأدوية مليئة، والمستشفيات مفتوحة، وفي أي لحظة نذهب لنتعالج، فنقول: الحمد لله الذي عافانا في أجسادنا.

إذا آلمك ضرسك كيف تظلم الحياة في وجهك وتصيح وتقول: كل شيء إلا الضرس، لماذا؟ لأنك لا تحس بأي ألم إلا ألم الضرس، ولهذا يضربون به مثلاً في تكاليف العرس التي تثقل كاهل الإنسان فيقولون: (العرس نزعة ضرس) يعني أهم عمل، وأهم وأثقل شيء عند الإنسان.

فالضرس الذي يسوس على الإنسان يجد له ألماً، لكن قبل أن يسوس عليك ضرسك، كم معك من أضراس وأسنان مركبة، صف من فوق وصف من تحت، وهي تشتغل بالليل والنهار، وبعض الناس لا يعطيها إجازة ولو ساعة، فهل هذه نعمة أم لا؟ إي والله نعمة من نعم الله العظيمة أن تبقى لك أسنانك سليمة باستمرار وأنت تستعملها، وتصور من قد خلعت له الأسنان وركب تركيبة.

يقول العلماء: إن هذه الأسنان هي القوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب الله أن يمتعه بها في قوله: (ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا) لأن عليها وعلى وجودها يترتب أكلك للطعام، فالذي ليس عنده أسنان كيف يأكل الطعام؟ فمن الشيوخ كبار السن من يأكل الطعام ولا يحس له بطعم، والذي عنده تركيبة يأكل الطعام ويمضغه لكن ليس له طعم، فإن الطعم يأتي عن طريق إحساس الإنسان بلذة الطعام عن طريق الأضراس.

فهذه نعمة ضرسك الموجود، وليس هو ضرساً واحداً؛ بل اثنين وثلاثة وأربعة والضواحك والأنياب والثنايا، ولو تعطل منها ضرس واحد لتغيرت عليك حياتك، وقد عافاك الله فيها، فله الحمد والمنة.

جهازك السمعي (الأذن) نعمة من نعم الله عليك، تستقبل الأصوات عبر هذا الجهاز -المكرفون- وبعدها تنقلها رأساً عبر القناة السمعية إلى الطبلة، ومن الطبلة تهتز وترد هذه الأصوات إلى داخل الرأس، والرأس يرسلها إلى الدماغ، والدماغ يترجم هذه الأصوات ويعلم أن هذا صوت فلان وذاك صوت فلان.

فهذه نعمة من نعم الله عليك، ولو كانت الطبلة مخروقة أو دخلت فيها حشرة وأنت راقد وخرقت هذه الطبلة ما حالك؟ والطبلة عبارة عن غشاء من أرق الأغشية، ولكنه محروس بفضل الله ونعمته، فجميع الأجهزة في الإنسان إذا نام تكون مغطاة إلا الأذن لا تتغطى، لماذا؟ لأنه لو غطيت لما استيقظ الإنسان؛ لأن الله يقول عن أصحاب الكهف: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً [الكهف:11] لما أراد الله أن يوقظهم أيقظ آذانهم فسمعوا؛ ولهذا إذا أردت أن توقظ شخصاً تأتي عند رأسه وأذنه، وتقول: فلان قم، فيسمعك فيصحو، لكن لا تأتي وتكلمه عند عينه أو رجليه؛ لأن هذه الأذان هي التي تنقل هذه الأصوات، وهي نعمة من الله عليك.

نعمة العين وما أجلها من نعمة! امتن الله بها في القرآن فقال: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ [البلد:8] فهذه من أعظم النعم، والناس اليوم يصرفون هذه النعمة في معصية الله، والله لو شاء لطمس على أعينهم، ولكنه مدهم بهاتين العينين وطلب منهم أن يستعملوها فيما يرضيه وأن يستعينوا بها على ما يحبه في هذه الدنيا، وبدلاً من ذلك استعملت العين في الحرام عند كثيرٍ من الناس، فسخروا أبصارهم للنظر إلى ما حرم الله بالليل والنهار، ينظرون إلى النساء والجرائد والمجلات والأفلام والمسلسلات، وينظرون إلى الناس بعين الازدراء والاحتقار والحسد على ما متعهم الله به من النعم، وهذه المناظر كلها محرمة، وقد قال الله في القرآن الكريم: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] وقال: وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه:131].

فأنت بهاتين العينين اللتين هما من أجلِّ نعم الله عليك ينبغي أن تشكر هذه النعمة، فلا تستعملها في معصية الله، وهي والله الذي لا إله إلا هو من أجلِّ النعم؛ لأنك إذا فقدتها فقدت لذة الحياة كلها، والمرء منّا لا يعرف النعمة إلا إذا سلبها، فمتى يعرف الواحد منا العافية؟ إذا مرض.

ومتى يعرف نعمة الشبع؟ إذا جاع، ومتى يعرف نعمة الحرية؟ إذا سُجن، ومتى يعرف نعمة الغنى؟ إذا افتقر، كذلك لا تعرف نعمة البصر إلا إذا مرضت عينك.

ولو أن شخصاً منا أجرى تجربة بسيطة وأطبق عينه لمدة خمس دقائق، وأنا حاولت يوماً من الأيام أن أطبق عيني وضبطت الساعة وجعلتها مثلاً على الساعة السابعة إلا خمساً وقلت لن أفتحها إلا السابعة، وبعد دقيقة شعرت بضيق كبير، وبإمكانكم أن تجربوا، ضاقت عليَّ الأرض وأريد أن أفتح عيناي؛ لكن قد ألزمت نفسي أني لا أفتح فتراني لا أطالع في الساعة، وفي نفس الوقت أنتظر وبعد فترة بعيدة قمت وفتحت عيني وطالعت وإذا بها لم تمض إلا دقيقة واحدة، وأنا قد أصابني دوار من كثرة الإغماض، وأظلمت الحياة في وجهي، ثم قلت: بقي أربع دقائق فصبرت وصبرت حتى مللت، وأخيراً فتحت قليلاً ولم تمضِ إلا دقيقتان، ولم تنته الخمس الدقائق إلا بعد تعب، لماذا؟ لأنني سُجنت لما أظلمت عليَّ عيني ولم أعد أرى شيئاً.

فأنت عندما تفتح عينيك ترى العالم والألوان والجمال والسماء والأرض والليل والنهار والأشجار والأنهار والبحار والسيارات والطائرات والمباني، وما يزين الناس به بيوتهم من طلاءات ومفارش وكنبات وغرف نوم، وما يُمتِع به الناس أبصارهم من أزواجٍ جميلات، وملابس مزركشات، وسيارات وموديلات، كل هذا من أجل ماذا؟ من أجل نعمة العين، وإلا فالذي لا يبصر ماذا عليه؟ فلو أدخلته في مجلس طوله مائة مترٍ أو مجلس طوله متر تراه يريد أن يجلس فقط.

لكن الذي أعطاه الله نعمة البصر، يقول: أريد مجلساً طويلاً؛ لماذا؟ قال: المجلس الواسع يشرح الصدر، إذا جلست في غرفة طويلة انشرح صدري، أما ذاك الأعمى فإنه لا يدري هل هو في مجلس مائة متر فينشرح صدره أو في غرفة عرضها متراً في متر.

وكذلك الآن الكهرباء لماذا يتفنن الناس بالثريات؟ ولو انطفأت الكهرباء في الليل وهم ساهرون أليس أصحاب الأبصار كلهم ينزعجون وترتبك عليهم حياتهم، ويبحثون عن بديل من كبريت ومصباح، أما الأعمى فلا يدري؛ لأن الكهرباء منطفئة عنده مدى الحياة إلا أن يشاء الله.

وأنت ربي أعطاك عينين، فهذه نعمة من نعم الله عليك، لا تعرف قدرها إلى إذا سلبتها، وهذه النعمة معك في كل وقت، ترى فيها متى شئت على مدار أربع وعشرين ساعة، ألا تعلم أن هذه النعمة أنت مسئول عنها يوم القيامة: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8] فما هو النعيم؟ فهل نتصور أننا مسئولون عن البطون فقط؟ لا، فكل نعمة يجريها الله عليك أنت مسئولٌ عنها بين يدي الله، هل حفظتها أم ضيعتها؟ هل شكرتها أم كفرتها؟ هل سخرتها واستخدمتها فيما يرضي مُسديها ومنعمها، أم استخدمتها فيما يغضبه؟ أليست هذه العين من الله؟ هل أنت اشتريتها أو ركبتها في مصنع أو ورشة؟ هل أمك أو أبوك أخذوها ووضعوها في رأسك؟ فمن الذي أعطاك إياها؟

إنه الله.

إذاً: أليس الله بقادر على أن يسلبك العينين يوم أن كنت في بطن أمك؟ كان بالإمكان أن تخرج وليس لك عيون، فليس بيدك شيء، وكذلك الآن أليس الله بقادر على أن يسلبك هذه النعمة؟ بلى، فمن يعوضك نعمة البصر؟ قد يقول شخص منا: المستشفيات، فنقول له: إن المستشفيات الآن عاجزة عن أن تعمل عمليات لبعض العيون، حتى في أرقى المستشفيات التخصصية للعيون في العالم يأتيهم الأعمى ويقولون: لا يوجد فائدة.. القرنية عندك ملتهبة.. لا نستطيع بأي حال من الأحوال، فكيف يأتون لك بعين، فهذه نعمة العين.

إذاً: هل تبيع هذه النعمة؟! حتى تعرف قدرها؟ لنعمل مزايدة على عين من عيون شخص منا، فنعطيه مليون ريال أو مليونين، أو عشرة ملايين، والله الذي لا إله إلا هو -أنا عن نفسي- لو أعطيت الأرض من أولها إلى آخرها وقيل لي: تعال نجعلك ملكاً أو رئيساً على جميع دول الأرض ونأخذ عينك فلن أعطيهم، لماذا؟ لأنك تملك الأرض كلها فأنت أغنى أهل الأرض بعين، وأعطاك الله عينين، فهذه نعمة اشكروا الله عليها.

فأنت تقول في استيقاظك: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي) عافاني في أسناني وأذني وعيني وأنفي.

ومن نعم الله عليك نعمة الأنف الذي جعله الله في وسط الوجه، وقبل أن يدخل الهواء إلى الرئتين يمر عليه، ويقوم هو عبر الشعيرات الهوائية الموجودة في باطن الأنف بتصفيته وتنقيته من الأتربة والغبار، ولذلك ترى أنك إذا اشتغلت في ذلك اليوم بأي عمل فيه تراب وغبار، ثم جئت تستنثر وتتوضأ فإنه يخرج من أنفك تراب، فهذا التراب لو لم توجد الشعيرات لكان رأسك ممتلئ طيناً؛ لكن الله يحجز عنك هذه الأتربة عن طريق هذه الشعيرات فلا يدخل شيء، فإذا دخل الهواء من الأنف لا يدخل مباشرةً إلى الرئة، كان بالإمكان أن يدخل من الفم، لكن جعل الله له ممراً من الأنف إلى أن ينزل بواسطة البلعوم إلى القصبة الهوائية ثم إلى الرئة باستمرار، وفي هذه الرحلة يحصل تكييف للهواء؛ لأن درجة حرارة الهواء الخارجي -أحياناً- تكون أقل من درجة حرارة الجسم، فحرارة الجسم في الغالب (37 درجة)، لكن تكون درجة حرارة الهواء الخارجي (21 درجة)، فإذا دخل الهواء البارد إلى الرئة فجأة، فإنه يحصل للإنسان زكام، فالهواء يدخل من الأنف والأنف يدفئه باستمرار ويدخل إلى الجسد وهو على درجة حرارة الجسد، ولذا ترون الإنسان في أيام البرد يصير أنفه أحمر، لماذا؟ لأن الشعيرات الدموية الموجودة فيه تعمل أكثر لكي تدفئ الهواء، فلا ينزل الهواء إلا مكيفاً، فهذه نعمة من نعم الله عليك.

وإذا أصبت بالزكام وجلست أسبوعين أو ثلاثة وأنت لا تشم تعيش حياتك كلها بصعوبة جداً، ولا تطعم شيئاً من ألذ المأكولات، ولا تشم شيئاً من الروائح العطرية؛ لأن الحاسة عندك ليست سليمة، هذه نعمة من نعم الله عليك، وفتش في نعم الله عليك.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2930 استماع
كيف تنال محبة الله؟ 2929 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2805 استماع
أمن وإيمان 2678 استماع
حال الناس في القبور 2676 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2605 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2572 استماع
النهر الجاري 2478 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2468 استماع
مرحباً شهر الصيام 2403 استماع