سلسلة شرح كتاب الفوائد [15]


الحلقة مفرغة

أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

فمرحباً بكم، كما كان يرحب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحابته، ولنا فيه قدوة حسنة، وكان كلما التقى بالصحابة يقول: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى ولا آثمين، فكان مبشراً صلى الله عليه وسلم وما كان منفراً، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وكان عليه الصلاة والسلام دواءً وشفاءً للعليل، وكان الطبيب والحبيب صلى الله عليه وسلم، وكان دائماً يقول: (ما يشاك أحدكم بشوكة إلا وأجد ألم ذلك في قلبي).

وعندما نزل قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، كان يقول: (يا رب! وأنا لا أرضى وواحد من أمتي في النار)، وكان الله عز وجل يقول له ولجبريل: (يا جبريل نبئ محمداً أننا لن نسوءه في أمته، وسوف نرضيه فيهم)، وكان يقول: (ماذا أعطاني ربي يا جبريل؟ قال: إن الله حرم النار على كل من قال لا إله إلا الله).

فهذه كلها مبشرات، ولقد كان صلى الله عليه وسلم كما قال فيه ربه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن معشر الأنبياء ما ورثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا علماً يتعلمه الناس)

فنحن مع واحد من هؤلاء الذين ورثوا ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية ، وإذا كان التلميذ هكذا، فما بالنا بأستاذه.

مرة من المرات كان ابن القيم يمشي على النهر، فسأله أحد تلاميذه: ماذا أعمل بذنوبي، فأنا أذنب وأتوب، ثم أعود فأذنب وأتوب، فماذا أفعل؟ فكانت إجابته كتاباً بأكمله وسماه كتاب (الفوائد).

وكان ابن قيم الجوزية رضي الله عنه تلميذ شيخ الإسلام ، وكان له جملة طيبة يقولها وهي: أردت أن أدخل على الله، فطرقت الأبواب، فوجدت على كل باب كظيظاً من الناس.

ومعنى: كظيظاً أي: أن الأبواب مزدحمة، فكانت نظرة الصالحين أن هناك ازدحاماً على فعل الخير، وهذه كانت وجهة نظره، لكن لو كان منحرفاً لقال: لا يوجد من يعمل خيراً في هذا الزمان؟ لكن ابن القيم كان يرى الصورة الطيبة في المجتمع.

قال: فطرقت باب الذل فوجدت عليه قليلاً من الناس، فوجدته أقرب الأبواب إلى الله عز وجل، ثم ذكر الآية الكريمة وهي قوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، فإجابة الدعاء تأتي للعبد كلما ذل.

ولذلك: رب معصية أورثتك ذلاً وانكسارا، خير لك من طاعة أورثتك عزاً واستكباراً.

أي: كلما أذنبت واستحيت من الله أكون ذليلاً وخاضعاً، وأتوب وأبكي، وأحشر نفسي مع الصالحين، ومع أهل العلم، وفي مجالس الذكر، وهو أفضل من أن أعمل طاعة، وإن عملت فربما يأتي أحد لينصحك وترد عليه بقولك: أنا أصلي الصلاة في وقتها، وأزكي الزكاة في وقتها، وأقوم الليل، وبيني وبين الله أعمال وأسرار، فلا داعي لأن تنصحني.

ومن يقول هذا فلا أظن أن بينه وبين الله عماراً، وإلا لما خرب على المدى الخاص والعام، نسأل الله أن يعمر قلوبنا بذكره، وأن يتولانا وإياكم برحمته.

وسوف نقرأ اليوم ثلاث فقرات من كتاب الفوائد لـابن قيم الجوزية ، فنقول:

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ خلق بدن ابن آدم من الأرض، وروحه من ملكوت السماء، وقرن بينهما ].

نحن نعلم أن الله عندما خلق أبانا آدم أمر جبريل أن يأتي له بقبضة من بقاع الأرض، فجاء جبريل بقبضة من بقاع الأرض كلها، فإذا اعتبرنا الأرض مثلاً قارات: فهو أخذ من أفريقيا قبضة ومن آسيا قبضة ومن أوروبا قبضة ومن الأمريكتين قبضة، ومن أستراليا قبضة، والقبضة كما يفعل المهندسون الزراعيون، حين يأخذون عينات من الأرض ليعرفوا هل تنفع للبناء أم لا.

فجاء بنو آدم على قدر الأرض التي أتوا منها، مثلاً: هناك أخ يحسن إلى أخيه دائماً، أخوه لا يزوره ولا يحسن إليه، ولا يقف معه في أي موقف، فيقول الناس: ما هي طينة هذا الرجل؟

فالأصل هو الطين، ولكن هذا الطين قد يوجد فيه ذهب، وقد يوجد فيه قطران، وفيه أشكال كثيرة، فمن الممكن أن واحداً منا طينته من ذهب، أو جاء من أرقى أنواع الأحجار الكريمة، فتجد الناس يقولون: فلان هذا مثل الذهب، أو فلانة مثل الزمرد في الأخلاقيات، فإذا أريد الرقي به يقال: ملاك؛ لأنه لا يخطئ، أي: أنه من عالم النور.

تباين طباع الناس لتباين معادنهم

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فجاء بنو آدم على قدر الأرض التي أتوا منها، فمنهم سريع الغضب بطيء الفيء)

يعني: أنه يغضب بسرعة، وعندما نأتي نصالحه فلا يلين إلا بصعوبة بالغة، فهذا من صخر ناري، لأن الصخر الناري بطبيعته سائح وغاضب وهائج، وعندما تريد أن تحوله إلى طين هادئ وتجعله يبرد، يحتاج إلى وقت كبير.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ومنهم بطيء الغضب سريع الفيء).

وهذا هو الحليم، وكاد الحليم أن يكون نبياً، ولذلك عندما أراد الأعرابي أن يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد غزوة بني المصطلق، والمنافقون تكلموا في حادثة الإفك، التي اتهموا فيها السيدة عائشة -والعياذ بالله- بالفاحشة ورموها بالزنا، فكانت نفسية الرسول صلى الله عليه وسلم متعبة، والأعرابي يقول: لا بد أن أكلمه، والصحابة ومنهم عمر بن الخطاب فكان يرده ويقول: لن تدخل الآن، والأعرابي يقول: لا بد أن أكلمه، وعمر بن الخطاب يصر على أنه لن يدخل، والأعرابي واثق من حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والذي بعثه بالحق نبياً! لن أدعه حتى يبتسم، أي: لن أكلمه فقط، ولكن سأضحكه كذلك، فكان واثقاً من سعة صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان الرسول إذا تحدث مع أحد أعطاه كل وجهه، وإذا تحدث مع قوم -يعني: الصحابة- أعطى كل واحد حظه من النظر، حتى يظن كل حاضر أنه لا يهتم إلا به في الجلسة، أي: أنه كان يعدل في نظراته للصحابة، حتى يظن كل صحابي أنه كان ينظر إليه طوال الجلسة، حتى أن عمرو بن العاص يقول: منذ أن أسلمت ما رفعت عيني في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم هيبة.

ويقال: إن الصحابي الوحيد الذي كانت عينه موجهة دائماً إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيدنا أبو بكر ، وكان أول ما يصعد الرسول صلى الله عليه وسلم المنبر يوم الجمعة، يأتي سيدنا أبو بكر ويجلس تجاه أول درجة.

وكان أبو بكر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحب ثلاثة: أحب الجلوس بين يديك، وأحب النظر إليك، وإنفاق مالي عليك.

أما عمر بن الخطاب فيقول: أحب الحق، وقول الحق، والنهي عن المنكر.

فكل واحد منهم يعبر عن الملكة التي فيه، والفضل الذي آتاه الله لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون فيه.

فـعثمان بن عفان يقول: أنا يا رسول الله! أحب إطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام، فحمل صفة الكرم والتواضع وقيام الليل.

وأما علي بن أبي طالب فيقول: أنا أحب الصوم في الصيف، وإكرام الضيف، وقتل العدو بالسيف.

أما أبا ذر الذي جاء يوماً يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوليه ولاية، فقال له رسول الله: أنت ضعيف يا أبا ذر !، وإنها في الدنيا ولاية، وفي الآخر ندامة، إلا من أخذها بحقها، وحقها عند الله عظيم، يا أبا ذر ! يؤتى بالحاكم العادل يوم القيامة يقف على الصراط، ينتفض الجسر به انتقاضة، يتفرق كل عضو من أعضائه في مكان لا تعاد إليه إلا بعدله.

ويقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أقلت الغبراء، وما أظلت الخضراء، أصدق لهجة من أبي ذر).

حب أبي ذر ما يكرهه الناس

وأبو ذر يقول: أنا أحب ثلاثة أشياء: أحب الجوع، وأحب المرض، وأحب الموت.

فالشخص يستغرب كيف يحب هذه الأشياء التي يكرهها الناس، حتى عندما يجوع أحدنا كما يقول المصريون: (عصافير بطني صوصو) وأنا أشك أن المصري عنده عصافير في بطنه، وإلا فكان عليه أن يقول: بقر بطني، أو جاموس بطني، أما العصفور فيكتفي بربع رغيف.

ولذلك فهناك نصيحة قبل رمضان، أي: أن توزنوا أنفسكم قبل رمضان، وأريد أن تأتي ليلة العيد وقد نقصتم من الوزن عشرة كيلو. إن شاء الله، فعليكم أن تخففوا من الأكل والعزائم؛ لتذهبوا إلى صلاة التراويح والجسم خفيف.

وهذا امتحان عملي إن دخلنا في رمضان، وأنا أظن أن أغلب المصريين الذين أعرفهم على الأقل، يزيد وزنهم بعد رمضان، ونحن نريد في رمضان ريجيم طبيعي، ونريد أن يخف وزننا، ولو حتى وجبة واحدة.

وبالنسبة للسحور، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تسحروا فإن في السحور بركة)، وقال: (ولو تمرات ثلاث، ولو حسوات من ماء) وهكذا السحور.

وقد يتوهم الصائم أنه كلما تسحر أكثر كلما استمر شبعه حتى الفطور، ولكن الحقيقة أن أي أكل يؤكل مهما كان ومهما كثر تهضمه في المعدة فأثره خلال أربع ساعات، أما بعدها فلا يكون له أثر، حتى أصعب أنواع الأكل وهو الفول، والذي يسمى عند المصريين (مسمار البطن) لا يأخذ أكثر من أربع ساعات ونصف في الهضم، يعني: إذا تسحر الصائم الساعة الثانية بعد نصف الليل، تأتي الساعة السادسة والنصف صباحاً ولا يوجد أثر للفول.

وبعض الناس تجده قبل أذان الفجر يشرب ماء كثيراً، وكلما علم أن الفجر لم يؤذن له بعد يشرب ماءً، وبعد ذلك يصلي الفجر وينام في الصلاة؛ لأنه شرب كثيراً وأكل كثيراً.

إذاً: فالامتحان العملي للمسلم أن يزن نفسه في أول رمضان، ولا بد أن ينقص وزنه خلال شهر رمضان من خمسة إلى عشرة كيلوهات.

فسيدنا أبو ذر كان يحب الجوع، ويحب المرض، ويحب الموت، فلما سئل عن السبب، قال: أنا إن جعت رق قلبي، وإذا مرضت خف ذنبي، وإذا مت لقيت ربي.

فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (جاء الناس على قدر الأرض التي جاءوا منها، فمنهم: سريع الغضب بطيء الفيء، ومنهم بطيء الغضب بطيء الفيء، ومنهم سريع الغضب سريع الفيء).

ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن

وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومنهم سريع الغضب سريع الفيء) وهذا الذي يغصب سريعاً ويهدأ بسرعة، وكما يقول المصريون: (كلمة توديه وكلمة تجيبه).

وعلى المؤمن أن لا يكون سريع الغضب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا تحكم وأنت عضبان).

ويذكر أن أعرابياً ثار على زوجته وهي واقفة على الدرج، فقال لها: إذا صعدت درجة فأنت طالق، وإن نزلت درجة فأنت طالق، وإن وقفت مكانك فأنت طالق، فرمت بنفسها من على الدرج، فتبسم الرجل وقال: لو مات الإمام مالك لاحتاج الناس إليك في الفقه.

ولذلك المسلم بطبيعته حليم، وكما روي عن رسول الله: (كاد الحليم أن يكون نبيا).

وعندما دخل الرجل الأعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عازم على أنه سيجعله يبتسم، قال له: يا رسول الله! تقول: إن المسيخ الدجال إذا جاء أجدبت الأرض، وتقلصت ضروع البهائم، وامتنعت السماء عن المطر، ولا طعام إلا معه، يا رسول الله! هل ترى أن أدعي أنني آمنت به، فأضرب في ثريده حتى أشبع، ثم أعود فأكفر به مرة أخرى، فتبسم الحبيب حتى بدت نواجذه، وقال: (بل يغنيك الله بما يغني عباده المؤمنين)، فقال: أين أذهب يومئذ يا رسول الله؟ فقال: (طعام المؤمنين يومئذ التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، يلهمهم الله به كما يلهمون النفس).

فالإنسان عبارة عن تركيبة من شيئين: من طينة الأرض؛ لكي يستطيع العيش عليها من عناصر الأرض جميعها؛ لأنه مركب منها، والشيء الثاني: نفخة من روح الله؛ لأن الله لم يأمر الملائكة أن تسجد لآدم إلا بعد أن نفخ فيه الروح، قال تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:29].

ونفخة الله معناها أن الله سبحانه وتعالى يضع سره في هذا المخلوق.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فجاء بنو آدم على قدر الأرض التي أتوا منها، فمنهم سريع الغضب بطيء الفيء)

يعني: أنه يغضب بسرعة، وعندما نأتي نصالحه فلا يلين إلا بصعوبة بالغة، فهذا من صخر ناري، لأن الصخر الناري بطبيعته سائح وغاضب وهائج، وعندما تريد أن تحوله إلى طين هادئ وتجعله يبرد، يحتاج إلى وقت كبير.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ومنهم بطيء الغضب سريع الفيء).

وهذا هو الحليم، وكاد الحليم أن يكون نبياً، ولذلك عندما أراد الأعرابي أن يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد غزوة بني المصطلق، والمنافقون تكلموا في حادثة الإفك، التي اتهموا فيها السيدة عائشة -والعياذ بالله- بالفاحشة ورموها بالزنا، فكانت نفسية الرسول صلى الله عليه وسلم متعبة، والأعرابي يقول: لا بد أن أكلمه، والصحابة ومنهم عمر بن الخطاب فكان يرده ويقول: لن تدخل الآن، والأعرابي يقول: لا بد أن أكلمه، وعمر بن الخطاب يصر على أنه لن يدخل، والأعرابي واثق من حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والذي بعثه بالحق نبياً! لن أدعه حتى يبتسم، أي: لن أكلمه فقط، ولكن سأضحكه كذلك، فكان واثقاً من سعة صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان الرسول إذا تحدث مع أحد أعطاه كل وجهه، وإذا تحدث مع قوم -يعني: الصحابة- أعطى كل واحد حظه من النظر، حتى يظن كل حاضر أنه لا يهتم إلا به في الجلسة، أي: أنه كان يعدل في نظراته للصحابة، حتى يظن كل صحابي أنه كان ينظر إليه طوال الجلسة، حتى أن عمرو بن العاص يقول: منذ أن أسلمت ما رفعت عيني في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم هيبة.

ويقال: إن الصحابي الوحيد الذي كانت عينه موجهة دائماً إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيدنا أبو بكر ، وكان أول ما يصعد الرسول صلى الله عليه وسلم المنبر يوم الجمعة، يأتي سيدنا أبو بكر ويجلس تجاه أول درجة.

وكان أبو بكر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحب ثلاثة: أحب الجلوس بين يديك، وأحب النظر إليك، وإنفاق مالي عليك.

أما عمر بن الخطاب فيقول: أحب الحق، وقول الحق، والنهي عن المنكر.

فكل واحد منهم يعبر عن الملكة التي فيه، والفضل الذي آتاه الله لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون فيه.

فـعثمان بن عفان يقول: أنا يا رسول الله! أحب إطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام، فحمل صفة الكرم والتواضع وقيام الليل.

وأما علي بن أبي طالب فيقول: أنا أحب الصوم في الصيف، وإكرام الضيف، وقتل العدو بالسيف.

أما أبا ذر الذي جاء يوماً يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوليه ولاية، فقال له رسول الله: أنت ضعيف يا أبا ذر !، وإنها في الدنيا ولاية، وفي الآخر ندامة، إلا من أخذها بحقها، وحقها عند الله عظيم، يا أبا ذر ! يؤتى بالحاكم العادل يوم القيامة يقف على الصراط، ينتفض الجسر به انتقاضة، يتفرق كل عضو من أعضائه في مكان لا تعاد إليه إلا بعدله.

ويقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أقلت الغبراء، وما أظلت الخضراء، أصدق لهجة من أبي ذر).

وأبو ذر يقول: أنا أحب ثلاثة أشياء: أحب الجوع، وأحب المرض، وأحب الموت.

فالشخص يستغرب كيف يحب هذه الأشياء التي يكرهها الناس، حتى عندما يجوع أحدنا كما يقول المصريون: (عصافير بطني صوصو) وأنا أشك أن المصري عنده عصافير في بطنه، وإلا فكان عليه أن يقول: بقر بطني، أو جاموس بطني، أما العصفور فيكتفي بربع رغيف.

ولذلك فهناك نصيحة قبل رمضان، أي: أن توزنوا أنفسكم قبل رمضان، وأريد أن تأتي ليلة العيد وقد نقصتم من الوزن عشرة كيلو. إن شاء الله، فعليكم أن تخففوا من الأكل والعزائم؛ لتذهبوا إلى صلاة التراويح والجسم خفيف.

وهذا امتحان عملي إن دخلنا في رمضان، وأنا أظن أن أغلب المصريين الذين أعرفهم على الأقل، يزيد وزنهم بعد رمضان، ونحن نريد في رمضان ريجيم طبيعي، ونريد أن يخف وزننا، ولو حتى وجبة واحدة.

وبالنسبة للسحور، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تسحروا فإن في السحور بركة)، وقال: (ولو تمرات ثلاث، ولو حسوات من ماء) وهكذا السحور.

وقد يتوهم الصائم أنه كلما تسحر أكثر كلما استمر شبعه حتى الفطور، ولكن الحقيقة أن أي أكل يؤكل مهما كان ومهما كثر تهضمه في المعدة فأثره خلال أربع ساعات، أما بعدها فلا يكون له أثر، حتى أصعب أنواع الأكل وهو الفول، والذي يسمى عند المصريين (مسمار البطن) لا يأخذ أكثر من أربع ساعات ونصف في الهضم، يعني: إذا تسحر الصائم الساعة الثانية بعد نصف الليل، تأتي الساعة السادسة والنصف صباحاً ولا يوجد أثر للفول.

وبعض الناس تجده قبل أذان الفجر يشرب ماء كثيراً، وكلما علم أن الفجر لم يؤذن له بعد يشرب ماءً، وبعد ذلك يصلي الفجر وينام في الصلاة؛ لأنه شرب كثيراً وأكل كثيراً.

إذاً: فالامتحان العملي للمسلم أن يزن نفسه في أول رمضان، ولا بد أن ينقص وزنه خلال شهر رمضان من خمسة إلى عشرة كيلوهات.

فسيدنا أبو ذر كان يحب الجوع، ويحب المرض، ويحب الموت، فلما سئل عن السبب، قال: أنا إن جعت رق قلبي، وإذا مرضت خف ذنبي، وإذا مت لقيت ربي.

فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (جاء الناس على قدر الأرض التي جاءوا منها، فمنهم: سريع الغضب بطيء الفيء، ومنهم بطيء الغضب بطيء الفيء، ومنهم سريع الغضب سريع الفيء).

وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومنهم سريع الغضب سريع الفيء) وهذا الذي يغصب سريعاً ويهدأ بسرعة، وكما يقول المصريون: (كلمة توديه وكلمة تجيبه).

وعلى المؤمن أن لا يكون سريع الغضب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا تحكم وأنت عضبان).

ويذكر أن أعرابياً ثار على زوجته وهي واقفة على الدرج، فقال لها: إذا صعدت درجة فأنت طالق، وإن نزلت درجة فأنت طالق، وإن وقفت مكانك فأنت طالق، فرمت بنفسها من على الدرج، فتبسم الرجل وقال: لو مات الإمام مالك لاحتاج الناس إليك في الفقه.

ولذلك المسلم بطبيعته حليم، وكما روي عن رسول الله: (كاد الحليم أن يكون نبيا).

وعندما دخل الرجل الأعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عازم على أنه سيجعله يبتسم، قال له: يا رسول الله! تقول: إن المسيخ الدجال إذا جاء أجدبت الأرض، وتقلصت ضروع البهائم، وامتنعت السماء عن المطر، ولا طعام إلا معه، يا رسول الله! هل ترى أن أدعي أنني آمنت به، فأضرب في ثريده حتى أشبع، ثم أعود فأكفر به مرة أخرى، فتبسم الحبيب حتى بدت نواجذه، وقال: (بل يغنيك الله بما يغني عباده المؤمنين)، فقال: أين أذهب يومئذ يا رسول الله؟ فقال: (طعام المؤمنين يومئذ التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، يلهمهم الله به كما يلهمون النفس).

فالإنسان عبارة عن تركيبة من شيئين: من طينة الأرض؛ لكي يستطيع العيش عليها من عناصر الأرض جميعها؛ لأنه مركب منها، والشيء الثاني: نفخة من روح الله؛ لأن الله لم يأمر الملائكة أن تسجد لآدم إلا بعد أن نفخ فيه الروح، قال تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:29].

ونفخة الله معناها أن الله سبحانه وتعالى يضع سره في هذا المخلوق.

والله خلق ثلاثة أنواع من المخلوقات:

النوع الأول: خير محض لا يعرف الشر.

والنوع الثاني: وشر محض لا يعرف الخير.

والنوع الثالث: مركب من الخير والشر.

الخير المحض والشر المحض

أما النوع الأول: فالخير المحض الذي لا يعرف الشر هم الملائكة؛ لأنهم لا يخطئون، حتى ولو حاولوا؛ لأنهم ليس لديهم نوازع الشر، ولذلك طلب الكفار من الرسول أن يأتي بملك من الملائكة يؤيده أو يمشي معه؛ لكي يصدقوه، فقال الله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء:95].

فلو نزل ملك من السماء على سبيل المثال إلى الأرض، وكان رسولاً، لقال مثلاً: لماذا تنامون ست ساعات في اليوم، يكفيكم ساعتان من النوم، وهو يقول هذا لأنه لا ينام أصلاً، ولا يعرف معنى النوم، ولا يعرف معنى الأكل والشرب، ولا حتى النوازع الغريزية، مثل: الغضب، والانتقام، والتعدي على الغير، فتجده يستغرب كل هذه الأشياء.

إذاً: لو أرسل الله عز وجل ملكاً إلى الناس لكانت للناس حجة على الله، ولكن الله تعالى يقول على لسان سيدنا إبراهيم: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، وكان الكفار يقولون: ما جربنا عليك كذباً قط يا محمد! فقال: لو قلت لكم: إن خيلاً خلف هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، فقال: أنا رسول الله إليكم جميعاً، قالوا: كذبت. فالمسألة كما قال تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]؛ يجحدونه لأنهم لم يجربوا عليه الكذب.

وكذلك في مسألة الحجر عندما هدمت السيول الكعبة، وكان عمره صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين عاماً، فاختلفوا أيهم يضع الحجر الأسود، وكادوا أن يتقاتلوا في المسجد الحرام، فقال أحدهم: لماذا نتقاتل؟ نحتكم إلى أول شخص يدخل من باب المسجد، فإذا بالحبيب صلى الله عليه وسلم يدخل فقالوا: هذا هو الأمين محمد .. قد رضينا بالأمين محمد

وعندما وضحوا له المشكلة، قام ووضع عباءته ووضع الحجر في وسطها، ثم قال: أين القبائل؟ كل قبيلة تبعث مندوبها، ويمسك بطرف العباءة، فحملوه جميعاً، وبعد أن اقتربوا من مكانه أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه الشريفتين ووضعه مكانه.

وأما النوع الثاني: فالشر المحض، الذي لا يعرف الخير، وهم الشياطين.

ما فيه خير وشر

وأما النوع الثالث: فالنوع المركب من الخير والشر، وهو نحن بني آدم، فإذا تغلبت نوازع الخير على نوازع الشر، صرت عند الله أفضل من الملائكة، ولذلك قال الله في الحديث القدسي: (يا عبدي! أنت عندي كبعض ملائكتي) يعني: ليس ملكاً واحداً بل مجموعة ملائكة.

ولذلك عندما قال الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، فأتى ملك من الملائكة فيما رواه الترمذي وقال: يا رب! أدعوك أن ترزقني عمراً مائة ألف عام، ومائة ألف جناح، وقوة مائة ألف ملك، فقال له: لماذا؟ قال: أريد أن أطوف حول العرش مسبحاً بحمدك، فأعطاه الله ما يريد، وبعد أن انتهت المائة ألف عام، واكتشف هذا الملك أنه لم ينه لوناً واحداً من ألوان العرش؛ فالأرض والسموات بجانب الكرسي مثل الحلقة في الصحراء، والكرسي بجانب العرش مثل الحلقة في الصحراء، ففي ذلك الوقت وقف الملك أمام جنة من الجنات يبكي، فخرجت واحدة من الحور العين، وقالت: مالك تبكي عبد الله في مكان لا يحل فيه البكاء؟ فقال: سألت ربي كذا وكذا، وأعطاني، ولم أكمل شيئاً، فقالت له: بفعلك الذي صنعت، ما بلغت جزءاً من مائة ألف جزء من ملك أبي بكر الصديق في الجنة.

فالعبد منا إذا تغلبت فيه نوازع الخير على نوازع الشر، صار عند الله أفضل من الملائكة، وإذا تغلب جانب الشر -كما نرى في الغالبية- على جانب الخير، كأن أسوأ عند الله من الشياطين؛ لأن الشيطان بطبيعته لا يفعل خيراً؛ لأنه ليس الخير مركباً فيه، لكن الإنسان فيه جانب الخير والشر، فإذا تغلب عليه جانب الشر، فهنا المصيبة.

فالإنسان قبضة من تراب الأرض ونفخة من روح الله عز وجل.

ولذلك نرى الرؤى في المنام، وما يراه الناس ثلاثة: الرؤى: جمع رؤيا، وهناك رؤيا، ورؤية.

الرؤية تكون بالعين الباصرة، لكن رأى رؤيا أي في المنام، فهناك رؤيا وحلم وكابوس.

فالرؤيا: هي أن تكون خالي الذهن من أي موضوع، وترى شيئاً مبشراً بأمر من أمور الآخرة، أو أمر فيه سعادة الدنيا، يقدمني خطوة نحو الله عز وجل، فهذه هي الرؤيا، فمثلاً: إذا رأى أحد الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه رؤيا، والآخر رأى أبا بكر الصديق فهذه رؤيا أيضاً.

أتاني رجل وقال لي: ابنتي عمرها إحدى عشرة سنة، رأت أنها جالسة في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة كلهم، حتى عرفت الصحابة واحداً واحداً، وكأنها كانت تشير بيدها: هذا أبو بكر وهذا عمر وهذا عثمان وهذا علي. فقلت له: إما أن ابنتك حافظة للقرآن، أو أنها ستتم حفظ القرآن. فقال لي: بقي لها جزء.

فهي قد دخلت في الصحبة، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتم حفظ القرآن وعمل به، ما بينه وبين النبوة إلا أن يوحى إليه) وفي الآخرة يقال له في الجنة: اقرأ وترق، اقرأ وترق، حتى يصل إلى آخر سورة يحفظها، ويجد نفسه في الفردوس بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأهم شيء العمل، والله ولو حفظ آية وعمل بها لنفعته كثيراً.

قال سهل بن عبد الله: حفظت القرآن وعمري سبع سنين، وحفظت من الأحاديث أربعمائة ألف حديث، وتتلمذت على يد أربعمائة أستاذ، واخترت من ذلك كله حديثاً واحداً عملت به وهو: (اعمل لله بقدر حاجتك له، وللدنيا بقدر مقامك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها، وللنار بقدر صبرك عليها).

إذاً: فالإنسان يعرف أن هذه رؤيا إذا كانت صالحة، الرؤيا من الرحمن.

أما الحلم فهو من الشيطان، والحلم مثاله أن أفكر بموضوع معين، مثلاً: ابني مسافر أو مريض، أو حالتي متعبة في العمل، أو عندي مشكلة مع صاحب البيت، أو مع ورثة أو نحو ذلك، فأرى في منامي شيئاً مطابقاً للواقع الذي أعيشه، مثل الذي يأكل قبل أن ينام أكلاً مالحاً، ثم يرى أنه يشرب ماءً كثيراً، أو يغرق في ماء، فهذا بسبب أنه نام وهو عطشان، فهذه الأحلام من انعكاس الحالة النفسية.

والكابوس: يكون عندما ينام الشخص على غير وضوء، أو نام على معصية، أو وهو لم يصل العشاء، فيرى في المنام أن بيته احترق، أو أن زوجته كشرت في وجهه في الرؤيا، أو شيئاً غير طبيعي، وتكون زوجته راضية عنه، وهو راض عنها.

فعندما يقوم أحد من رؤيا منقبض الصدر من النوم، فلا يحكيها لأحد؛ لأنك لو حكيتها وفسرت فسوف تقع.

فالرؤيا طائر أينما فسر وقع، فلا تفسره ودعه يطير بعيداً عنك، لكن لو فسره لك عالم سيقع على الفور.

ويفعل كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (يتفل على يساره ثلاثاً، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم) ومعنى: (يتفل) أي: ينفخ وليس يبصق.

ولكن ما الذي يجعل الإنسان يرى الرؤيا وهو نائم؟

قال العلماء: إن جسم الإنسان معتم؛ لأنه من الطين، فهو حاجز الروح، ولذلك عندما يموت العبد يقول له الله: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]، ومعنى: (حَدِيدٌ) أي: أكثر حدة، وذلك عندما رأى الحقيقة، ورأى عين اليقين.

أما النوع الأول: فالخير المحض الذي لا يعرف الشر هم الملائكة؛ لأنهم لا يخطئون، حتى ولو حاولوا؛ لأنهم ليس لديهم نوازع الشر، ولذلك طلب الكفار من الرسول أن يأتي بملك من الملائكة يؤيده أو يمشي معه؛ لكي يصدقوه، فقال الله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء:95].

فلو نزل ملك من السماء على سبيل المثال إلى الأرض، وكان رسولاً، لقال مثلاً: لماذا تنامون ست ساعات في اليوم، يكفيكم ساعتان من النوم، وهو يقول هذا لأنه لا ينام أصلاً، ولا يعرف معنى النوم، ولا يعرف معنى الأكل والشرب، ولا حتى النوازع الغريزية، مثل: الغضب، والانتقام، والتعدي على الغير، فتجده يستغرب كل هذه الأشياء.

إذاً: لو أرسل الله عز وجل ملكاً إلى الناس لكانت للناس حجة على الله، ولكن الله تعالى يقول على لسان سيدنا إبراهيم: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، وكان الكفار يقولون: ما جربنا عليك كذباً قط يا محمد! فقال: لو قلت لكم: إن خيلاً خلف هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، فقال: أنا رسول الله إليكم جميعاً، قالوا: كذبت. فالمسألة كما قال تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]؛ يجحدونه لأنهم لم يجربوا عليه الكذب.

وكذلك في مسألة الحجر عندما هدمت السيول الكعبة، وكان عمره صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين عاماً، فاختلفوا أيهم يضع الحجر الأسود، وكادوا أن يتقاتلوا في المسجد الحرام، فقال أحدهم: لماذا نتقاتل؟ نحتكم إلى أول شخص يدخل من باب المسجد، فإذا بالحبيب صلى الله عليه وسلم يدخل فقالوا: هذا هو الأمين محمد .. قد رضينا بالأمين محمد

وعندما وضحوا له المشكلة، قام ووضع عباءته ووضع الحجر في وسطها، ثم قال: أين القبائل؟ كل قبيلة تبعث مندوبها، ويمسك بطرف العباءة، فحملوه جميعاً، وبعد أن اقتربوا من مكانه أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه الشريفتين ووضعه مكانه.

وأما النوع الثاني: فالشر المحض، الذي لا يعرف الخير، وهم الشياطين.

وأما النوع الثالث: فالنوع المركب من الخير والشر، وهو نحن بني آدم، فإذا تغلبت نوازع الخير على نوازع الشر، صرت عند الله أفضل من الملائكة، ولذلك قال الله في الحديث القدسي: (يا عبدي! أنت عندي كبعض ملائكتي) يعني: ليس ملكاً واحداً بل مجموعة ملائكة.

ولذلك عندما قال الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، فأتى ملك من الملائكة فيما رواه الترمذي وقال: يا رب! أدعوك أن ترزقني عمراً مائة ألف عام، ومائة ألف جناح، وقوة مائة ألف ملك، فقال له: لماذا؟ قال: أريد أن أطوف حول العرش مسبحاً بحمدك، فأعطاه الله ما يريد، وبعد أن انتهت المائة ألف عام، واكتشف هذا الملك أنه لم ينه لوناً واحداً من ألوان العرش؛ فالأرض والسموات بجانب الكرسي مثل الحلقة في الصحراء، والكرسي بجانب العرش مثل الحلقة في الصحراء، ففي ذلك الوقت وقف الملك أمام جنة من الجنات يبكي، فخرجت واحدة من الحور العين، وقالت: مالك تبكي عبد الله في مكان لا يحل فيه البكاء؟ فقال: سألت ربي كذا وكذا، وأعطاني، ولم أكمل شيئاً، فقالت له: بفعلك الذي صنعت، ما بلغت جزءاً من مائة ألف جزء من ملك أبي بكر الصديق في الجنة.

فالعبد منا إذا تغلبت فيه نوازع الخير على نوازع الشر، صار عند الله أفضل من الملائكة، وإذا تغلب جانب الشر -كما نرى في الغالبية- على جانب الخير، كأن أسوأ عند الله من الشياطين؛ لأن الشيطان بطبيعته لا يفعل خيراً؛ لأنه ليس الخير مركباً فيه، لكن الإنسان فيه جانب الخير والشر، فإذا تغلب عليه جانب الشر، فهنا المصيبة.

فالإنسان قبضة من تراب الأرض ونفخة من روح الله عز وجل.

ولذلك نرى الرؤى في المنام، وما يراه الناس ثلاثة: الرؤى: جمع رؤيا، وهناك رؤيا، ورؤية.

الرؤية تكون بالعين الباصرة، لكن رأى رؤيا أي في المنام، فهناك رؤيا وحلم وكابوس.

فالرؤيا: هي أن تكون خالي الذهن من أي موضوع، وترى شيئاً مبشراً بأمر من أمور الآخرة، أو أمر فيه سعادة الدنيا، يقدمني خطوة نحو الله عز وجل، فهذه هي الرؤيا، فمثلاً: إذا رأى أحد الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه رؤيا، والآخر رأى أبا بكر الصديق فهذه رؤيا أيضاً.

أتاني رجل وقال لي: ابنتي عمرها إحدى عشرة سنة، رأت أنها جالسة في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة كلهم، حتى عرفت الصحابة واحداً واحداً، وكأنها كانت تشير بيدها: هذا أبو بكر وهذا عمر وهذا عثمان وهذا علي. فقلت له: إما أن ابنتك حافظة للقرآن، أو أنها ستتم حفظ القرآن. فقال لي: بقي لها جزء.

فهي قد دخلت في الصحبة، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتم حفظ القرآن وعمل به، ما بينه وبين النبوة إلا أن يوحى إليه) وفي الآخرة يقال له في الجنة: اقرأ وترق، اقرأ وترق، حتى يصل إلى آخر سورة يحفظها، ويجد نفسه في الفردوس بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأهم شيء العمل، والله ولو حفظ آية وعمل بها لنفعته كثيراً.

قال سهل بن عبد الله: حفظت القرآن وعمري سبع سنين، وحفظت من الأحاديث أربعمائة ألف حديث، وتتلمذت على يد أربعمائة أستاذ، واخترت من ذلك كله حديثاً واحداً عملت به وهو: (اعمل لله بقدر حاجتك له، وللدنيا بقدر مقامك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها، وللنار بقدر صبرك عليها).

إذاً: فالإنسان يعرف أن هذه رؤيا إذا كانت صالحة، الرؤيا من الرحمن.

أما الحلم فهو من الشيطان، والحلم مثاله أن أفكر بموضوع معين، مثلاً: ابني مسافر أو مريض، أو حالتي متعبة في العمل، أو عندي مشكلة مع صاحب البيت، أو مع ورثة أو نحو ذلك، فأرى في منامي شيئاً مطابقاً للواقع الذي أعيشه، مثل الذي يأكل قبل أن ينام أكلاً مالحاً، ثم يرى أنه يشرب ماءً كثيراً، أو يغرق في ماء، فهذا بسبب أنه نام وهو عطشان، فهذه الأحلام من انعكاس الحالة النفسية.

والكابوس: يكون عندما ينام الشخص على غير وضوء، أو نام على معصية، أو وهو لم يصل العشاء، فيرى في المنام أن بيته احترق، أو أن زوجته كشرت في وجهه في الرؤيا، أو شيئاً غير طبيعي، وتكون زوجته راضية عنه، وهو راض عنها.

فعندما يقوم أحد من رؤيا منقبض الصدر من النوم، فلا يحكيها لأحد؛ لأنك لو حكيتها وفسرت فسوف تقع.

فالرؤيا طائر أينما فسر وقع، فلا تفسره ودعه يطير بعيداً عنك، لكن لو فسره لك عالم سيقع على الفور.

ويفعل كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (يتفل على يساره ثلاثاً، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم) ومعنى: (يتفل) أي: ينفخ وليس يبصق.

ولكن ما الذي يجعل الإنسان يرى الرؤيا وهو نائم؟

قال العلماء: إن جسم الإنسان معتم؛ لأنه من الطين، فهو حاجز الروح، ولذلك عندما يموت العبد يقول له الله: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]، ومعنى: (حَدِيدٌ) أي: أكثر حدة، وذلك عندما رأى الحقيقة، ورأى عين اليقين.

تكلمنا سابقاً عن أنواع الفرار إلى الله عز وجل، وقلنا: هناك فرار السعداء وفرار الأشقياء، وفرار السعداء هو فرارهم من أنفسهم إلى الله، مثلما فعل الصحابة، ومثلما حصل في قصة أصحاب الكهف، فهذا هو فرار السعداء.

اللهم اجعلنا من الفارين السعداء إليك يا رب.

وفرار الأشقياء فرار من الله والعياذ بالله، فتكون دروس العلم ثقيلة على قلبه، وكذا فعل الخير وصلة الرحم، ونحو هذه الأشياء، فيستثقلها.

وفرار السعداء أنواع: فرار العامة، وفرار الخاصة، وفرار خاصة الخاصة.

أما فرار العامة: فهو فرارنا كلنا، وهو فرارنا من المعصية إلى الطاعة، ومن الذنب إلى التوبة، ومن الكذب إلى الصدق، ومن الانحراف إلى الاستقامة، ومن الجهل إلى العلم، وهذا الفرار فرض عين، ويجب على كل إنسان أن يفر من حالة الجهل إلى حالة العلم.

وأما فرار الخاصة: فهو فرارهم من علم اليقين إلى عين اليقين، فمثلاً: كلنا يعلم أن الله كريم، ولكن نريد أن يتحول هذا العلم إلى حقيقة كائنة أمام عيني، أرى كرمه علي في الإسلام وفي الصحة وفي الأولاد وفي كل النعم، فأرى كرم الله في كل لحظة بعيني، فأتحول من التطبيق النظري إلى التطبيق العملي، كما كان الصحابة رضي الله عنهم، مثلاً: أنس بن النضر رضي الله عنه كان يقول: أشم رائحة الجنة دون أحد. فهذا عين يقين؛ لأنه شم رائحة الجنة في الدنيا.

وكلنا يعلم أن للجنة رائحة، وأنها لتشم من مسيرة كذا وكذا، فهذا علم، ولكن نريد أن نحول العلم إلى يقين تام، مثل حال أنس بن النضر عندما شم رائحة الجنة.

وكان بعض الصالحين يشمون رائحة الذنوب، فيقول الحسن البصري : احمدوا ربكم أن ليست للذنوب رائحة، وإلا لما جلس مسلم بجوار مسلم.

فقد ترى رجلاً محترماً يجلس بين الناس، ثم تصعد رائحة ذنوبه مثلاً، وهو يظن أن ليست له رائحة، وقد وضع عليه رائحة عطر ونحوه، ولكن لو كشف عنه غطاؤه لافتضح، نسأل الله السلامة، ونسأله أن يحسن رائحتنا ظاهراً وباطناً آمين.

وأما فرار خاصة الخاصة: فهو الفرار مما سوى الله، أي: من كل شيء إلا الله، ولذلك عندما ينام الإنسان تبدأ الروح تغادر البدن، فتتجول في عالم الملكوت، ويذهب هنا وهنا، ويتجول ويجتمع مع أحبابه وأهله، والذي يأتي ويذهب، والحوادث ونحو ذلك، ثم بعد ذلك يجد أن الحلم الذي رآه، أو الرؤيا التي رآها قد تحققت؛ لأنها بدأت الروح هكذا، والصحابة والصالحون كانوا في حالة يقظتهم كحالتنا في منامنا، مثل سيدنا عمر بن الخطاب عندما وقف على المنبر وقال: يا سارية ! الجبل، فسمعه سارية وهو على بعد مسيرة شهر منه.

كذلك ما جاء عن سيدنا علي أنه قال لمن سأله عطاء: لو زادك الرسول لزدناك.

وكذا أنس بن مالك مر بالسوق فنظر إلى امرأة ثم دخل على عثمان فقال له: أيدخل علي أحدكم وفي عينيه آثار من الزنا؟ وهو لم يكن معه.

ويقال: إن أحد الصالحين كان يصلي وراء أستاذه، فقرأ الأستاذ: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا [الشورى:49-50]، قال: فخطر ببالي أن معنى (يهب لمن يشاء إناثاً) أي: لمن يشاء حسنات، (ويهب لمن يشاء الذكور) أي: ييسره للأعمال.

(أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً) أي: أعمالاً وحسنات.

(ويجعل من يشاء عقيماً) أي: لا أعمال ولا حسنات.

فعندما فرغت الصلاة نظر الإمام إلي وقال: يا أبو العباس ما أجمل تفسيرك لكتاب الله في الصلاة.

فالمسألة بالنسبة للصالحين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، ما تقارب منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف).

فاللهم اجعل أرواحنا متقاربة، متآلفة، مجموعة في الجنة مع أبداننا يا أرحم الراحمين.

إذاً: فابن آدم خلق من الأرض، وروحه من ملكوت السماء، وقرن بينهما.

ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإذا أجاع بدنه وأسهره وأقامه في الخدمة، وجدت روحه خفة وراحة، فتاقت إلى الموضع الذي خلقت منه، واشتاقت إلى عالمها العلوي ].

أي: عندما يجيع بدنه، ويسهره في عبادة الله، ويصبح مقترباً من الله، ومقيماً لهذا البدن في الخدمة، فالروح تجد خفة، فتبتدئ تتوق وتتشوق إلى المكان الذي أتت منه؛ لأن هذا هو موطنها، والموطن غال.

سيدنا سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال: من يرتاد لي مكاناً أتنسم فيه هواء، وليكن أجمل مكان، فذهب النسر وعاد وقال له: تفضل يا نبي الله! ارتدت لك أجمل مكان، فذهب سيدنا سليمان وراء النسر، حتى وصل إلى مكان فيه شجرة يابسة وتحتها ماء راكد آسن لا يتحرك، وليس فيه هواء ولا شيء، فقال نبي الله سليمان : أهذا أجمل مكان؟ قال: نعم يا نبي الله! هذا هو المكان الذي ولدت فيه.

فكل إنسان يحن إلى المكان الذي ولد فيه، فتجد إنساناً: يقول أنا مصري، والآخر: أنا عراقي، و... الخ.

بل سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم عندما هاجر يقول أبو بكر : رأيته قد اعتدل بالناقة واغرورقت عيناه بالدموع حتى ابتلت لحيته الشريفة، وقال: (يا مكة! والله إنك لتعلمين أنك أحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت) فكانت عزيزة عليه.

وهكذا يزداد ثواب من فارق ما يحب طاعة لله سبحانه، والله وصف المزكين المؤتين، فقال: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177]، فالمسألة صحيحة، لكن رغم حبه للمال ينفقه، مثل ابن عمر فقد كان يوزع على الأطفال والناس السكر، فقالوا: ما هذا يا ابن عمر ؟ قال: إني أحب السكر، والله يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].

ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطعم أخاه حلياء صرف الله عنه مرارة يوم القيامة).

فالمسلم ما دام أجاع البدن، وأسهره، وأقامه للخدمة، فتبتدئ الروح تحن للموطن الذي جاء منه، هو أتى من عالم الملكوت، فتبتدئ الروح تتنسم عبير الطاعة وتخف وترقى، فزادها ذكر الله.