خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/943"> د. عمر عبد الكافي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/943?sub=34776"> سلسلة الدار الآخرة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
سلسلة الدار الآخرة وصف الجنة صفات أهل الجنة
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة السابعة والعشرون في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة أو عن الموت وما بعده، نسأل الله عز وجل في بداية هذه الجلسة الطيبة ألا يجعل بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا شيطاناً إلا طردته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا هديته، ولا مسافراً إلا رددته غانماً سالماً، نسألك يا مولانا رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخط والنار.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، نسألك يا مولانا رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، ارزقنا قبل الموت توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً.
اللهم استجب دعاءنا، واشفنا واشف مرضانا، وارحمنا وارحم موتانا، أوقع الكافرين في الكافرين، وأخرجنا من بينهم سالمين.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم من أراد بمسلم كيداً فاجعل اللهم كيده في نحره، اللهم لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك.
اللهم انصرنا على أعدائك أعداء الدين، اللهم أعد إلينا المسجد الأقصى، اللهم طهره من رجس اليهود، اللهم طهر بيتك المسجد الأقصى من رجس اليهود، اللهم اقتلهم بدداً، وأحصهم عدداً، ولا تبق منهم أحداً، اللهم انصرنا عليهم نصراً مؤزراً، واختم لنا منك بخاتمة السعادة أجمعين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
هذه حلقة جديدة في سلسلة الحديث عن الجنة وما فيها، ألا وهي الحلقة السادسة بإذن الله رب العالمين، نسأل الله سبحانه لنا ولكم وللمسلمين أن نكون من أهل الجنة، وسوف نقوم في هذه الحلقة إن شاء الله بزيارة لأحد قطاعات الجنة أو طائفة من سكان الجنة اللهم اجعلنا منهم يا رب!
فنحن اليوم سنقوم بزيارة لننظر إلى هؤلاء الناس ما الذي أتى بهم إلى هذا المكان؟ وقد قلت وما زلت أكرر منذ أن بدأنا في الحلقة الأولى: أن حلقات الدار الآخرة ليست دراسة أكاديمية للحشر والنشور، والبعث والحساب، والميزان والنار وما فيها، والجنة وما فيها، وإنما المسألة أكبر من ذلك؛ لأن الحديث عن الدار الآخرة حديث يمس العقيدة بالدرجة الأولى، فالإنسان الذي يواظب على جلسات الدار الآخرة ويعقلها ويتعقلها يجد أنها تمس مسألة العقيدة؛ لأنني أوقن أنني قادم لا محالة على رب كريم رحيم غفور، قهار جبار قوي، يحاسبني على صغير الأمر وكبيره، ولا أريد أن تكون هذه المشاعر أو هذه العقيدة في هامش الشعور، إنني أريدها بالنسبة لحضراتكم في مركز الاهتمام؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى هو الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، فقدم الله عز وجل ذكر الموت على ذكر الحياة، مع أن العقل يقول: إن الحياة أولاً وبعدها الموت، لكن عندما يقدم الله عز وجل ذكر الموت على ذكر الحياة فإن هذا يدل على أن مسألة الموت، وهي الأساس.
وقلنا: إن الذي يموت يموت عرفاً بالنسبة لنا، فعندما يقال: فلان مات فمعنى هذا أننا ذهبنا وأخذناه من البيت، ووضعناه في مكان آخر وأغلقنا عليه، فلا يأكل ولا يشرب، ولا يكلمنا ولا يعمل، ولا يكتسب ولا يكسب، وهذا إنما هو الجزء الظاهري في الموضوع، أما الجزء الأساسي فقد انتقل الميت من حياة الدنيا إلى حياة من نوع آخر.
إذاً: أنا أتخيل أنه لا يسمعني، وأنا لا أسمع العذاب، ولا أرى النعيم الذي هو فيه، يعني: إن القبور التي نمر عليها عبارة عن أحجار وتراب، ولكن في داخلها إما نعيم أو عذاب، فالقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، فهو إما صورة مصغرة لما سوف يراه المؤمن في جنة الرضوان، أو صورة مما سوف يراه العبد في نار جهنم.
إذاً: الميت قد انتقل، وبعد أن كان يتحرك أصبح لا يتحرك، وبعد أن كان ينمو أصبح لا ينمو، وبعد أن كان يأكل ويشرب صار لا يأكل ولا يشرب، وبعد أن كان يسب وينظر صار لا يسب ولا ينظر، ولكن هل هو يسمعني؟ نعم، هل هو يراني؟ نعم، فالميت -سبحان الله- يستطيع أن يرى ويسمع.
وقد قلنا من قبل: إن الأرواح الجديدة تستقبلها الأرواح القديمة، وتسألها عن أحوال أهل الدنيا؛ كيف حال فلان؟ وكيف حال علان؟ والأسرة الفلانية كيف حالها؟ والأسرة العلانية كيف حالها؟ فعندما يسأل أحدهم عن فلان، وكيف حال فلان؟ فتقول روح العالم الذي بينهم: دعوها حتى تستريح من عناء الدنيا، إنه جاء فقد كان عمره ستين أو سبعين سنة أو ثمانين سنة ونزل فجأة، والناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا، وإذا ما انتبهوا ندموا، ولن ينفع الندم بعد العدم، سبحان الله.
إذاً: الإنسان في الحياة الدنيا هو في حالة من النوم، وفي حالة من أحلام اليقظة، لكن اليقظة الحقة عندما ينزل القبر، قال الله له في تلك اللحظة: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] يعني: أكثر حدة، من أجل أن يرى الحقيقة بعينها، وكان العلماء يقولون له: يا أخي! يا حبيبي! لا داعي للخصام، لا داعي للمظالم، لا داعي للفوضى، اتق الله، انظر إلى حالك، انتبه أن تضيع أيامك، وينبهونك في محاضرات.. ولا فائدة، فأول ما يكشف عنه الغطاء يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] فما أن يرى الملائكة أتت عليه، وملك الموت ينزع روحه ويسلمها للملائكة، فإن كان من أهل الجنة فملائكة الرحمة، وإن كان من النوع الثاني فملائكة العذاب.
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26-27] أي: من يرقى بروح هذا؟ إن كان مؤمناً فملائكة الرحمة يرتقون بروحه، وإن كان من أهل الانحراف والفجور فملائكة العذاب.
فإن كان مؤمناً قيل له: اخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى روح وريحان، ورب راض غير غضبان، هذا عندما يمشي على ما يرضي الله، وعندما لا يتفلسف، لأنه عندما تكثر الفلسفة فاعلم أن الإيمان قد قل، وأول ما تجد شخصاً يسأل في الجبر والاختيار، وهل نحن مسيرون أم مخيرون؟ فاعرف أن إيمانه ضعيف، مثله مثل التلميذ الفاشل، نسأل الله أن يبعد الفشل عن أبنائنا وأبناء المسلمين، فالولد الفاشل يضيع وقته باستمرار.
وإن كان العبد فاجراً يقال له: اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سخط من الله وغضب؛ لأنه طوال حياته يقول الكلمة السيئة، وينظر النظرة السيئة، فهو في أعلى مستويات الكبر والفسق والفجور، يقال له: اتق الله، ارحم المسلمين، كن متواضعاً، فيعرض ويستهزئ، كلام العالم على قلبه ثقيل، وكفى بالمرء إثماً أن إذا قيل له اتق الله غضب، فذلك دليل على أن قلبه مطموس البصيرة، وإذا رأيت الرجل يأكل أو يشرب أو يضحك عند المقابر فاعلم أن قلبه قد مات، الذين يذهبون ويزورون، ويمكثون يأكلون ويشربون عند المقابر قد ماتت قلوبهم، والدولة مسئولة عن كل من يسكن المقابر ويجور على حرمة الأموات، قال صلى الله عليه وسلم: (لأن تجلس على جمرة فتحرق ثوبك فتخلص إلى جلدك خير لك من أن تجلس على قبر).
فكيف بهؤلاء الذي يأكلون ويشربون ويستخدمون التلفاز ويفتحون أشرطة الكاسيت في المقابر؟ الناس قد انطمست بصائرهم فلا يرون، فهيبة الموت قد ضاعت، وصار الحانوتية الذين كان من الواجب أن يكونوا أحن الناس وأرق الناس قلوباً أبعد الناس، يتاجرون بالموت كما يتاجر أهل الطب في صحة الناس، وأهل الصيدلة في أدوية الناس، صار أصحاب الحانوتية يتاجرون في الموت، يناقش أحدهم كم سيأخذ بالضبط في قبر ميت قد مات؟! لا يرحم أهله إن كانوا فقراء، أو إن كانوا موظفين محدودي الدخل، فليتقوا الله رب العالمين، وإلا فلن يجدوا من يرحمهم يوم القيامة: (من لا يرحم لا يرحم)، (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
إذاً: مسألة الدروس عن الدار الآخرة تمس العقيدة من أولها إلى آخرها، فمثلما تكلمنا عن النار وأهلها والعياذ بالله نتكلم عن الجنة وأهلها، ما صفة هؤلاء الناس؟ من الذي سيدخل الجنة؟
يقول أحد السلف: عجبت من النار كيف نام هاربها، وعجبت من الجنة كيف نام طالبها، ألا إنما الجنة محفوفة بالمكاره، ألا إنما النار محفوفة بالشهوات والملذات، يعني: الجنة قبلها عقبات حتى تصل إليها، وهي عقبات كثيرة تحتاج إلى صبر وتوكل وصدق ويقين، وثقة بالله عز وجل، وتحتاج إلى استماع لأوامر الله، ومجالسة لأهل العلم، وزيارات متكررة لبيت الله سبحانه، تريد أن يعود الإنسان نفسه على ذكر الله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191] ليتشبه بملائكة الرحمن سبحانه؛ لأن سيدنا الحبيب ليلة المعراج قال: (رأيت آلافاً من الملائكة قياماً لا يركعون، وآلافاً أخرى راكعين لا يرفعون، وآلافاً أخرى ساجدين لا يقومون) وبعد هذه العبادة كلها يحشرون مع العباد يوم القيامة، وأول من يتكلم الملائكة، فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك! لأن الله تجلى عليهم بنوره، وهم يعرفون مقام الله؛ ولذلك حتى حملة العرش الثمانية، يقول الأربعة الأولون: سبحانك على حلمك بعد علمك.
والله عليم بكل شيء، فلو أن ورقة في شجرة وقعت في القطب الشمالي فهي مكتوبة عنده في كتاب، ولو أن حبة قمح مغموسة في الرمال لا أحد يراها، فإن الله يراها، فهي مكتوبة عنده في كتاب.
وقد رأى رسول الله شاتين تنتطحان فقال: (يا
إذاً: الله عز وجل عليم، يعلم كل الذي في قلبك، فكل نفس من شهيق أو زفير، وكل ضخة دم من قلب أو شرايين أو أوردة في حركة، أو حركة عضلات، أو خواطر فإن الله سبحانه يعلمه، قال تعالى: وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] انظر إلى الوريد أين هو، فربنا أقرب إليك منه، وأقرب إليك من نفسك، ثم بعد ذلك يحول الله بينك وبين قلبك، فقلبك الذي بداخلك قد يحجزه عنك في لحظة من اللحظات، فإذا كان صدرك منشرحاً فابحث عن السبب، فقد يكون السبب أنك ذاهب إلى طاعة الله عز وجل فأنت تفرح بطاعة الله، وإذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن، عندما تفرح بالحسنة فهذه علامة جيدة، وبعد لحظات يأتيك خبر سيئ، فيضيق القلب المنشرح، ولا تريد أن تكلم أحداً، وتريد أن تخلو بنفسك، فهذا هو معنى: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24] فقلبك الذي بداخلك لا تستطيع أن تتحكم في فرحه أو حزنه، وإنما يتحكم فيه من يقلب القلوب، اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب والأبصار صرف قلوبنا على طاعتك ومحبتك يا رب العالمين!
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: سبحانه! يعاملنا كأنه لا يرانا وهو يرانا.
انظروا إلى ابن مسعود كيف تخرج من قلبه الحكمة! يقول: ربنا يعاملنا كأنه لا يرانا؛ لأنني عندما أنظر إلى ابني يضرب سأمد يدي مباشرة أو لساني أو أدفعه أو أوقفه عند الخطأ ولو أن ابني من خلفي عمل ستمائة خطأ لا أراه، لكن الله سبحانه لا تخفى عليه خافية، فعلى العبد يتخيل أن الله يعاملنا كأنه لا يرانا وهو يرانا.
ثم يرد الأربعة الملائكة الآخرون فيقولون: (سبحانك على عفوك بعد قدرتك). الله سبحانه قدرته محفوفة بالحلم والرحمة؛ لأنه الرحمن الرحيم، قال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54].
وذات مرة كان سيدنا سليمان يمشي هو والجنود والحاشية فمر بأربعة عصافير واقفة على فرع شجرة تغرد، فقال: أتدرون ما تقول هذه العصافير؟ أول عصفور يقول: يا ليت الخلق لم يخلقوا، العصفور يغار على مقام الله عز وجل من هؤلاء الخلق؛ لأنهم يعصون الله، كما قالت الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30].
فأول عصفور يقول: يا ليت الخلق لم يخلقوا، أما العصفور الثاني فيقول: يا ليتهم لما خلقوا علموا لماذا خلقوا؟! قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ومعنى العبادة هنا: الطاعة إذاً: هم قد خلقوا، فهو تمنٍ ليس في مكانه، ويا ليتهم لما خلقوا علموا لماذا خلقوا.
أما الثالث فيقول: ويا ليتهم لما علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا!
إنك لو خرجت من هذا الدرس بهذه الفائدة لكفتك، إذاً: يا ليت الخلق لم يخلقوا، وعندما خلقوا يا ليتهم كانوا يعلمون لم خلقوا؟! فالله عز وجل لم يخلق السماء والأرض وما بينهما لاعباً، إنما خلقهما بالحق، أي: لهدف وغرض.
الرابع يكمل ويقول: ويا ليتهم لما عملوا بما علموا أخلصوا فيما عملوا.
هل أحد من العلماء، يستطيع أن يتكلم بكلام هؤلاء العصافير؟ لا يستطيع إلا بما علمه الله، انظر إلى حسن الكلام، حكم غالية جداً!
إذاً: يا ليت الخلق لم يخلقوا، ويا ليتهم لما خلقوا علموا لماذا خلقوا، ويا ليتهم لما علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا، ولما عملوا بما علموا أخلصوا فيما عملوا، اللهم اجعلنا من المخلصين يا رب!
أيها الإخوة! إن من ضمن قطاعات سكان الجنة قطاع عباد الرحمن، فعباد الرحمن في درجة عالية، ولهم ثلاث عشرة صفة، سأشرحها إن شاء الله، وكل واحد منا يبحث عنها هل هي موجودة فيه كلها أم بعضها؟ وقد يوجد فينا من تتوفر فيه هذه الثلاث عشرة نسأل الله أن يبارك فينا ويهدينا جميعاً سواء السبيل، لا حجر لفضل الله، فسيدنا علي كان يقول:
يا رب قطرة من فيض جودك تملأ الأرض رياً، ونظرة من عين رضاك تقلب الكافر ولياً.
لأن الله عز وجل عندما يرضى فليس لرضاه نهاية، يقول الله عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح:18].
فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب لما ماتت وغسلوها وكفنوها قال صلى الله عليه وسلم: انتظروا، فنزل في قبرها وفرش عباءته، ثم اضطجع قليلاً في القبر، وخرج وترك العباءة، ثم قال: أدخلوها، قالوا: لماذا فعلت هذا يا رسول الله؟
إن فاطمة بنت أسد هي أم سيدنا علي أسلمت، وأبو طالب زوجها لم يسلم، لحكمة يعلمها الله، فالصحابة سألوا رسول الله عن هذا الفعل؟ فقال: (لقد كانت أبر بنا)، انظر إلى عدم نسيان الجميل! ليس كل الناس ينكرون الجميل، يعني: لا تحتقر جميلاً أو معروفاً صنعه فيك أخوك، لأن سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: (يا نساء الأنصار لا تحقرن جارة جارتها ولو فرسن شاة).
وفرسن الشاة: هو حافر الماعز فلو أن امرأة أحضرت لصاحبتها حافر ماعز تقول لها: بارك الله فيك؛ لأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس، اشكروا من أجرى الله النعمة على يديه، وإن عز أخوك فهن؛ يعني: أخوك يعاملك بشكل جيد مدة سنتين، ثلاثة عشر عاماً، عشرين عاماً، وأخطأ خطأ، فلا داعي إلى أن تأخذ منه موقفاً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة! الدين النصيحة! قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم).
يا فاطمة بنت أسد ! هنيئاً لك؛ فإن الرسول ذاكر لك الجميل، قال: (فرشت عباءتي حتى يخفف الله عنها من ضمة القبر، ونمت في مكانها قبل أن تلحد -يعني: قبل أن تدفن-، حتى يثبتها الله عند سؤال الملكين)فالنبي صلى الله عليه وسلم شفع لها هنا، لكن قبل أن يشفع لها كانت من أهل الخير والصلاح، فعملها هو الذي شفع لها؛ ولذلك لم يكن الرسول يتدخل إلا إذا أذن الله له.
اللهم شفع فينا نبينا يا رب! اللهم شفعه فينا، اللهم شفعه فينا، آمين يا رب العالمين!
من صفات عباد الرحمن التواضع
قد يقول قائل: الحمد لله كلنا هكذا، وأقول: لا، إنني أتمنى أن أجد رجلاً مصرياً يمشي على الأرض هوناً، ولو وجدته فلن أقبل يده فقط، بل سأقبل رجله؛ لأنه دخل تحت طائفة عباد الرحمن، ونقول هذا الكلام لأننا في ساعة الرضا قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
فلو أن امرأة تحب زوجة ابنها على سبيل المثال، فإذا فعلت زوجة ابنها أي خطأ فإنها تتغاضى عما حصل، وكأنه لم يحصل شيء، ولنفرض أن أم الولد غضبت على زوجة ابنها، فهل ستتغاضى عن خطئها؟ لا، تصير حسنات زوجة ابنها عيوباً، مثلما قال الشاعر:
إذا صارت حسناتي اللاتي أدل بها لديك عوراً فقل لي كيف أعتذر؟
إذا كان القليل من الأخلاق التي أتخلق بها وأظن أن فيها خيراً والحمد لله تعتبر عندك عيوباً فكيف أعتذر لك؟ وكما قال الشاعر العربي عندما قال:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم وتخطئون فنأتيكم فنعتذر
نعم، هناك كبر بهذا الشكل، سبحان الله، فعندما ينصحك أخوك فتواضع، أين عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً؟! وكلمة (هوناً) معناها: الشيء الهين اللين السهل الخفيف، يقول صلى الله عليه وسلم: (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض عدوك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما)، ما معنى هذا؟
معناه: عندما تحب شخصاً لا تبالغ في حبه فتنقلب المحبة إلى العداوة، وكذلك العداوة يقول الشاعر:
احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة
ولكن هناك نقطة: عندما تكون المحبة في الله فلن يحصل خصام، وكيف تعرف أن هذه المحبة ليست لله؟ عندما تأتي وتنصح أخاك فيأخذ عليك في نفسه، وهذا معروف في الواقع، لكن هناك أناس ينكرون أصل الواقع، ولو أن أحداً قام بنصيحة أحدهم لا يقبل، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل.
(أحب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض عدوك هوناً ما) عندما تقع مشكلة بينك وبين زوجتك ويحضر أهلها، لا تذكر كل مساوئها، لا تكشف المستور بينك وبينها، لأنه إذا اصطلحتم كيف سيكون ماء وجهك أمامها؟ إلا إذا كنت لا تستحي فاصنع ما شئت!
عائشة وحفصة تكلمتا كلمتين ليستا لائقتين، فأتى إليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهن بعضاً من الكلام الذي تكلمن فيه، قال تعالى: عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ [التحريم:3] أي: لم يذكر كل ما قلنه، فقلن: من أنبأك بهذا؟ سبحان الله! إنه سؤال غريب جداً، فقال: نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [التحريم:3] الشاهد أن الرسول أعرض عن الأشياء التي لا داعي لذكرها، ومثل سيدنا يوسف عندما فسر الرؤيا للملك: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ [يوسف:54]، فذهب إليه الذاهب يجري وقال له: يوسف أيها الصديق إن الملك يريدك، فسيدنا يوسف كان يجوز له أن يقص الرؤيا بأجرة، ولكنه فسرها لهم بلا مقابل، فعندما ذهب إليه قال: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا [يوسف:46-47] ففسر الرؤيا مباشرة، ولو كان شخصاً غيره فسيقول: أعطني الأمان، واسمع إلى سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لو كنت مكان أخي يوسف لطلبت أن أخرج قبل أن أؤول الرؤيا)!
قال الملك: ائتوا به، فلما أتى لم يقل له: إن امرأتك عملت وفعلت، والنساء عملن، وكن يغازلن ويقلن كلاماً ليس لائقاً، وإنما قال له: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50] هذا هو الأدب! وهذا أحد السلف طلق امرأته فقال له شخص: لماذا طلقت امرأتك؟ قال: إن المؤمن لا يخرج أسرار بيته خارجه، فلما انقضت العدة وتزوجت غيره، أتى له من بعد وقال له: إن المرأة قد انقضت عدتها وتزوجت، فلماذا طلقتها؟ فقال: أنا لا أتكلم عن زوجة غيري.
هذا عدي بن حاتم الطائي كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه، وقال: من لقي عدياً فليقتله، وليس له دية؛ لأنه كان قد شتم الرسول صلى الله عليه وسلم.
فلما وقعت سفانة بنت حاتم الطائي أخت عدي في الأسر، أحضروا الأسرى وعرضوهم على سيدنا الحبيب، فدخلت سفانة وقالت: يا محمد! خل سبيلي، فك أسري، أنا ابنة أكرم رجل في العرب، أنا ابنة الرجل الذي كان يوقد نيرانه للضيف، كان يقري الضيف، ويعين الكل -الضعيف- ويغيث الملهوف، ويعين على نوائب الدهر، فقال الحبيب: (يا جارية! والله إن هذه لأخلاق المسلمين، ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، خلوا سبيلها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق).
فلما عادت إلى طيء قالت لـعدي : يا عدي ! إن محمداً ينزل الناس منازلهم، وهو غير الذي تظن فيه، فلو أنك ذهبت إليه لعفا عنك، وهل يعقل هذا؟ نعم يعقل، قال: ومن الذي يؤمنني؟ قالت: لن يؤمنك أحد غيره، فدخل المدينة، ولم يعرف بنفسه.
فلما وصل إلى الحبيب وقف على عتبة الباب، وكان أبو بكر جالساً بجانب الحبيب صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة يلاحظون أن أبا بكر لا ينزل عينيه من عيني سيدنا رسول الله، كان دائماً يحب ثلاثة أشياء كما قال: أحب الجلوس بين يديك، والنظر إليك، وإنفاق مالي عليك، فهمس أبو بكر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! هذا عدي بن حاتم الطائي يقف بالباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى وجه عدي فوجده آتياً بوجه غير الوجه الذي كان يشتمه به، فخلع الرسول صلى الله عليه وسلم عباءته وأعطاها عدي وقال: اجلس يا عدي هاهنا، فجلس عدي ووضع عباءة الحبيب صلى الله عليه وسلم على رأسه، هل رأيت مثل هؤلاء الناس؟
الإمام أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه كان في بلاد فاس في المغرب، فرأى في المنام إبليس عرياناً وقال له: يا لعين! ألا تستحي من الناس؟! أليس هذا عيباً عليك؟! فقال له: هل هؤلاء أناس يا أبا الحسن ؟! أتظن أن الذين تراهم أناس؟ فقال له: فأين الناس إذاً؟ قال له: الناس الذين هم في مسجد الشونازية في بلاد فاس في المغرب.
فقام من الرؤيا وجهز متاعه وركب واتكل على الله، فسافر مدة شهرين يريد أن يبحث عن الناس، فلما وصل مسجد الشونازية دخل ووجد خمسة جالسين بعد صلاة العصر يضعون خدودهم على كفوفهم، قال: فدخلت عليهم فقالوا في صوت واحد: يا أبا الحسن ! لا يغرنك كلام اللعين في الرؤيا، إذاً هم أناس أم ليسوا بأناس؟! نعم، تجد بعض الناس إذا قرأ كتاباً في العلم قال لك: أبو حنيفة رجل وأنا رجل، أنت رجل؟ أنا لا أرى أنك رجل، ولا داعي لهذا الكلام أن يذكر في حلقات الآخرة.
إذاً: من صفات أهل الجنة الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63].
وكان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة بأن يمشي الإنسان رويداً لا يجري، لكنه كان له طبيعة خاصة، فإنه حين كان يمشي فكأنما يتحدر من صبب، أي: كأنه نازل إلى السفل، وكان يسير كأنما يتقلع تقلعاً، يرفع رجلاً ويضع رجلاً هكذا كان صلى الله عليه وسلم!
سيدنا عطاء بن أبي رباح أحد التابعين رحمه الله قال: والله ما التقيت بأحد إلا وظننت أنه خير مني، ونحن اليوم للأسف الشديد تجد الأخ ملتحياً ويمشي في الشارع، وآخر حليق اللحية يسلم عليه فلا يرد عليه السلام، وقد قال الله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]!
وهنا نقطة مهمة: لا تعير أخاك بالذنب فيعافيه الله ويبتليك، فانتبه أن تقول: فلان هذا لا يصلي وتستحقره أو تشتمه، ولكن قل: هداه الله، وادع له في ظهر الغيب، وذكره بالله واضحك معه وقل له: ما لك يا أخي لا تأتي لصلاة العصر؟! سيقول: يا أخي! إن وقت صلاة العصر وقت لعب كرة، فقل: يا أخي هي خمس دقائق تحضرها ثم عد، يعني: كن معه حنوناً، ليس بأن تقول له: تنشغل بالكرة! والله لن تفلح، قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125].
جيء بـنعيمان وهو يشرب الخمر، كلما أحضروه ضربوه بالنعال أمام رسول الله، فسيدنا عمر قال: أخزاه الله، أو لعنه الله، كم يؤتى به! فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه يا
الرجل الذي أتى وهجا الحبيب في وجود الصحابة، قال: إنني لم أرض عن محمد، فكان الصحابة يريدون الفتك به، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطاه فلم يرض، ثم أعطاه وقال: (أرضيت يا أعرابي؟ قال: نعم رضيت، فقال: قل للصحابة أنك رضيت، قال: يا صحابة محمد! قالوا: نعم، قال: قد رضيت عن محمد) انظر إلى وصف الحبيب صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثل هذا الرجل كمثل رجل له ناقة شردت، فتبعها الناس فما زادوها إلا نفوراً، فقال الرجل: يا قوم! خلوا بيني وبين ناقتي فجعل يجمع لها من قمام الأرض في حجره حتى جاءت، فناخت واستناخت، ولو قتلتموه لدخل النار).
أي: لو أنني وافقتكم على أن تقتلوه لكان سيدخل النار، لكن الرسول شبهه بصاحب الناقة، وقال لهم: ماذا ترجون وراءها؟ أنتم لا تعرفون أسلوب ناقتي، أنا أستطيع أن أخفف من حدتها.
أتذكرون قصة ذلك الأعرابي الذي دخل المسجد -ولا يوجد في ذلك الوقت لا موكيت ولا سجاد ولا ما شابهه- فإذا به يريد التبول في المسجد، فأتى إلى زاوية المسجد وشمر، فالصحابة مشوا وراءه، وقبل أن يصلوا إليه نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (دعوه لا تزرموه -لا تقطعوا عليه البول- فلما انتهى قال: أهريقوا على بول أخيكم سجلاً من ماء) فأتى إلى الأعرابي ووضع يده على كتفه بحنان وقال: (يا أخا الإسلام! هذا مكان للصلاة، لا يصلح لما صنعت) ولم يقل له: أتيت من بعيد وأنت لا تفهم، وأنت رجل أعمى، فنظر الرجل وله عقل يقارن بين رحمة الأستاذ وفظاظة التلاميذ، بين حنان المعلم وجفوة المتعلم، فرفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً) يقول هذا الكلام من محبته للحبيب، بسبب حنان الحبيب عليه قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
فالرسول صلى الله عليه وسلم يستمر في تعليمه يقول له: (يا أخا الإسلام! لقد حجرت واسعاً)، أي: قل: اللهم ارحمنا يا رب، فإنك بنا راحم، هذه هي طريقة الدعوة.
قال تعالى: يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63].
المشكلة لدى المسلمين: تبخر الحب من القلوب، أرأيتم عمر بن الخطاب عندما كان يقابل أبا بكر في صلاة الصبح، وكان معه في العشاء، فيخبره قائلاً: يا لها من ليلة يا أبا بكر ! إنها ليلة طويلة اشتقت إليك، انظر إلى الأخلاق!
من صفات عباد الرحمن الصفح عن الجاهلين
ومعنى (سلاماً) أي: سلامة منكم ومن جهلكم، من هم هؤلاء الجاهلون؟ أي إنسان بعيد عن الله فهو جاهل ولو كان حاصلاً على أعلى الدرجات العلمية، طالما أنه بعيد عن الله فاسمه جاهل، الذي عنده خشية من الله هو أعلم العلماء، فإنما العلم الخشية، وليس العلم كثرة الرواية.
قال تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا .
وهذا الحسن البصري عندما قال له شخص: يا فاجر، قال له: بارك الله فيك، فقال له: يا منافق، قال له: سامحك الله، قال له: يا زنديق، قال له: أكرمك الله برحمته، فالرجل قال: لا، الظاهر عليه أنه بارد الأعصاب لا يغضب، فمشى، ثم إن الحسن البصري قال له: لقد أخبرتني عن ثلاث صفات سيئة فقط، وعندي صفات غيرها أتريد أن تعرفها؟ فقال له الرجل: لو قلت لي كلمة لقلت لك عشراً، فقال له الحسن البصري : وأنت لو قلت لي مائة كلمة ما قلت لك كلمة، لم يكن هؤلاء يبحثون عن راحة أنفسهم، وأعصابهم كانت هادئة، لا تجد عندهم تصلب شرايين، ولا ضغطاً، ولا توتراً عصبياً.
يقول الله عز وجل في حديثه القدسي: (ابن آدم! لو سمعت وصفك من غيرك لاحتقرت نفسك، وأنت لا تدري من الموصوف) لو سمعت صفتك وأخلاقك من شخص غيرك تقول: يا خسارة عليه، إنه كذا وكذا، وهو أنت، سبحان الله! الواحد منا لابد أن يعيد حساباته.
قال تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63] قوله: قَالُوا سَلامًا أي: سلامة وتسليماً منكم أيها القوم الجاهلون! فالجاهل كل من هو بعيد عن الله، ولذلك سميت فترة العصر الذي قبل الإسلام بالجاهلية، العصر الذي فيه البعد عن الله وعبادة الأوثان، وهذه الجاهلية لا تخص عصراً بذاته، وإنما تعم كل انحراف للأمم بعيداً عن منهج الله فهذه اسمها جاهلية، حتى وإن كان في القرن الواحد والعشرين، طالما المجتمعات بعيدة عن الله فهي جاهلية.
إذاً: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، فقد تجد شخصاً يضربك بسيارته، ثم تسمع منه الشتائم فاصبر، وعود نفسك على الصبر، يقول لك: يا كذا، قل له: بارك الله فيك يا أخي، هو يشتم، وأنت ترد عليه بأدب، لكن أحياناً شتائم غريبة، ولا نراها في أي دولة، لا في أوروبا ولا في أمريكا، لم تفتح الإشارة بعد، وإذا به يضغط على هاون السيارة والناس ينظرون إليه، وهو لا يبالي.
من صفات عباد الرحمن كثرة السجود والقيام
تجد أناساً بعد نصف الليل مستيقظين ينظرون إلى المسرحية لكن عباد الرحمن يسهرون الليل قياماً يصلون لينوروا قبورهم، ولقد كان يسمع في المدينة لبيوت الصحابة أزيز كأزيز النحل، كلهم يقومون الليل يصلون، وكلهم يذكرون الله، كلهم يسبحون الله؛ ولذلك قال تعالى: يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا[الفرقان:64].
وكان الحسن البصري يقول: هذه ليلة الوقوف، فيقف يصلي في الركعتين بسبعة أو ثمانية أجزاء، ويأتي في اليوم الثاني ويقول: هذه ليلة الركوع، فيظل راكعاً طوال الليل، والليلة التي بعدها يظل ساجداً.
وهذا أبو حنيفة يقال له: يا أبا حنيفة! في كم تختم القرآن؟ قال له: في الصلاة أم خارج الصلاة؟ فقال: في الصلاة، قال: في صلاة الليل أم في صلاة النهار؟! ويأتي إليك طالب علم صغير يقول لك: نعم أبو حنيفة رجل وأنا رجل!
إذاً: أبو حنيفة كان له ختمة في صلاة الليل وختمة في صلاة النهار، وختمة خارج الصلاة!
فالعبد المسلم لابد أن يتخلق بقوله: يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ[الفرقان:64] وهي تكون صعبة في البداية، فيصلي ركعتين أولاً، ثم بعد ذلك يصلي أربعاً، ثم ست ركعات، ثم بعد ذلك يصلي نصف ساعة، ثم بعد ذلك تكون ساعة، وستتعود بعد ذلك على النوم القليل، تأكل قليلاً، وتنام قليلاً، وتذكر الله كثيراً، وإن أكلت كثيراً، ونمت كثيراً، ندمت طويلاً.
من صفات عباد الرحمن التعوذ من النار
ما معنى غراماً؟ الغريم: هو الملازم، يعني: أن عذابها ملازم للمعذبين والعياذ بالله! قال تعالى: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:65-66] سبحان الله!
وهل يستعاذ من النار بالكلام أم بالعمل؟ بالعمل، نحن قلنا: إن الذي يدخل العبد النار العمل السيئ، مثل الكبائر، وأول شيء يقع في الكبائر اللسان، اللسان فيه أربع كبائر: الكذب، وشهادة الزور، واليمين الغموس، والحالف بالله كاذباً، والغيبة والنميمة، وهذه كبائر لكن ليس لها حد، يعني: لو كانت شرب خمر، أو فواحش سيكون فيها جلد ورجم، لكن هذه كبائر ليس فيها حد، فمن الذي تاب منا من هذه الأربع؟!
وكبائر العينين النظر إلى ما حرم الله، الإمام الشافعي رضوان الله عليه وقعت عينه على كعب امرأة، ليس كمثل بعضهم في عمله يعرف وجه السيدة مرجانة، والموظفة زميلتك، وتعرف تفاصيل حياتها أنت أكثر من زوجها، وهذا للأسف بسبب أن الحياء قد نزع من القلوب، وهي تشتكي لك وأنت تشتكي لها من امرأتك، وأسرار الأسر تخرج في المكاتب، نسأل الله السلامة!
فالإمام الشافعي يقول: وقعت عيني على كعب امرأة فقلت حصيلة الحفظ عندي. فذهب إلى وكيع وقال له: إن حفظي قد ساء فقال له: لابد أنك عصيت الله يا شافعي ! فقال الشافعي رحمه الله تعالى:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
وخرج الإمام أحمد بن حنبل ليصلي صلاة العصر، فلما خرج من البيت رأى في الطريق الريح رفعت جلباب امرأة ونظر إلى كعب رجلها، فوضع العباءة على وجهه وعاد إلى بيته، وقال: هذا زمان الفتن؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة أن ترخي جلبابها ذراعاً إلى الأرض، فجاءت امرأة وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الثياب إذا طالت إلى الأرض قد تصيبها النجاسة فقال: (ألا تمرون على أرض جافة؟ قالت: بلى يا رسول الله، قال: هذا يطهر هذا).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العين تزني وزناها النظر)، والنظرة سهم من سهام إبليس، وإذا غض العبد بصره يجد حلاوته في قلبه، وتنطق الحكمة على لسانه، قال الشاعر:
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بلا قوس ولا وتر
تجد الموظفات والموظفين في المكاتب: فلانة أحلى من فلانة، وفلانة أجمل من فلانة، نسأل الله السلامة، وآخر يقول: إن امرأتك كانت تمشي في الشارع، وما يدريك أنها امرأته؟
إذاً: هذه العين من زناها النظر إلى ما حرم الله.
ومن الكبائر التي تقترفها العين النظر إلى المسلم باستهزاء أو سخرية أو كبر أو عدم قبول النصيحة، ينظر إليه بازدراء ويقول: إنني نظرت إليه بنظرة أحرقته!
كذلك من الكبائر التي تقترفها العين الحسد، إن الحسد ليدخل الرجل القبر، ويدخل الجمل القدر، مثلما قلنا في الحلقة الماضية، فارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس:
ألا قل لمن بات لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في صنعه لأنك لم ترض لي ما وهب
فجازاك ربي بأن زادني وسد بوجهك باب الطلب
الحسود كالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله، النار عندما لا تجد ما تحرقه تحرق نفسها مباشرة، فهكذا الحسود يأكل نفسه حتى ينتهي، ولن يأخذ إلا ما قدر له.
أنا أحدثك عن الكبائر من أجل آية: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:65-66] أي: بئس المستقر وبئس المقام!
من الكبائر التي تقترفها اليدان: الرشوة، والسرقة، وأنا أشك أنه لا يوجد هناك مصلحة في مصر إلا ويوجد فيها رجل مرتش، وسيدنا موسى يقول: يا بني إسرائيل! إن الله لن ينزل علينا المطر من أجل شخص عاص موجود بيننا، فكم من مرتش في مصر! كم من ظالم في مصر! من القمة إلى القاع كلهم أهل رشوة، وينتظرون رحمة الله، المسألة صعبة، المسألة تحتاج إعادة نظر كل منا في نفسه.
قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا [النور:31] نريد أن تكون منهاج عمل في أنفسنا وفي بيوتنا وعلى نسائنا وأقاربنا، وهكذا نكون دعاة خير، نمثل صدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
كذلك من الكبائر: إيذاء المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (من رفع على أخيه حديدة فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل يا رسول الله! فما بال المقتول؟ قال: كان حريصاً على قتل صاحبه)، ويقول صلى الله عليه وسلم كما في الترمذي : (لزوال الأرض والسماوات وما فيهن أهون عند الله من قتل عبد مسلم)، قال تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] لأن القاتل عندما يقتل شخصاً عنده أمل في أن يقتل البشرية كلها في صفة هذا الشخص، فيا ويل الذين يقتلون الناس مادياً ومعنوياً! فإن هناك أناساً يقتلون الناس معنوياً، يغضبونه في عمله حتى إن الرجل لا يطيق الشغل ولا الوظيفة حتى يأتي له الجنون، فينقلونه إلى مستشفى الأمراض العقلية نتيجة الأمراض النفسية التي أصيب بها، هذا نوع من القتل، وهو أنكى وأصعب، فوالله إن الذي يقتل برصاصة أو بحادث سيارة أو بسكين أو بسم لأهون من الذي يقتل كل يوم!
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت يعيش كئيباً كاسفاً باله قليل الرجاء
وعندنا خطأ في كثير من الاصطلاحات، اليتيم: من مات أبوه دون سن البلوغ، لكن شوقي له نظرة أخرى جميلة جداً، يقول:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً
إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولاً
الأم تخرج إلى العمل في الصباح الساعة الخامسة، والأب يخرج إلى العمل الساعة العاشرة بالليل، والأولاد يتربون عند الجيران أو في الشارع، ويكون معهم المفتاح أو ليس معهم مفتاح، تراهم عاكفين على الفيديو أو على أي ضلال، وتأتي في الأخير فتجني ثمرة غفلته عن تربية ابنه، وتجني ثمرة عملها نتيجة تقصيرها في تربية ابنها، لا تغضب الموظفات علينا، إننا ما أردنا لهن إلا الخير، ونسأل الله أن يهدينا جميعاً، والله عز وجل سيبارك في القليل، المرأة الموظفة عندما تجلس في البيت، وبدلاً من أنها تريد ثلاثة أو أربعة أحذية في السنة، فإن حذاء واحداً يكفيها طوال السنة، و(فستانان) تمشي بهما الحال، لكن أن تذهب كل يوم وهي لابسة لبساً جديداً، فلماذا تحمل زوجها ما لا طاقة له به؟!
ولننظر إلى الكبائر التي في القلب، القلب يغش المسلمين، ويعامل الناس على غش:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
لا خير في ود امرئ متقلب يهفو إليك وقلبه يتقلب
يلقاك بوجه أبي بكر وبقلب أبي جهل، ونحن لا نريد هذا، إنما نريد الصدق، فلا تأخذ في نفسك على أخيك المسلم، فيكفي أنه سلم عليك وزارك، فإنه يزول ما بينكما، لكن لو كان في قلبك غش لا ينفع.
كذلك الظن السيئ بأخيك المسلم، تقول: فلان يتكبر علينا، وفلان عمل كذا وكذا! فأقول: لا تظن الظن السيئ، وإذا عرف السبب بطل العجب، ولا تنظر من (البلكونة) الساعة واحدة بالليل وتلقى جارتك آتية وهي مهمومة، أبوها مريض، وزوجها حصل له مشكلة، لم يلق أحداً يحضر الدواء فتظن بها سوءاً، قال تعالى: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101].
لكن أنت لا تضع أهلك ولا نفسك مواضع الشبهات، سيدنا الحبيب كان يمشي مع السيدة صفية فلقي ثلاثة من الصحابة فنظروا إليه، فالرسول رجع بالسيدة صفية ، وقال: هذه صفية زوجتي، قالوا: يا رسول الله! أنشك فيك؟ قال: ليكلا تهلكوا؛ لأنهم لو شكوا في الرسول هلكوا.
احم نفسك من نفسك، لا داعي للظن السيئ، التمس لأخيك من عذر إلى سبعين عذراً، فإن لم تعرف له عذراً فقل: عسى أن يكون له عذر لا أعرفه، قل: يا أخي! يمكن أنه متضايق، لعل أصحاب الأمن أزعجوه.
إذاً: التمس لأخيك الأعذار، الأخ يمكن أن أولاده يتعبونه في البيت، يمكن أن امرأته مريضة، ويمكن أن عنده مشاكل وأنا لا أعرفها، يمكن هناك سبب أصلاً أنا لا أعرفه.
كذلك من الكبائر القلبية المكر السيئ، قال تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43].
ولننظر إلى كبائر البدن كله، من كبائر البدن عقوق الوالدين، ولا يدخل الجنة عاق لوالديه، ولن يدخل النار بار بوالديه، والنظر إلى وجه الوالدين عبادة.
كذلك من الكبائر التي تقترفها الأذن الاستماع إلى الأغاني واللهو والفوضى والرقص والكلام الفارغ وغيره، إن هذه الأذن هي التي تقربك من الله سبحانه وتعالى، استخدمها في طاعة الله.
من صفات عباد الرحمن الإنفاق دون إسراف أو تقتير
أول ما نتحدث عن الإنفاق للأسف يقع في ذهنك موضوع النقود، يا أخي! إن الإنفاق ليس مقصوراً على المال، إن نفقة المال هي إحدى النفقات، فعندما تنفق من كلامك لا تتكلم كثيراً، وعندما تحب أن تنصح لا تكثر جداً ولا تقلل جداً، فإن الأمة المحمدية أمة وسط، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143] فخير الأمم أمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وهناك شخص يكون سفيهاً، ينفق أكثر مما يملك، فهذا سفيه، وشخص آخر والعياذ بالله بخيل، وكلاهما شر، والخير هو أن يعيش العبد على قدر نفسه (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) عندما تكون رجلاً غنياً، فإن الله يحب أن يراك لابساً ثياباً جيدة، وراكباً مركباً جيداً، وساكناً سكناً جيداً؛ فإن الله يزيدك، وإذا لم يعطك يحب أن يراك صبوراً، قنوعاً شكوراً، متوكلاً على الله، تعرف أن الله عز وجل سوف يعوضك يوم القيامة؛ ولذلك قال: (إن فقراء أمتي يدخلون الجنة قبل أغنيائها بنصف يوم) وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون؛ لأن الفقير لا مال له يحاسب عليه، ولذلك قال أحد الجالسين: أنا فقير يا رسول الله! قال له: أئن تغديت بقي عندك للعشاء وإن تعشيت بقي عندك للصباح؟ قال له: نعم، قال له: إذاً لست بفقير.
وقال الثاني: أنا يا رسول الله فقير، إنني إذا تغديت لا يوجد عندي للعشاء، وإذا تعشيت لا يبقى معي للصبح؟ فقال له: لك ثوب غير هذا الثوب الذي تلبسه؟ قال: نعم، قال: لست فقيراً.
وقال الثالث: أنا يا رسول الله فقير، إذا تغديت لا يبقى العشاء! وإذا تعشيت لا يبقى الصبوح؟ قال له: أئن استقرضت الناس أقرضوك؟ قال: نعم، قال له: لست فقيراً، لأنهم لا يسلفونك إلا من أجل أنك سوف ترد مالهم.
وقال الرابع: أنا يا رسول الله فقير، وعندما أتعشى لا يوجد معي للصباح، وعندما أذهب أستلف من الناس لا يسلفوني؛ لأنهم يعرفون أنني لا أستطيع القضاء؟ قال له: أتستطيع أن تعمل؟ قال له: نعم، قال له: لست بفقير.
وقال الخامس: أنا يا رسول الله فقير، كل الشروط الأربعة منطبقة علي، حتى إنني لا أستطيع أن أعمل مثلما ترى أنني عاجز، قال له: أتمسي عن ربك راضياً وتصبح راضياً؟ قال له: نعم، قال له: أنت من الذين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، ليس كمن يركب (الأوتوبيس) وينظر رجلاً آخر بجانبه يركب فوق سيارة فارهة فيقول: هؤلاء هم السرق كلهم، لماذا تجزم أنهم كلهم سرق؟! ألم يكن هناك عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن عفان وأبو بكر الصديق وإلى جانبهم