شرح العقيدة التدمرية [16]


الحلقة مفرغة

وقبل أن نشرع في الدرس أحب أن ألخص آخر القاعدة الخامسة؛ لأنه في الحقيقة فيه عسر وفيه تكرار، ففي ما مضى تكلم الشيخ عن مسألة الأسماء والصفات، وما الذي يدخل فيها من المعلوم، وما الذي يكون مما لا يعلم، وهذا خلاصة الأمر، فهو يقول: إنما يتعلق بالمعاني والحقائق في أسماء الله وصفاته وأفعاله وجميع أمور الغيب هذه معلومة، وهي حق على ما يليق بالله عز وجل، لكن الوجه الآخر من هذه الحقائق: وهو الكيفية فلا نعلمه، ويعبر عنه باللفظ المشترك، ومع ذلك فالذي يعلم والذي لا يعلم يعبر عنه بتعبير واحد، لكن سياق الكلام هو الذي يحدد المعنى، فالله عز وجل أحياناً ينفي التأويل في أمور الغيب والصفات، والسياق يدل على أن المنفي هو الكيفيات، وأحياناً كما في القراءة الأخرى التي عطف فيها التأويل، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]، فالمقصود فيما يعلم الحقائق والمعاني العامة الثابتة في أمور الغيب، في أسماء الله وصفاته وأفعاله، ثم بعد ذلك قال رحمه الله: (ومن لم يعرف هذا)، أي: مسألة مفهوم المتشابه وتأويل المتشابه، فيعرفه على جهة التفصيل فيه، كثر اضطرابه، وضرب لهذا بمثل من هذه الطوائف -وهو رحمه الله سيذكر عدة طوائف- الذين يقولون: إن التأويل باطل مطلقاً، وهؤلاء هم المفوضة الذين يقولون: يجب إجراء اللفظ على ظاهره، وهذه مشكلة؛ لأنهم يبطلون التأويل وإن كان بمعنى الحقيقة، والتفسير الذي لابد منه، والأمر الذي يئول إليه الشيء، وهو الحقائق المعلومة، أو حتى غير المعلومة، فيبطلون التأويل ويدّعون أن هذا هو وجه الحق، أعني: التفويض، وهذا خطأ، بينما نحن نقول بمنع التأويل المبتدأ، لكن لا نقول: يمنع التأويل مطلقاً، فإذا كان التأويل بمعنى التفسير والبيان وإن سمي تأويلاً تجوزاً فلا شيء فيه، وإن قصد بالتأويل التحريف، أي: صرف المعاني عن حقائقها، أو إلغاء الحقائق، أو التعدد فيها، فهذا هو الممنوع، مع أنهم يحتجون بقوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، فيحتجون بهذه على إبطال التأويل، ويقصدون بذلك: إبطال الحقيقة والمفهوم الذي يتعلق بأمر الغيب، وهذا خطأ وتناقض منهم؛ لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلاً لا يعلمه إلا الله، والآية ما نفت التأويل، بل إنها أضافت التأويل إلى الشيء، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ [آل عمران:7]، ولو لم يكن له تأويل ما قال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، وكان على الأقل أن يقولوا: له تأويل لا يعلمه إلا الله، أو أن هناك نوعاً من التأويل يعلمه الراسخون في العلم، حتى تسلم ذممهم، لكن نفوا التأويل المطلق، وهؤلاء يسمونهم: المفوضة.

ننتقل إلى القاعدة السادسة، وقبل أن نبدأ فيها سنلاحظ أن الشيخ قد أطال في تقريرها حتى ما وجدنا تحديداً لهذه القاعدة إلا عندما نستنبط من هذا الكلام كله.

والقاعدة السادسة: هي أنه لابد من وضع ضابط يعرف به ما يجوز على الله سبحانه مما لا يجوز في النفي والإثبات، فلا ننفي مطلقاً ولا نثبت مطلقاً، فالإثبات لابد من تقييده من غير تشبيه وتمثيل، والنفي أيضاً لابد من تقييده من غير تعطيل، فهذه القاعدة هي التي سبق الكلام عنها، لكن أراد أن يفرع عليها مسائل من أجل إلزام الخصوم، وهذه القاعدة هي إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل، بمعنى: أن نثبت، لكن بإثبات مقيد بعدم التشبيه، فالله عز وجل ليس كمثله شيء، ولابد أن ننفي النقص عن الله عز وجل، لكن لا يعني ذلك أن ننفي الحقائق، وأن ننفي ما هو ثابت لله عز وجل.

إذاً: الضابط هنا: أن نعرف ماذا نثبت؟ وكيف نثبت؟ ونعرف ماذا ننفي؟ وكيف ننفي؟ وهذا الضابط الذي قصده الشيخ هو تفصيل وتفريع على القاعدة الأولى، أعني: إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتلخص في إثبات كل كمال لله عز وجل، ونفي كل نقص عن الله عز وجل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [ القاعدة السادسة: أنه لقائل أن يقول: لابد في هذا الباب من ضابط يعرف به ما يجوز على الله مما لا يجوز في النفي والإثبات، إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد، وذلك أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز ].

خطأ الاعتماد في النفي على مجرد ادعاء التشبيه فيما ينفى

قال رحمه الله تعالى: [ فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه، قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل، وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه، أو مشارك له في الاسم لزمك هذا في سائر ما تثبته، وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له.

ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه، ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه، كما في الأسماء والصفات المتواطئة.

ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسراً بمعنى من المعاني، ثم إن كل من أثبت ذلك قالوا: إنه مشبه. ومنازعهم يقول: ذلك المعنى ليس من التشبيه ].

يذكر الشيخ قضية سائرة بين أهل السنة وخصومهم من أهل الكلام، وهي تشبيه الله بالخلق، وتشبيه صفات الله بصفات الخلق، ويبنون على هذا التشبيه إثبات الصفات نفسها، بمعنى: أنهم يقولون: إثبات الوجه إثبات الاستواء، وهذا تشويه وخطأ، ولذلك سموا كل من أثبت الاستواء، وأثبت الوجه لله عز وجل .. ونحو ذلك من الصفات، بأنهم مشبهة، وهذا خطأ في تحديد الاصطلاح، إذ إن أهل السنة يقولون: لا يسمى هذا تشبيهاً؛ لأننا نقول: نثبت لله عز وجل الاستواء؛ لأنه أثبته لنفسه، ونثبت لله الوجه؛ لأنه أثبته لنفسه، ونثبت لله اليد؛ لأنه أثبتها لنفسه، لكن على ما يليق بجلال الله عز وجل، فليس الاستواء كالاستواء، ولا الوجه كالوجه، ولا اليد كاليد.

إذاً: المنازع قصد معنى آخر وركب عليه نتيجة خاطئة، وهذه النتيجة هي أن كل إثبات يعد تشبيهاً، لكن نحن نقول: هذا غير صحيح؛ لأن مجرد الاشتراك اللفظي ليس بتشبيه، ومجرد الاشتراك في بعض المعاني بين المشبه والمشبه ليس بتشبيه، والذي يحكم هو الدليل والسياق، ولذا فنقول لهم:

أولاً: نحن لسنا الذين وصفنا الله بهذا الشيء، فالله هو الذي وصف نفسه، ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: أنه لا يجوز تأويل كلام الله عز وجل ما دام يمكن حمله على محامل تقتضيها اللغة والمعاني العامة، ونحن نعرف أن اللغة تقتضي تفسير فعل الله عز وجل بالاستواء ما دام أنه على ما يليق بجلاله، من غير الالتزام بلوازم من عند الخلق، وإلا أصبح كلام الله ملبساً على الخلق، والدليل على هذا أن المؤولة ما اتفقوا على حد أو تعريف التأويل، هل هو اللفظ المنتقل إليه، أو المعنى المنتقل إليه في التأويل؟ فتجد معاني الاستواء عندهم متعددة، ومعاني الوجه متعددة، ومعاني اليد متعددة، بل أحياناً يقولون بحسب السياقات، ونحن نقول: إن اللوازم هي التي تثبت حسب السياقات، فإذا جاء -مثلاً- ذكر اليد لله عز وجل بمعنى الكرم، فلازمها الكرم، وإذا جاءت بمعنى القوة، فلازمها القوة، وإذا جاءت بمعنى العطاء أو الرزق، فلازمها العطاء أو الرزق، ولا شك أننا لا ننكر اللازم، بل هو ضروري، فما جاء من ذكر أسماء الله عز وجل والأفعال والصفات إلا من أجل أن ندرك معانيها، ونتعبد الله بذلك ونعظمه بها، ومن أجل أيضاً أن نستثمر هذه المعاني في قوة الإيمان في القلوب، وفي سلوك الحياة، لكن العدول عن المعاني والحقائق اللائقة بالله عز وجل لمجرد وجود الاشتباه في الألفاظ أمر يعتبر مكراً كباراً، جاء عن طريق الفلاسفة وغلاة المتكلمين.

من شبه المعتزلة أن إثبات الصفات يستلزم تعدد الموصوف

قال رحمه الله تعالى: [ وقد يفرق بين لفظ (التشبيه) و(التمثيل)، وذلك أن المعتزلة .. ونحوهم من نفاة الصفات يقولون: كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل، فمن قال: إن لله علماً قديماً، أو قدرة قديمة كان عندهم مشبهاً ممثلاً؛ لأن القديم عند جمهورهم هو أخص وصف للإله، فمن أثبت له صفة قديمة فقد أثبت لله مثلاً قديماً، ويسمونه ممثلاً بهذا الاعتبار ].

في الحقيقة هذه فلسفة فيها مكابرة، وفيها دليل على أن الإنسان قد يصاب بالغرور واتباع الهوى، فلا يعتمد في دينه إلا على العقل، فيقول: بأن تعدد الصفات لابد أن يدل على تعدد الموصوف؛ لأنهم قالوا: إن القديم أخص وصفاً بذلك، فمن أثبت صفة قديمة فقد أثبت له مثلاً قديماً؛ لأنهم يعتبرون أن الصفة غير الموصوف، فصارت نداً، فإذا أثبتنا أنها أزلية فمعنى هذا أننا أثبتناها إلهاً مع الله، أو خالقاً مع الله، وهذه مكابرة راجعة إلى أنهم لا يعتقدون لله وجوداً حقيقاً ذاتياً، وإلا لو اعتقدوا لله وجوداً ذاتياً حقيقياً للزم اعتقاد أن له صفات تلازمه؛ لأنه لا يمكن لموجود حقيقي إلا أن يكون موصوفاً بصفات الكمال كلها، يعني: أن الوجود الحقيقي الأزلي لا يمكن أن يثبت وجوداً لله عز وجل حقيقياً أزلياً إلا ولابد أن يكون موصوفاً بصفات الكمال؛ لأن ما بعده من المخلوقات حادث، والحادث لا يمكن أن يعتمد إلا على كامل؛ لأنه مفتقر، ولابد أن يكون معتمداً على غني، وهو الله عز وجل، ولابد أن يكون معتمداً على خالق، وهو الله عز وجل، ولابد أن يعتمد على ما لا يفنى، وهو الله عز وجل، فهذه صفات تلحق بالموصوف، وتلازمه من حيث إنها صفات أزلية، لكن نظراً لأنهم يعتبرون وجود الله وجوداً ذهنياً معنوياً خيالياً -هم عادتهم يختلفون- فقد أنكروا الصفات؛ لأنها تلزمهم بوجود الموصوف وجود حقيقي مباين للمخلوقات، وهم إذا أثبتوا هذا الوجود لزمهم إثبات الصفات، فهم يفرون من إثبات الصفات، ولنا مع الأشاعرة والماتريدية الذين انساقوا مع هؤلاء في بعض أصولهم نفس الكلام، فنقول لهم: إذا كنتم أثبتم لله عز وجل وجوداً ذاتياً حقيقياً يليق بجلاله، ومبايناً للمخلوقات، وهذا الوجود قابل للصفات ولابد، فإذاً لم فرقتم بين الصفات؟! فإذا كان لله علم ليس كعلم المخلوقين، وقدرة ليست كقدرة المخلوقين، وكلام ليس ككلام المخلوقين، وسمع ليس كسمع المخلوقين، وهم يقرون بذلك، إذاً له استواء ليس كاستواء المخلوقين، ويد ليس كيد المخلوقين؛ لأن ذلك كله ثابت بالنصوص، وهذا دليلنا، وإلا لو كان مجرد تحكم للعقل لعذرناهم؛ لأن لكل إنسان أن يعقل كما يشاء، ولا نلزمه إلا بالثوابت الكبرى التي هي مجملات عند التفصيل، والتي يختلف عليها الخلق كلهم.

وقد وجدت في بعض ألفاظ السلف عبارات أحياناً تزيد عن الحد الشرعي، وهذه اجتهادات وليست هي منهج السلف، وإنما منهجهم هو إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال، بما فيها الصفات الذاتية على ما يليق بجلاله، فقد وردت في الكتاب والسنة، ونبرأ إلى الله أن نقول: هذه مصدرها العقل، أو معرفتنا، أو جهودنا، أو هذه مجرد أن اتفق عليها السلف، لا والله، فالسلف لا يقولون بذلك، بل قد ثبتت في الكتاب والسنة، فما الذي يلجئ إلى الحيدة عنها غير مجرد التوهم والتشبيه؟ ثم لماذا الصحابة ما توهموا التشبيه ليفروا إلى التأويل؟ ولماذا التابعون ما توهموا التشبيه وهم أعلم وأفقه باللغة، وهم أعظم إجلالاً وتعظيماً لله، وهم أيضاً أحرص على كمال الله عز وجل وصفاته؟! إن من الطبيعي أن يوجد عندهم التوهم، لكنهم طردوا الأوهام بالحقائق، وإلا فهم عرب أقحاح لابد أن ترد عندهم مسألة الاشتراك اللفظي، يعني: أن أي إنسان يسمع قول الله عز وجل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، لابد أن يقع في ذهنه تشابك المعاني بين ما يفهمه من يد المخلوق وبين ما يجب أن يعتقده في اليد لله عز وجل، ولذلك الله عز وجل وضع القاعدة بالنفي قبل الإثبات: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، لأن الإنسان قد يتوهم، بل لابد أن يتوهم عند سماع كلام الله، ثم قال: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فبدأ بالنفي قبل الإثبات؛ ليستقر في العقل نفي كل الخيالات والأوهام، وإلا فهل يخلو إنسان من أن يتخيل؟ إنه لا يمكن أن يعرف معاني كلام الله إلا بالتخيل، لكن يجب أن يعرف أن هذا خيال، والله عز وجل أعظم وأجل من أن يرد العبد صفات الله بخياله.

إذاً: فهذه المسألة تعتبر الفارق بين أهل السنة وبين المخالفين من أهل الكلام في معنى التشبيه والتمثيل، فالتمثيل منفي كله؛ لأن التمثيل هو المطابقة، وليس بين الخلق والمخلوقات مطابقة، حتى في اللفظ، وأما التشبيه ففيه مطابقة لفظية، فلذلك نفصل فيه، فإن قصد بنفي التشبيه نفي صفات الله فهذا باطل، وإن قصد بنفي التشبيه نفي المماثلة فنعم، فالله عز وجل ليس كمثله شيء.

جواب المثبتة عن هذه الشبهة

قال رحمه الله تعالى: [ ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخص وصفه ما لا يتصف به غيره، مثل كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إله واحد .. ونحو ذلك، والصفة لا توصف بشيء من ذلك ].

قال رحمه الله تعالى: [ فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه، قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل، وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه، أو مشارك له في الاسم لزمك هذا في سائر ما تثبته، وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له.

ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه، ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه، كما في الأسماء والصفات المتواطئة.

ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسراً بمعنى من المعاني، ثم إن كل من أثبت ذلك قالوا: إنه مشبه. ومنازعهم يقول: ذلك المعنى ليس من التشبيه ].

يذكر الشيخ قضية سائرة بين أهل السنة وخصومهم من أهل الكلام، وهي تشبيه الله بالخلق، وتشبيه صفات الله بصفات الخلق، ويبنون على هذا التشبيه إثبات الصفات نفسها، بمعنى: أنهم يقولون: إثبات الوجه إثبات الاستواء، وهذا تشويه وخطأ، ولذلك سموا كل من أثبت الاستواء، وأثبت الوجه لله عز وجل .. ونحو ذلك من الصفات، بأنهم مشبهة، وهذا خطأ في تحديد الاصطلاح، إذ إن أهل السنة يقولون: لا يسمى هذا تشبيهاً؛ لأننا نقول: نثبت لله عز وجل الاستواء؛ لأنه أثبته لنفسه، ونثبت لله الوجه؛ لأنه أثبته لنفسه، ونثبت لله اليد؛ لأنه أثبتها لنفسه، لكن على ما يليق بجلال الله عز وجل، فليس الاستواء كالاستواء، ولا الوجه كالوجه، ولا اليد كاليد.

إذاً: المنازع قصد معنى آخر وركب عليه نتيجة خاطئة، وهذه النتيجة هي أن كل إثبات يعد تشبيهاً، لكن نحن نقول: هذا غير صحيح؛ لأن مجرد الاشتراك اللفظي ليس بتشبيه، ومجرد الاشتراك في بعض المعاني بين المشبه والمشبه ليس بتشبيه، والذي يحكم هو الدليل والسياق، ولذا فنقول لهم:

أولاً: نحن لسنا الذين وصفنا الله بهذا الشيء، فالله هو الذي وصف نفسه، ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: أنه لا يجوز تأويل كلام الله عز وجل ما دام يمكن حمله على محامل تقتضيها اللغة والمعاني العامة، ونحن نعرف أن اللغة تقتضي تفسير فعل الله عز وجل بالاستواء ما دام أنه على ما يليق بجلاله، من غير الالتزام بلوازم من عند الخلق، وإلا أصبح كلام الله ملبساً على الخلق، والدليل على هذا أن المؤولة ما اتفقوا على حد أو تعريف التأويل، هل هو اللفظ المنتقل إليه، أو المعنى المنتقل إليه في التأويل؟ فتجد معاني الاستواء عندهم متعددة، ومعاني الوجه متعددة، ومعاني اليد متعددة، بل أحياناً يقولون بحسب السياقات، ونحن نقول: إن اللوازم هي التي تثبت حسب السياقات، فإذا جاء -مثلاً- ذكر اليد لله عز وجل بمعنى الكرم، فلازمها الكرم، وإذا جاءت بمعنى القوة، فلازمها القوة، وإذا جاءت بمعنى العطاء أو الرزق، فلازمها العطاء أو الرزق، ولا شك أننا لا ننكر اللازم، بل هو ضروري، فما جاء من ذكر أسماء الله عز وجل والأفعال والصفات إلا من أجل أن ندرك معانيها، ونتعبد الله بذلك ونعظمه بها، ومن أجل أيضاً أن نستثمر هذه المعاني في قوة الإيمان في القلوب، وفي سلوك الحياة، لكن العدول عن المعاني والحقائق اللائقة بالله عز وجل لمجرد وجود الاشتباه في الألفاظ أمر يعتبر مكراً كباراً، جاء عن طريق الفلاسفة وغلاة المتكلمين.