شرح السنة [22]


الحلقة مفرغة

قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [ وإذا سألك الرجل عن مسألة في هذا الكتاب وهو مسترشد فكلمه وأرشده، وإذا جاءك يناظرك فاحذره، فإن في المناظرة المراء، والجدال، والمغالبة، والخصومة، والغضب، وقد نهيت عن جميع هذا جداً، وهو يزيل عن طريق الحق، ولم يبلغنا عن أحد من فقهائنا وعلمائنا أنه جادل أو ناظر أو خاصم.

قال الحسن البصري : الحكيم لا يماري ولا يداري في حكمته أن ينشرها، إن قبلت حمد الله وإن ردت حمد الله ].

التفريق بين من يسأل مسترشداً ومن يسأل متعنتاً

قول الشيخ رحمه الله: (وإذا سألك الرجل عن مسألة في هذا الكتاب)، ورد في الهامش أنه في نسخة: (في هذا الباب)، ومع ذلك يبدو أن (هذا الكتاب) هي الأرجح وهي المقصودة، ويقصد محتويات الكتاب، وهذا سيأتي مثله بعد قليل أيضاً.

ويقصد الشيخ محتويات هذا الكتاب؛ لأن هذا الكتاب يعرض أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، والمعنى: إذا جاءك أحد يجادلك أو يسألك عن مسألة مما ورد في هذا الكتاب، من أصول السنة، وهو مسترشد؛ فأصغ له سمعك وأرشده وبيّن له، حتى وإن كان سؤاله يتضمن شبهة أو نحو ذلك، أما إذا جاء يناظر فاحذره، وهذه المسألة أيضاً فيها تفصيل، فقوله: (فاحذره)، يقصد أن عموم القراء ينبغي أن يحذروا من يريد أن يناظرهم في أصول دينهم؛ لأنهم ما استعدوا للمناظرة، ثم إن على الإنسان أن يجيب بالإجابة الحكيمة، يقول: أنا ليس عندي شك في ديني، فأنت إن كان عندك شك فابحث عن غيري، هذا هو الأصل، لكن إذا كان من يطلب المناظرة جاداً ومن طلبت منه المناظرة من أهل السنة متمكناً، فلا بد أن يستجيب لإقامة الحجة والبيان، لكن هذا عزيز جداً، قلَّ أن يوجد من أهل الأهواء من هو في طلبه للمناظرة جاد، وقل أن يوجد من أهل السنة الآن من هو متمكن مستوفية فيه شروط المناظرة والجدل.

الأصل النهي عن الجدال

قال رحمه الله تعالى: [ وجاء رجل إلى الحسن فقال: أنا أناظرك في الدين فقال الحسن: أنا عرفت ديني، فإن ضل دينك فاذهب فاطلبه ].

هذا هو الأصل، وهو النهي عن الجدال، وفتح باب الجدال يبقى استثناء، وهذا أدب الحسن البصري رحمه الله، وهو إمام السنة في ذلك الوقت، وهو من أكابر العلماء ومن أقدرهم على المناظرة، لكن يظهر لي أنه توسم فيمن سيناظر أنه من أهل الأهواء والبدع الذين أرادوا الاستظهار والتعالي والغرور، وإلا فكان الإمام الحسن يفتح صدره ويتسع صدره لمناظرة من يريد الحق.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً على باب حجرته يقول أحدهم: ألم يقل الله كذا، وقال الآخر: ألم يقل الله كذا، فخرج مغضباً فقال: أبهذا أمرتم أم بهذا بعثت إليكم؛ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟)].

الحديث صحيح، ومفاده أن الأصل عدم المجادلة، ولذلك حينما أذن الله عز وجل بمجادلة أهل الكتاب كان الإذن بعد النهي: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] فالنهي هو الأصل، والاستثناء مشروط بأن يكون بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهي تعني استيفاء شروط الجدل التي سبق الكلام عنها في درس ماض، وهذا هو الذي تدل عليه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان ينهى عن الجدل والمراء في الدين؛ لأن قضايا الدين القطعية غيبية توقيفية، والجدل في الغالب ليس تقريراً، لأن التقرير لا يحتاج إلى جدل، واستشكال المسلم ثم سؤاله للعالم لا يعتبر جدلاً، لأن الجدل هو ما زاد عن مجرد السؤال والجواب، أما إذا اقتصر الأمر على سؤال ثم جواب من قبل عالم فلا بأس، لكن إذا قصد السائل المحاجة وأشعرك بأنه سيرد ما معك من الحق، وأنه مستعد أن يناقشك، فهو جدال.

والمعنى اللغوي للمجادلة هو: المماحكة والأخذ والرد أكثر من مرة، هذا هو أصل المجادلة، وهو الذي وردت النصوص بالنهي عنه.

كراهة السلف للجدال

قال رحمه الله تعالى: [ فنهى عن الجدال، وكان ابن عمر يكره المناظرة، ومالك بن أنس ، ومن فوقه ومن دونه إلى يومنا هذا، وقول الله عز وجل أكبر من قول الخلق، قال الله تبارك وتعالى: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر:4].

وسأل رجل عمر بن الخطاب فقال: ما الناشطات نشطاً؟ فقال: لو كنت محلوقاً لضربت عنقك ].

معروف أن الذي أثار هذه المشكلات هو صبيغ بن عسل التميمي ، وصبيغ قصته مشهورة وصحيحة، وهو أنه كان يثير هذه القضايا على شكل شبهات وإشكالات، ويجادل فيها أيضاً، ولما بدأت منه هذه البادرة نهاه أهل العلم فلم ينته، وظل يثيرها بين عامة الناس والأجناد الذين ليس عندهم علم، فلما أصر على هذا رُفع أمره إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما رآه يصر على مثل هذه الأمور جلده، وقال: (لو كنت محلوقاً لضربت عنقك)، يشير بذلك إلى الخوارج، والله أعلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الخوارج.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن لا يماري، ولا أشفع للمماري يوم القيامة، فدعوا المراء لقلة خيره) ].

الظاهر أن الحديث ضعيف جداً، وعبارته تدل على ذلك، فإن فيها ركاكة تدل على أنه موضوع، لكن النهي عن المماراة لا شك أنه ثابت بغير هذا الحديث.

قول الشيخ رحمه الله: (وإذا سألك الرجل عن مسألة في هذا الكتاب)، ورد في الهامش أنه في نسخة: (في هذا الباب)، ومع ذلك يبدو أن (هذا الكتاب) هي الأرجح وهي المقصودة، ويقصد محتويات الكتاب، وهذا سيأتي مثله بعد قليل أيضاً.

ويقصد الشيخ محتويات هذا الكتاب؛ لأن هذا الكتاب يعرض أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، والمعنى: إذا جاءك أحد يجادلك أو يسألك عن مسألة مما ورد في هذا الكتاب، من أصول السنة، وهو مسترشد؛ فأصغ له سمعك وأرشده وبيّن له، حتى وإن كان سؤاله يتضمن شبهة أو نحو ذلك، أما إذا جاء يناظر فاحذره، وهذه المسألة أيضاً فيها تفصيل، فقوله: (فاحذره)، يقصد أن عموم القراء ينبغي أن يحذروا من يريد أن يناظرهم في أصول دينهم؛ لأنهم ما استعدوا للمناظرة، ثم إن على الإنسان أن يجيب بالإجابة الحكيمة، يقول: أنا ليس عندي شك في ديني، فأنت إن كان عندك شك فابحث عن غيري، هذا هو الأصل، لكن إذا كان من يطلب المناظرة جاداً ومن طلبت منه المناظرة من أهل السنة متمكناً، فلا بد أن يستجيب لإقامة الحجة والبيان، لكن هذا عزيز جداً، قلَّ أن يوجد من أهل الأهواء من هو في طلبه للمناظرة جاد، وقل أن يوجد من أهل السنة الآن من هو متمكن مستوفية فيه شروط المناظرة والجدل.

قال رحمه الله تعالى: [ وجاء رجل إلى الحسن فقال: أنا أناظرك في الدين فقال الحسن: أنا عرفت ديني، فإن ضل دينك فاذهب فاطلبه ].

هذا هو الأصل، وهو النهي عن الجدال، وفتح باب الجدال يبقى استثناء، وهذا أدب الحسن البصري رحمه الله، وهو إمام السنة في ذلك الوقت، وهو من أكابر العلماء ومن أقدرهم على المناظرة، لكن يظهر لي أنه توسم فيمن سيناظر أنه من أهل الأهواء والبدع الذين أرادوا الاستظهار والتعالي والغرور، وإلا فكان الإمام الحسن يفتح صدره ويتسع صدره لمناظرة من يريد الحق.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً على باب حجرته يقول أحدهم: ألم يقل الله كذا، وقال الآخر: ألم يقل الله كذا، فخرج مغضباً فقال: أبهذا أمرتم أم بهذا بعثت إليكم؛ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟)].

الحديث صحيح، ومفاده أن الأصل عدم المجادلة، ولذلك حينما أذن الله عز وجل بمجادلة أهل الكتاب كان الإذن بعد النهي: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] فالنهي هو الأصل، والاستثناء مشروط بأن يكون بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهي تعني استيفاء شروط الجدل التي سبق الكلام عنها في درس ماض، وهذا هو الذي تدل عليه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان ينهى عن الجدل والمراء في الدين؛ لأن قضايا الدين القطعية غيبية توقيفية، والجدل في الغالب ليس تقريراً، لأن التقرير لا يحتاج إلى جدل، واستشكال المسلم ثم سؤاله للعالم لا يعتبر جدلاً، لأن الجدل هو ما زاد عن مجرد السؤال والجواب، أما إذا اقتصر الأمر على سؤال ثم جواب من قبل عالم فلا بأس، لكن إذا قصد السائل المحاجة وأشعرك بأنه سيرد ما معك من الحق، وأنه مستعد أن يناقشك، فهو جدال.

والمعنى اللغوي للمجادلة هو: المماحكة والأخذ والرد أكثر من مرة، هذا هو أصل المجادلة، وهو الذي وردت النصوص بالنهي عنه.

قال رحمه الله تعالى: [ فنهى عن الجدال، وكان ابن عمر يكره المناظرة، ومالك بن أنس ، ومن فوقه ومن دونه إلى يومنا هذا، وقول الله عز وجل أكبر من قول الخلق، قال الله تبارك وتعالى: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر:4].

وسأل رجل عمر بن الخطاب فقال: ما الناشطات نشطاً؟ فقال: لو كنت محلوقاً لضربت عنقك ].

معروف أن الذي أثار هذه المشكلات هو صبيغ بن عسل التميمي ، وصبيغ قصته مشهورة وصحيحة، وهو أنه كان يثير هذه القضايا على شكل شبهات وإشكالات، ويجادل فيها أيضاً، ولما بدأت منه هذه البادرة نهاه أهل العلم فلم ينته، وظل يثيرها بين عامة الناس والأجناد الذين ليس عندهم علم، فلما أصر على هذا رُفع أمره إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما رآه يصر على مثل هذه الأمور جلده، وقال: (لو كنت محلوقاً لضربت عنقك)، يشير بذلك إلى الخوارج، والله أعلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الخوارج.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن لا يماري، ولا أشفع للمماري يوم القيامة، فدعوا المراء لقلة خيره) ].

الظاهر أن الحديث ضعيف جداً، وعبارته تدل على ذلك، فإن فيها ركاكة تدل على أنه موضوع، لكن النهي عن المماراة لا شك أنه ثابت بغير هذا الحديث.

قال رحمه الله تعالى: [ ولا يحل لرجل مسلم أن يقول: فلان صاحب سنة حتى يعلم أنه قد اجتمعت فيه خصال السنة، لا يقال له: صاحب سنة حتى تجتمع فيه السنة كلها ].

يقصد اجتماع السنة بالجملة، وإلا فالمسلم قد لا تجتمع فيه السنة كلها، لكن يقصد المنهج، وكثير من تعبيرات السلف المجملة في هذه الأمور يقصدون بها المنهج، بمعنى أن يكون نهجه على السنة، وإلا فقد يقع في معاص وقد يقع في بعض الأمور المخالفة، وقد يكون عنده بعض البدع الصغيرة غير المخرجة من السنة.

فقوله: (حتى تجتمع فيه السنة كلها) بمعنى أن يلتزم أصول السنة، ويلتزم نهج أهل السنة والجماعة، ولذلك من كان على السنة في المنهج إجمالاً فهو صاحب سنة وإن خالف في بعض الأمور، سواء كانت معاصي أو من البدع الصغيرة، فلا يخرج من السنة إلا إذا عمل ببدعة مغلظة، أو خالف أهل السنة والجماعة في الأصول والمنهج، أو تكاثرت عنده البدع الصغيرة حتى صارت هي الأصل، فإنه بذلك يخرج عن السنة وإن ادعى أنه على السنة.

قال رحمه الله تعالى: [ وقال عبد الله بن المبارك : أصل اثنين وسبعين هوى أربعة أهواء، فمن هذه الأربعة الأهواء انشعبت هذه الاثنان وسبعون هوى.. القدرية، والمرجئة، والشيعة، والخوارج ].

هذا الكلام اجتهاد من الإمام عبد الله بن المبارك ، وقال بمثله يوسف بن أسباط ، وأصل قولهم في ذلك أنهم سبروا الأهواء في وقتهم، وذلك في نهاية القرن الثاني الهجري، فوجدوها كذلك.

فبعد الإمام عبد الله بن المبارك والإمام يوسف بن أسباط زادت الفرق، ولذلك فالذي عليه جمهور السلف أنا لا نستطيع أن نحدد الفرق بأعيانها، ولا أن نحدد الأصول على وجه الجزم؛ لأنه لا يزال إلى اليوم تخرج فرق بأصول جديدة، لكن يمكن أن تكون هذه أصول الفرق في ذلك الوقت.

والقدرية تشمل المعتزلة؛ لأن المعتزلة قدرية.

والمرجئة تشمل مرجئة الفقهاء، والمرجئة الغلاة، ما عدا المرجئة الجهمية، لأن الجهمية تخرج من الملة.

والشيعة تشمل الشيعة الرافضة والشيعة الزيدية، وهذا قبل أن تقول الرافضة بالعصمة والمهدية وغير ذلك، لأن الرافضة في ذلك الوقت لم تكن عند جميعها أصول الكفر، وإن كانت موجودة عند بعض فرقهم، فالشيعة هي المفضّلة والمفترية، أما الرافضة فالغالب أنها لا تدخل في هذه الأربع؛ لأنها تخرج من الملة.

والخوارج تشمل إلى أصنافاً كثيرة.

ففي ذلك الوقت كانت هذه الفرق الأربع هي أصول الفرق، أما بعد ذلك فقد جاءت الفرق الكلامية مثل الصوفية أصحاب الطرق، وجاءت مذاهب الفلاسفة الذين يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، ومذاهبهم إلى الآن تحتذى.

وفي الحديث: (كلها في النار إلا واحدة) يعني أنها من أهل الوعيد، أما الخارجة من الملة منها فليست من فرق المسلمين، فالتوعد بالنار هنا ما دامت مسلمة، فهي مثل أصحاب المعاصي؛ لكن البدع أشد من المعاصي العملية.

إذاً فقوله: (كلها في النار) من أحاديث الوعيد باتفاق السلف، ولا يدل على خروجهم من الملة.

قال رحمه الله تعالى: [ فمن قدم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً على جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم في الباقين إلا بخير ودعا لهم، فقد خرج من التشيع أوله وآخره، ومن قال: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فقد خرج من الإرجاء أوله وآخره، ومن قال: الصلاة خلف كل بر وفاجر، والجهاد مع كل خليفة ولم ير الخروج على السلطان بالسيف، ودعا لهم بالصلاح فقد خرج من قول الخوارج أوله وآخره، ومن قال: المقادير كلها من الله عز وجل خيرها وشرها يُضل من يشاء ويهدي من يشاء، فقد خرج من قول القدرية أوله وآخره، وهو صاحب سنة ].

هذه الضوابط صحيحة نقية واضحة جداً، ذكر فيها أبرز سمات أهم الفرق في ذلك الوقت، وإلى اليوم نستطيع أن نقول بمثل قوله، بمعنى أن من قدّم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً على جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو صاحب سنة، وقد برئ من التشيع، وكذلك من قال الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فقد برئ من الإرجاء المذموم..، وهكذا بقية الأصول، ويمكن أن نضيف إليها أصلاً واحد ينتظم جميع أصول الفرق في القرون الثلاثة الفاضلة، وهو: من أثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل، ونفى ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل ولا تعطيل، فقد برئ من التجهم أوله وآخره، ثم نستطيع أيضاً أن ندرج قواعد تخرج الصوفية، وقواعد تخرج الفلاسفة، وقواعد تخرج بعض الفرق التي ظهرت بعد ذلك.

قال رحمه الله تعالى: [ وبدعة ظهرت هي كفر بالله العظيم، ومن قال بها فهو كافر بالله لا شك فيه، من يؤمن بالرجعة ويقول: علي بن أبي طالب حي وسيرجع قبل يوم القيامة، ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر ويتكلمون في الإمامة، وأنهم يعلمون الغيب فاحذرهم فإنهم كفار بالله العظيم ومن قال بهذا القول ].

هذه إشارة إلى الرافضة، وهنا أخرج الرافضة من الفرق، وعلى هذا فإنها لا تدخل في الشيعة في أول الكلام الذي ذكره عن ابن المبارك في الفرق الأربع، لأن الرافضة خرجت من الملة بعدة أمور منها القول بالرجعة، ومنها كذبها على الرسول صلى الله عليه وسلم كذباً صريحاً، وخرجت من الملة بنسبتها البهتان إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه قدح في عرض النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنها خرجت من الملة بتكفيرها للصحابة، وبردها للسنة رداً مطلقاً، وهي المصدر الثاني من مصادر الدين.

ثم خرجت الرافضة بزعمها العصمة للأئمة وأنهم فوق الأنبياء، ثم بموقفها العام من المسلمين، فإن الرافضة تتفق على أنها على غير دين المسلمين، ويعدون المخالفة من دينهم، وهم يسمون أنفسهم المسلمين، ويسمون أهل السنة الناصبة، ويسمونهم بأسماء أخرى، فهم بكل صراحة قد أخرجوا أنفسهم من الملة.

ولذلك أنا أعجب من تردد بعض طلاب العلم في مسألة الرافضة الآن! أناس لا يريدون الإسلام الذي نريده ونتعبد الله به، فلماذا يقحمهم بعض الناس فيه؟ وأنا وجدت في الآونة الأخيرة نصاً لأحد علمائهم يقرءونه ولا ينكرونه، يقول ما معناه: إن الرب الذي يدّعي الناصبة أنه أباح للنبي صلى الله عليه وسلم الزواج بـعائشة هو غير ربهم، فهذا كلام نعمة الله الجزائري إمام الأئمة، وله كتاب آخر يدّعي فيه أن القرآن محرّف، وهو كتاب مشهور عندهم، وبعضهم ينكر ذلك، ولكن أنا لا أستبعد أن إنكار الكتاب من باب التقية.

فإذاً: الرافضة كما قال الشيخ كفروا بالله العظيم، وذكر أصلاً واحداً من الأصول التي كفروا بها، وهي كثيرة، وكل واحد منها فيما أعلم وحسب كلام الأئمة المجتهدين كاف للقول بأنهم رافضة، ومن أخفاها على الناس القول بالبدا، حيث يرون أن الله يبدو له أمر آخر فينكشف له ما لم يعلمه من قبل، ولذلك فسّروا كثيراً من الأشياء التي هي معضلة عليهم بذلك، مثل: جعل عائشة بنت أبي بكر تحت النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً حفصة بنت عمر ، ولماذا كان الصحابة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك كفروهم وقالوا: لا يليقون بأنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.. كل هذا يفسّرونه بأنه بدا الله، أي انكشف له أن الصحابة لا يستحقون ذلك، فهذا واحد من الأصول المغمورة عند الرافضة، فكيف بالعقائد الشهيرة!

ومن ذلك: قولهم بنقص القرآن وتحريفه، ويعتقدون عقيدة المهدية والرجعة، وأنه سيظهر قرآن آخر غير الذي نتلوه، وهو مصحف فاطمة ، وكلهم يعتقدون هذا، صحيح أن بعضهم يموّه على أهل السنة ويقول: نحن نعرف أن هذا القرآن الذي بين أيدينا غير محرف، لكن يعتقدون أن هناك قرآناً آخر، وغالبيتهم يرون أن هذا القرآن نفسه محرّف ومنقوص ومزيد، لكن بعضهم يموّه على بعض.

وبعض الناس يسأل عن عوامهم، فنقول: عوامهم مثل عوام المشركين، لكن الله أعلم بحال الأشخاص بأعيانهم، وقد يكون بعض الناس مسلماً مستضعفاً، والعامي الخالص منهم قد يكون يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا يعرف إلا مجملات الدين، لكن ما نسبة هذا إلى عوام الرافضة؟ لا ندري، قصدي أن الغالب أن هذا نادر جداً؛ لأن عموم الرافضة حتى العوام منهم يشركون بالله عز وجل في العبادة، فيدعون علياً ويدعون عباساً ، ولا يستغني رافضي عن الأضرحة والمشاهد التي تمارس فيها الكفريات، هذا هو دين الرافضة الذي هم عليه الآن إلا النادر، والنادر لا حكم له، بل الحكم على العموم.

أما أن يفترض أن يوجد رافضي عامي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيم أركان الإسلام، ولا يعرف الشركيات، فهذا محتمل عقلاً، لكن الواقع غير ذلك، فلا نلغي الأحكام لمجرد احتمالات نادرة وقليلة، فيبقى الأصل هو أن هؤلاء القوم ليسوا من المسلمين، بل هم ديانة فارسية مجوسية، فلا علاقة لها بالإسلام إلا مجرد الاسم، والله أعلم.

قال رحمه الله تعالى: [ قال طعمة بن عمرو وسفيان بن عيينة : من وقف عند عثمان وعلي فهو شيعي لا يُعدّل ولا يكلم ولا يجالس، ومن قدّم علياً على عثمان فهو رافضي قد رفض آثار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قدّم الثلاثة على جماعتهم وترحم على الباقين، وكف عن زللهم فهو على طريق الاستقامة والهدى في هذا الباب ].

قوله: (من وقف عند عثمان وعلي )، عبارة محتملة لعدة أمور، لكن حين قال فهو شيعي فكأنه يقصد من توقف في فضل عثمان على علي ؛ لأنه قال: (لا يُعدّل ولا يكلم)، ثم ذكر كلاماً آخر وهو: (من قدّم علياً على عثمان )، وهذا هو التشيع التفضيلي، فقوله فيه: (فهو رافضي)، فيه نظر؛ لأن الرافضي هو الذي يسب أبا بكر وعمر ، والشيعي هو الذي يفضّل علياً على عثمان ، هذه قاعدة عليها جمهور السلف.

فالرافضي هو الذي يسب أبا بكر وعمر ، ومن البديهي أن من سب أبا بكر وعمر سيسب بقية الصحابة، وهم لا يدينون ولا يعترفون بالفضل إلا لثلاثة، وبعضهم يرفعهم إلى خمسة، وبعضهم إلى سبعة من الصحابة: علي رضي الله عنه والحسن والحسين ، وسلمان الفارسي والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر ، وأبو ذر .

والمهم أن كلام الشيخ في هذه الفقرة فيه اضطراب ولا أدري ما سبب هذا الاضطراب، هل هو خلل في الأصول أو عند الشيخ وهم؟ الله أعلم.

قوله: (ومن قدّم الثلاثة على جماعتهم وترحم على الباقين، وكف عن زللهم فهو على طريق الاستقامة).

يقصد من قدّم أبا بكر وعمر وعثمان ، ولا يعني ذلك أن يقدح في علي ، لكن كما قلت لكم في وقت سابق وكما ذكر المحققون من أهل العلم: أنه لما كثر كلام الناس في تفضيل علي على عثمان ، وفي الثلاثة ومن هم أفضل؟ وهل علي يدخل في الخلفاء الراشدين أو لا يدخل؟ استقر مذهب السلف على التالي:

أولاً: النصوص التي وردت في الفضل أكثر ما وردت في أبي بكر رضي الله عنه وحده، ثم في عمر وحده، ثم في أبي بكر وعمر ، ثم ذكر عثمان مع الشيخين أبي بكر وعمر ثم ذكر الأربعة، فبعض السلف نظراً لكثرة النصوص التي تجمع بين الثلاثة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أو على لسان الصحابة، حين كانوا كثيراً ما يقرنون أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله وأقواله بالثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان .. فوقفوا عند الثلاثة لا للغض من قدر علي رضي الله عنه؛ لكن للوقوف على قدر معين من النصوص، وترحموا على الباقين.

وفي بعض النسخ: (الأربعة)، وهذا جيد لا بأس، ولكن كلمة (الثلاثة) واردة على لسان السلف وليست غلطاً.

قال رحمه الله تعالى: [ والسنة أن تشهد أن العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة أنهم في الجنة لا شك فيه ].

هذا أيضاً تخالف فيه الرافضة، وليس العجيب من كلامهم، العجيب من خفاء أمرهم على طلاب العلم، والعجيب أنهم في الوقت الذي يكفّرون فيه من شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة يشهدون بالجنة للمشركين من أهل الجاهلية، وهذا من عباداتهم الأساسية.

قال رحمه الله تعالى: [ ولا تفرد بالصلاة على أحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله فقط ].

بمعنى أن لا تقول: اللهم صل وسلم على فلان، إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، وآله، أما بقية الناس فلا، مثلاً بقية الأنبياء يقال: عليهم السلام، ومع ذلك ورد في النصوص جواز ذكر الصلاة والسلام لبقية الأنبياء، لكن الأصل أن الجمع بين الصلاة والسلام لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآله أمر واجب، ولبقية الأنبياء غير واجب، فإذا ذكرت محمداً صلى الله عليه وسلم فلا تقل: عليه السلام فقط، فهذا إخلال بحقه وترك للواجب، أما إذا قلت في حق الأنبياء عليهم السلام أو عليهم الصلاة والسلام فالأمر لا حرج فيه.