شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [12]


الحلقة مفرغة

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

[ وكذلك ما أمر به من الصلاة على الجنائز ومن زيارة قبور المؤمنين والسلام عليهم والدعاء لهم، هو من باب الإحسان إلى الموتى الذي هو واجب أو مستحب، فإن الله تعالى أمر المسلمين بالصلاة والزكاة، فالصلاة حق الحق في الدنيا والآخرة، والزكاة حق الخلق.

فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالقيام بحقوق الله وحقوق عباده، بأن يعبدوا الله لا يشركوا به شيئاً، ومن عبادته الإحسان إلى الناس حيث أمرهم الله سبحانه به، كالصلاة على الجنائز، وكزيارة قبور المؤمنين، فاستحوذ الشيطان على أتباعه فجعل قصدهم بذلك الشرك بالخالق وإيذاء المخلوق، فإنهم إذا كانوا إنما يقصدون بزيارة قبور الأنبياء والصالحين سؤالهم أو السؤال عندهم، أو أنهم لا يقصدون السلام عليهم ولا الدعاء لهم كما يقصد بالصلاة على الجنائز كانوا بذلك مشركين مؤذين ظالمين لمن يسألونه، وكانوا ظالمين لأنفسهم، فجمعوا بين أنواع الظلم الثلاثة.

فالذي شرعه الله ورسوله توحيد وعدل وإحسان وإخلاص وصلاح للعباد في المعاش والمعاد، وما لم يشرعه الله ورسوله من العبادات المبتدعة فيه شرك وظلم وإساءة وفساد العباد في المعاش والمعاد، فإن الله تعالى أمر المؤمنين بعبادته والإحسان إلى عباده، كما قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى [النساء:36] وهذا أمر بمعالي الأخلاق، وهو سبحانه يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها.

وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه الحاكم في صحيحه، وقد ثبت عنه في الصحيح صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، وقال: (اليد العليا هي المعطية واليد السفلى السائلة)، وهذا ثابت عنه في الصحيح.

فأين الإحسان إلى عباد الله من إيذائهم بالسؤال والشحاذة لهم، وأين التوحيد للخالق بالرغبة إليه والرجاء له والتوكل عليه والحب له، من الإشراك به بالرغبة إلى المخلوق والرجاء له والتوكل عليه، وأن يحب كما يحب الله؟ وأين صلاح العبد في عبودية الله والذل له والافتقار إليه من فساده في عبودية المخلوق والذل له والافتقار إليه؟

فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بتلك الأنواع الثلاثة الفاضلة المحمودة التي تصلح أمور أصحابها في الدنيا والآخرة، ونهى عن الأنواع الثلاثة التي تفسد أمور أصحابها ].

في هذا المقطع أشار الشيخ إلى معنى جيد ومهم جداً أيضاً في مناقشة أهل البدع والأهواء، خاصة أولئك الذين يصرفون العبادة إلى الأشخاص، أو الذين يتبركون بالأشياء والأشخاص بأكثر مما ورد به الشرع، فمن وجوه الرد عليهم أن يقال: إن عملكم هذا فيه أذى لأولئك المدعوين من دون الله؛ لأن هؤلاء المدعوين إما من الناس الصالحين، أو من الجمادات والمخلوقات التي لا تعقل، أو من غير الصالحين، فإن كانوا من الصالحين فهم لا شك يعظمون الله عز وجل ويعبدونه حق عبادته، ويعلمون أن دعاءهم من دون الله عز وجل أو التبرك بهم أو عمل شيء من البدع باسمهم وبأشخاصهم غير لائق إلا بالله عز وجل، فيتأذون بذلك أشد الأذى؛ لأنهم يعرفون أن هذا باطل، والباطل تضيق به نفس المؤمن حياً وميتاً، ولا شك أنه من الأمور التي تعد من أعظم أبواب الإساءة إلى الخلق، فضلاً عن أنها إساءة إلى الخالق عز وجل.

وإن كانوا من غير الصالحين، فإنهم يوماً من الأيام سيدركون أن هذا العمل خطأ ويتمنون أن لو لم يكن، لأنهم إن كانوا أصحاب أوزار زاد ذلك من أوزارهم، وسيعلمون الحقيقة عندما ينتقلون من هذه الحياة إذا لم يعلموها في حياتهم، فيكون ذلك من أشد الإساءة إليهم.

وإن كانت المعبودات من الجمادات، فلا شك أن الجمادات خاضعة لله عز وجل خضوعاً كاملاً، تسبح الله وتستغفره وتعبده كما هيأ الله لها ذلك، فعبادتها من دون الله يتنافى مع هذا ويتضاد، فلو كانت لها ألسنة لأعلنت أن ذلك أعظم الإساءة إليها.

ثم إنه أشار إلى معنى آخر، وهو أن طلب الأشياء من دون الله عز وجل إضافة إلى أنها إساءة فكذلك هي من الشحاذة لهم، والشحاذة هي السؤال بغير حق، وهي استجداء من المخلوق الناقص الذي لا يقدر على كل شيء، والإعراض عن استجداء الخالق وعبادة الخالق الذي يملك كل شيء، فهذا أيضاً يعتبر من الأعمال الدنيئة الرديئة، حيث قد تكفل الله برزقه وهو يستجدي الآخرين. كما أن طلب اللقمة من الناس من المتسول الذي جعل التوسل مهنته هي شحاذة، فكذلك العبادة لغير الله من باب أولى، فهي نوع من استجداء المخلوقين فيما لا يقدرون عليه، أو فيما يجب أن يتوجه العبد إلى الله عز وجل به، ولا يطلب من المخلوقين إلا ما أذن الله فيه.

قال رحمه الله تعالى: [ ولكن الشيطان يأمر بخلاف ما يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس:60-62] ].

هذه الآية دليل صريح على أن المقصود بالعبادة هنا الطاعة، وهي من المعاني التي ينازع فيها كثير من أهل الأهواء الذين لا يجعلون الطاعة من باب العبادة، فقد يطيعون غير الله عز وجل ولا يرون أن هذا عبادة، وهذه الآية شاملة لمعاني الطاعة من باب الأولى؛ لأن كثيراً من العباد لا يعبدون الشيطان عبادة صريحة، لكنهم يطيعونه، وطاعتهم للشيطان عبادة له؛ لأنهم أطاعوا فيما يجب ألا يطيعوه فيه، وليس للشيطان طاعة أبداً؛ لأن الشيطان شر محض.

قال رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42].

وقال تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:98-100].

وقال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36-37].

وذكر الرحمن هو الذكر الذي أنزل الله على رسوله الذي قال فيه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

وقال تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:123-126].

وقد قال تعالى: المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:1-3].

وقد قال تعالى: الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [إبراهيم:1-2].

وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52-53].

فالصراط المستقيم هو ما بعث الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بفعل ما أمر وترك ما حظر وتصديقه فيما أخبر، ولا طريق إلى الله إلا ذلك، وهذا سبيل أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وجند الله الغالبين، وكل ما خالف ذلك فهو من طرق أهل الغي والضلال، وقد نزه الله تعالى نبيه عن هذا وهذا، فقال تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:1-4]، وقد أمرنا الله سبحانه أن نقول في صلاتنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7].

وقد روى الترمذي وغيره عن عدي بن حاتم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون)، قال الترمذي : حديث صحيح.

وقال سفيان بن عيينة : كانوا يقولون: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى.

وكان غير واحد من السلف يقول: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ].

لأن هؤلاء قدوة عند الناس، فالعالم قدوة، وكثير من العوام وطلاب العلم المبتدئين وغيرهم قد لا يميزون بين العالم الصالح والعالم الذي قد يكون عنده شيء مما يخل بالصلاح، مع أنا نعلم يقيناً أن الأصل في العلماء الصلاح، ومع ذلك قد يندر من يسلك طريق العلماء وليس منهم، لكن يكون فيه من الخصال ما يجعل فيه شبهاً بالعلماء، أو يلحق نفسه أو تلحقه بعض خصاله، كأن يكون عنده شيء من العلم أو القدرة الكلامية أو نحو ذلك، أو يتشبه بالعلماء فيكون عند الناس من العلماء، لكن عنده شيء من الفجور، وعنده شيء من الخروج عن مقتضى الشرع بالهوى.

والمقصود بالفاجر هنا -والله أعلم- صاحب الهوى، فهذا يتشبه بالعلماء أو يكون محسوباً من العلماء، والعلماء قدوة، ولذلك ينبغي أن ينبه على زلات العلماء؛ لأن الناس يفتنون بها ويأخذون بها عن حسن نية وعن غير حسن نية، عن قصد طيب وعن قصد سيء؛ لأن غالب الناس من الغوغاء والرعاع لا يميزون بين القول الصائب من غير الصائب، أو التصرف الصائب من غير الصائب من العالم، وإن ميز بعضهم فقد يعتقد أنه في ذمة هذا العالم، وإن كان يعرف أن الحق خلاف ذلك، وهذا ما يصرح به بعض المقصرين من العوام وأشباه العوام، يقول: بذمة الشيخ أن أعمل بكذا! وبذمة الشيخ الذي أفتاني أو الذي يفعل ويصنع، ومن هنا تعظم الفتنة بمثل هذا الصنف من العلماء؛ لأنهم قدوة، ولأن الناس يحتجون بهم على أهل الحق والصواب.

وكذلك العابد الجاهل، فالعابد في الغالب لا يكون عابداً إلا بظهور الزهد والتقشف عليه وبانقطاعه للعبادة، وهذا بحد ذاته مصدر تزكية له وثقة به، والناس كلهم مفطورون على حب العبادة، وحب من يعبد الله ويظهر صلاحه.

والعابد إذا كان يعبد الله عن جهل فلابد أن تظهر منه أشياء كثيرة يظن أنها من الشرع فيتعبد الله بها فيتبعه غيره من العوام والناشئين وغيرهم، فمن هنا تنشأ البدع، ولذلك فإن أهل العلم عدوا من أعظم أسباب ظهور الطرق الصوفية المبتدعة بضلالاتها ومقالاتها الفاسدة هفوات العباد الأوائل، الذين ظهروا في آخر القرن الأول وفي القرن الثاني والثالث، خاصة عباد الخوارج والشيعة الأوائل، قبل أن تنحرف الشيعة إلى الباطنية، أما بعدما انحرفت الشيعة إلى الباطنية فإنها لا تعد من القدوات في الإسلام، لكن قبل انحرافها إلى الكفر كان بعض الشيعة يعبدون الله على جهل، وكذلك الخوارج، ثم قلدهم بعض العباد المنتسبين إلى السنة فظهرت منهم أعمال شنيعة، صارت فيما بعد أصول ضلالة؛ فمن هذه الأعمال أن بعضهم ترك الحديث وترك علم الشرع تعبداً، فمقت الفقه والرواية والإسناد ورأى أنها من ضياع الوقت؛ لشبهة أنه يرى بعض السلوكيات التي لا تعجبه من طلاب الحديث، وبشبهة أخرى: أن هذا يشغل عما هو أهم من العبادة وغيرها.

وبعضهم صرح بالتعبد بترك الزواج، وبعضهم صرح بالتعبد بترك الجمعة والجماعات، والسياحة في البراري من غير قصد، والحياة في الكهوف وغيرها، وبعضهم تعبد بمصاحبة الحيوانات والرهبان من الأمم الأخرى كالنصارى وعباد اليهود والهنود وغيرهم، وجعل ذلك أفضل له من مصاحبة المسلمين.

وبعضهم قال: مصاحبة الكلاب أفضل عندي من مصاحبة الناس، حتى صارت هذه أصول ضلالة فيما بعد؛ لأنها جاءت من عابد جاهل، فلذا كانت أعظم الضلالات والفتنة بسبب عالم فاجر أو عابد جاهل.

ويدخل في العالم الفاجر رءوس الفرق، دعاة الضلالة رءوس الخوارج، رءوس الشيعة الأوائل، رءوس القدرية، رءوس المعتزلة، رءوس الجهمية، ليسوا جهلة إلى هذا الحد، بعضهم علماء، وبعضهم قد يكون حجة في بعض العلوم، لكنه عالم فاجر، فاجر ببدعته، فاجر بهواه، فاجر بضلالاته، فمن هنا فعلاً نجد أن أغلب وأكثر ما فتن المسلمون ووجد الافتراق عندهم سبب هذين الصنفين من القدوات المنحرفة. نعم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فمن عرف الحق ولم يعمل به أشبه اليهود الذين قال الله فيهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].

ومن عبد الله بغير علم، بل بالغلو والشرك أشبه النصارى الذين قال الله فيهم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77].

فالأول: من الغاوين، والثاني: من الضالين؛ فإن الغي اتباع الهوى، والضلال عدم الهدى، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176]، وقال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:146].

ومن جمع الضلال والغي ففيه شبه من هؤلاء وهؤلاء، نسأل الله تعالى أن يهدينا وسائر إخواننا صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ].

قبل أن نخرج من هذا الموضوع، أشير إلى مسألة تتعلق بأولئك القوم الذين نهى الله عز وجل أهل الكتاب أن يأخذوا عنهم، بقوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77]، هؤلاء القوم يمثلون الأمم التي جانبت طريق الأنبياء، وباستقراء الواقع الذي حصل على أهل الكتاب نجد أن أكثر من أخذ عنه أهل الكتاب الضلال والكفر والشرك هم الوثنيون، وأصحاب الحضارات الوثنية الضالة من الفراعنة، وأخطر منهم اليونان، فإن أول تحريف دخل على النصارى كان عن طريق الوثنية اليونانية، عن طريق قسطنطين ملك الرومان وملك اليونان الذي دخل في النصرانية، وكذلك الأمم ذات الحضارات والوثنية، التي لا يزال لها تأثير مباشر على جميع الديانات، ولها علوم مكتوبة ومأثورة، مثل اليونان، والفراعنة، والبابليين، والهنود، وفلاسفة الصابئة، عباد الكواكب، وعباد الهياكل، الفلاسفة الدهريين.. هؤلاء كلهم من الذين ضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، ومن هنا يجب أن نتنبه لخطورة ما يتعلق به بعض المثقفين عن جهل أو عن زيغ في تعلقهم بهذه الحضارات والتمدح بها والثناء عليها، والبكاء على أطلالها، وتلمس آثارها، كل ذلك من الجاهلية المقيتة التي توقع الناس في الضلال، نسأل الله العافية. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

صرف المتكبرين عن آيات الله الكونية والشرعية

السؤال: الآيات المذكورة في قوله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:146] هل تشمل الآيات الكونية والشرعية؟

الجواب: نعم، هذه تشمل جميع الآيات الكونية والآيات الشرعية، آيات الوحي، وآيات الكون، لكن في بداية الآية يشير إلى الآيات الكونية، التي هي المعجزات التي أظهرها الله على أيدي رسله المعجزات، والآيات الكونية الأخرى أيضاً، كذلك من المعجزات الشرائع والوحي الذي أنزله الله على رسله.

مسألة الرؤية بين المثبتة والنفاة

السؤال: إن من أنكر الرؤية فهو كافر، فهل يدخل في ذلك المؤولة الذين قصدوا من ذلك تنزيه الرب تعالى، مثل بعض الأشاعرة؟

الجواب: الأشاعرة لم ينكروا الرؤية، ولا أعرف من الأشاعرة من أنكر الرؤية أبداً، لكنهم أثبتوها إثباتاً فيه نوع البدعة، قالوا: يرى إلى غير جهة، فهم يعتقدون الرؤية، ولذا فلا أعرف في الرؤية مؤولة، الرؤية ليس فيها إلا مثبتة ونافية، لكن بعض المثبتة عندهم نوع من الابتداع في إثبات الرؤية، وهو إثبات الرؤية بلا جهة، هروباً من إثبات العلو الذاتي والاستواء والفوقية، وهروباً من إثبات الصفات الفعلية والذاتية.