شرح العقيدة الطحاوية [73]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى: [ وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال:

فطائفة جعلت الإسلام هو الكلمة، وطائفة أجابوا بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإسلام والإيمان حيث فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة ].

قوله: منهم من جعل الإسلام هو الكلمة، الكلمة تعبير عن الشهادتين، أو الإقرار بالإسلام بأي تعبير ولو بالقرائن، يقولون: من أقر بالإسلام كأن ينطق بالشهادتين، أو تتوافر عندنا القرائن على إقراره بالإسلام -كملازمته للقيام بشعائر الدين- فإن هذا يكفيه أن يكون مسلماً، بل قالوا: إن هذا هو المقصود بالإسلام الإقرار، وانقسموا إلى طائفتين: منهم من اعتبر الإسلام هو النطق والإقرار، ومنهم من اشترط توافر القرائن الأخرى مع الشهادتين أو مع الإقرار باللسان.

ومنهم من قال: إن الإسلام يعني: الأعمال الظاهرة، وهو قريب من القول الأول، إلا أن القول الأول حصر بالكلمة، قالوا: إن الإسلام هو الأعمال الظاهرة من الدين، ذلك أن الدين أعمال قلبية باطنة وهي الاعتقادات والأمور الإيمانية التصديقية، وأعمال ظاهرة، وهي الشعائر الظاهرة التي تؤدى بالأركان، فقالوا: إن الإسلام المقصود به هو الأعمال الظاهرة فحسب.

وقول ثالث: أن الإسلام والإيمان مترادفان لا فرق بينهما أبداً، والقول الرابع هو الذي يرى التفريق عند الاجتماع والترادف عند الانفراد، وإن كان الترادف لا يعني الترادف من كل وجه، لكن في الجملة، وهذا هو قول جمهور السلف، فيرون أنه يفرق بين مسمى الإيمان ومسمى الإسلام عندما يجتمعان فإذا اجتمع الإيمان والإسلام في كلمة واحدة فإن الإيمان يعني: الأمور القلبية الاعتقادية المعرفية التصديقية، والإسلام يعني: شعائر الدين الظاهرة، وإذا انفرد كل واحد منهما عن الآخر فلابد أن يتضمن الآخر، فإذا أطلق اسم الإيمان على الشخص -كأن نقول: المؤمن- فلابد أن يتضمن معنى المسلم؛ لأن الكافر لا يسمى مؤمناً في الاصطلاح الشرعي، وإن سمي مؤمناً في الاصطلاح اللغوي فيما يتعلق ببعض أجزاء العقيدة، كالإيمان بالله.

وقالوا: إن المؤمن إذا جاء منفرداً فإنه يشمل معنى الإسلام، وكذلك المسلم يشمل معنى الإيمان؛ لأنه جاء منفرداً، ومع ذلك قالوا: قد يطلق على المنافق أنه مسلم، لكن هذا أمر غيبي لا تتعلق به الأحكام التي نقررها، ذلك أن الأحكام على أهل القبلة وتسميات أهل القبلة ونحو ذلك متعلقة بالظواهر ومتعلقة بالقرائن، وأمور القلوب غيبية، فعلى هذا يبقى الاصطلاح صحيحاً، واستثناء المنافق لا يرد؛ لأننا لا نعلم المنافق، فأحكامنا التي نطلقها لا نفرق فيها هذا التفريق الذي يقال فيه: يستثنى منه المنافق، فالراجح أن كلمة إسلام وإيمان ومسلم ومؤمن إذا اجتمع دلت كل واحدة على معنى، وإذا افترقت دلت كل واحدة على الأخرى.

وأما قوله: الإيمان بالأصول الخمسة، فالمراد الأصول الخمسة الواردة في آية بسورة النساء وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ... [النساء:136]، وأغفل الإيمان بالقدر لا على أساس أنه ليس من أركان الإيمان، لكن على أساس أن الغالب في الآيات والأحاديث ذكر الأصول الخمسة، وعلى أي حال فهذا الاصطلاح سبق أن تكلمت عنه وأرى أن فيه نظراً؛ لأنه موهم، فالأولى أن يقال: الأركان الستة.

قال رحمه الله تعالى: [ وطائفة جعلوا الإسلام مرادفاً للإيمان، وجعلوا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة،) الحديث، شعائر الإسلام.

والأصل عدم التقدير، مع أنهم قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب، ثم قالوا: الإسلام والإيمان شيء واحد، فيكون الإسلام هو التصديق! وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة، وإنما هو الانقياد والطاعة ].

هنا أشار إلى تناقض هؤلاء في قولهم حيث قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب، ثم قالوا: الإسلام والإيمان شيء واحد، فكأنه يقول بأنهم حينما أشاروا إلى أن الإيمان يخص معنى وهو التصديق بالقلب تناقضوا بعد ذلك حينما جعلوه مرادفاً للإسلام تماماً.

أما إذا رجعنا إلى المصطلح الشرعي فلاشك أن الإيمان معنى زائد عن التصديق، والإسلام أيضاً معنى زائد على مجرد الشعائر الظاهرة، وهذا أمر مهم ولابد أن نستصحبه في كل ما سيأتي، وإذا تبين لنا ذلك عرفنا كيف نميز أدلة أهل السنة من أدلة غيرهم ووجوه الاستدلال فيها، وأقصد بذلك أن نفرق بين المدلول اللغوي للإسلام وللإيمان وبين المدلول الشرعي لهما، فعرفنا أن المدلول اللغوي للإيمان هو التصديق، وأن المدلول اللغوي للإسلام هو الانقياد العام الظاهر، وقد يطلق على الانقياد الباطن في اللغة، لكن هناك فرق بين هذا وبين المعنى الاصطلاحي الشرعي للكلمتين، فالشرع جاء بمسمى للإيمان، وهو أنه يشمل الأعمال الصالحة، وجاء أيضاً بمسمى للإسلام، وهو أنه يشمل الأمور القلبية، وترتب على هذا الأحكام في الدنيا والآخرة، فعلى هذا لابد من استصحاب الاصطلاح الشرعي عند الكلام على مسمى الإسلام ومسمى الإيمان؛ لأن المعنى الشرعي المعنى اللغوي واسع وربما تكون المترادفات فيه كثيرة، فربما نجد للإيمان معاني لغوية كثيرة أيضاً يترجح بعضها على بعض عند المختلفين، وربما نجد للإسلام معاني لغوية كثيرة أيضاً يترجح بعضها على بعض عند كثير من أهل اللغة، فحرصاً على التزام ألفاظ الشرع والمصطلحات الشرعية لا نبقى على التعريف اللغوي، فلابد من التزام المعنى الشرعي للإيمان والإسلام.

قال رحمه الله تعالى: [ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت) ].

بدأ يستدل لمذهب أهل السنة في أن الإسلام والإيمان بينهما فرق إذا اجتمعا في سياق واحد كما في الحديث.

قال رحمه الله تعالى: [ وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بينهما أن نجيب بغير ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع، وهذا هو الواجب، وهل يكون مسلماً ولا يقال له: مؤمن؟ وقد تقدم الكلام فيه، وكذلك: هل يستلزم الإسلام الإيمان؟ فيه النزاع المذكور.

وإنما وعد الله بالجنة في القرآن وبالنجاة من النار باسم الإيمان، كما قال الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، وقال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [الحديد:21].

وأما اسم الإسلام مجرداً فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه، وبه بعث النبيين: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].

فالحاصل أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حالة إفراد أحدهما عن الآخر، فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى، فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد.

كذلك الإسلام والإيمان، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له؛ إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه، ولا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ونظائر ذلك في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وفي كلام الناس كثيرة، أعني: في الإفراد والاقتران ].

يقصد بهذا أنه لا يمكن أن تنفرد الشهادتين إحداهما عن الأخرى، كما أنه لا يمكن أن ينفرد مسمى الإيمان عن مسمى الإسلام في الجملة، فإن المسلم إذا شهد أن لا إله إلا الله فلابد أن يقر بالرسالة للرسول صلى الله عليه وسلم ويلتزم بلوازمها، وكذلك العكس، إذا شهد أن محمداً رسول الله فلابد أن يتضمن ذلك شهادة أن لا إله إلا الله، مع أن كل واحدة منهما لها لفظ ومعنى، وتعني أيضاً واجباً معيناً، لكن الواجبين لا ينفكان ولا يصح التفريق بينهما، وكذلك الإسلام والإيمان إذا اجتمعا دل كل واحد على معنى، وإذا افترقا تضمن كل واحد معنى الآخر.

قال رحمه الله تعالى: [ منها: لفظ الكفر والنفاق، فالكفر إذا ذكر مفرداً في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون، كقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5] ونظائره كثيرة، وإذا قرن بينهما كان الكافر من أظهر كفره، والمنافق من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه.

وكذلك لفظ البر والتقوى، ولفظ الإثم والعدوان، ولفظ التوبة والاستغفار، ولفظ الفقير والمسكين، وأمثال ذلك ].

قال رحمه الله تعالى: [ ويشهد للفرق بين الإسلام والإيمان قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] إلى آخر السورة، وقد اعترض على هذا بأن معنى الآية: (قولوا أسلمنا) انقدنا بظواهرنا، فهم منافقون في الحقيقة، وهذا أحد قولي المفسرين في هذه الآية الكريمة.

وأجيب بالقول الآخر، ورُجِّح، وهو أنهم ليسوا بمؤمنين كاملي الإيمان، لا أنهم منافقون، كما نفى الإيمان عن القاتل، والزاني، والسارق، ومن لا أمانة له، ويؤيد هذا سباق الآية وسياقها، فإن السورة من أولها إلى هنا في النهي عن المعاصي، وأحكام بعض العصاة ونحو ذلك، وليس فيها ذكر المنافقين.

ثم قال بعد ذلك: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14]، ولو كانوا منافقين ما نفعتهم الطاعة، ثم قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، الآية، يعني -والله أعلم-: أن المؤمنين الكاملي الإيمان هم هؤلاء لا أنتم، بل أنتم منفي عنكم الإيمان الكامل، يؤيد هذا أنه أمرهم أو أذن لهم أن يقولوا: أسلمنا، والمنافق لا يقال له ذلك، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام كما نفى عنهم الإيمان، ونهاهم أن يمنوا بإسلامهم، فأثبت لهم إسلاماً، ونهاهم أن يمنوا به على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن إسلاماً صحيحاً لقال: لم تسلموا بل أنتم كاذبون، كما كذبهم في قولهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1]، والله أعلم بالصواب ].

ما قاله الشارح هو الراجح عند كثير من المفسرين من أهل السنة والجماعة، وإن كانوا تنازعوا في بعض الجزئيات، لكن واقع الأمر يشهد لهذا التفسير، وهو أنه لم ينف عنهم ما يعصم دماءهم وأموالهم، بل أثبت لهم أنهم دخلوا في الإسلام ونفى عنهم الإيمان الحقيقي أو الإيمان الكامل، وذلك راجع إلى أنهم أسلموا في وقت قريب أو أنهم حديثو عهد بكفر وبشرك، فالمتأمل لواقع الأعراب في ذلك الوقت يجد أنهم أذعنوا للإسلام بسبب قوة الإسلام في ذلك الوقت، ولم يكن عن روية وعن تفكر، فأذعنوا إذعان استجابة في الجملة وليس إذعان يمكن أن نسميه إذعاناً تاماً؛ لأنهم حينما أسلموا أسلموا في الجملة وانقادوا تبعاً لرءوسهم ولشيوخهم وتبعاً لما درج عليه الناس من حولهم، فكل القبائل أذعنت وأرسلت وفودها للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الإذعان العام نجد منه أنهم لم يتفقهوا في دين الله عز وجل وأنهم كانوا على قرب عهد بشركهم وبما هم عليه من أحوال قلبية وعملية، ولم يزل عنهم الإيمان بالكلية، لكنهم لم يصلوا إلى الحد الذي يكون فيه المرء منهم على فقه يعصمه عما يوجب الردة.

ولذلك لما مات النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر هؤلاء ممن ارتدوا، وهكذا كل من يدخل الإسلام تبعاً لغيره من الشعوب والأمم، فإنهم لا يكونون على درجة واحدة من اليقين والإذعان والقناعة، بل يكونون تبعاً لشيوخهم وللناس، فإذا رأوا الناس أذعنوا أذعنوا، فهذا يدخلهم في مبدأ الإيمان، لكن لا يستحقون كمال الإيمان؛ لأنهم لم يتفقهوا في الدين بعد ولم يقتنعوا اقتناعاً يجعلهم يزدادون في الإسلام خيراً، وكثير منهم بعد ذلك فقهوا في دين الله وكانوا من خيار المسلمين.

قال رحمه الله تعالى: [ وينتفي بعد هذا التقدير والتفصيل دعوى الترادف، وتشنيع من ألزم بأن الإسلام لو كان هو الأمور الظاهرة لكان ينبغي ألا يقبل إلا ذلك، ولا يقبل إيمان المخلص! وهذا ظاهر الفساد؛ فإنه قد تقدم تنظير الإيمان والإسلام بالشهادتين وغيرهما، وأن حالة الاقتران غير حالة الانفراد.

فانظر إلى كلمة الشهادة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، الحديث، فلو قالوا: لا إله إلا الله، وأنكروا الرسالة؛ ما كانوا يستحقون العصمة، بل لابد أن يقولوا: لا إله إلا الله قائمين بحقها، ولا يكون قائماً بـ(لا إله إلا الله) حق القيام إلا من صدق بالرسالة، وكذا من شهد أن محمداً رسول الله، لا يكون قائماً بهذه الشهادة حق القيام إلا من صدق هذا الرسول في كل ما جاء به.

فانتظمت التوحيد، وإذا ضمت شهادة أن لا إله إلا الله إلى شهادة أن محمداً رسول الله كان المراد من شهادة أن لا إله إلا الله إثبات التوحيد، ومن شهادة أن محمداً رسول الله إثبات الرسالة.

وكذلك الإسلام والإيمان: إذا قرن أحدهما بالآخر -كما في قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت)- كان المراد من أحدهما غير المراد من الآخر، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب)، وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه.

وكما في الفقير والمسكين ونظائره، فإن لفظي الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فهل يقال في قوله تعالى: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89] أنه يعطى المقل دون المعدم أو بالعكس؟ وكذا في قوله تعالى: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271]؟ ويندفع أيضاً تشنيع من قال: ما حكم من آمن ولم يسلم، أو أسلم ولم يؤمن في الدنيا والآخرة؟ فمن أثبت لأحدهما حكماً ليس بثابت للآخر ظهر بطلان قوله.

ويقال له في مقابلة تشنيعه: أنت تقول: المسلم هو المؤمن، والله تعالى يقول: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35] فجعلهما غيرين، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لك عن فلان؟! والله إني لأراه مؤمناً. قال: أو مسلماً؟! قالها ثلاثاً)، فأثبت له اسم الإسلام، وتوقف في اسم الإيمان، فمن قال: هما سواء كان مخالفاً، والواجب رد موارد النزاع إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد يتراءى في بعض النصوص معارضة ولا معارضة بحمد الله تعالى، ولكن الشأن في التوفيق، وبالله التوفيق.

وأما الاحتجاج بقوله تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36] على ترادف الإسلام والإيمان فلا حجة فيه؛ لأن البيت المخرج كانوا موصوفين بالإسلام والإيمان، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما.

والظاهر أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وإنما هي من الأصحاب، فإن غالبها ساقط لا يرتضيه أبو حنيفة رضي الله عنه! وقد حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد ، وأن حماد بن زيد لما روى له حديث: (أي الإسلام أفضل) إلى آخره، قال له: ألا تراه يقول: (أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان)، ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ فسكت أبو حنيفة ، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه يا أبا حنيفة ؟ قال: بم أجيبه؟ وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ].

هذا دليل على أن أبا حنيفة رحمه الله كان يعتني بالنصوص الشرعية، لكن قد يحدث أحياناً شيء من سوء الفهم أو تشرب لبعض الأقوال التي تلتبس حتى على العالم الكبير مثله، أقول: فلاشك أن أبا حنيفة رحمه الله رجاع للحق، ويؤثر عنه أنه رجع عن الإرجاء بالكلية، وإن لم يرجع فإن قوله لا شك أنه مخالف لأهل السنة والجماعة، لكن هذا لا يقدح في أمانته وفي قدره كما هو معروف في ميزان أهل السنة والجماعة، فهو لا يوافق على زلته إن كان مصراً على القول بالإرجاء، لكن نظراً لإمامته ونظراً لعلمه وتقواه وصلاحه وقبوله عند عامة المسلمين يبقى له قدره من الإمامة والعلم والاعتبار، والراجح أنه لم يقل بجميع أقوال المرجئة التي شنعها السلف.

وفي المقطع التالي أحب قبل أن يبدأ أن أشير إلى مسألة مهمة، فهو سيتكلم عن ثمرات الاختلاف بين الناس في مسألة الإيمان والإسلام، وهي فرع عن الاختلاف في مسمى الإيمان، فإذا كان هناك ثمرات فهذا دليل على أن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين المرجئة لم يكن خلافاً لفظياً، إنما هو خلاف علمي، وأحياناً يكون اعتقادياً، والدليل على هذا هذه المسألة، مسألة الاستثناء في الإيمان، وأوضح منها مسألة نقصان الإيمان وزيادته، فإن هذه المسائل متعلقة بالأصول التي وردت في النصوص والتي اتفق عليها السلف، ونظراً لأن المرجئة خالفوا أهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان فإنه نتج عن هذه المخالفة ثمرات عقدية وعلمية خالفوا فيها، فإن المرجئة حينما قالوا: الإيمان هو التصديق، وإن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان لزم من قولهم عدم زيادة الإيمان ونقصانه، وهذه مسألة عقدية وعلمية في وقت واحد خالفوا فيها السلف، ثم التزموا أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وهذا أيضاً خالفوا به مقتضى النصوص وأقوال السلف، ثم قالوا بأنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان مطلقاً بدون تفصيل، مع أن التفصيل هو قول السلف، وسيشير إلى مسألة الاستثناء هنا.

قال رحمه الله تعالى: [ ومن ثمرات هذا الاختلاف: مسألة الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله. والناس فيه على ثلاثة أقوال: طرفان ووسط، منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار، وهذا أصح الأقوال ].

دليل القائلين بوجوب الاستثناء في الإيمان

قال رحمه الله تعالى: [ أما من يوجبه فلهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان، كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم، وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً.

فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد! وليس هذا قول السلف ].

هذا القول عند الكلابية فرع عن اعتقادهم أن أفعال الله عز وجل -ومنها المحبة والرضا والنزول والكلام وغير ذلك- أزلية قائمة بالذات غير مرتبطة بالمشيئة، فلذلك قالوا بهذه اللوازم، فجعلوا الحب والبغض لله عز وجل والكلام من الصفات اللازمة التي لا يحدث لله منها شيء، وأوضح ما يكون هذا في الكلام، فإنهم زعموا أن الكلام قائم بالنفس وأنه غير مرتبط بالمشيئة، وهذا يعني عندهم أن الله لا يتكلم متى شاء ولا كيف شاء، إنما كلامه معنى قد يعبر عنه بتعبيرات ترجع إلى تفسيرات كثيرة عندهم، فمن هنا قالوا: هو معنى قائم بالنفس، والذي يسمى كلام الله -كالقرآن- إنما هو عبارة عن كلام الله.

فالتزامهم لهذا الأصل هو الذي جعل بعضهم يقولون بعدم جواز الاستثناء في الإيمان وبملازمة المحبة للشخص منذ نشأته إلى وفاته، حتى وإن انقلب من الإيمان إلى الكفر أو من الكفر إلى الإيمان، فبحسب خاتمته تكون المحبة والبغض؛ لأنهم يرون أن الله عز وجل لا ترتبط محبته بمشيئته، فهم يرون أن تعلق أفعال الله بالمشيئة يعني أن الله يطرأ له شيء لم يكن، وهذا قياس لله عز وجل على خلقه، فالخلق هم الذين تطرأ عليهم هذه الطوارئ، ويطرأ عليهم البداء ونحو ذلك، وهذا لاشك أنه منفي عن الله عز وجل.

فالمهم أن الذين يوجبون الاستثناء في الإيمان -ومنهم بعض الكلابية- التزموا ذلك بسبب ما التزموه أصلاً من قولهم بأن الأفعال غير مرتبطة بالمشيئة، وهذا يذكرنا بما سبق تقريره من أن الأهواء تتجارى بأصحابها كما يتجارى الكلب بصاحبه، فيقولون بمقولة في جزئية معينة فيلزم من هذه المقولة أن تجرهم إلى أشياء أخرى في كثير من مسائل الدين، فالكلابية ما تكلموا إلا في مسألة كلام الله عز وجل وفي مسألة أزلية الصفات، أرادوا بذلك أن يقولوا: إنها أزلية غير مقترنة بالمشيئة ولا متعلقة بالمشيئة، وحينما التزموا ذلك ما توسعوا فيها أول الأمر، بل كان عندهم شيء من الحذر، لكن جاءت أجيال بعدهم من الأشاعرة والماتريدية فأخذت هذه القاعدة فنفت بها جميع صفات الله عز وجل، حتى إنها لم تثبت من الصفات إلا سبعاً، وهذه السبع أيضاً قالوا بأنها عقلية، وسموها الصفات العقلية.

وقد يقول قائل: ما صلة مسألة الاستثناء في الإيمان بمسألة أفعال الله وصفاته؟

أقول: حينما زعموا أنه لا يجوز أن تتعلق أفعال الله بمشيئته، وأنه لا يفعل كما شاء، وإنما فعله دائم ملازم له أبداً وإلى ما لا نهاية؛ قالوا: من ذلك ما يتعلق بإيمان المؤمن وكفر الكافر، فنظراً لأن المؤمن عند الله مؤمن حتى وإن كان في أول حياته كافراً؛ فإن محبة الله لازمة له حينما كان كافراً وحينما أسلم، كما أن المؤمن لا نجزم بمصيره، فقد يكون بغيضاً عند الله لأنه ربما يموت على الكفر، نسأل الله العافية، فنظراً لأننا لا نجزم بمصيره، وأن الله ربما كتب له البغض والكره لا يجوز له أن يقول: أنا مؤمن، بل لابد أن يستثني وجوباً، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

قال رحمه الله تعالى: [ وليس هذا قول السلف، ولا كان يعلل بهذا من يستثني من السلف في إيمانه، وهو فاسد؛ فإن الله تعالى قال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] فأخبر أنه يحبهم إن اتبعوا الرسول، فاتباع الرسول شرط المحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة.

ثم صار إلى هذا القول طائفة غلوا فيه حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، يقول: صليت إن شاء الله! ونحو ذلك، يعني القبول، ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء، فيقول أحدهم: هذا ثوب إن شاء الله! هذا حبل إن شاء الله! فإذا قيل لهم: هذا لا شك فيه! يقولون: نعم، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره! ].

هذا نوع من الوسواس، والذين قالوا بهذا القول إنما هم من المتأخرين، ولا يعرف هذا القول في القرون الثلاثة، إنما نسب إلى ابن شريك وأظنه كان في القرن السادس أو الخامس، وصار له بعض الأتباع، فصاروا يقولون في كل شيء: إن شاء الله، حتى المشاهد أمامهم يقولون: هذا فلان إن شاء الله، وهو نوع من الوسواس.

قال رحمه الله تعالى: [ المأخذ الثاني: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين القائمين بجميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله المقربين! وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال.

وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ويحتجون أيضاً بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه، كما قال تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، وقال صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، وقال أيضاً: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله) ].

يرد عليهم في مثل هذا أن هذا لا يلزم في كل شيء، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر كلمة إن شاء الله في كل خبر، بل تأتي بعض العبارات فيها (إن شاء الله)؛ لأن لها ارتباطاً بغير الخبر، أي: لها ارتباط بالمصير، ولها ارتباط بالثواب، ولها ارتباط بأمور أخرى.

أما الخبر المحض فقد لا يأتي فيه (إن شاء الله) إلا إذا كان الأمر مقصوداً به حفز دين العباد، كما في قوله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]، فهذا فيه إشارة إلى أن الأمر مرتبط بجهد العباد، وهو أنهم لابد أن يجاهدوا، ولا يضمنوا هذا النصر إلا بشروطه.

فالاستثناء في الأخبار ورد في الآيات وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمور قليلة ليست حجة على التزام (إن شاء الله)؛ لأنها لو كانت تلتزم لجاءت في القرآن في كل خبر، ولجاءت في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في كل خبر، والدليل على هذا أنهم ما استدلوا إلا بقليل من الأدلة محصور، وهذه الأدلة تحفها أمور أخرى غير مسألة مجرد الخبر، فهي مرتبطة بأمور غيبية مشترطة بأمور، وأيضاً مرتبطة بتحفيز العباد للعمل، وهذه أحياناً قد يرد فيها الاستثناء في حدود ضيقة جداً.

دليل القائلين بتحريم الاستثناء في الإيمان

قال رحمه الله تعالى: [ وأما من يحرمه فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً فيقول: أنا أعلم أني مؤمن كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، فقولي: أنا مؤمن كقولي: أنا مسلم، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه، وسموا الذين يستثنون في إيمانهم الشكاكة، وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27] بأنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه، وقيل: لتدخلن جميعكم أو بعضكم؛ لأنه علم أن بعضهم يموت ].

كلمة (الشكاكة) كلمة استعملها متأخرو المرجئة في لمز أهل السنة والجماعة، وهذا كثير في كتبهم، يقصدون بالشكاكة من يجوز الاستثناء في الإيمان، يقصدون أهل السنة والجماعة، والشكاكة هم الذين مر ذكرهم قبل قليل، وهم الذين يستثنون في كل شيء، أو الذين يوجبون الاستثناء، فهؤلاء لاشك أنهم قد يسمون الشكاكة أحياناً من باب التجوز، وبعضهم أيضاً قد يكون عنده شيء من الوسواس، لكن المرجئة توسعوا فأطلقوها على من أجازوا الاستثناء في الإيمان، وهم أهل السنة والجماعة.

قال رحمه الله تعالى: [ وفي كلا الجوابين نظر؛ فإنهم وقعوا فيما فروا منه، فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين مع علمه بذلك، فلا شك في الدخول ولا في الأمن ولا في دخول الجميع أو البعض، فإن الله قد علم من يدخل فلا شك فيه أيضاً، فكان قول (إن شاء الله) هنا تحقيقاً للدخول، كما يقول الرجل فيما عزم على أن يفعله لا محالة: والله لأفعلن كذا إن شاء الله. فلا يقولها لشك في إرادته وعزمه، ولكن إنما لا يحنث الفاعل في مثل هذه اليمين؛ لأنه لا يجزم بحصول مراده.

وأجيب بجواب آخر لا بأس به، وهو أنه قال ذلك تعليماً لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن مستقبل، وفي كون هذا المعنى مراداً من النص نظر؛ فإنه ما سيق الكلام له، إلا أن يكون مراداً من إشارة النص.

وأجاب الزمخشري بجوابين آخرين باطلين وهما ].

الزمخشري من رءوس المعتزلة كما هو معروف.

قال رحمه الله تعالى: [ وهما: أن يكون الملك قد قاله فأثبت قرآنا ].

رجع الزمخشري إلى مشربه، وهذه من ثمرات القول بخلق القرآن، فما جرى هنا لمثل الزمخشري -وهو العالم في اللغة والمتمكن والمتبحر، ويعرف معاني لغة العرب، وعنده علم لكثير من أمور التفسير وغيرها- إلا بناء على أصله، وهو أن القرآن مخلوق بزعمه، فإذا كان مخلوقاً فمن السهل أن يقول: إن الملك حينما نزل بالقرآن أدخل الاستثناء، أو أن القرآن هو لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن الطبيعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستثني ما دام القرآن كلامه، وجبريل يستثني ما دام القرآن كلامه.

أقول: هذا من الأمور التي يجب أن نعتبر بها وأن نعرف فعلاً كيف تجر المقولة الواحدة أحياناً على أصحابها أموراً كثيرة في أمور الاعتقاد، فمشرب هذا المعتزلي -وهو الزمخشري - أدى به إلى أن يجرؤ على أن يقول في كلام الله هذا القول، وهو أن (إن شاء الله) من لفظ جبريل أو من لفظ محمد صلى الله عليه وسلم!

فكيف لو تصور عامة المسلمين هذا التصور في كتاب الله عز وجل، والناس لا يميزون هذا التمييز، فمن الطبيعي حينئذ أن يكون القرآن كله محتملاً ما دام مخلوقاً، أو قد يرد الاحتمال إلى كثير منه، والمسلمون يحترمون القرآن في الجملة، لكن حينئذٍ سيورد كل واحد الاحتمال فيما يخالفه ويقول: هذه الكلمة نظراً لأنها تخالف أصولي محتملة لأن تكون من جبريل أو من محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنها تعبير من الملك أو من الرسول عليه الصلاة والسلام.

فيجب أن نعتبر بمثل هذه الأمور، وأن نعرف فعلاً أن الأهواء -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- تتجارى بأصحابها كما يتجارى الكلب بصاحبه، فهي مقولة جزئية أحياناً لكنها تجر أصحابها إلى فساد العقائد في كثير من الأصول.

دليل القائلين بجواز الاستثناء وتركه

قال رحمه الله تعالى: [ وأما من يجوز الاستثناء وتركه فهم أسعد بالدليل من الفريقين ].

وهم السلف.

قال رحمه الله تعالى: [ وخير الأمور أوسطها: فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء وهذا مما لا خلاف فيه، وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4]، وفي قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، فالاستثناء حينئذ جائز، وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة، وكذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله لا شكاً في إيمانه، وهذا القول في القوة كما ترى ].

قال رحمه الله تعالى: [ أما من يوجبه فلهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان، كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم، وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً.

فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد! وليس هذا قول السلف ].

هذا القول عند الكلابية فرع عن اعتقادهم أن أفعال الله عز وجل -ومنها المحبة والرضا والنزول والكلام وغير ذلك- أزلية قائمة بالذات غير مرتبطة بالمشيئة، فلذلك قالوا بهذه اللوازم، فجعلوا الحب والبغض لله عز وجل والكلام من الصفات اللازمة التي لا يحدث لله منها شيء، وأوضح ما يكون هذا في الكلام، فإنهم زعموا أن الكلام قائم بالنفس وأنه غير مرتبط بالمشيئة، وهذا يعني عندهم أن الله لا يتكلم متى شاء ولا كيف شاء، إنما كلامه معنى قد يعبر عنه بتعبيرات ترجع إلى تفسيرات كثيرة عندهم، فمن هنا قالوا: هو معنى قائم بالنفس، والذي يسمى كلام الله -كالقرآن- إنما هو عبارة عن كلام الله.

فالتزامهم لهذا الأصل هو الذي جعل بعضهم يقولون بعدم جواز الاستثناء في الإيمان وبملازمة المحبة للشخص منذ نشأته إلى وفاته، حتى وإن انقلب من الإيمان إلى الكفر أو من الكفر إلى الإيمان، فبحسب خاتمته تكون المحبة والبغض؛ لأنهم يرون أن الله عز وجل لا ترتبط محبته بمشيئته، فهم يرون أن تعلق أفعال الله بالمشيئة يعني أن الله يطرأ له شيء لم يكن، وهذا قياس لله عز وجل على خلقه، فالخلق هم الذين تطرأ عليهم هذه الطوارئ، ويطرأ عليهم البداء ونحو ذلك، وهذا لاشك أنه منفي عن الله عز وجل.

فالمهم أن الذين يوجبون الاستثناء في الإيمان -ومنهم بعض الكلابية- التزموا ذلك بسبب ما التزموه أصلاً من قولهم بأن الأفعال غير مرتبطة بالمشيئة، وهذا يذكرنا بما سبق تقريره من أن الأهواء تتجارى بأصحابها كما يتجارى الكلب بصاحبه، فيقولون بمقولة في جزئية معينة فيلزم من هذه المقولة أن تجرهم إلى أشياء أخرى في كثير من مسائل الدين، فالكلابية ما تكلموا إلا في مسألة كلام الله عز وجل وفي مسألة أزلية الصفات، أرادوا بذلك أن يقولوا: إنها أزلية غير مقترنة بالمشيئة ولا متعلقة بالمشيئة، وحينما التزموا ذلك ما توسعوا فيها أول الأمر، بل كان عندهم شيء من الحذر، لكن جاءت أجيال بعدهم من الأشاعرة والماتريدية فأخذت هذه القاعدة فنفت بها جميع صفات الله عز وجل، حتى إنها لم تثبت من الصفات إلا سبعاً، وهذه السبع أيضاً قالوا بأنها عقلية، وسموها الصفات العقلية.

وقد يقول قائل: ما صلة مسألة الاستثناء في الإيمان بمسألة أفعال الله وصفاته؟

أقول: حينما زعموا أنه لا يجوز أن تتعلق أفعال الله بمشيئته، وأنه لا يفعل كما شاء، وإنما فعله دائم ملازم له أبداً وإلى ما لا نهاية؛ قالوا: من ذلك ما يتعلق بإيمان المؤمن وكفر الكافر، فنظراً لأن المؤمن عند الله مؤمن حتى وإن كان في أول حياته كافراً؛ فإن محبة الله لازمة له حينما كان كافراً وحينما أسلم، كما أن المؤمن لا نجزم بمصيره، فقد يكون بغيضاً عند الله لأنه ربما يموت على الكفر، نسأل الله العافية، فنظراً لأننا لا نجزم بمصيره، وأن الله ربما كتب له البغض والكره لا يجوز له أن يقول: أنا مؤمن، بل لابد أن يستثني وجوباً، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

قال رحمه الله تعالى: [ وليس هذا قول السلف، ولا كان يعلل بهذا من يستثني من السلف في إيمانه، وهو فاسد؛ فإن الله تعالى قال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] فأخبر أنه يحبهم إن اتبعوا الرسول، فاتباع الرسول شرط المحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة.

ثم صار إلى هذا القول طائفة غلوا فيه حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، يقول: صليت إن شاء الله! ونحو ذلك، يعني القبول، ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء، فيقول أحدهم: هذا ثوب إن شاء الله! هذا حبل إن شاء الله! فإذا قيل لهم: هذا لا شك فيه! يقولون: نعم، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره! ].

هذا نوع من الوسواس، والذين قالوا بهذا القول إنما هم من المتأخرين، ولا يعرف هذا القول في القرون الثلاثة، إنما نسب إلى ابن شريك وأظنه كان في القرن السادس أو الخامس، وصار له بعض الأتباع، فصاروا يقولون في كل شيء: إن شاء الله، حتى المشاهد أمامهم يقولون: هذا فلان إن شاء الله، وهو نوع من الوسواس.

قال رحمه الله تعالى: [ المأخذ الثاني: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين القائمين بجميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله المقربين! وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال.

وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ويحتجون أيضاً بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه، كما قال تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، وقال صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، وقال أيضاً: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله) ].

يرد عليهم في مثل هذا أن هذا لا يلزم في كل شيء، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر كلمة إن شاء الله في كل خبر، بل تأتي بعض العبارات فيها (إن شاء الله)؛ لأن لها ارتباطاً بغير الخبر، أي: لها ارتباط بالمصير، ولها ارتباط بالثواب، ولها ارتباط بأمور أخرى.

أما الخبر المحض فقد لا يأتي فيه (إن شاء الله) إلا إذا كان الأمر مقصوداً به حفز دين العباد، كما في قوله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]، فهذا فيه إشارة إلى أن الأمر مرتبط بجهد العباد، وهو أنهم لابد أن يجاهدوا، ولا يضمنوا هذا النصر إلا بشروطه.

فالاستثناء في الأخبار ورد في الآيات وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمور قليلة ليست حجة على التزام (إن شاء الله)؛ لأنها لو كانت تلتزم لجاءت في القرآن في كل خبر، ولجاءت في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في كل خبر، والدليل على هذا أنهم ما استدلوا إلا بقليل من الأدلة محصور، وهذه الأدلة تحفها أمور أخرى غير مسألة مجرد الخبر، فهي مرتبطة بأمور غيبية مشترطة بأمور، وأيضاً مرتبطة بتحفيز العباد للعمل، وهذه أحياناً قد يرد فيها الاستثناء في حدود ضيقة جداً.