خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [46]
الحلقة مفرغة
نعود هنا إلى بيان المصطلحات؛ لأنها ستكون مثار أمثلة في أكثر المقاطع التي ستأتي.
قوله: (وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات).
هذا متعلق بما أطلقه أهل الأهواء في زمن المؤلف رحمه الله، وهو الطحاوي صاحب الأصل، ثم إن هذه المصطلحات تتعلق بما اشتهر من كلمات في عهده في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع، ثم أضاف إليها الذين جاءوا بعد من أهل الكلام في القرن الخامس والسادس عبارات جديدة، فلعلنا نقف عند مفاهيم هذه العبارات وقفة لتكون قاعدة لما سيأتي من أمثلة وموازين على ضوء ما ذكر الشيخ.
فقوله: (وتعالى عن الحدود والغايات)، يقصد أن الله عز وجل منزه عن أن يحد بأي نوع من الحدود الزمنية، والحدود المكانية، والكيفية، والعمق، والمسافة، ونحو ذلك، كل هذا يسمى حدوداً.
وكذلك الغايات، أي: النهايات، والنهاية تدل على ما ذكرته، والحدود والغايات بينهما ترابط، فإن القول بالحدود يلزم منه القول بالغايات، فبين العبارتين نوع ترادف، وهذه العبارات التي جاءت لم يكن السلف يتكلمون بها، بل كانوا يبدعون من قالها، لكن لما قيلت احتملت معنيين كما سيأتي في الشرح، فالمعنى المتبادر للأذهان هو الذي نفاه الشيخ، فالشيخ هنا قرر ما تقتضيه الفطرة كعادة السلف في ذلك الوقت قبل أن يكثر تشقيق هذه العبارات والتفصيل فيها إلى حد يحتاج إلى مزيد بيان.
فمن البدهي أن الله عز وجل منزه عن الحدود المعلومة في عالم الشهادة، ومنزه عن الغايات المعلومة في عالم الشهادة، لكن لا يعني ذلك أنه تعالى منزه عن الكمال الذي يسميه أهل الأهواء حدوداً وغايات، فلله عز وجل من صفات الكمال، ولله عز وجل من الأسماء والأفعال ما سماه أهل البدع حدوداً وغايات من أجل أن ينفروا فطر الناس من العقيدة السليمة، فمن هنا ينبغي التنبه إلى هذا المعنى الذي سيأتي تفصيله.
وكذلك قوله: (والأركان، والأعضاء، والأدوات)، هذه أيضاً فيها نوع ترادف، حيث يقصد بالأركان الأجزاء الأساسية التي تشكل الشيء، فالغالب أن الذين أطلقوا هذه الكلمات يقصدون بالأركان مثل: الرجل، واليد، والقدم، والوجه ونحو ذلك، وقد يقصدون بالأركان أحياناً مثل العرش والكرسي ونحو ذلك.
وكذلك الأعضاء يقصدون بها الأعضاء المعهودة في المخلوقات، كاليد، والرجل، والوجه وغيرها، والأدوات هي الأمور التي تستعمل عند المخلوقات عادة، لكنهم يدخلون في مفهوم الأدوات الرجل، والقدم، واليد ونحو ذلك.
فهذه الأمور -الأركان، والأعضاء، والأدوات- لا شك في أنها بالفطرة منفية عن الله عز وجل بمفهومها عند البشر، فهي منفية عن الله عز وجل إطلاقاً وحتماً؛ لأن الله سبحانه ليس كمثله شيء، وله الكمال المطلق، لكن أهل الأهواء الذين نفوها يقصدون بنفيها نفي ما ورد من صفات الله عز وجل، فيسمون صفات الله الواردة أركاناً وأعضاء وأدوات، فيسمون: اليد، والرجل، والوجه، والنفس أركاناً وأعضاء وأدوات، فمن هنا كان لابد من التفصيل.
وقول الشارح ينبني على النفي الفطري، ففي وقته لم يكن الناس قد تعمقوا في هذه المسائل، لكن بدأت بوادرها، فكان يقصد النفي الفطري؛ لأن الله عز وجل يتعالى عن هذه الأمور التي يفهمها البشر في عالم الواقع والشهادة، وإلا فإن الله عز وجل له من الصفات ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، والتي قد يسميها بعضهم من المبطلين أركاناً، وأعضاء وأدوات؛ تمويهاً وتشبيهاً وتلبيساً.
ثم قال: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات).
المقصود بالجهات الست: الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، ثم الفوق، والتحت.
هذا الكلام أيضاً كلام مجمل، فالمسلمون بفطرتهم كلهم -إلا الذين دخلهم شيء من الأهواء- يعرفون أن الله عز وجل لا تحكمه الجهات التي تحكم المخلوقات، لكن قد يدخل في نفي مفهوم الجهة ما هو من كمال الله عز وجل، وهو العلو والفوقية والاستواء، فقد يسميها كثير من المبطلين جهة، ومن هنا ينفون العلو والاستواء والفوقية بدعوى أنها جهة، فكان لابد من التفصيل، لكن الإمام الطحاوي رحمه الله نفاها بالنفي الفطري المعروف عند سائر السامعين قبل أن تتحقق هذه الأمور بالتشقيقات الفلسفية، هذا أمر.
الأمر الآخر: أن الذين جاءوا بعد الطحاوي أضافوا أموراً أخرى هي أكثر ما يدور الآن عند المتكلمين المتأخرين، وهي ما يسمونه: الأعراض، والجواهر، والأجسام، يقولون: إن الله عز وجل منزه عن الأجسام، والأعراض، والجوهر، والتلبيس الذي وجد في هذه الألفاظ كالتلبيس الذي وجد في تلك، لكن استعمالها أكثر، فاستعمال الأعراض والجواهر والأجسام الآن وسيلة لتعطيل أسماء الله وصفاته وأفعاله أو تأويلها أكثر من استعمال الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات؛ ذلك أنهم زعموا أن إثبات الصفات يقتضي التجسيم، فقالوا: إن الله عز وجل منزه عن الجسم، وهذا كلام فيه جانب حق لكن أريد به الباطل، نعم الله ليس كسائر المخلوقات التي لها أجسام، لكنهم يدخلون في مفهوم الجسم بعض كمالات الله عز وجل فينفونها بدعوى أنها جسمية، كاليد والعين والنفس ونحو ذلك، يقولون: هذه تقتضي الجسمية، والله عز وجل منزه عن الجسم إذاً: هو منزه عن أن نثبت له يداً ورجلاً وقدماً ونحوها على ما يليق بجلاله، فمن هنا نفوا الصفات بدعوى أنها تقتضي الجسمية، والتمثيل والمشابهة وكذلك الأعراض، يقصدون بالأعراض: الصفات التي يمكن أن يعبر عنها بتعبير يدل على كيفيتها على أي نحو من الأنحاء: فالطول، والعرض، واللون ونحو ذلك كلها أعراض، فيقولون: إن الله عز وجل منزه عن الأعراض، وهذا الكلام فيه حق، لكنه اشتمل على تلبيس، فيدخلون في الأعراض الصفات، فيقولون: إن هذه أعراض، إذاً: فلابد من تأويلها، وكذلك الجواهر، والجواهر: مفردات الجسم، فجزئيات الجسم يسونها جواهر، فينفون كثيراً من صفات الله عز وجل لأنها -كما يقولون- تقتضي الجسمية، والجسمية ترد إلى الجواهر، والله عز وجل ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم، فمن هنا كل ما يدل على هذه المعاني من الصفات الواردة في الكتاب والسنة إما أن ينفوه، وإما أن يؤولوه بدعوى أنه يقتضي الجسمية، أو العرضية، أو الجوهر ونحو ذلك.
فيقولون مثلاً: اليد ركن، أو اليد عضو، أو اليد جسم، أو اليد عرض، أو اليد تتكون من مجموعة جواهر.. إلى آخره، إذاً: فلا يليق أن نصف الله باليد. فيقعون ويوقعون في التعطيل والتأويل، ونحو ذلك من الأمور الأخرى، كل هذه الأمور بدأت تظهر من جديد على أساس أنها معاول ووسائل للتأويل والتعطيل الذي سلكه المبتدعة.
وقد ذكر الشارح هؤلاء بقوله: [ لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام، كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي ]، بمعنى أنهم يتفاوتون في المفهوم منها، فكل يفهمها بحسب ما لديه من قواعد وعقائد سابقة وخلفية إن صح التعبير؛ ولهذا كان النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً، النفاة الذين هم أهل الكلام والجهمية والمعتزلة، هؤلاء كلهم نفاة.
وقوله: [ ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به ]، يعني أن النفاة الذين يستعملونها لنفي صفات الله وتعطيلها يقولون لمن أثبت الصفات: إنه قال بالحد، أو يقول بالغايات، أو يقول بالأركان، ويرون أنه يقول بالأعضاء، أو أنه يقول بالأدوات، أو أنه يقول بالجسمية، والعرضية، والجوهرية.. إلى آخره، ولذلك وصف المتكلمون السلف بأنهم حشوية ومجسمة، وحاشاهم.
قوله: [ وبعض المثبتين لها ] يقصد هنا المشبهة الممثلة [ يدخل فيها معنى باطلاً مخالفاً لقول السلف ]، حيث يبالغون في الإثبات إلى حد لم يرد في الكتاب والسنة، فيثبتون الحد، والغاية، والركن، والعضو، والأداة بألفاظ بدعية وبمعانٍ لا تليق بالله عز وجل، وتناقض قول الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وهؤلاء هم المشبهة الممثلة المجسمة، وهم -بحمد الله- في الأمة قليل.
ثم ذكر القاعدة في الكتاب والسنة في هذه الأمور بقوله: [ ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها ]، هذه قاعدة كبرى تحكم جميع هذه الألفاظ وغيرها من الألفاظ التي ترد، فكل ما يوصف به الله عز وجل مما لم يرد في الكتاب والسنة يخضع لهذه القاعدة، سواء في الأسماء أو الصفات أو الأفعال، كل ما يرد على ألسنة الناس -سواء الألفاظ القديمة التي ذكرت نماذج منها، أو الألفاظ التي تحدث الآن من كثير من الناس- فإنه إذا لم يأت في الكتاب والسنة فلابد أن يخضع لهذا الميزان، وهو أنه لم يرد نص من الكتاب والسنة ينفيها ولا يثبتها، إذاً: فلابد من التفصيل على النحو الذي سيأتي.
يقول رحمه الله تعالى: [ وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً ]، يعني: لا ننفي ولا نثبت، لا هذه الأمور ولا غيرها مما يرد من الأمور المشتبهة.
نعم النقائص المحضة ننفيها دون تردد، والكمال المحض الواضح الذي ليس فيه إشكال نثبته بلا تردد، لكن أغلب الألفاظ وما يثبه الناس وينفونه مما لم يرد في الكتاب والسنة من الأمور المشتبهة التي تحتمل معنى باطلاً وتحتمل معنى حقاً، فهذه لابد أن يتوقف فيها على القواعد التي ستأتي.
قال رحمه الله تعالى: [ فالواجب أن ينظر في هذا الباب -أعني باب الصفات- فما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني، وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها لا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان معنى صحيحاً قُبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد والحاجة، مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها ونحو ذلك ].
في هذا المقطع أجمل مجموعة من القواعد العظيمة التي قررها السلف؛ أجملها إجمالاً لأنه كان الأمر في عصر الشارح واضحاً عند كثير من أهل العلم، أما الآن فنحتاج إلى أن نستقرئ هذه القواعد الإجمالية بشيء من التفصيل، والتي تحكم ما ذكره سابقاً من الكلام عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء، وسائر الألفاظ المبتدعة، هذه القواعد تتلخص فيما يلي:
القاعدة الأولى: أنه في باب الأسماء والصفات والأفعال يثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفى عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً، هذه القاعدة الأولى وهي المرجع، وهي الأصل.
القاعدة الثانية: أن الكلام في أسماء الله وصفاته وأفعاله بما لم يرد في الكتاب والسنة نفياً وإثباتاً بدعة في الأصل، ولم يخالف في ذلك أحد من السلف، لكن قد يضطر العالم إلى الكلام فيما ابتدعه الناس ضرورة من أجل بيان الحق وتثبيته، ونفي الباطل والرد على أهله، هذا أمر قد يضطر إليه العالم، بمعنى: أنه لم يوجد أصلاً من السلف من أجاز لنفسه أن يتكلم عن أسماء الله وصفاته وأفعاله بشيء لم يرد في الكتاب والسنة لغير حاجة ابتداء، لكن ما فعله بعض السلف من الكلام في الأمور التي أحدثها أهل البدع؛ فإنما لجئوا إلى ذلك اضطراراً تقريراً للحق ودفاعاً عن العقيدة؛ لأن البدعة إذا اشتهرت أو عمت بها البلوى لابد من الكلام فيها لتصحيح العقيدة ولنفي الباطل ولإقرار الحق والدفاع عن عقيدة السلف.
إذاً: تبقى القاعدة سليمة، وما حدث من بعض السلف من الكلام في أمر لم يرد في الكتاب والسنة إنما حدث اضطراراً لعموم البلوى.
القاعدة الثالثة: أن هذه الألفاظ التي ذكرها الشارح عن أهل الكلام ونحوها تبين لنا جزماً بالاستقراء أنه لم يرد في الكتاب والسنة لا نفيها ولا إثباتها، فهذه الألفاظ التي ابتدعها المتكلمون، كالحدود، والغايات والأركان والأعضاء والأدوات والجهات والأعراض والجسم والجوهر والمباينة والمفاصلة والجهة ونحو ذلك، كل هذه الأمور لم يرد في الكتاب والسنة نفيها مطلقاً ولا إثباتها مطلقاً، إذاً: نحتاج إلى أن نرجع إلى القواعد العامة، كقوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
القاعدة الرابعة: أن هذه الألفاظ إذا وردت على لسان أحد من الناس فلا تنفى إطلاقاً ولا تثبت إطلاقاً، حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن قصد قائلها معنىً صحيحاً يدل على الكمال أخذنا هذا المعنى، ورددناه إلى ألفاظ الشرع، أما اللفظ المبتدع فيرد مطلقاً، وما يحمله من معنى يرد إلى ما ورد في الكتاب والسنة، وما كان فيها من معنى فاسد فإنه يرد مع لفظه.
القاعدة الخامسة: أن ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء وصفات وأفعال الكمال لله عز وجل يفي بكل ما يمكن أن يتصوره البشر من الكمال، وبكل ما يمكن أن ينطقون به بأي لسان من الكمال لله عز وجل، فأي كمال يمكن أن يتصور وأي كمال يمكن أن ينطق به البشر بأي لغة من اللغات؛ فلابد أن يوجد في الكتاب والسنة ما يدل عليه وزيادة، بل من أسماء الله عز وجل ما يشمل كل كمال يمكن أن يتصور، كاسم الجلالة (الله)، وكالحي القيوم، والأحد الصمد، وكالعلي العظيم، وكثير من أسماء الله عز وجل تتضمن الكمال المطلق، فلو نطق جميع البشر بأنواع الكمالات لاشتمل عليها هذا اللفظ وهذا الاسم لله عز وجل.
وإنما أردت بهذا أن أقرر ما ذكره السلف من أنه لا يمكن أن يتوهم أن يرد في ذهن أحد من الناس أو على لسانه كمال نحتاج إلى أن نثبته ولم يرد في الكتاب والسنة مثله أو ما يزيد عليه.
الموقف الصحيح من لفظ الأعضاء
فإذا جاء إنسان وقال: الله عز وجل منزه عن الأعضاء، فظاهر كلامه أنه حق لأول وهلة؛ لأنه قد يفهم المعنى المباشر، وهو الأعضاء المعلومة عند المخلوقات، والله عز وجل ليس كمثله شيء، لكن إن كان المتكلم صاحب بدعة ومعروفاً بالاعتزال أو بالتجهم، أو بالحذلقة والجدال والمراء، أو بالتفلسف والتعالم والغرور، وأطلق هذه الكلمة ونحن نعرف من قرائن أحواله أنه متكلم أو متحذلق أو متعالم فلا يجوز له ولا يجوز لنا أن نأخذ هذا الكلام على إطلاقه، فنقول: نعم كلمة (أعضاء) لم ترد في الكتاب والسنة، لكن ماذا تريد بالأعضاء؟ إذ يحتمل عندنا مراد من ينفي عن الله الأعضاء -تعالى الله عما يتصوره المشبهة والممثلة وما يزعمه النفاة والمعطلة- احتمالين، فنقول له: ماذا تقصد بالأعضاء؟
فإن قصد بالأعضاء الجسمية المعهودة للمخلوقات فنفي ذلك حق، ولكن ينفى بدون إشارة إلى الأعضاء، فلا داعي لأن نقول: إن الله عز وجل منزه عن الأعضاء التي هي أعضاء المخلوقات لأن هذا أمر بدهي؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فنقول له: نزه الله بما نزه به نفسه تسلم من هذه الفلسفات، فقل: ليس كمثله شيء سبحانه، أو قل: هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أو نحو ذلك من النفي المجمل الكامل الذي ينفي كل نقص عن الله عز وجل.
إذاً: إذا كان المتكلم يريد المعنى الباطل المعهود في الأذهان فنقره على ذلك، لكن نبين له أنه أخطأ في إطلاق كلمة أعضاء؛ لأنها قد تحتمل المعنى الآخر.
وقد يحتمل أن يقصد النافي للأعضاء نفي صفات الله عز وجل التي توهم أنها إثبات للأعضاء، فقد يكون قصد هذا المتكلم من المتفلسفة أو من أتباع الفرق الذين ابتلوا بالكلام في هذه الأمور -كالأشاعرة والماتريدية، والجهمية والمعتزلة ومن سار على سبيلهم أو تأثر بالفلاسفة- قد يكون قصده بنفي الأعضاء نفي ما أثبته الله لنفسه عز وجل من اليد والوجه والقدم والرجل ونحو ذلك مما هو ثابت في الكتاب والسنة، فنقول له: إن كنت تقصد بهذا نفي ما أثبته الله لنفسه فهذا باطل، لا يجوز لك أن تنفي ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته الله لنفسه حق، فقولك هذا لا تقر عليه، وتسميتك لهذه الصفات أعضاء خطأ.
إذاً: المعنى الذي نفى به كلمة (عضو) إن قصد به ما يتبادر إلى الذهن من مشابهة المخلوقات؛ فهذا منفي عن الله عز وجل، وإن قصد به ما ورد في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الله عز وجل التي يتوهم أنها تشبه صفات المخلوقات فيقال له: عبارتك ليست صحيحة، فنفيك للأعضاء من حيث إنها تشبه أعضاء المخلوقين حق، لكن بهذا التعبير خطأ، ونفيك للأعضاء بمعنى صفات الله عز وجل التي سميتها أعضاء باطل، ولا يجوز لك أن تنفي بهذه الطريقة، بل تنفي ما نفاه الله عن نفسه، وتثبت ما أثبته الله لنفسه.
وبقي المعنى الصحيح لكلمة أعضاء، وهو إثبات الصفات، فنقول: نثبت لله الصفات، وهو المعنى المقصود عند المتكلم حينما أخطأ، لكن نستغني عن كلمة (أعضاء) لأنها لم ترد في الكتاب والسنة، ولأن الله عز وجل وصف نفسه بصفات معينة تليق بجلاله، ولأن هذا اللفظ يشتبه الأمر فيه، فننفيه.
الموقف الصحيح من لفظ الجهة
فلابد من أن يقصد أحد أمرين: إما أن يقصد بالجهة العلو والفوقية والاستواء، وإما أن يقصد بالجهة المكان الذي يحصر الموجود.
فإن قصد بالجهة المكان الذي يحصر ويحيط بالموجود؛ فنقول: الله عز وجل لا يحيط به شيء، وهو سبحانه أعظم وأجل من أن تحيط به المخلوقات، فهذا المعنى منفي عن الله فعلاً، لكن لماذا سميته جهة؟!
وإما أن يقصد بالجهة العلو والفوقية، فنقول له: أخطأت في نفي الجهة؛ لأنك حينما سميت العلو والفوقية جهة بهذا اللفظ أخطأت، فالعلو والفوقية والاستواء ثابتة لله عز وجل، لكننا لا نسميها جهة.
وكذلك لو أطلق إنسان الجهة على الله عز وجل على سبيل الإثبات وليس على سبيل النفي، فقال: أنا أطلق على الله الجهة، نقول له: ماذا تقصد؟ فإن قال: أقصد بالجهة أنه تحيط به الأشياء، قلنا: هذا باطل، ونرد اللفظة ومعناها الباطل، وإن قصد بإثبات الجهة إثبات العلو والفوقية والاستواء فنقول له: المعنى الذي قصدته بالجهة -وهو العلو والفوقية والاستواء لله عز وجل- صحيح، لكننا لا نحتاج إلى كلمة (جهة)؛ لأنها مشتبهة، فأخذنا المعنى ورددنا اللفظ، وهكذا كل مثال يرد من هذه الأمور المشتبهات، فما فيه من معنى صحيح نأخذه، لكن نرد اللفظ؛ لأن اللفظ مشتبه، وما فيه من معنى باطل نرده مع لفظه مطلقاً.
نعود إلى التمثيل على هذه القواعد جميعها، فلنأخذ من ذلك (كلمة الأعضاء) على سبيل المثال:
فإذا جاء إنسان وقال: الله عز وجل منزه عن الأعضاء، فظاهر كلامه أنه حق لأول وهلة؛ لأنه قد يفهم المعنى المباشر، وهو الأعضاء المعلومة عند المخلوقات، والله عز وجل ليس كمثله شيء، لكن إن كان المتكلم صاحب بدعة ومعروفاً بالاعتزال أو بالتجهم، أو بالحذلقة والجدال والمراء، أو بالتفلسف والتعالم والغرور، وأطلق هذه الكلمة ونحن نعرف من قرائن أحواله أنه متكلم أو متحذلق أو متعالم فلا يجوز له ولا يجوز لنا أن نأخذ هذا الكلام على إطلاقه، فنقول: نعم كلمة (أعضاء) لم ترد في الكتاب والسنة، لكن ماذا تريد بالأعضاء؟ إذ يحتمل عندنا مراد من ينفي عن الله الأعضاء -تعالى الله عما يتصوره المشبهة والممثلة وما يزعمه النفاة والمعطلة- احتمالين، فنقول له: ماذا تقصد بالأعضاء؟
فإن قصد بالأعضاء الجسمية المعهودة للمخلوقات فنفي ذلك حق، ولكن ينفى بدون إشارة إلى الأعضاء، فلا داعي لأن نقول: إن الله عز وجل منزه عن الأعضاء التي هي أعضاء المخلوقات لأن هذا أمر بدهي؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فنقول له: نزه الله بما نزه به نفسه تسلم من هذه الفلسفات، فقل: ليس كمثله شيء سبحانه، أو قل: هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أو نحو ذلك من النفي المجمل الكامل الذي ينفي كل نقص عن الله عز وجل.
إذاً: إذا كان المتكلم يريد المعنى الباطل المعهود في الأذهان فنقره على ذلك، لكن نبين له أنه أخطأ في إطلاق كلمة أعضاء؛ لأنها قد تحتمل المعنى الآخر.
وقد يحتمل أن يقصد النافي للأعضاء نفي صفات الله عز وجل التي توهم أنها إثبات للأعضاء، فقد يكون قصد هذا المتكلم من المتفلسفة أو من أتباع الفرق الذين ابتلوا بالكلام في هذه الأمور -كالأشاعرة والماتريدية، والجهمية والمعتزلة ومن سار على سبيلهم أو تأثر بالفلاسفة- قد يكون قصده بنفي الأعضاء نفي ما أثبته الله لنفسه عز وجل من اليد والوجه والقدم والرجل ونحو ذلك مما هو ثابت في الكتاب والسنة، فنقول له: إن كنت تقصد بهذا نفي ما أثبته الله لنفسه فهذا باطل، لا يجوز لك أن تنفي ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته الله لنفسه حق، فقولك هذا لا تقر عليه، وتسميتك لهذه الصفات أعضاء خطأ.
إذاً: المعنى الذي نفى به كلمة (عضو) إن قصد به ما يتبادر إلى الذهن من مشابهة المخلوقات؛ فهذا منفي عن الله عز وجل، وإن قصد به ما ورد في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الله عز وجل التي يتوهم أنها تشبه صفات المخلوقات فيقال له: عبارتك ليست صحيحة، فنفيك للأعضاء من حيث إنها تشبه أعضاء المخلوقين حق، لكن بهذا التعبير خطأ، ونفيك للأعضاء بمعنى صفات الله عز وجل التي سميتها أعضاء باطل، ولا يجوز لك أن تنفي بهذه الطريقة، بل تنفي ما نفاه الله عن نفسه، وتثبت ما أثبته الله لنفسه.
وبقي المعنى الصحيح لكلمة أعضاء، وهو إثبات الصفات، فنقول: نثبت لله الصفات، وهو المعنى المقصود عند المتكلم حينما أخطأ، لكن نستغني عن كلمة (أعضاء) لأنها لم ترد في الكتاب والسنة، ولأن الله عز وجل وصف نفسه بصفات معينة تليق بجلاله، ولأن هذا اللفظ يشتبه الأمر فيه، فننفيه.
ويتبين الأمر بمثال آخر مفرد، وهو كلمة (جهة)، فبعض الناس يأتي ويقول: الله عز وجل منزه عن الجهة، فنقول له: كلامك هذا مجمل، فما قصدك بالجهة؟ فهذه الكلمة لم ترد في الكتاب والسنة وهي بدعة، فأنت تكلمت ببدعة، لكن حينما نفيت الجهة ماذا تقصد؟
فلابد من أن يقصد أحد أمرين: إما أن يقصد بالجهة العلو والفوقية والاستواء، وإما أن يقصد بالجهة المكان الذي يحصر الموجود.
فإن قصد بالجهة المكان الذي يحصر ويحيط بالموجود؛ فنقول: الله عز وجل لا يحيط به شيء، وهو سبحانه أعظم وأجل من أن تحيط به المخلوقات، فهذا المعنى منفي عن الله فعلاً، لكن لماذا سميته جهة؟!
وإما أن يقصد بالجهة العلو والفوقية، فنقول له: أخطأت في نفي الجهة؛ لأنك حينما سميت العلو والفوقية جهة بهذا اللفظ أخطأت، فالعلو والفوقية والاستواء ثابتة لله عز وجل، لكننا لا نسميها جهة.
وكذلك لو أطلق إنسان الجهة على الله عز وجل على سبيل الإثبات وليس على سبيل النفي، فقال: أنا أطلق على الله الجهة، نقول له: ماذا تقصد؟ فإن قال: أقصد بالجهة أنه تحيط به الأشياء، قلنا: هذا باطل، ونرد اللفظة ومعناها الباطل، وإن قصد بإثبات الجهة إثبات العلو والفوقية والاستواء فنقول له: المعنى الذي قصدته بالجهة -وهو العلو والفوقية والاستواء لله عز وجل- صحيح، لكننا لا نحتاج إلى كلمة (جهة)؛ لأنها مشتبهة، فأخذنا المعنى ورددنا اللفظ، وهكذا كل مثال يرد من هذه الأمور المشتبهات، فما فيه من معنى صحيح نأخذه، لكن نرد اللفظ؛ لأن اللفظ مشتبه، وما فيه من معنى باطل نرده مع لفظه مطلقاً.
قال رحمه الله تعالى: [ والشيخ رحمه الله تعالى أراد الرد بهذا الكلام على المشبهة كـداود الجواربي وأمثاله القائلين: إن الله جسم وإنه جثة وأعضاء، وغير ذلك، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ].
المشبهة الأوائل كـداود الجواربي وهشام بن الحكم وما نسب إلى الكرامية وما نسب إلى المقاتلية على درجات، فمنهم من يدعي التشبيه والتمثيل الكامل، حتى إنه يتكلم عن الله عز وجل بالحد والمسافة، ويتكلم عن الله عز وجل بوصف لا يعرف إلا في المخلوقات كالنوع والكيفية، فهذا التشبيه وجد في الرافضة الأوائل كالجواربية والجواليقية ونحوهم، وهناك نوع آخر من التشبيه، وهو المبالغة في الإثبات على نحو ما ذكر سابقاً، مثلاً: يقولون: إن الله عز وجل -تعالى الله عما يقوله الظالمون- موصوف بالحد، أو يقولون: إن الله موصوف بالجهة، ولا يقصدون ما يعنيه السلف من العلو والفوقية، إنما يقصدون المعنى الباطل الذي ذكرت، وأحياناً يقولون: قابل لوصف الأعضاء أو نحو ذلك، تعالى الله عما يزعمون، لكنهم لا يحددون تفصيلاً، إنما يقولون هذا إجمالاً، يعني: لا يتورعون عن القول بالأعضاء والأركان والأدوات والحدود والغايات والجهات ونحو ذلك، لكنهم لا يفصلون، ويقولون: إن إثبات الصفات يدل على هذه المعاني، يعني: يأتون بمعان مبتدعة جديدة، ويقولون: إثبات الصفات يدل عليها، وهؤلاء كالكرامية، وكالمقاتلية، والمشبهة المتأخرة الذين انتهوا؛ لأن التشبيه مر بمرحلتين: المرحلة الأولى في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني، وكان تشبيهاً شنيعاً بمعاني التشبيه الساذجة التي لا تليق حتى حكايتها، فلما اصطدموا بأقوال أهل العلم وبجهود السلف وما فعلوه تجاههم -حتى إنهم كفروهم وحكموا بقتلهم- تراجعوا عن التشبيه الكامل، فقالوا بالتشبيه المجمل، لكنه أيضاً تشبيه بدعي نفاه السلف وتبرءوا منه، وهو التشبيه الذي لا يتكلم في التفصيلات، لكن يعطي لأسماء الله وصفاته معاني لم ترد في الكتاب والسنة، وتوهم السامعين، مثلما ذكرت، فلا يتورعون عن إطلاق الحدود والغايات والأركان والأعضاء على الله تعالى إجمالاً، وهذا التشبيه انقرض وانتهى، أما المشبهة الأوائل الرافضة؛ فقد انقلبوا إلى معطلة وتحولوا إلى جهمية ومعتزلة مع بقائهم على مذهب الرفض، كما ذكرت في السابق.
استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [68] | 3357 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [43] | 3122 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [64] | 3029 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [19] | 2989 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2852 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [23] | 2846 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [45] | 2829 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [80] | 2792 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [92] | 2782 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [95] | 2755 استماع |