شرح العقيدة الطحاوية [28]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والذي يدل عليه كلام الطحاوي رحمه الله: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء، وأن نوع كلامه قديم، وكذلك ظاهر كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر؛ فإنه قال: والقرآن في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق، والقرآن غير مخلوق، وما ذكره الله في القرآن عن موسى عليه السلام وغيره وعن فرعون وإبليس فإن ذلك كلام الله إخباراً عنهم، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم، وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته لم يزل، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويتكلم لا ككلامنا. انتهى. فقوله: (ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته) يعلم منه أنه حين جاء كلمه، لا أنه لم يزل ولا يزال أزلاً وأبداً يقول: يا موسى، كما يفهم ذلك من قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] ففهم منه الرد على من يقول من أصحابه: إنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء كما قال أبو منصور الماتريدي وغيره ].

كثير من الأحناف قالوا بهذا القول، حتى قبل أن يقول به الأشاعرة، ثم قال به الماتريدية تبعاً للماتريدي ، والماتريدي كان في القرن الرابع، أما هذا القول فقد ظهر في منتصف القرن الثالث الهجري، وكأنه تلفيق بين قول الجهمية وبين قول أهل السنة، تلفيق قصد به إثبات الكلام لله عز وجل لكن مع إنكار الأفعال لله، كفعل الكلام أو الصوت المسموع أو نحو ذلك مما يرى هؤلاء أنه منفي عن الله بزعمهم، فكأنهم أرادوا أن يثبتوا أصل الكلام وينفوا الفعل لله، فهو يقول: إن هؤلاء يرد عليهم أبو حنيفة بقوله الذي سبق، والذي يفهم منه أن الكلام لا يمكن أن يكون معنى دون أن يكون بصوت مسموع؛ لأنه لو كان معنى لكان كلام الله تعالى لموسى كأنه ما حدث في وقت، إنما هو قائم إلى يومنا هذا؛ لأن المعاني إذا لم تترجم إلى حروف وأصوات تبقى دائمة، فكون الله عز وجل كلم موسى تكليماً دل على أنه كلمه في زمن معين محدد، وأن هذا الكلام انتهى بوقته، ولا يعني أن كلامه تعالى ينتهي، إنما هذه الكلمات المعدودات جاءت من الله عز وجل في وقت، كما أن القرآن جاء من الله عز وجل في وقت، وكما أن الله عز وجل يتكلم يوم القيامة ويكلم عباده بصوت في وقت، فهذه دلالات قاطعة على أن الله يتكلم متى شاء كيف شاء، وأن الله عز وجل متصف بصفة الكلام على ما يليق بجلاله، وهي صفة دائمة لا تنقطع، ولم تستأنف كما يزعم بعضهم أن الله تكلم بعد أن لم يكن متكلماً، وأنه تكلم ولا يتكلم بعد ذلك، كذا زعموا، وهذا استنقاص لله عز وجل، بل الله عز وجل يتكلم كما يشاء، وكلامه لعباده -سواء لموسى أو لمن سبقه من المرسلين أو لمن لحق أو للعباد يوم القيامة- جزء من كلامه سبحانه، وليس هو كل كلامه، فكلمات الله لا حد لها أبداً، فمن هنا يقرر أبو حنيفة ما يرد به على ما يعتقده كثير من الأحناف منذ أن اعتقدوا هذا الاعتقاد إلى يومنا هذا من أن كلام الله معنى قائم بالنفس؛ لأن المعنى القائم بالنفس فقط لا يترجم إلى فعل، فلا يكون كلاماً محدداً كالقرآن والتوراة والإنجيل وككلام الله لموسى.

قال رحمه الله تعالى: [ وقوله: (الذي هو من صفاته لم يزل) رد عَلَى من يقول: إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلماً ].

هذا كلام موهم، وكأنه يفهم منه أن المعتزلة يقولون بأن الله يتكلم إذا شاء شيئاً بعد شيء، والمعتزلة لا يقولون هذا اعتقاداً، بل يقولون هذا على سبيل الرد، يقولون: إنكم إذا قلتم بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا قلتم بأن التوراة المنزلة على موسى قبل تبديلها كلام الله غير مخلوقة، وإذا قلتم: إن ما كلم الله به موسى وغيره غير مخلوق؛ لزمكم أن الله يتكلم بالمشيئة والقدرة، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، فيزعمون أن هذا باطل لأنهم يقولون: إن هذا يعني أن الله تقوم به الحوادث، تعالى الله عما يظنون، فهم يزعمون أنه إذا قيل: إن الله يتكلم متى شاء؛ لزم من ذلك بزعمهم وظنهم الفاسد أن الله حدث له شيء، والله منزه عن الحوادث.

وكلامهم الذي ذكره الشارح كلام مجمل، قد يقصدون به حقاً وقد يقصدون به باطلاً، ولا نرده لمجرد أنهم قالوه، بل نفصل فيه على نحو ما يأتي، لكن لكي يتضح الكلام الآتي ولا يلتبس نقول إجمالاً: مسألة أفعال الله تعالى مسألة متعلقة بمشيئته وقدرته عز وجل، فالسلف والذي عليه أهل الحق جميعاً أن جميع أفعال الله تعالى متعلقة بمشيئته، ومنها الكلام، ومعنى (متعلقة بمشيئته) أنه عز وجل فعال لما يريد، فإذا شاء تكلم متى شاء وكيف شاء، كما أنه ينزل عز وجل إلى السماء الدنيا متى شاء، ويجيء متى شاء سبحانه، فهذه الأفعال يسميها المعتزلة قيام الحوادث به، وهو تعبير فلسفي جاء به فلاسفة اليونان والصابئة الذين يرون أن ربهم فكرة مجردة، وهذه شبهة المعتزلة التي دخلت عليهم، حيث اقتنعوا بقناعة الفلاسفة الوثنيين الذين يقولون بأن الله فكرة مجردة، والفكرة المجردة لا يمكن أن يكون لها وجود ولا أن تكون في العلو ولا في الفوقية ولا أن تنزل ولا تجيء ولا تفعل، فجاءت هذه الأفكار إلى المعتزلة والجهمية فسحبوها على الغيب فقالوا: الله متصف بالأسماء الحسنى، لكن الصفات الفعلية التي تدل على الأفعال لا تمكن؛ لأن الله عندهم فكرة، والفكرة لا تفعل، وعبر بعضهم بأن الله مجرد عقل، وبعضهم عبر عنه بأنه روح، فهذه المعاني الباطلة حينما تشربوها ثم سمعوا النصوص الواردة في الصفات اصطدمت مع قناعاتهم ومع اعتقاداتهم، فزعموا أنهم يلزمهم أن ينزهوا الله عن الأفعال؛ لأن الله لا يقبل أن يفعل، فجعلوا الكلام على هذه القاعدة، فالكلام عندهم كلام معنوي نفسي قائم بالنفس؛ لأن فكرة وجود الله عز وجل أيضاً معنوية نفسية عقلية، فسحبوا هذه على هذه.

فمن هنا إذا أقروا بأن الكلام يتجدد أقروا بأفعال الله تعالى المتجددة على ما يليق بجلال الله تعالى، يعني أن الله يفعل متى شاء، وأن هذا الفعل يرى ويسمع، فالفعل الذي يرى ويسمع لا يمكن إلا أن يكون ممن تمكن رؤيته وسمعه على ما يليق بجلاله عز وجل، فمن هنا وصل الأمر عندهم إلى إنكار أفعال الله تعالى من أجل أن تسلم قاعدتهم الأولى في الاعتقاد في الله عز وجل وأسمائه وصفاته.

وليس الأمر في الكلام فقط، بل كل أفعال الله تعالى كذلك، فالكلام والاستواء والنزول والمجيء والعجب والضحك والرضا والسخط، كل هذه الأمور قالوا: لا تتعلق بالمشيئة، لأنه لا يمكن أن نقول: إن الله إذا شاء غضب، وإذا شاء لم يغضب، بل الغضب يعبرون عنه بإرادة الانتقام، أو يعبرون عنه بالعذاب الذي توعد الله به، والرضا هو الرحمة والجنة؛ فليس هناك صفة لله اسمها الرضا أو الغضب، كل هذا من أجل أن تسلم أصولهم.

وعلى أي حال الموضوع جاء في مناسبة الكلام عن كلام الله تعالى؛ نظراً لأن أول باب دخلوا فيه في التأويل هو مسألة كلام الله تعالى، فأول ما دخل التأويل على الفرق المتكلمة التي تابعت الفلاسفة وجميع المعتزلة في مسألة كلام الله تعالى، وأول من شق هذا الكلام وفتقه الكلابية، ثم تبعهم عليه الأشعرية والماتريدية وسائر أهل الكلام إلى يومنا هذا، فزعموا أن كلام الله تعالى معنى، فمن هنا لم يقولوا بالصوت ولم يؤمنوا بتعلق الكلام بمشيئة الله تعالى.

قال رحمه الله تعالى: [ وبالجملة فكل ما تحتج به المعتزلة مما يدل عَلَى أنه كلام متعلق بمشيئته وقدرته، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء؛ فهو حق يجب قبوله، وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وإنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف، فهو حق يجب قبوله والقول به، فيجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، والعدول عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما ].

الصحيح ألا نقول: قائم به ولا: غير قائم به؛ لأن هذا كلام فيه ابتداع من ناحية، وفيه إيهام من ناحية أخرى، لكن نظراً لأنهم اتخذوا كلمة (قائم به) ذريعة لإنكار الصفات؛ ألزمهم بها ليقول بأنه لا يمتنع أن الله سبحانه وتعالى تكون صفته متعلقة بمشيئته وقدرته، ومعنى (متعلقة بمشيئته وقدرته)، أن الله فعال لما يريد، وأن الله إذا شاء فعل، وأن الله قادر على أن يفعل هذه الأفعال، قادر على أن يتكلم متى شاء، وأن ينزل متى شاء، وأن يجيء متى شاء سبحانه، والنصوص جاءتنا بذلك، ولسنا نتكلم من عقولنا، وهذا هو الذي يميز أهل السنة عن غيرهم حينما يقولون: إن أفعال الله بقدرته ومشيئته، فليس هذا مجرد تقرير عقلي، صحيح أن العقل يصدقه، لكن ليس مجرد تقرير عقلي، بل هو مقتضى النصوص، فقد ثبت في النصوص أن الله ينزل، وثبت في النصوص أن الله يعجب ويضحك عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى يرضى، وأنه يتكلم، ونحو ذلك من الأفعال، وإذا ثبت في النصوص قررناه، أما قولنا: متعلق بالمشيئة والقدرة؛ فإنه مأخوذ من مثل قوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107]، ولذلك لم يتورع بعض المعتزلة حتى عن نفي القدرة، فقالوا: إن الله تعالى لا يقدر على أن يتكلم بصوت وحرف، وقولهم: (لا يقدر) يتفلسفون فيه، فيقولون: ليس معنى هذا العجز، بل إن معنى (غير قادر) أنه غير قابل لأن يتكلم بصوت وحرف، وهذا كله رجم بالغيب، وافتراء على الله بغير علم، وكله إثم، فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يحترز من مثل هذه الكلمات حتى على سبيل التقرير والتدريس، إلا إذا جاءت في عرض تقرير العقيدة في مثل هذا الكتاب أو غيره مما قرره السلف والأئمة، وردوا به بدع الأهواء التي انتشرت وخيف على الناس منها، وتكلم فيها طلاب العلم المأمونون الذين لا يخشى عليهم من الالتباس، أما إذا ظن الإنسان أن يلتبس الأمر على السامع؛ فالأولى أن لا تقرر هذه الصفات، لذلك أرى من الضرورة أن ننبه إخواننا الذين يتكلمون في المساجد وفي المحاضرات أن لا يتعرضوا لتفاصيل الرد على الفرق بمثل هذه الأمور أبداً، حتى لو جاء سؤال، ما لم يكن هناك درس متخصص فيه طائفة من طلاب العلم والمقبلين على درس العقيدة ويستوعبونها، فلا مانع، أما ما عدا ذلك فلا ينبغي في المجالس أن تثار هذه القضايا، أقول هذا لأني سمعت ونمي إلى علمي من أكثر من مصدر أن هناك من طلاب العلم من بدأ يمتحن الناس في هذه الأمور، ويمتحن العوام وأشباه العوام، ويتكلم في كلام الله تعالى وهو القرآن، ويسأل -كما ورد إلى- عن القرآن هل هو محدث أو مخلوق؟! وهذا كلام خطير في الحقيقة لا ينبغي أن يثار بين أهل العلم بغير ضرورة وحاجة، فكيف بغير أهل العلم؟! فمن هنا أقول: ينبغي أن نعود أنفسنا على أن لا نتكلم في تفاصيل الرد على الفرق في أسماء الله وصفاته، ولا نتكلم بأكثر مما ورد في الشرع في أسماء الله وصفاته، ولا نتكلم في الأسماء والصفات إلا على سبيل الفائدة والتقرير العام الذي لا يخرج عن ألفاظ النصوص، ولا مانع من أن يتكلم الإنسان عن الأسماء والصفات لاستنباط المعاني التي تقوي الإيمان ويبين فيها آثار الأسماء والصفات في أفعال العباد، وفي أفعال المؤمنين، أما ما عدا ذلك فلا ينبغي، ولولا أن هذا الكلام ورد في مثل هذا الكتاب، وكان السلف قد اضطروا إليه اضطراراً لما لجأنا إليه في مثل هذا الدرس، لكن لا بد مما ليس منه بد في درس متخصص.

قال رحمه الله تعالى: [ فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به, قلنا: هذا القول مجمل، ومن أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى به تعالى من الأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك، ونصوص الأئمة أيضاً، مع صريح العقل.

ولا شك أن الرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه، بل الذي أفهموهم إياه أن الله نفسه هو الذي تكلم، والكلام قائم به لا بغيره، وأنه هو الذي تكلم به وقاله، وكما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: (ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى) ولو كان المراد من ذلك كله خلاف مفهومه لوجب بيانه؛ إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولا يعرف في لغة ولا عقل قائلٌ متكلم لا يقوم به القول والكلام، وإنما قام الكلام بغيره، وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذراً من التشبيه فلا يثبتوا صفة غيره، فإنهم إذا قالوا: يعلم لا كعلمنا، قلنا: ويتكلم لا كتكلمنا، وكذلك سائر الصفات ].

قوله: [ ولا يعرف في لغة ولا عقل قائم متكلم لا يقوم به القول والكلام، وإنما قام الكلام بغيره ]، هذا قول طائفة من المعتزلة وبعض المتكلمين، يقولون: إن كلام الله تعالى المقصود به ما سمعه موسى من الشجرة، وهذا قول الجهمية والمعتزلة، يقولون: المقصود بكلام الله تعالى ما سمعه موسى من الشجرة، وما سمعه محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام، أو ما سمعه الناس من محمد صلى الله عليه وسلم، يزعمون بذلك أن الله لا يتكلم، فهو يقول لهم: إذا قلتم: إن كلام الله تعالى هو ما سمعه موسى في الشجرة؛ فأنتم بهذا تزعمون أن كلام الشجرة صار هو كلام الله، فهذا رد عليهم من ناحيتين: من ناحية أنهم نسبوا الكلام إلى الله تعالى حينما كان في غيره، وهذا ليس هو المقصود هنا، والناحية الثانية أنهم زعموا أن كلام غير الله تعالى كلام له، وهذا لا يجوز عقلاً؛ فإنك -ولله المثل الأعلى- لو سمعت كلاماً لإنسان في الشارع، ثم ذهبت إلى آخر في البيت وقلت له: أنت الذي تكلم في الشارع قبل قليل؛ لم يصح هذا منك؛ إذ لا يصح أن تنسب الكلام لغير قائله، فقولهم بأن كلام الله تعالى المقصود به ما خلقه في غيره -ككلام الشجرة أو كلام محمد صلى الله عليه وسلم أو كلام جبريل- قول باطل من ناحية النسبة، فكيف نثبت لله صفة الكلام، ثم نقول: المقصود بكلامه ما تكلم به غيره؟! فلا يصح هذا عقلاً، هذا هو المقصود.

قال رحمه الله تعالى: [ وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة، أوحي لا تقوم به الحياة؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) فهل يقول عاقل: إنه صلى الله عليه وسلم عاذ بمخلوق؟! بل هذا كقوله: (أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك)، وكقوله: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)، وكقوله: (وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا)، كل هذه من صفات الله تعالى.

وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها، وإنما أشير إليها هنا إشارة ].

الاستعاذة بالرضا من السخط، وبالمعافاة من العقوبة فيها رد على فئتين من الناس، وليس الذي تكلموا في الصفات فحسب، بل فيها رد على المبتدعة الذين يعوذون بغير الله، والذين يتعوذون أو يلجئون أو يدعون غير الله، ثم إن فيها رداً على الذين زعموا أن هذه الصفات ما هي إلا تعبير عن مخلوقات الله تعالى الأخرى، فهو يقول للذين ينكرون الرضا والسخط -وهم جميع المعتزلة-، والذين يؤولونهما -وهم الأشاعرة والماتريدية-: إذا زعمتم أن الرضا والسخط ليسا من صفات الله تعالى، وإنما هما تعبير عن الإنعام والعقوبة -وهذا كلام الأشاعرة والماتريدية، حيث يقولون: السخط هو عقوبات الله المادية التي نراها، والرضا هو نعم الله التي نراها، والعقوبات والنعم مخلوقة- إذا زعمتم ذلك فإنه لو كان قولكم صحيحاً ما صح أن نستعيذ برضا الله من سخطه؛ إذ لا تجوز الاستعاذة بالمخلوق، إذاً: استعذنا من صفة الله بصفة الله، فهذا يؤكد جزماً أن هذه صفات لله عز وجل، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك) فدل على أن الرضا صفة لله؛ لأنه لا تجوز الاستعاذة إلا بالله وأسمائه وصفاته.

إذاً: هذا دليل قطعي على أنهما صفتان لله عز وجل على ما يليق بجلال الله، وإلا لما جازت الاستعاذة بها؛ لأنه لا يستعاذ إلا بالله سبحانه وتعالى.