ثوابت في الدين


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:

فإن موضوع هذه المحاضرة من الموضوعات الملحّة في هذا العصر، وفي هذه الظروف التي يعيشها المسلمون في جميع أقطار الدنيا عامة، وفي هذا البلد بخاصة، التي هي بلاد السنة ومهبط الوحي، بلاد الحرمين، البلاد التي نحسبها -إن شاء الله- لا تزال تحكم بشرع الله عز وجل وتتحاكم إليه، وإن وجدت كثير من الأخطاء والتجاوزات، ونسأل الله أن يعفو عنا جميعاً، لكن يجب أن نتحدث بنعمة الله، ومن هنا أؤكد أننا كغيرنا من عامة المسلمين نتعرض إلى مخاطر كبرى قد نختلف ويختلف كثيرون في ترتيب هذه المخاطر وما هو الأهم منها، لكن أحسب أننا -أعني طلاب العلم المعنيين بالعلوم الشرعية- لا نختلف في أن أخطر ما تتعرض له الأمة هو التشكيك بعقيدتها ومسلماتها وثوابتها، وهذا التشكيك الآن ينحى مناحي خطيرة ومؤثرة، ليس فقط على مستوى الأفراد، بل على مستوى الأمة بمجموعها، تستهدف أغلى ما تملك الأمة وهو الدين والإيمان والفضيلة.

أول مظاهر ذلك: الهجوم الإعلامي العنيف -بكل معاني الكلمة- الذي يركز على هدم المقومات للأمة، ليس مجرد التأثير السلبي كما يعبّر البعض، بل أصبح هذا الهجوم الشرس العنيف يستهدف هدم وتقويض أغلى ما تملكه الأمة، وأول ذلك العقيدة والدين، ثم ما يستتبع ذلك من مقومات العزة يستهدف الأخلاق، ويستهدف الجماعة والكلمة، ويستهدف الأمن، ويستهدف القلوب والعقول، والأموال والأعراض، وليس من المعقول أن نتصور أن أعداء الأمة يقفون عند حد في النكاية بها، هذا أمر لا يتصوره عاقل، وإن وجد من بعض المغفلين، لا يتصور أن أعداء الأمة يقفون عند حد، بل لا بد أن يحققوا أغراضهم الكبرى التي نوه الله عنها، يقول الله عز وجل وهو أعلم بما في قلوب العباد، وهو أعلم بشئون الخلق، يقول سبحانه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] قد يكون لهم هدف اقتصادي، لكن لا ينتهون عنده، قد يكون لهم هدف سياسي، لكن لا ينتهون عنده ولن ينتهوا، وما هذه المظاهر التي نرى منها: الانتهاك الصارخ لمقومات الأمة من خلال انتهاك بعض دول المسلمين، ما هذا إلا نوع من الحرب الاستباقية التي تريد أن تحول بين الأمة وبين نهضتها، والمسلمون عموماً وأهل السنة على وجه الخصوص يعيشون في العقود القريبة الماضية نهضة رائعة، نهضة مبشرة بالخير في جميع بقاع الدنيا، لا سيما حينما تفطّنوا باستخدام الوسائل الحديثة في خدمة الدين ونشر رسالة السلام والأمن بين البشرية، حينما بدأ المسلمون عموماً وأهل السنة يستفيدون من الوسائل الحديثة إعلامية ومؤسسية في نشر الحق وتثبيت العدل بين الأمم، من هنا سيطر الخوف على أعداء الأمة، ومن هنا أيضاً قاموا بما قاموا به الآن تحت ذرائع كلها تبيّن أنها ليست مجرد واهية، بل ذرائع مكذوبة ومصطنعة، فكل الذرائع التي دخلوا بها العراق لم يوجد منها شيء، وارجعوا بأذهانكم إلى ما قبل سبع أو ست سنوات، لن تجدوا مما تذرعوا به في التدخّل السافر والاحتلال المباشر الذي استهدف المسلمين في أغلى ما يملكون لم يكن له مبرر واحد.

إذاً: يجب أن يعي المسلمون الحقيقة، وأن يستعدوا لأن تجتمع كلمتهم ويرجعوا إلى الحق، ويتركوا مظاهر الشتات والفرقة والتنازع، والله عز وجل نهانا عن ذلك فقال: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46] فعلى هذا نقول: أعظم سبب للفشل هو هذا التنازع والفرقة في الدين، والخروج عن مقتضى الإسلام والسنة، ولن تعود الأمة إلى عزها إلا بالاجتماع على السنة، ولا يعني ذلك كما يزعم بعض جهلة الكتّاب وبعض جهلة المتحذلقين والمتكلمين أن هذا يعني أننا نسعى إلى إقصاء الآخر، لا والله، ولكن نسعى إلى إنقاذ الآخر من الهلكة، لسنا حريصين على الإقصاء، فهذا منهج نعوذ بالله منه، فنحن حريصون على الهداية، وعلى جمع كلمة الأمة على كلمة، سواء على الكلمة التي أرسل الله بها النبيين كلمة التوحيد ونفي الشرك، كلمة اجتماع المسلمين واجتماع الأمة على الضوابط والثوابت والمسلمات التي هي معقد الدين، ومعقد الاجتماع، ومعقد الأمن والسلامة، ومعقد القوة والعزة، ولن تعتز الأمة وترجع إلى عزها إلا بهذه الثوابت والمسلمات، وليست المسألة مسألة فرض رأي على الآخر كما يزعمون، ومن هنا سأناقش هذه القضية:

ما هو الرأي والرأي الآخر؟ هل يدخل في ذلك أركان الإيمان والإسلام، ومسلّمات الدين والفضيلة، والحفاظ على الكرامة، والحفاظ على صيانة المرأة، والحفاظ على الأجيال والشباب؟ هل هذا مما فيه رأي ورأي آخر؟

كل أمة لها مسلمات وثوابت تدافع عنها وتبذل في سبيلها مهجتها ودماءها، ونحن يُستكثر علينا أن نثبت على ديننا، وليس فقط ندافع عنه، يُستكثر علينا أن نثبت على الدين الحق، ويقال: أنتم تحجرون وتقصون.

ما هي مسلمات الدين؟ هذه كلمة قد لا تكون مستعملة عند السلف، قد تكون اصطلاحية ولا مشاحة في الاصطلاح، وهذه كلمة وصفية ليست حدية، وليست هي الكلمة الشرعية، الكلمة الشرعية هي الإيمان والإسلام والسنة والحق والدين، لكن هذه العبارات أحياناً تستعمل على غير وجهها، فنريد أن نردها إلى الوجه الشرعي كمنهج السلف في الألفاظ المحتملة المجملة، فكلمة مسلّمات، ثوابت، أو مسلّمات الدين، وثوابت الدين من الكلمات المجملة، قد تُفسّر بأكثر من تفسير، فنحن نفسّرها بما يلي:

ثوابت الدين: أركانه، قطعياته، قواعده.

يعني: الأمور التي هي مبنى الدين، والأسس التي يقوم عليها الدين نسميها ثوابت ومسلّمات؛ لأنها ثوابت من مصدر الحق، هي كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولأنها مسلّمات يقينية قطعية لا مجال للكلام فيها ولا الزيادة ولا النقص، وعلى هذا فإن مسلّمات الدين هي الدين كله، وثوابت الدين هي الدين كله، لكن الدين منه ما هو قواعد وأصول ونصوص قطعية فهذه ليست محل جدل، ومنه ما هو اجتهاديات فهذه في مفرداتها ليست من الثوابت، لكن في أصولها ومرجعيتها ومصادرها هي من الثوابت.

إذاً: الدين كله يرجع إلى الثوابت، والاجتهاديات لا بد أن تنطلق من الثوابت وإلا فليست معتبرة وليست من الاجتهاد، بل من الهوى والبدعة والضلال، والأحكام الفقهية الاجتهادية أصولها قواعدها منازعها مداخلها مصادرها ثوابت، لكن تطبيقاتها القول فيها من خلال إرجاعها إلى نص، أو من خلال فهمها من النص المحتمل هذا مما يجتهد فيه العلماء، وهذا من خصائص الدين في سعته وشموله وصلاحيته وكماله.

إذاً: الثوابت والمسلّمات التي أريد أن أتحدث عنها، وسأركّز فيها على الثوابت والمسلّمات التي أصبحت تستهدف الآن بالتشكيك فيها وبالطعن، وبالدخول على عقول ناشئتنا من البنين والبنات والنساء والمثقفين.. وغيرهم، الدخول على عقولهم من خلال هزّها والتشكيك فيها، ومن خلال أيضاً الطعن المباشر فيها، وهذا كله وجد، كان هناك كثير من الناس الذين يتكلمون عن ثوابت الدين ويستهزئون بها ويشككون فيها، كانوا قبل عقود قريبة من السنين يُعرفون بالنفاق الظاهر، ولهم أوصاف وأسماء، الآن بدأ يتكلم في هذا الموضوع أناس، في الحقيقة أعجب ولا ينقضي عجبي، ولا أستطيع أن أفسّر هويتهم، أناس من أبناء جلدتنا، تربوا في أحضان السنة ومدارسها، وتقلبوا في أحضان عائلات معروفة بالعلم والفقه في الدين ومن مراجع البلد، تربوا في محاضن العلم واليقين والدين والفضيلة، ثم نفاجأ وهذه نتيجة ما ذكرته لكم من الهجوم الإعلامي والفكري الشرس عبر الإنترنت والفضائيات.. وغيرها، هذا الهجوم الشرس أوجد فئات من أبناء جلدتنا يشكون في أغلى ما نملك، وأصبحوا يسبون آباءهم وأجدادهم، أصبحوا يأسفون على التاريخ النقي الأبيض الذي عشناه قبل سنين، ويعتبرونها غلطة، بل منهم من يعتبر تاريخ الإسلام منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى يومنا هذا كله غلطات، هذا وجد وتكلّم فيها الآن وسائل الإعلام، ويدورون حول هذا ويجزّئون عليه ويفرّعون، اعتبروا الحجاب دخيلاً، واعتبروا صيانة المرأة دخيلاً على الأمة وتقاليد، واعتبروا احتضان الشباب في محاضن الخير نوعاً من الإرهاب، واعتبروا التديّن بحد ذاته خطراً على الأمة، ما الذي بقي لنا؟ لم يبق من مقومات العزة شيء، كل مقومات العزة الآن يستهدفونها تحت ذرائع الإصلاح، وتحت ذرائع الإشفاق على الأمة، وتحت ذرائع إخراج الأمة من وهدة ما يسمونها بالتأخر والرجعية إلى التقدم والتحضر، وكأن من أسس التحضّر الانسلاخ من الدين، وما علموا أن الأمر عكس ذلك.

هناك حقيقة كبرى يقينية قطعية نسيها كثير من طلاب العلم والدعاة فضلاً عن غيرهم، وصارت غائبة في هذه الظروف إلا النادر، مع أنها هي الفاصل في بيان وجه الحق وإقامة الحجة على هؤلاء على الإجمال، أما الدخول في التفصيل فهذا يحتاج إلى أدلة، أقصد أن حقيقة الأمة الإسلامية في كل بقاع الدنيا عامة، وفي بلاد مهبط الوحي خاصة، يستحيل أن يكون لها رقي ومدنية وحضارة على وجه تسعد بها وترقى وتعتز إلا بالإسلام والدين، وربما تخفى هذه الحقيقة بسبب غبش في التصور وفي النظر في واقع الأمم الأخرى، وهذا يقوله أصحاب نزعة العلمنة وبعض الجاهلين وبعض المغترين بالغرب رغم أنه قد انكشف وتعرى، ومع ذلك لا يزالون مغترين، وربما يشتبه عليهم أنه الآن الغرب كبلاد والدول الشرقية الأخرى التي أخذت بالأسباب المدنية ارتقت حضارياً ومدنياً، ووصلت إلى درجات الهيمنة والعزة، نقول: نعم، هذا صار حينما تخلف المسلمون عن رسالتهم، هذا أولاً.

ثانياً: أن الله عز وجل وعد الكفار وغير الكفار ممن يأخذ بأسباب الدنيا بأن يعتز بها، لكن العزة في المسلمين لا تدوم بل تكون وبالاً عليهم إذا خالفوا دينهم، أما بقية الأمم الكافرة إذا أخذت بأسباب الدنيا قد تزدهر عندها الدنيا، لكن ليس لها في الآخرة من نصيب، فلا نقيس الأمة الإسلامية على الأمم الأخرى؛ فالأمة المسلمة مهما أخذت بأسباب العز الدنيوي دون أن تأخذ بدينها على وجه سليم، فلن تعتز ولن تقوى ولن تنتصر، قد تحصل على عزة جزئية ونصرة جزئية مآلها أن تنقلب الحال عليها وتكون وبالاً وعقوبة، هذه حقيقة أرجو أن تكون هي بداية الكلام عن المسلّمات.

المسلمون اليوم وبعد اليوم وقبل اليوم وإلى قيام الساعة لن يكون لهم كيان دولي، ولن يكون لهم عزة ولا حضارة ولا مدنية تزدهر ويسعدون بها وتجتمع كلمتهم، وتكون لهم هيبة أمام العالم إلا بأن يرجعوا إلى دينهم، ويأخذون بأسباب الدنيا التي هي مطلوبة شرعاً ومن منطلق الدنيا لخدمة الدين أن تكون الدنيا بأكفّهم والدين في قلوبهم، ويسخّرون الدنيا لخدمة الدين وخدمة البشرية، ومن هنا تزدهر حضارتهم كما ازدهرت في السابق، أما أن نتصور مجرد تصور أن يكون للأمة عز ونصر وتمكين بدون أن ترجع للإسلام فهذا مستحيل، وإن وجد جزئياً فمآله إلى وبال، قد يوجد لأن ظروف التاريخ أحياناً يكون فيها خداع، ويكون فيها استدراج من الله عز وجل، ويكون فيها نوع من الجولات التي تنتهي في النهاية إلى ما وعد الله عز وجل به إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7].

من ذلك أولاً: أنه ليس في العقيدة أصل ليس له دليل، وما ليس له دليل فليس بعقيدة، ليس هناك في العقيدة إلا ثوابت تقوم على يقينيات الأدلة، فما كان دليله محتملاً أو ليس له دليل لا يدخل في العقيدة، وإن دخل عند أهل الأهواء والبدع لا يدخل عند أهل السنة، ومن هنا فأهل السنة والجماعة ليس في ثوابتهم وقطعياتهم وليس في أصول الدين عندهم، وليس في العقيدة أصل من الأصول ليس له دليل قطعي، أو قاعدة تستنج من دليل أو مجموعة أدلة، قد يشتبه الأمر على بعض الناس في وجود مسائل أدرجها علماء السنة في كتب العقيدة وليست يقينية، نقول: هذه جاءت بالتبع، هذه مسائل علمية لحقت بموضوع العقيدة من الناحية الموضوعية، لكن الثوابت ثوابت والأصول أصول، ليس عند أهل السنة ما ليس له دليل، ويستتبع ذلك مسلّمة أخرى، ليس عند أهل السنة ما يختلف عليه عندهم على الإطلاق، لا يوجد أصل من أصول العقيدة عند أهل السنة قديماً وحديثاً يختلفون عليه، أما أنه قد يزل عالم أو يجهل جاهل هذا ليس هو ميزان، نحن نتكلم عن المنهج ولا ننظر إلى أقوال الجاهلين ولا إلى زلات العلماء؛ لأنه لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، نتكلم عن الجمهور والجملة لا يوجد أصل من أصول الدين إلا عليه دليل، لا يوجد أصل من أصول العقيدة إلا عليه دليل، ولا يوجد أصل من أصول العقيدة يختلف عليه السلف، ولن يختلفوا عليه إلى قيام الساعة، ولو اختلفوا اختل الدين وما وجد الناس مصدراً للحق، ثم يتبع ذلك أن الدين هو ما شرعه الله وشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبق الكلام عن هذا.

عقيدة أهل السنة والجماعة توقيفية صادرة عن الأدلة، قطعية أدلتها صحيحة، المتفق عليها ويجمع عليها أهل السنة والجماعة، ومن هنا يتفرّع عن هذا تأصيل هو: أنه ليس في عقيدة أهل السنة والجماعة إضافات، وليس فيها ردود أفعال، وليست من صنع عالم أو علماء، وليست اجتهاد أو اتفاق مجموعة أو ثلة من الناس سموا أنفسهم: السلف وأهل السنة والجماعة أبداً، بل هي نهج الحق، نهج النبي صلى الله عليه وسلم، هي الكتاب والسنة، لا تنتمي إلى رجل ولا إلى إنسان ولا إلى طائفة أبداً، وتسميتها بالسنة والجماعة تسمية شرعية وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر الاختلاف قال: (فعليكم بسنتي) ثم قال: (وعليكم بالجماعة).

إذاً: السنة والجماعة مصطلح شرعي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا غبار عليه، ليس من صنع العلماء ولا من صنع الأحزاب ولا الفرق ولا المذاهب الأربعة ولا غيرها، وليس ردود أفعال، ولا من صنع الحكام، ولا عمالة للدول، كما يقول بعض المفتونين: إن خلفاء بني أمية وبني العباس جمّعوا حولهم شلّة من العلماء وسموا أنفسهم كلهم طائفة أهل السنة والجماعة، هذه سذاجة وغباء واستغفال، هل الحق هكذا يحصر بدولة وبشلل؟ نعوذ بالله من ذلك.

كذلك ليست العقيدة ردود أفعال؛ لأن كثيراً من شبابنا والمثقفين الذين دخلتهم الشبهات يتصورون أن بعض قضايا العقيدة كانت نتيجة ردود أفعال، ويستدلون على ذلك أن هناك أشياء أثبتها السلف من العقيدة وليست موجودة في عهد الصحابة، نقول: هذا جهل فهي موجودة، لكن التنويه عنها ما جاء مبرره، فمثلاً: في عهد الصحابة رضي الله عنهم هل كان هناك مبرر لتسمية طائفة من الناس أهل السنة والجماعة؟ لماذا لم يكن هناك مبرر؟ لأن الناس جمهورهم وجملتهم على السنة، وخلفاؤهم على السنة، وعلماؤهم على السنة، لكن حينما كثرت الأهواء والافتراق والبدع صار تمييز أهل الحق بالسنة والجماعة، بموجب وصية النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر ضروري، وهكذا بقية أصول الدين، فمثلاً: الكلام في قضية أن القرآن منزّل غير مخلوق، هذا تقتضيه النصوص، لكن التنويه عنه بهذا المصطلح لم يكن له مبرر حتى جاء أفراخ الفلاسفة وزعموا أن القرآن مخلوق، فلما زعموا ذلك فالأصول والثوابت موجودة من قبل عند أهل السنة، فأثبتوها عند الحاجة إليها، فهي موجودة ضمن النصوص القطعية؛ ولذلك الدليل على أن القرآن منزل غير مخلوق دليل قطعي من الكتاب والسنة، وليس هذا ردود أفعال.

وهكذا بقية مسائل الدين التي تكلم عنها السلف على مدار التاريخ، كلما جدد الناس بدعة ومحدثة جاء السلف من أصول الدين ما ينفي هذه البدعة ويثبت السنة، وقد يضطرون إلى استعمال مصطلحات حقيقية شرعية صحيحة بمناسبة هذا الطارئ.

كذلك مسألة كمال الدين، وهذا معروف ولا نتمارى فيه ولا نتجادل، لكن هناك أناس يحتالون على هذه القضية ويقولون: إن الكمال كمال إجمالي وليس كمالاً تفصيلياً، نقول: الدين ضوابط وفحوى، والدين روح، لكن تفصيلات الدين هذه يريد طائفة من المسلمين اليوم أنا نكتفي بمجملات الدين وبروح التدين، نكتفي بقواعد الإسلام العامة، والجزئيات نتركها ولو كانت فيها أدلة شرعية صحيحة، فتسمية قواطع الدين والأحكام جزئيات هذا غلط، ولذلك أرادوا أن يتخففوا من كل ما يخالف أهواءهم وبرامجهم للتطور وبرامجهم للتقدم.. وغيره، فكل ما يعارض أهواءهم في ذلك يردونه ولا يبالون بقطعية النصوص، مع أنه ليس في نصوص الشرع إطلاقاً ما يخالف التطور، بل جاءت النصوص الشرعية لمواكبة مستجدات ونوازل البشر إلى قيام الساعة واحتوائها وعلاجها، لكن هؤلاء يلبّسون، والإسلام ليس فقط يواكب التطور أو يجيزه، بل الإسلام ينبني على أن الحياة البشرية لا بد أن تطور، والتطور سنة الله في خلقه، لكن كلمة (تطور) سلاح ذو حدين:

أولاً: التطور الذي يعني الخروج عن عقيدة الإسلام، والخروج عن الفضيلة، والخروج إلى انتهاك حرمات الإسلام، وإلى انتهاك مقومات الأمة، فهذا ليس بتطور وإنما هذا تأخر.

ثانياً: التطور الذي يعني تطور المسائل ومستجدات الحياة في الأمور المباحة، وهذا دين الإسلام يستقبله ويرضاه، بل يأمر به ويحفّز عليه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) هل يمكن أن يكون الإتقان بدون استعمال المستجدات من وسائل الحياة؟ لا يمكن، الآن العمل المؤسسي كيف نتقنه؟ كيف نتقن وسائل الدعوة؟ كيف نتقن وسائل نشر الدين والتفقيه في دين الله؟ بالأعمال البدائية؟ أبداً، معنى هذا: أن الأمة لن تستفيد ولن ينتشر الخير فيها.

فإذاً: الإسلام يستوعب التطور بل يأمر به، لكن لنقف عند مفهوم التطور، ما هو التطور الممنوع وما هو التطور المشروع؟ ما هي الوسائل المباحة وغير المباحة؟ هذا أمر يُرجع فيه إلى قواعد الشرع وضوابطه.

الدين كامل، وكماله لا يعني كمال المجملات والتفاصيل، ولا بد أن نقول هذا، وإلا سيرجع الأمر إلى الارتداد عن الاعتقاد بكمال الدين، إذا استدرك أي إنسان على كمال الدين معناه: أنه لم يقتنع بكمال الدين ولم يؤمن، فالدين كامل وشامل لكل جزئيات الحياة في الفرد والأسرة والمجتمع والبشرية جميعاً في كل وقت، ومهما كان التطور فالإسلام يستوعبه، بل يواكبه ويسبقه، لكن تقصير المسلمين هو الواقع والحاصل، ولا يعتبر حجة على الإسلام.

كذلك الحفظ: أن الله تكفّل بحفظ الدين، ولذلك في الحقيقة مما يجب أن نتنبه له في هذا الوقت: الحذر من النظرة التشاؤمية السوداوية تجاه الأحداث والمدلهمات الآن، نعم الأمة تعيش مدلهمات وأحداثاً جساماً ربما لو قال قائل: ما مرت في تاريخ الأمة مثلها لكان صادقاً، لكن لا يعني هذا: أن الدين هلك، ولا يعني هذا: أن الأمة هلكت بعامتها، أبداً، بل هذا يخالف وعد الله اليقيني، الأمة لا تهلك بعامة، ستبقى منها طائفة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم حتى تقوم الساعة، لكن من هم هذه الطائفة؟ هم من يقوم بالواجب، هم من يأخذ بأسباب العزة، هم من يعتصم بالله عز وجل، ولا يمكن أن نحصرهم في ظرف معين، ولا بد أن يكونوا موجودين، قد يجتمع أهل الحق، وقد يشعرون بشيء من الغربة، ولكنهم ظاهرين، لا بد أن يظهروا الظهور الذي يقيم الحجة به على الخلق.

إذاً: لا نخشى على الدين، ولكن نخشى على أنفسنا؛ لأننا قصّرنا، فعندما نخاف نخاف من ذنوبنا، نخاف من تقصيرنا، لا نخاف على الدين، يجب ألا نخاف على الدين، ولا نخاف على الأمة بمجموعها، بمعنى أنها تدمّر، وأنها تنتهك كلها وتهلك، فقد يصيبها أذى، لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى [آل عمران:111]، وقد يقع على طوائف منها من البلاء كما هو حاصل الآن، يقع عليها من البلاء ما هو عظيم وشديد، لكن الأمة بجملتها لا تهلك، ولا يمكن أيضاً أن تُنتهك، والدين باق ومنصور، لكن الذي أوصي به نفسي وإخواني جميعاً أن ننظر ما موقعنا مع الحق؟ ما موقعنا مع هذه الفئة والطائفة التي لا تزال على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم، ورأسهم العلماء دائماً؟ العلماء هم رأس الأمة، ولا يمكن أن تبقى طائفة ظاهرة منصورة بدون علماء، ولذلك هذه مسألة منهجية يحتاج إلى أن يؤكدها طلاب العلم والدعاة؛ لئلا يقع بعض شبابنا بسبب هذا التصور إلى التعدي إلى مسالك غير مسالك العلماء الكبار، فإنما العصمة بمجموعهم لا بمن خرج عن منهجهم، فمن خرج عن منهجهم فهو في سبيل الضلالة، مهما كان اجتهاده، ومهما كان صلاحه، فلنتنبه؛ لئلا يقع شبابنا ونساؤنا وبناتنا في غوائل الغلو أو غوائل التفريط، وفي كلها شر، الآن أجيال المسلمين يعيشون بين تيارين خطيرين إلا من عصم الله، وهم القلّة الذين بقوا على منهج العلماء ومنهج المشايخ، يعيشون بين تياري الانفلات: انفلات فكري، وانفلات أخلاقي، انفلات مع وسائل الإعلام مع وسائل الشر التي دخلت لا أقول في البيت، كنا قبل عشر سنين نقول: كل بيت، الآن دخلت كل جيب، كل واحد في جيبه شر مستطير، هذا الشر دخل العقول والقلوب والأخلاق، هذا الشر استهدف أغلى ما تملكه الأمة، لكن ومع ذلك لا نيئس، فالخير باق فلنلتمس طريق الخير ولنلتمس أهل الخير، وليحرص كل منا أن يعتصم بعصمة أهل الخير، وإلا فبوادر الغربة الآن ظاهرة، فليحرص كل منا أن يبقى على مسلّمات الدين وثوابته، وأن يبقى مع أهل الحق.

من مسلّمات الدين: أن المسلم يجب عليه أن يدخل في الدين كله، وهو معنى التسليم: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] ما معنى التسليم؟ الدخول في الدين، ما معنى الدخول في الدين؟ ليس معناه أن تقول: التقوى هاهنا، وإلا أنا متدين، وأنا أحب ربنا عز وجل، أحب الرسول صلى الله عليه وسلم.. هذه كلها دعاوى تحتاج إلى حقيقة، فلو أن إنساناً ادعى أنه يحب فلاناً من الناس أو صديقه، ويمسكه بيده فجأة ويصفعه باليد الأخرى، هذا محب؟ هذا يكذب، فالمخالفة لما يرضي الله عز وجل انتهاك لحرمات الله، والبعد عن مقتضيات الدين مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه كلها تخالف الدخول في الدين، والدخول في الدين هو التسليم بأن الدين حق وصدق ويقين، وأن الدين هو دين الله، وأن المقصود بالدين محبة الله وتعظيمه وخشيته ورجاؤه ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه، ولن تتحقق محبة الله إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل لرسوله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].

هذه هي حقيقة الدخول في الدين كله، بمعنى أن تسلّم للدين، وأنه حق وكامل ومحفوظ، وأنه طريق السعادة والنجاة، وأن الدين هو طريق العزة والنصر والتمكين، ثم بعد ذلك تستقبل الدين بالقبول، وأما الدعوى فكل مسلم الآن يدّعي أنه مع الدين، لكن أين تطبيق الإسلام في حياة المسلمين؟ نسأل الله أن يعفو عنا جميعاً، تطبيق الإسلام ضعيف جداً، وهذا أعظم سبب للذل، وهذا مما أوجد الفرقة بين الأمة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه.

فإذاً: لا بد من الثوابت التي يجب أن يعيها كل مسلم، ولا بد أن يدخل في الدين كله، ويستقبل الدين استقبال رضا وتسليم واستعداداً لقبول ما يرد عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بحسب الاستطاعة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

أيضاً يجب تثبيت ثوابت الحق ومسلماته في قلوب الأجيال، وهنا أخص طوائف معينة من أبناء مجتمعنا بالمسئولية، وأول ذلك وربما تستغربون: المرأة، أول مسئول عن تثبيت ثوابت الحق ومسلماته في قلوب الأجيال اليوم هي المرأة، فالمرأة بحكم أنها الحاضنة الأولى للأطفال، وإن كانت الحضانة الآن أُسندت إلى من لا تبرأ الذمة بهم، لكن إلى الله المشتكى، ولا يعني ذلك الإعفاء من المسئولية، فالأم مسئولة منذ أن تحضن الطفل، والطفل إذا رضع من امرأة صالحة رضعة لبن صحيح، واحتضنته في حضنها امرأة صالحة وهو طفل لا يعقل تنبني معه مقومات الفطرة.

وسأذكر لكم كلاماً ربما يكون غريباً ومضحكاً، وأعتبره مشاهدة لي أو استقراء ناقص وابحثوا عنه، ربما يكون حقيقة، أنا أرى أن الذين يشبون من أبناء الأمة على ألبان أمهاتهم يكونون أقرب إلى المنهج السوي في التعامل والأخلاق وفي قبول الحق من الذين يرضعون من بقر هولندا والدنمارك، هذه حكاية مؤلمة وربما أجرح فيها الكثيرين، لكن أنا أشعر بهذا الشعور، وأحيل الأمر على المختصين من الأطباء وعلماء النفس، بل أتمنى لو أن أحداً منكم يجري دراسة ميدانية نحتاج إليها بالأرقام والإحصائية.

أعود وأقول: يجب أن تتولى الأم مسئوليتها في رعاية الابن في صحته وعقله وبدنه ودينه، ثم يأتي دور الأب، والأم مهما كانت مشاغلها يجب ألا تتذرع بالمشاغل والوظائف عن الوظيفة الأساسية، أنا أقول: لا مانع أن تقوم المرأة بواجبات تجاه التعليم وغيره، ووظائف المرأة الضرورية في مجتمعنا لا بد أن تسده النساء، لكن بقدر، وإذا تزاحمت الواجبات يجب أن نعطي الواجب الأول حقه.

ولذلك كنت أتمنى لو أنا نطرح طروحات فيما يتعلق بوظيفة المرأة في عصرنا هذا في بلدنا، تعالج هذه المشكلة من خلال التدريس والتعليم، كنت أتمنى لو أن المعلمة تعطى جزءاً من وقت وظيفتها لبيتها، بحيث لا تغيب عن البيت كل الدوام، ويكون ذلك بأن تتناوب النساء الدوام الرسمي المنهك الطويل الذي يصل إلى ثمان ساعات فأكثر، حتى يكون جزءاً من مهامها القيام بواجباتها الأسرية في رعاية أبنائها إن كان لها أبناء، في رعاية زوجها إن كان لها زوج، وإن كانت غير متزوجة كذلك تتهيأ لمتطلبات الحياة الأسرية.

فإذاً: هذه أمور يرجع أصلها إلى الثوابت، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) ثم قال: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها).

إذاً: هذه مسلمات أخللنا بها الآن تحت ذرائع كثيرة، ثم يأتي كما قلت مسئولية الأب.

كذلك مسئولية المعلمين، سواء كانوا في التعليم الأولي في الابتدائي في المتوسط في الثانوي في الجامعي، فعلى المعلم تجاه الدين أولاً، وتجاه أبنائنا وتجاه المجتمع واجب أساسي في رعاية الشباب، ليس فقط في العملية التعليمية والارتقاء بمستويات الشباب من الناحية العلمية فقط، بل أيضاً الرعاية الأخلاقية الرعاية الإيمانية التي تثبت الثوابت والمسلمات في قلوب الأجيال، وليس على معلم الدين فقط، وكوننا نحصر تربية الشباب التربية الدينية الشرعية على معلم الدين هذا خطأ، معلم الدين يعلم مفردات الدين، لكن أنت أيها المعلم الآخر أسهم في تعليم الشباب مناهج الدين وسلوكياته، وكن قدوة.

وهذا التقسيم للمسئولية في تربية الأجيال تقسيم ظالم وغاشم، أنت معلم الرياضيات، وهذا معلم الجغرافيا، وهذا معلم التاريخ، وهذا معلم الحاسب، وهذا معلم اللغة، عليك أيها المعلم واجب أساسي، كن قدوة في نفسك، يجب أن يكون الطالب كابنك ترعاه في مدرسته وترعاه في بيته مع التنسيق مع البيت، فترعاه في وقته الضائع الآخر.

قد يقول كثير من المعلمين: لا يتسع وقتنا لهذا، نحن مشغولون بالواجبات، أقول: ليس هذا صحيحاً، فإذا أخذت الأمر ببرنامج علمي مدروس يراعي الأوليات ويستغل الأوقات على وجه صحيح، فإن في الوقت بركة، وما أكثر الأوقات التي تضيع هدراً في المدرسة وخارج المدرسة، ثم بعد ذلك مسئولية الإعلام وما أدراك ما الإعلام، الإعلام في الحقيقة أمر محيّر، هو نفسه بحاجة إلى الإصلاح، فكيف يُصلح؟ يجب على أهل الإصلاح أن يستغلوا الإعلام للإصلاح، فهو سلاح ذو حدين.