4 خصال في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
4 خصال في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان - صلى الله عليه وسلم - الأسوة، والقدوة، والمثال العملي لقمة الفضائل: "ليس في الدنيا أحد يصح أن يكون للإنسانية أسوةً من سيرته وحياته، غير المبعوث رحمة للعالمين - صلى الله عليه وسلم - إن حياته هي حياة العظيم، اجتمعت فيها أربع خصال:
تاريخية: يصدقها التاريخ الصحيح، ويشهد لها.
وجامعة: محيطة بأطوار الحياة، ومناهجها، وجميع شؤونها.
وكاملة: متسلسلة لا تنقص شيئًا من حلقات الحياة.
وعملية: حققها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أعماله، وأخلاقه، وسيرته، في حياته الاجتماعية والشخصية.
ولا نجد هذه الخصال الأربع مكتملة في أحد غير محمد - صلى الله عليه وسلم - وذلك لأن الأنبياء إنما بعثوا لأزمانهم وشعوبهم، أما رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فرسالته للناس كافة، في كل العصور والأجيال؛ فمسَّت الحاجة إلى أن تكون سيرته شاملة؛ ليتأسى بها جميع الأمم والأجناس والأجيال"؛ السيد سليمان الندوي من علماء الهند.
أجمع المؤرخون على أن القرن الخامس الميلادي وما بعده سيطرت فيه الوثنية، وساد الشرُّ العالم كله؛ فاضطربت النفوسُ، وامتلأت الأرض بتصوراتٍ وعقائدَ، وخرافاتٍ وأساطيرَ وأوهام، اختلط فيها الحق بالباطل، والصحيحُ بالزائف، وعبث الإنسانُ بميراث الأنبياء، وشوَّهت الأهواءُ تعاليمَ موسى وعيسى - عليهما السلام.
وكما حكى القرآن عن هذه الفترة، ووصفها أصدق وصف؛ فقال: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].
وكما جاء في صحيح مسلم: ((إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربَهم وعجمَهم، إلا بقايا من أهل الكتاب)).
وجاء في الحديث القدسي: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم،وأحلت لهم ما حرمتُ عليهم)).
ولقد وقف الضمير البشري حائرًا في هذا التنبيه، لا يستقر على حال، وماذا بقي للإنسان من كرامةٍ حين تُقدَّس العجول وتُعبَد الأبقار؟ وأي هوان يحل بالإنسان حين تعبد الأصنام، ويسجد لها من دون الله؟
لقد هان الإنسان وسُحق في ظل الجاهليات، وفقَد مركزَ حركته، وأصْلَ انطلاقه، وطريقَ عصمته حين أخطأ طريق الأنبياء، ذلك الذي يصله بخالق هذا الكون، مدبِّر أمره - جل جلاله.
لقد تمكنت عقائدُ الشرك، وقامت الشعائر الفاسدة على أساسها، وكان الكهَّان، والرهبان، والأحبار - الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله - مصدرَ التشريع والتوجيه، وهذا أصل الداء، ومنبع الفساد.
روى البخاري عن أبي عطاء العطاردي، قال: "كنا نَعبد الحجرَ، فإذا وجدنا حجرًا هو خير منه، ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جُثْوَة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه، ثم طفنا به".
ولم يكن من المستطاع أن يستقر الضميرُ البشري، وأن ينصرف أصحابُ هذه التصورات الضالة، والواقع المؤلم في الأرض كلها، وأن ينفكوا عما هم فيه، إلا بهذه الرسالة، وبهذا الرسول العظيم، الرحمة المهداة - صلى الله عليه وسلم - وبهذا الدين الخالد، الذي رد البشريةَ إلى مدارها الصحيح.
صفحة بيضاء:
إن الرسالة أمر هائل خطير، أمرُ اتصال الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود، والله وحده هو الذي يعلم أين يضع رسالتَه، ويختار لها مَن يصلح للقيام بها، وقد جعلها - سبحانه - حيث علِم، واختار لها أكرمَ خلقِه وأخلصَهم: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124].
ويقول مولاي "محمد علي" الزعيم الهندي:
"كان النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يتصف بجميع الصفات الحميدة، وجمع في شخصه جميع سجايا الأنبياء: كانت فيه شجاعة إبراهيم، ورجولة موسى، ورحمة هارون، وصبر أيوب، وعظمة سليمان، ووداعة يحيى، وتواضع عيسى - عليهم السلام".
ومن سنن الله في الكون أن المعاني المجردة في كثير من الأحيان لا تكون متصورة، ولا مفهومة عند أكثر الناس، فلا بد لها من واقع تتمثل فيه، هذا الواقع يظهر في صورةِ شخصٍ يعيش بين الناس بهذه المعاني متجسدة فيه؛ فكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الأسوة والقدوة، الذي تمثلت فيه مبادئ الإسلام وشريعته، وكان المثالَ العملي الذي يمثل قمة الفضائل، وكان خُلقُه القرآنَ.
يحدثنا - صلى الله عليه وسلم - عن اختيار الله له؛ فيقول: ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم))؛ رواه مسلم.
وفي حديث آخر يقول:
((أيها الناس، مَن أنا؟))، قالوا: أنت رسول الله، قال: ((أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، ألا إن الله - عز وجل - خلق خلقه، فجعلني من خير خلقه، ثم فرقهم فرقتين فجعلني من خير الفرقتين، ثم جعلهم قبائل، فجعلني من خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتًا، فجعلني من خيرهم بيتًا، فأنا خيركم بيتًا وخيركم نفسًا))؛ رواه أحمد.
ومن هنا دعي الناس جميعًا لصياغة حياتهم وَفق هذه الرسالة وحاملها إليهم.
ومن أجل هذه الرسالة الخالدة - التي أخرجت الناسَ من الظلمات إلى النور - أمرَنا الله أن نحب خاتم النبين أكثرَ من أنفسنا، وأكثر من آبائنا وأمهاتنا، ومن جميع المخلوقات: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، وهو حب الأسوة، والقدوة، والاتباع: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31].
يقول محمد إقبال:
"إن قلب المسلم عامرٌ بحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رمز شرفنا، ومصدر فخرنا في هذا العالم، إن هذا النبي العظيم - الذي وطئت أمتُه تاجَ كِسْرَى - كان يَرْقُد على الحصير، لقد فتح الدنيا بمفتاح الدين - بأبي هو وأمي أن تلد مثله أم.
افتتح في العالم دورًا جديدًا، وأطلع فجرًا جديدًا، لمَ لا أحبه؟ ولا أحن إليه، وأنا إنسان؟
وقد بكى لفراقه الجذع، وحنَّت إليه ساريةُ المسجد - صلى الله عليه وسلم.
كان الله معه؛ يرعاه ويحفظه.
لقد شب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ونشأ ودرج في مكة، وحياته من جميع جوانبها نظيفة؛ ولذلك لقبَّه قومه بالأمين.
روى ابن جرير الطبري عن سيدنا علي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، وفي كل مرة يَحُول الله بيني وبين ما أريد، ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله - عز وجل - بالرسالة؛ فإني قلت ليلةً لغلامٍ من قريش - كان يرعى معي بأعلى مكة -: لو أبصرتَ لي غنمي حتى أدخل مكة فأَسمُر بها كما يَسمُر الشباب، فقال: أفعل، فخرجت أريد ذلك حتى إذا جئتُ أول دار من دور مكة، سمعت عزفًا بالدفوف والمزامير، فجلست أنظر إليهم، فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، قال: فجئت صاحبي، فقال: ما فعلتَ؟ قلتُ: ما صنعتُ شيئًا، ثم أخبرته الخبر، قال: ثم قلت له مرة أخرى مثل ذلك، فقال: أفعل، فخرجت، فسمعت حين جئت مكة، مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة، فجلست أنظر، فضرب الله على أذني؛ فو الله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، ثم ما هممت بعدها بسوء حتى أكرمني الله - عز وجل - برسالته)).
إن الانبياء والرسل، وإن كانوا بشرًا من البشر، ولكن الله يصطفيهم ويختارهم، وهم أفضل أهل الأرض قاطبة؛ أبرُّ الناس قلوبًا، وأقلهم تكلفًا، هم أمناء الله على رسالاته، كلامهم حكمة، سرهم وعلانيتهم سواء، ليس لأحدهم صفحة مطوية وأخرى مكشوفة.
وصدق الله العظيم: ﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [الحج: 75].
إن مهمة الأنبياء الشاقة تحتاج إلى تهيئة وإعداد سابق لها، إن الله - عز وجل - قال لسيدنا موسى - عليه السلام -: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]، وهو الذي قال لسيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ﴾ [الطور: 48 - 49].
رسالة الإسلام:
هذه لقطات تتصل بشخصية الداعية العظيم، الذي اختارته العناية الإلهية ليحمل الأمانة العظمى، وهناك أمر آخر يتصل بالرسالة الإسلامية نفسها؛ فقد شاء الله أن يكون كتابها هو الختام لكل الرسالات، وأن ينقطع الوحي، فلن ينزل من الملأ الأعلى نبأٌ بعدها، وعلى الناس جميعًا أن يستمعوا وأن يؤمنوا بهذا الحق: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].
مجتمع متكامل:
ولقد أقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - المجتمع الإسلامي المتكاملَ على أساسٍ من هذا المنهجِ الرباني الشامل، مجتمعًا يرتبط نظامه الاقتصادي بنظامه السياسي العادل، يحيط بهما القيم الأخلاقية، والكل مشدود، ومرتبط بعقيدة التوحيد، والعدل والرحمة سمتان من سمات هذا المجتمع، والحرية أصل من أصوله، وليس من حق مخلوق أن يَهبها أو يَنْزِعها من الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمارَس على كافة المستويات، هذا المجتمع الإسلامي الأول، كان هدف الفرد فيه الارتقاءَ في إطار المجتمع، حتى إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عُين قاضيًا في أيام الخليفة الأول أبي بكر الصديق، وبعد عام كامل جاء يطلب إعفاءه، ولما سئل عن السبب، قال: لم يتقدم إليَّ أحد بشكوى أو مظلمة، لقد عَرَف كل إنسان في المجتمع المسلم ما عليه فأدَّاه، وعَرَف حقوقه فأخذها؛ ففيمَ يختصم الناس؟
مجتمع عامل مكافح، كانت الزكاة تُجمَع فلا تجد من يأخذها؛ لأن الكل أغناهم الله وأعزهم، ولا يقبلون عونًا من أحد.
مجتمع دستورهُ كتابٌ أنزله الله الذي يعلم ما يُصلِح الفردَ، ويزكي الجماعةَ والأمة، إن القرآن فتح أمام البشر أبوابَ العمل للدنيا والآخرة، وجاء لترقية الروح والجسد، ونهى عن الرَّهْبَنة والقعود.
هذا المجتمع الكريم هو مِلح الأرض، وبغير وجوده يَفسُد طعمُ الحياة، وتصبح لا مذاق لها، وهذا المجتمع يمكن أن يتكرر مرة ومرة، لو صدق العزم، ووُجد الرجال الذين يصدقون فيما عاهدوا الله عليه، ويجاهدون في سبيله؛ حتى تكون كلمة الكفر السفلى، وكلمةُ الله هي العليا.
وحين ننظر اليومَ إلى خريطة البشرية تبدو كما بدتْ قبل مولده - صلى الله عليه وسلم - غارقةً في التيه، وفي ظلمات الضلال، والفساد، والجاهليات، ولكن هناك بشائر النور، ولمعات تبدو من خلال هذا الليل الدامس، تنبئ باقتراب فجر جديد للإسلام، وعلى ضوء هذا الفجر المشرق من بعيد الذي يرى يبشرنا بالأمل.
وما من أحد في هذا الوجود يعلم الغيب في السموات والأرض إلا الله.
ولكنا نستقرئ سنة الله، التي لا تبديل لها ولا تحويل:
• ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص: 5 - 6]، ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21].
• ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ﴾ [النساء: 131 - 133].
نعم هناك أجيال قادمة في الطريق من كل أنحاء الأرض، عائدة إلى خالقها وفاطرها، أجيال ترفع رايةً واحدة خفَّاقة، هي راية الإسلام.
أجيال لا ترضى عن القاعدين والنائمين والمقصرين:
• ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54].