خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/57"> الشيخ ناصر العقل . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/57?sub=34159"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
مصدر تلقي العقيدة عند العقلانيين
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن من أعظم المصائب التي ابتلي بها المسلمون في تاريخ الإسلام، والتي حرفت الكثيرين عن منهج الحق هي تقديس العقل وتعظيمه وإعطاؤه أكثر مما خلق له، والتعويل عليه أكثر مما يطيق، وهذه البلية إنما وفدت على المسلمين بسبب عوامل كثيرة لعل من أخطرها وأهمها: العقائد الموروثة والفلسفات المستوردة التي وفدت على المسلمين عن طريق أهل الكتاب، وعن طريق الزنادقة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا عقائدهم، وأيضاً عن طريق جانب الضعف الذي ابتلي به المسلمون حينما ظنوا أنهم بحاجة إلى علوم الآخرين، فترجموا كتب الفلسفة وعلم الكلام من لغات اليونان وغيرهم إلى اللغة العربية في بداية القرن الثاني الهجري وما تلاه.
هذه بداية الافتتان بالاتجاهات العقلية كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
كما ذكرت لكم في درس سابق أن الأصل الذي يقوم عليه الدين هو التسليم لله تعالى، والتسليم لرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا أخذ معنى الإسلام، فالإسلام هو الاستسلام لله بالطاعة، والانقياد له، والخلوص من الشرك، وعلى هذا يكون معنى الإسلام التسليم لله تعالى بأمور:
أولاً: بالتأله والعبادة والخضوع والذل، وصرف جميع أنواع العبادة له سبحانه وحده.
ثانياً: بتصديق خبره.
ثالثاً: بامتثال أمره واجتناب نهيه.
رابعاً: بالقناعة وباطمئنان القلب بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن من التسليم لله تعالى التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يتم التسليم لله تعالى إلا بالتسليم له؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وهو الذي جاءنا بالحق والهدى والنور.
إذاً: فالتسليم إنما يقوم على التعبد والتصديق وعلى العمل والامتثال، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] أي: تسليم التصديق، وتسليم الامتثال، وتسليم القناعة أيضاً، وبعض الناس قد يصدّق وقد يمتثل، لكن لا تكون عنده قناعة بقضاء الله وقدره وشرعه وأمره ونهيه، فهذا تسليمه ناقص.
إذاً: فنستطيع أن نقول: أساس التسليم: الإيمان بالغيب، والغيب إنما سمي بذلك؛ لأنه غائب عن الناس، غائب عن المدركات وعن العقول، فلا يستطيع بشر ولا مخلوق أن يدرك الغيب، إلا من أطلعه الله عليه، وعلى هذا ممكن أن يرد سؤال عن المقصود بالعقلانيين: من العقلانيون إذا وردوا، خاصة إذا جاء هذا الاصطلاح في مباحث الاعتقاد وأصول الدين؟
العقلانيون هم الذين يقدّسون العقل، ويعتمدون على أفكار البشر وفلسفاتهم وآرائهم، ويقدمونها ويحكمونها في كلام الله تعالى وشرعه، ويقدمونها ويحكمونها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعلون العقل -وهو نتاج البشر- أكثر وأعلى درجة ومنزلة من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يجعلون أقوال البشر وآراءهم أيضاً هي المقدمة وهي المحكّمة على كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام.
أيضاً العقلانيون هم الذين يقحمون العقول فيما لا مجال لها ولا طاقة لها به، فهم يقحمون العقول في أمور التشريع فيما ورد عن الله تعالى وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقحمون العقول أيضاً في أمور الغيب وأخبار الغيب، وليس المقصود بالعقلانيين هم الذين يفكّرون بعقولهم على هدى وبصيرة، أو الذين يستخدمون عقولهم كما أمر الله تعالى! لا، هؤلاء لا يسمون بالعقلانيين، إنما هؤلاء هم الذين على السنة وعلى الحق والهدى، وهم أهل الاقتداء والاهتداء، أما كلمة العقلانيين إذا أُطلقت فتُطلق مقابل أهل السنة والجماعة، وتطلق والمقصود بها الذين يقدّسون العقل ويقحمونه فيما لا طاقة له.
العقلانيون في تاريخ الإسلام أصناف:
أولها وأخطرها -وهم العقلانيون الخلّص-: الفلاسفة، ولا أقصد بذلك الفلاسفة الذين سبقوا المسلمين، لا، أولئك أمرهم واضح؛ لأنهم لم يكونوا على الإسلام أصلاً، إنما أخطر العقلانيين وأنكأهم على الأمة الإسلامية هم الفلاسفة المسمّون بالفلاسفة الإسلاميين، الذين يعلنون الإسلام ويظهرونه، وهم في حقيقة أمرهم إنما يستمدون دينهم من عقولهم ومن فلسفة السابقين لهم، كـابن سينا والفارابي وابن رشد وابن عربي ومن نحا نحوهم.
إذاً: هؤلاء الفلاسفة الخلّص هم أخطر طبقة من العقلانيين؛ لأنهم يخلعون الدين كله، حتى ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته، وأمور الغيب كاليوم الآخر وما فيه، وكالأخبار التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها من أخبار الغيب.. كل ذلك يخضعونه للعقل إخضاعاً خالصاً، ولا يعوّلون فيه على النصوص.
الطبقة الثانية من العقلانيين: المتكلمون، وهم أيضاً لا يقلون خطورة على الفلاسفة لأمور:
الأمر الأول: أن أمر الفلاسفة معروف، وأيضاً اشتهروا بخلاف ما عليه أهل السنة في الاعتقاد والعمل.
الأمر الثاني: أن المتكلمين تكلفوا في خلط نصوص الشرع بأصول الفلاسفة، والأصول العقلية التي كان عليها العقلانيون، أي: أنهم حاولوا التلفيق بين ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وبين زبالة عقول البشر، فبهذا المنهج التلفيقي ظهرت أعظم وأنكى الفرق على المسلمين وأخطر الفرق، ابتداءً من الجهمية وهم أول من تجرأ على أصول الدين بالعقل، خاصة على الأصول الكبرى القطعية المجمع عليها، ثم المعتزلة، ثم ما تفرع عنهم من فرق، وتلاهم بعد ذلك المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية، وإن كانوا أخف وأقل غلواً، لكنهم أقحموا العقول في بعض أصول الدين مما جعلهم ينحرفون عن منهج السلف في هذه الأصول.
أيضاً من العقلانيين: أغلب المتصوفة، وسيأتي في حلقة قادمة الحديث عن منهج المتصوفة، وستسمعون شيئاً من ذلك، وأن أغلب المتصوفة يعتمدون على الهوى والذوق، والذوق إنما هو منهج عقلي ينافي منهج الكتاب والسنة، وينافي التسليم.
هذا في القديم، أما في الحديث فقد ظهرت اتجاهات كثيرة عقلانية خالصة، أو اتجاهات ملفقة تحاول أن تلفق بين دلالات النصوص الشرعية وبين المناهج الفلسفية والعقلية من ناحية، ومن ناحية أخرى بين الدلالات الشرعية وبين النظريات الغربية الحديثة، وهي التي افتتن بها المسلمون أكثر من غيرها.
فهؤلاء أصحاب اتجاهات لا يمكن حصرهم، إنما يجمعهم اتجاه واحد أو وصف واحد، وهو وصفهم بالعلمانيين، فأغلب العلمانيين على هذا الاتجاه.
فالعلمانيون ورثوا أغلب أفكار الفرق القديمة من حيث تسلطهم على الإسلام من ناحية، وعلى نصوصه وشرعه وأحكامه، ومن ناحية أخرى أنهم جعلوا عقولهم وأهواءهم هي الموازين التي يزنون بها الحق من الباطل، ويزنون بها أنماط السلوك والتصرفات في المسلمين.
وأخطر العلمانيين ما يسمون الآن بالحداثيين، والحداثيون هم توجهات واتجاهات مختلفة، لكنهم الورثة الحقيقيون للفرق؛ لذلك نجدهم أكثر الناس إشادة بشذاذ الفكر القدامى، وهم الذين أشادوا برءوس البدع القدامى ولا يزالون يشيدون بهم، كما أنهم يشيدون باتجاهات الفرق كالمعتزلة والجهمية ومن نحا نحوهم؛ لأنهم يرونهم أصحاب الفكر الحر، والفكر المتحرر التجديدي في تاريخ الإسلام.
ستأتي نماذج من خلال العرض التفصيلي لهذه الاتجاهات.
قبل أن أتكلم عن مصدر التلقي عند العقلانيين على التفصيل أحب أن أشير إلى أمر لا بد من الإشارة إليه؛ خوفاً من الالتباس في الفهم، وهذا الأمر هو ما يتعلق بقيمة العقل في الإسلام، بعض الناس ربما يظن أننا إذا تحدثنا عن العقلانيين وعن منهجهم، وقلنا بأن مناهجهم منحرفة ربما يظن أننا بذلك نحجر على العقل الذي خلقه الله وأكرم به الإنسان، لا، ليس المقصود ذلك؛ لأن العقل من أكبر نعم الله تعالى على عباده، بل إنه مناط التكريم والتكليف، فالله تعالى إنما كرم بني آدم بالعقل عن غيرهم من سائر المخلوقات؛ فلذلك منزلته في الإسلام أعظم منزلة، والله سبحانه وتعالى كثيراً ما يشير إلى العقول والألباب والقلوب، ويجعلها مناط التفكير والتبصّر في أمر الله وخلقه وقدره، والتبصر في أمر الهداية والضلال، لكن العقل له وظيفته وله مجاله، فالله سبحانه وتعالى حينما خلق الخلق وميزهم بالعقول جعل لهذه العقول وظيفة كبرى وعظمى، بل جعل من وظائف العقل ما هو كفيل بكده وإتعابه إلى أن تقوم الساعة، وإليكم بيان ذلك:
أولاً: أناط الله سبحانه وتعالى أمر الاجتهاد في النصوص الشرعية واستنباط الأحكام منها على ضوء مستجدات الحياة بالعقول.
والحياة كل يوم فيها مستجدات، والله كلفنا أن نستنبط الأحكام ونحل المشكلات من نصوص الشرع من الكتاب والسنة بعقولنا، فلذلك نجد أن مجال الاجتهاد لا يزال مجالاً واسعاً رحباً لم تف به عقول العباقرة حتى الآن، بل نجد أن المسلمين مقصّرون كل التقصير في استنباط الأحكام من نصوص الشرع في مستجدات الحياة.
إذاً: المسلمون بل وجميع البشر إلى الآن ما وظفوا عقولهم الوظيفة الكافية فيما كلفهم الله به، فَلِمَ يتطّلعون إلى ما لا يطيقون؟
ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى كلف العقول وأصحابها بعمارة الأرض واستعمارها بكل وسيلة مباحة.
وعمارة الأرض واكتشاف كنوزها وأسرارها، والنظر في خلق الله تعالى، وفي ملكوت السماوات والأرض، والتفكر الذي يؤدي إلى توحيد الله تعالى وتعظيمه والخضوع له وعبادته، كل هذا لا يتم إلا بكد العقول، فهذه وظيفة كبرى للعقول لم تف بها كاملة إلى الآن.
إذاً: فالعقل لا يزال مقصراً في هذا الجانب، فَلِمَ يتطلع العقل إلى ما لا يطيق؟ لِمَ يتطلع إلى أمر الغيب والغيب محجوب؟ لم يتطلع إلى أن يقول في التشريع، والتشريع إنما جاء به الله سبحانه وتعالى، والله أعلم بشئون عباده من خلقه؟
ثالثاً: من مجالات العقول التفكّر والنظر في حكم التشريع.
حِكَم التشريع لا نهاية لها، أو لا يمكن الوصول إلى غايتها على الإطلاق، لكن مع ذلك لا مانع للإنسان من أن يتفكر بعقله في حِكَم بعض التشريع؛ ليزداد إيماناً.
رابعاً: من وظائف العقل التمييز بين الخير والشر، وبين النافع والضار في الجملة.
فعلى هذا يكون العقل من أعظم الوسائل التي ترشد الناس إلى الخير وإلى الفضيلة، والتي بها يحققون الاجتهاد على هدي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الوظائف للعقل وظائف كبرى وعظمى تغنيه عن أن يتطلع إلى ما لا يطيق.
إذاً: فكف العقل عن الخلط في الغيب ليس هجراً له إنما هو إشفاق عليه، فالله سبحانه وتعالى أشفق على عقول عباده حينما أخبرنا ببعض أمور الغيب التي لنا فيها مصلحة، وحجب عنا الكثير، فما أخبر الله به من أمور الغيب نؤمن به ونسلم، ولا نتطلع إلى تفصيلاته؛ لأننا لو عرفناه ما صار غيباً، والله سبحانه وتعالى امتدح الذين يؤمنون بالغيب، بل جعل قاعدة الدين والهداية هي الإيمان بالغيب: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:1-3] فالخوض في الغيب ينافي الإيمان به؛ لأن الإيمان بالغيب يعني: التسليم بأن خبر الله صدق وحق، وإذا حاول الإنسان أن يخوض في الغيب فإنه غير مسلم بكلام الله ولا بخبره، إنما يكون مشككاً، والتشكيك في الغالب يهدم الدين والإيمان.
ينبغي أن نعلم أن العقل عقلان: عقل هداية، وعقل معيشة.
أما عقل الهداية فيهبه الله تعالى لمن يشاء من عباده، ولا يمكن لأحد من الناس أن يكسب عقل الهداية بمجرد عبقريته أو ذكائه، ولا يمكن لأحد من الناس أن يكون مدركاً لأمر الهداية والرشد إذا لم يهد الله قلبه للإسلام.
فهذا العقل يهبه الله لمن يشاء، وهو منحة من الله.
أما العقل الآخر: فهو عقل المعيشة، فهذا لدى جميع الناس، لا فرق بين مؤمن وكافر، كل الناس فيهم عقول معيشة، لكن الكفار يفقدون عقول الهداية، والمسلمون وهبهم الله عقول الهداية التي بها يتفكرون في أمر الله وخلقه، ويهتدون إلى عبادته، ويسترشدون إلى الخير والهدى والصلاح على ما يرضي الله سبحانه وتعالى.
هذا الفارق نجده في سلوك الناس، وفي بعض النماذج التي ممكن أن تكون فيها عبرة، ولو استعرضنا أحوال بعض الصحابة كـعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان آية في الذكاء والعقل، لكن قبل أن يهديه الله للإسلام جعله عقله المعيشي يغفل عن بدهيات الخير والفضيلة، فكان يأخذ التمر ويصنع منه صنماً ويعبده ثم إذا جاع أكله، فكان بعد إسلامه يضحك على نفسه: كيف كان يفعل ذلك؟ لم يهده عقله العبقري عقل المعيشة إلى الخير والهدى، وكذلك تعرفون قصته رضي الله عنه حينما دفن ابنته في الجاهلية، فحين كان يحفر لها كانت تعبث بلحيته وتقول: يا أبي يا أبي، ومع ذلك لم يرق قلبه وإنما دفنها حية خوف العار، أنفعه عقل المعيشة؟ لم ينفعه؛ لأن الله لم يهده، لكن لما اهتدى عمر بن الخطاب كان آية، بل كان هو الفاروق بين الحق والباطل، ونصر الله به الإسلام، وأعز به الشرع والدين، حينما وهبه الله عقل الهداية.
ومثالاً آخر أيضاً فيه لنا عبرة وعظة: الآن نجد من البشر من هم من أكبر الناس عقولاً وذكاءً، ومع ذلك يقعون في أخس التصرفات التي يشمئز منها كل ذي فطرة سليمة، خذوا مثلاً: الهنود، فالهنود الآن الذين لم يسلموا من أكبر الناس عقولاً وحكمة، بل يُضرب المثل في حكمتهم، ومع ذلك يعبدون أخس المخلوقات؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يهبهم عقول هداية، ما نفعتهم عقولهم، يعبدون الفرج، ويعبدون القرد، ويعبدون البقر.. وغير ذلك من المعبودات الخسيسة.
فمن عبد غير الله فليس بعاقل عقل هداية، فكيف من عبد أخس المخلوقات؟
إذاً: عقل الهداية لا يأتي بالذكاء ولا بالعبقرية، ولا يأتي بعلوم الدنيا، ولا يأتي بأي كسب من أنواع الكسب الدنيوية، إنما هو هداية من الله سبحانه وتعالى، وهذا الميزان هو الذي نستطيع أن نزن به أحوال الناس اليوم، الذين يعقلون والذين لا يعقلون، فأكثر الناس الذين يريدون أن تشيع الفاحشة، ويريدون أن يروجوا للضلالة بين الناس يستعملون بعض العقليات وبعض الحجج العقلية، وهؤلاء عموا عن الحق، أعميت بصائرهم عن الحق.
بدأت النزعات العقلية في تاريخ الإسلام بالتدرج، كانت في أولها مجرد نزعات يسيرة فردية، ثم تحولت إلى فرق، وهي الفرق الهالكة، كالتي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) وذكر أن كلها هالكة إلا واحدة، والفرق التي هلكت كلها بالاتجاه العقلاني استعملت أهواءها وعقولها، وتركت منهج السلف في الاستدلال، وتركت الاهتداء بكلام الله تعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم فهلكت، لكن قبل أن تكون الفرق كانت هناك نزعات فردية، أولها ما حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس له أثر في الدين، إنما فيه عبرة من حال المنافقين وأهل الكتاب والمشركين، فالمنافقون والمشركون وأهل الكتاب مع كون القرآن يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحتجون على الشرع بعقولهم، وعلى القدر بعقولهم، لم يهتدوا؛ لأن الله سبحانه وتعالى كتب عليهم الضلالة، ثم بعد ذلك ظهرت نوازع فردية من بعض الناس، كالرجل الذي اعترض على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين، وهو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون أصل الخوارج، قال صلى الله عليه وسلم: (سيخرج من ضئضئ هذا الرجل أناس يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) فالخوارج خرجوا بأهوائهم على المسلمين، وكبعض الأشخاص الذين ظهروا في عهد عمر بن الخطاب مثل: صبيغ بن عسل التميمي الذي بدأ يضرب بعقله آيات الله بعضها ببعض، آيات القدر، فكان يفسّر الآيات ويقول: هذا يكون وهذا لا يكون، هذا كيف يصير؟ وهذا كيف لا يصير؟ فذكر أمره عند عمر بن الخطاب فجاء به، فأدرك أن فيه شكاً وريباً، وأنه بدأ يستعمل عقله في أمر القدر وأمر الغيب والشرع الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فأدرك أنه مريض القلب والعقل، فضربه عمر بالدرة حتى أدمى رأسه، وقال: كفى يا عمر أتريد أن تقتلني؟ أجد ما في رأسي قد ذهب، وعزله عمر عن الناس سنة كاملة لا يتحدث إليهم ولا يتحدثون إليه؛ لأنه عقلاني يعترض على الدين بعقله، وبذلك تأدب الناس في عهد عمر .
ثم بدأت أيضاً نزعات أخرى في عهد صغار الصحابة: نزعات الأهواء، وكانوا يسمون أصحاب القدر، الذين يعترضون على القدر جبراً أو اختياراً ويتكلمون فيه، وكان الصحابة يسمونهم: أهل الرأي وأهل القياس، ولا يقصدون بذلك قياس الشرع القياس الفقهي، قياس حكم على حكم أو قضية على قضية، إنما كانوا يقيسون الأمور الغيبية بالأمور المشاهدة، وهذا خطأ، فسماهم الصحابة: أهل القياس.
وقال علي رضي الله عنه حينما رأى بعض الذين يتكلمون في الدين برأيهم كأهل الأهواء والخوارج والرافضة وغيرهم، قال: لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من مسح أعلاه. يعني: أن الدين ليس بالرأي، الدين شرعه الله سبحانه وتعالى، وعلينا أن نمتثل أمر الله تعالى ولا نقول: هذا يصلح وهذا لا يصلح.
ظهرت رءوس البدع بعد ذلك، وهم الأشخاص الذين أخذوا يتكلمون بالبدع علناً، أولهم: ابن السوداء وهو اليهودي الذي كاد للإسلام، وأسس دين الشيعة الرافضة الذين هم عليه إلى اليوم، وكان من أول من جهر بالاعتراض على الدين بعقله ورأيه، كان يقول مثلاً: لا يمكن أن يترك الله النبوة بلا وريث، وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أبناء إذاً فوريثه في النبوة صهره وابن عمه علي .
وكان يقول لما مات علي : لا يعقل أن المعصوم يموت! كيف يموت علي ؟ لا أبداً، إنما علي رُفع وسيرجع مرة أخرى.. وهكذا.
كان يقول هذا الكلام عند أناس سُذّج دخلوا الإسلام قريباً ولم يتفقهوا في الدين، فأصبح يروج بينهم هذه المقولات العقلانية حتى صارت ديناً يقتدى به إلى اليوم عند الرافضة، ثم ظهر معبد الجهني وغيلان الدمشقي وأكثر كلامهم كان في القدر، ثم ظهر الجعد بن درهم وهو من رءوس البدع، وبدأ يتكلم في القرآن، وقال: القرآن ليس منزل، والقرآن مخلوق، والله لا يتكلم.
وقال: لا يُعقل أن الله يتخذ إبراهيم خليلاً، وقال: لا يُعقل أن الله كلّم موسى تكليماً، هكذا بهواه لم يسلم لكلام الله تعالى.
وقال: لا يُعقل أن الله تكلم بالقرآن، وقال: إن الإنسان مجبور وليس له حرية ولا إرادة، إن عمل الخير فهو أصلاً عامل للخير سواء اختار أو لم يختار، فجاءت قضية إلغاء التكاليف بعد ذلك.
فلما بدأ يعلن أفكاره العقلانية وقف أمامه السلف وناظروه واستتابوه فلم يتب، فحكموا بردته بإجماع، حتى قتله أحد ولاة المسلمين يوم عيد الأضحى، وقال حينما انتهى من خطبته: ضحوا تقبّل الله ضحاياكم فإني مضح بـالجعد بن درهم ؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، فقتله، وبذلك انقمعت البدعة عشرات السنين، وهكذا دائماً إذا أُقيم حداً لله حفاظاً على دين الله، فإن الدين يُنصر بالرعب، متى ما أُقيم حد غيرة على دين الله تعالى وعلى شرعه، فإن الله سبحانه وتعالى ينصر الدين بهذا الحد، ويكف الله عن المسلمين كثيراً من الشرور بهذه الحدود، وكما تعلمون أيضاً يتنزل الخير والغيث بتطبيق الحدود.
وبعد قتل الجعد بن درهم انقمعت فتن المتكلمين والعقلانيين مدة من الزمن، حتى ظهر الجهم بن صفوان وزاد على كلام سلفه الجعد بأمور، ومنها: إنكار الرؤية، قال: لا يُعقل أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة. إذاً: فما تقول في كلام الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]؟ وما تقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سترون ربكم عياناً)؟ قال: العقل مقدّم ومعصوم عندي. هذا مبدؤه ومبدأ من جاء من بعده.
ثم أيضاً تكلم في الجنة والنار وقال: لا يمكن أن الجنة والنار تدومان أبداً، قال هذا بعقله، فقيل له: لماذا؟ قال: لا يُعقل هذا فقط، ما عنده دليل، قاس الأمور بعقل المعيشة، لم يوفقه الله لعقل الهداية الذي يسلم لله تعالى، والذي يعلم أن الله على كل شيء قدير.
كل هذه الأمور مربوطة بخبر الله تعالى وبقدرته، وخبر الله صدق وحق، وقدرته لا نهاية لها.
ثم جاء واصل بن عطاء أيضاً واعترض بمجرد عقله على مسألة مرتكب الكبيرة، وذلك عندما كان للحسن البصري رحمه الله درس، وكان يقرر مسألة مرتكب الكبيرة: هل هو مخلّد في النار أو لا؟ وسئل، فقال: مرتكب الكبيرة في الدنيا فاسق بمعصيته مؤمن بإيمانه، وفي الآخرة أمره إلى الله، إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له، وإن عُذِّب فستشمله شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال واصل بن عطاء : لا، هذا لا يُعقل. هذا هو أسلوب العقلانيين حتى الآن، تجد اعتراضهم على الشرع وعلى الدين بهذه الصورة: لا، هذا لا يمكن، هذا لا يُعقل.
فقيل لـواصل : ما تقول؟ قال: أقول: مرتكب الكبيرة كافر في الدنيا مخلد في النار يوم القيامة، فماذا يقول في أحاديث الشفاعة التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقد ثبتت أحاديث قطعية متواترة أن شفاعته تشمل جميع الموحدين من أمته مرتكبي الكبائر وغيرهم، لكنه لا يبالي بالسنة؛ لأن عقله هو المقدم، فأسس مذهباً اسمه: مذهب المعتزلة، كما أسس قبله الجهم بن صفوان مذهب اسمه: مذهب الجهمية.
لم يكتف العقلانيون بمسائل صغيرة من الدين، بل حكّموا عقولهم في أمور غيبية كبرى لا طاقة للعقل بها، فأنكر الجهمية أسماء الله وصفاته بعقولهم، قالوا: عقولنا لا تعقل أن يكون لله أسماء وصفات، فأنكر المعتزلة صفات الله، وقالوا: عقولنا لا تؤمن بأن لله صفات، هكذا بدون دليل، فلو استدلوا بالكتاب والسنة لوجدوا دلالتهما على أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، لكنهم لا يعوّلون على النصوص، بل عقولهم مُحكّّمة.
ثم بعد ذلك تلت الفرق وانفتحت على المسلمين، ولم ينته القرن الثالث الهجري إلا وقد تبيّنت أصول الفرق، فرفضت الرافضة، واعتزلت المعتزلة، وتجهمت الجهمية، وخرجت الخوارج، وتكلمت المتكلمة بغير هدى ولا حق، وظهرت الفرق على شكلها المعروف، وكلها باتجاه عقلاني تأخذ بموازين الأهواء والعقول وترفض الشرع إذا تعارض مع عقولهم، فتراهم يأخذون من الدين ما يحلو لهم وما يوافق أصولهم العقلية، وما لا يوافق أصولهم العقلية إما أن ينكرونه إنكاراً كالجهمية، وإما أن يؤولوه كالمعتزلة والمتكلمين الذين جاءوا فيما بعد.
فكان السلف يطلقون على هؤلاء جميعاً: أهل الأهواء، ويطلقون عليهم اسم: المبتدعة أو: أهل البدع، ويطلقون عليهم: أهل القياس والرأي، يعني: في أصول الدين لا في الفقه.
مصادر العقلانيين تتلخص فيما يلي:
الاعتماد على العقل
المصدر الأول: الاعتماد على العقل وهو أخطرها، بمعنى جعل الأفكار والآراء والأهواء العقلانية هي المعتبرة وهي المقدمة على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي المحكمة أيضاً، فإذا اشتبه عليهم أمر من أمور الدين فالحكم ليس هو قال الله وقال رسوله، لا، الحكم هو العقل!
إن المقارنة بين العقل وبين كلام الله تعالى ليست طيبة؛ لأنه لا مقارنة بينهما، فكلام الله هو الحق والصدق، والله سبحانه وتعالى هو العليم الخبير وهو الكامل له الكمال المطلق، أيقارن بنتاج العقل؟ العقل عقل البشر، والبشر ناقص، والبشر يعتريه السهو والخطأ والنسيان والخلل والضلال والوساوس والشكوك، فكيف يكون عقله هو المُحكَّم؟ لكن -نسأل الله العافية- انطمست فطرهم، وزالت عقولهم عقول الهداية، فأصبحوا يجعلون العقل هو المقدّس، مع أن هذا لا يتأتى من أبسط الناس الذي ليس عنده عمق في التفكير، فلو قلت له: ما رأيك أيهما نصدّق ونكذّب ما في عقلك أو كلام الله وكلام رسوله؟ سيضحك عليك ويقول لك: هذا الكلام لا داعي له، وربما يقول: هذا كفر، كيف تقول لي هذا الكلام؟ ومع ذلك ضل العقلانيون وانتكست عندهم المفاهيم، حتى ظنوا أن كلامهم وأقوالهم أقدس من كلام الله ومن أقوال الله.
إذاً: الاعتماد المطلق على العقل عندهم هو القاعدة، والعقل هو المُحكَّم، فلذلك فرّعوا على هذه القاعدة المنكوسة تفريعات منكوسة، فقالوا مثلاً: دلالة النقل والشرع ظنية، من قال: إنها ظنية؟ أكلام الله ظني؟ هذا نابع عن تصورهم للقرآن حينما قالوا بأن القرآن مخلوق، وحينما قالوا بأن القرآن إنما عبّر عنه بشر، فتجرءوا على أن يقولوا في القرآن وفي كلام الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، فقالوا: دلالة النقل والشرع ظنية، ودلالة العقل قطعية، كيف تكون دلالة العقل قطعية؟ لو نسأل أحد هؤلاء العقلانيين عن عقله: أتدري ما عقلك؟ ما يدري ما عقله، هذا العقل الذي يستخدمه سلاحاً ضد الحق لو نقول له: أين عقلك؟ لقال: والله ما أدري أين عقلي، ولو نقول له: كيف تفكّر أنت؟ لقال: والله ما أعرف كيف أفكّر، وأين روحك؟ والله ما أدري أين روحي، على أي شكل تكون الروح؟ والله ما أدري، إذاً: إذا كنت لا تدري عن نفسك يا مسكين ولا تدري عن عقلك ولا أين عقلك ولا كيف تفكّر، فكيف تقول: العقل قطعي والنقل ظني؟ إنها الضلالة، نسأل الله العافية.
فالإنسان إذا قُدّرت له الضلالة انتكست مفاهيمه، وكما قلت لكم: لو كانت العقول والعبقرية تنفع والذكاء ينفع لما وجدنا الهندي قبل أن يخرج إلى عمله الرسمي، وربما يكون في مقاييس الناس عالم ذرة قبل أن يذهب إلى المعمل يسجد لبقرة منتنة، ثم يذهب ليشتغل في محل عمله، وتجده إذا مر من عند بقرة بالسيارة في الشارع وقف، ولو حتى أدى هذا إلى الحادث تقديساً للبقرة، نسأل الله العافية! أهذا نفعه عقله؟
إذاً: إذا كان النقل بزعمهم ظني والعقل قطعي، وتعارض ما في أذهانهم مع كلام الله ورسوله فالمقدم ما في أذهانهم، كذا زعموا.
فمن هنا انتكست كل علومهم وكل أحكامهم، وجاءوا بما خالف منهج السلف وعقيدتهم، ووقعوا في أمور كبرى في الدين أخرجتهم عن السنة والجماعة، بل أخرجت بعضهم عن الدين، فأنكروا أسماء الله وصفاته بعقولهم.
نحن نقول: إن الله سبحانه وتعالى له أسماء وصفات في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نؤمن بها كما جاءت على ما يليق بجلال الله سبحانه، لكن العقلانيون لم يسلموا، وقالوا: لا، نحن عقولنا لا تؤمن بهذا، فأنكروا الأسماء والصفات، وبعضهم لم ينكر الأسماء والصفات وإنما أولها، ومعنى التأويل أن يقول: أنا لا أفهم قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فلابد أن أؤولها، مع أن هذا كلام الله عن نفسه، والله سبحانه وتعالى يستوي على العرش استواء يليق بجلاله لا نعلم كيفيته؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فهو سبحانه وتعالى ليس مثل مخلوقاته ولا مخلوقاته مثله، ولا يتوهم ولا يخطر على البال أن نتصور لله صورة أو هيئة، وما نتصوره في أذهاننا ليس هو الله، وليس هو من صفات الله؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فهم عكسوا القضية فجعلوا ما في أذهانهم هو الصفة، فلذلك أولوا الصفة، هذا بناء على هذه القاعدة، ثم تجرءوا على إنكار الرؤية، فقالوا: أن المؤمنين لا يرون ربهم في الجنة يوم القيامة، لماذا؟ قالوا: لا يُعقل هذا.
وأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، بل أنكروا شفاعات الأنبياء والمؤمنين والصالحين، وأنكروا الشفاعات التي ستحدث يوم القيامة بعد إذن الله ورضاه، قالوا: لا شفاعة؛ لأنه لا يُعقل أن الذي يدخل النار يخرج منها، ينبغي أن يأخذ جزاءه إلى الأبد، كل ذلك بعقولهم فقط.
ثم اعترضوا على دين الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور كثيرة، صار ميزانهم عقولهم، ما حلا لهم من التشريع والأحكام والعقائد أخذوا به، وما لا يحلو لهم ردوه، ولذلك هم لا يتورعون عن تكذيب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءتهم شبه من الشيطان، فالشيطان دائماً يدخل على أوليائه بمداخل ليس فيها مصادمة مباشرة للحق؛ بل فيها لبس الحق بالباطل، أو لبس المعقولات بغير المعقولات، فقال لهم الشيطان بأن الذين رووا السنة بشر، وهم الصحابة، والبشر قد يخطئون، فانطلت عليهم هذه الشبه، فقالوا: إذاً: السنة لعلها تكون صحيحة، فلما قيل لهم: إن رؤية المؤمنين ربهم في الجنة ثبت في أحاديث عن أكثر من ثلاثين صحابياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لا، الصحابة بشر! مع أننا نعلم قطعاً أن الدين إنما نُقل لنا عن طريق الصحابة، والصحابة كلهم عدول ثقات بالضرورة الدينية؛ لأن الله سبحانه وتعالى تكفّل بحفظ دينه، وهذا يعني: أنه لا بد أن يكون الذين نقلوا الدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم العدول الثقات، وإلا نكون قد أدخلنا الشك في الدين كله، كما دخل الشك على الرافضة، فالرافضة حينما طعنوا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم الشيطان بعد ذلك وقال لهم: ما دام الصحابة كفروا وارتدوا وطعنتم فيهم فلماذا تأخذون الدين عنهم؟ فرفض الرافضة أخذ الدين عنهم، وأخذوا بالدين الذي وضعه لهم الوضّاعون، وهذه هي البلية والشبهة العقلانية التي دخلت من خلال العقلانيين.
ثم تكلموا بعقولهم في جميع أمور الغيب، تكلموا في كلام الله تعالى، وفي الوحي، وفي القرآن، وفي السنة، وفي الصحابة، وفي النبوة، وفي أصول الدين جميعاً، وفي الأحكام الشرعية جملة وتفصيلاً، وحينما انفتح باب العقلانية تجرأت الفرق على الدين كله قديماً وحديثاً.
تقديس آراء الرجال
المصدر الثاني عند العقلانيين هو متفرع عن المصدر الأول، لكن له بعض الخصائص، وهو تقديس آراء الرجال وكلام الزعماء والمقدسين فيهم، وتقديمهم على كلام الله وكلام رسوله.
فأهل الفرق وأهل الهوى إلى الآن إذا جاءتهم آية من كلام الله أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما يقول بعضهم: نعم هذا حق، لكن لابد أن أرجع إلى رأي الزعيم فلان أو الشيخ فلان ماذا يقول في الآية أو في الحديث؟ أو لابد أن يرجع إلى القواعد والمناهج التي وضعها الزعماء والرؤساء الذين يرجع إليهم، فمثلاً: أصحاب الطرق الصوفية إذا جاءتهم آية أو حديث يرجعون إلى الولي وإلى شيخ الطريقة ماذا يقول في الآية والحديث؟
والمعتزلة إذا جاءتهم آية أو حديث رجعوا إلى قول النظام أو المريسي أو القاضي عبد الجبار أو نحوهم ليروا ماذا يقولون؟ فإن كان قولهم يوافق الكتاب والسنة أخذوا به، وإن عارض الكتاب والسنة ردّوا نصوص الكتاب والسنة، هذا منهجهم، يعني: تقديم آراء الرجال، ولا يزال هذا المنهج في العقلانيين من العلمانيين والحداثيين حتى الآن، يأخذون من النصوص والأصول الشرعية ما يوافق القواعد والاتجاهات التي هم عليها، وما يعارضها إما يصرفون النظر عنه، أو يقولون فيه قولاً يؤدي إلى الرد.
أيضاً هناك مصادر مشتركة بين العقلانيين القدامى والمحدثين، وهناك مصادر انفتحت على المسلمين أخيراً وهي مصادر جديدة يأخذ بها العقلانيون، ولم يتوصل إليها القدامى، وهي زيادة في الضلالة.
الأهواء والأمزجة
المصدر الثالث: الأهواء والأمزجة والرغبات الشخصية، أغلب العقلانيين إنما دينهم هواهم، خاصة فيما يتعلق بالأحكام الشرعية، أحكام الحلال والحرام، وأغلب الأمور العملية في الشرع إنما ميزانهم فيها الأهواء، ما يهوونه يعملون به ويأخذون به، وما لا يهوونه يردونه بوسائل الرد التي ردوا بها أمور العقائد، وهذه دعوى شيطانية عند من يروجون المحرمات، وهذه البلية مع الأسف بدأت تظهر جلياً بين المسلمين الآن، بمعنى أن الناس أصبحوا يجعلون الدين خاضعاً لأهوائهم ورغباتهم، ويخضعون نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف لما يهوونه وما يرغبونه، وما لا يهوونه ولا يرغبونه يردونه بأي صارف من الصوارف التي يرفضون بها النص، ونجد الآن هذا الاتجاه ظاهراً في الصحف وأجهزة الإعلام، وفي كثير من التوجهات والاتجاهات المعاصرة، فهم يعوّلون على رغبات الناس، فحين تشيع فاحشة من الفواحش أو تصرف خاطئ من التصرفات يقولون: هذه رغبات الناس، وهذا ما يهواه الناس وما يريدونه، فيجعلون رغبات الناس والأهواء هي الميزان، والله سبحانه وتعالى يقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116] والناس لو استفتوا لهلكوا وأهلكوا، فلذلك الآن كثيراً من العلمانيين والحداثيين يضربون على هذا الوتر، يقولون مثلاً: من الضروري الخروج عن التقاليد، فهم يسمون أحكام الشرع: تقاليد، هذه مسألة ينبغي أن تفهموها، ويسمون أحكام الشرع بما يتعلق بتعدد الزوجات وقوامة الرجل، وما يتعلق بالحشمة والفضيلة والسلوك الحسن والسنن، وحتى ما يتعلق بالسنن العملية كإعفاء اللحى والسواك.. يسمونها: عادات وتقاليد.
ويقولون: الآن تطور الناس وأغلبهم يرفض العادات والتقاليد، ويجعلون رغبات الناس وأهواءهم ميزاناً؛ ولذلك يضربون على هذا الوتر ويضغطون على المجتمع، بل حتى ويضغطون على المؤسسات الرسمية، يقولون: لماذا نحجر رغبات الناس؟ إلى متى الكبس؟
هذا من أعظم مصادر العقلانيين وهو الضغط من خلال الأهواء، ودفع الناس إلى الشر؛ لأنهم يهوونه، وكما تعلمون أن أهواء الناس ليست مصدراً للتشريع أبداً، بل العكس التشريع في الغالب يصرف الناس إلى الخير، وإن لم يهووه، ويصد الناس عن الشر وعما فيه مضرتهم، وإن لم يهووا ذلك.
ومن خلال هذا الاتجاه أصبح أصحاب هذه التوجهات الشيطانية يسلكون مسلكاً خطيراً، حيث أضفوا الآن على اتجاهاتهم ورغباتهم مسحة من الدين، فقالوا: الدين لا يحجر على حريات الناس، الدين يأخذ برغبات الناس، يأخذ بالرأي الغالب، وأخذوا يستدلون من النصوص بما يوافق أهواءهم، وعلى منهج الزنادقة قديماً الذين أخذوا بمثل قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] يأخذون بجزء من النص أو بالنص الذي يريدونه ويقولون: هذا كلام الله، مع أن أصول الاستدلال كما تعرفون عند أهل السنة والجماعة: أنهم يوازنون بين النصوص، النصوص كثيرة، والنصوص فيها الناسخ والمنسوخ، وفيها المطلق والمقيد، وفيها الخاص والعام، والنصوص أيضاً لا بد في استنباطها من رد بعضها إلى بعض، ولا يمكن أن نأخذ نصاً وحده ونقف عنده، لا؛ لذلك الله سبحانه وتعالى أرشد المسلمين إلى أن يأخذوا الدين عن أهل الذكر الذين يحيطون بنصوص الكتاب والسنة وقواعد الاستدلال ولغة العرب، فلا يجوز لأي إنسان أن يأخذ أي دليل ويقول: هذا دليلي، لا؛ لأن الاستدلال له منهج سليم عند أهل السنة، وهو المنهج المستقيم والطريق المستقيم الذي هو الوسط لا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير، وهذا لا يمكن أن يهتدي إليه أي إنسان بمجرد أن يأخذ النصوص من القرآن والسنة، لا، بل لا بد من الإلمام بأصول الاستدلال، وهذا لا يدركه إلا أهل الفقه في الدين، لكن الآن العقلانيون يخبطون في هذا المسلك، ولا يبالون بقواعد الاستدلال وقواعد الشرع، يأخذون من النصوص ما يعجبهم، وأكثر الناس يُفتن من خلال الجرائد والمجلات في هذه المسألة، يسمع بالدليل ويقرؤه ويظن أن هذا هو الحق، وما يدري أن هذه من شبه الشيطان وأعوانه؛ لصد الناس عن دين الله.
والله سبحانه وتعالى نبّهنا إلى هؤلاء في آيات كثيرة، منها: قوله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان:43].
وقوله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
وقوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50].
وقوله تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71].
الفلسفة
المصدر الرابع من مصادر العقلانيين قديماً وحديثاً: الفلسفة، الفلسفة بمعناها القديم والحديث، وهي تعني: الكلام في أمور الغيب بغير علم، وهذا الكلام يسمونه: إلهيات، أو ما وراء الطبيعة، والكلام فيما عدا عالم الشهادة هو بمجرد الظن، ولا يمكن أن يتكلم الإنسان في الغيب إلا بظن، بل هو الظن السيئ، وهو الكلام السيئ؛ لأنه لا يمكن أن يطّلع على الغيب إلا من أطلعه الله من نبي، وبما بيّن الله لنا من أمور الغيب، ما عدا ذلك لا يمكن الكلام فيه.
فإذاً: الفلسفة إنما هي الكلام في أمور الغيب بغير دليل ولا برهان.
مصادر العقلانيين الرئيسية قديماً وحديثاً هي الفلسفة، بل ما يسمونه بالمعقولات والقواعد العقلية إنما هي قواعد الفلاسفة، ترجموها وحولوها وأعطوها بعض الصياغات والمعاني التي تقرب من أذهان الناس وسموها: أدلة وبراهين، وما هي إلا فلسفة لا تستند إلى أي برهان ولا دليل لا عقلي ولا ذهني ولا حسي؛ لذلك الفلسفة هي من أضر العلوم على البشر قديماً وحديثاً؛ لأنها خوض بالغيب بغير دليل، بخلاف العلم التجريدي فهو يفيد، فإن استخدم فيما ينفع الناس وعلى هدي القرآن والسنة فهو خير كله، وإن لم يستخدم وفق ذلك صار شر وسيلة ضارة.
دراسات المستشرقين
المصدر الخامس من مصادر العقلانيين المحدثين: دراسات المستشرقين.
المستشرقون: هم طائفة من أهل الكتاب ومن الملاحدة الغربيين، تسلطوا على التاريخ الإسلامي وعلى التراث الإسلامي إن صح التعبير، يعني: تسلّطوا على دراسة الإسلام من منظورهم هم، فخرجت عنهم نظريات خطيرة، صارت هذه النظريات في العصر الحديث مصدراً لأغلب الدراسات التي بنيت عليها أكثر مصالح المسلمين في السياسة والاقتصاد والاجتماع.. وغيرها، بمعنى أن أغلب بلاد المسلمين في العصر الحديث -خاصة التي دخلها الاستعمار- بُنيت على مناهج المستشرقين، سواء في التعليم أو الإعلام أو الاقتصاد.. أو في غيرها.
وأيضاً أمر آخر أن أكثر الذين تعلموا من أبناء المسلمين تعلموا على النظريات الاستشراقية، فالذين درسوا في الغرب أغلبهم تتلمذوا على المستشرقين وعلى أفكارهم الخبيثة الهدّامة، وجاءوا بها وكأنهم من الفاتحين.
المصدر الأول: الاعتماد على العقل وهو أخطرها، بمعنى جعل الأفكار والآراء والأهواء العقلانية هي المعتبرة وهي المقدمة على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي المحكمة أيضاً، فإذا اشتبه عليهم أمر من أمور الدين فالحكم ليس هو قال الله وقال رسوله، لا، الحكم هو العقل!
إن المقارنة بين العقل وبين كلام الله تعالى ليست طيبة؛ لأنه لا مقارنة بينهما، فكلام الله هو الحق والصدق، والله سبحانه وتعالى هو العليم الخبير وهو الكامل له الكمال المطلق، أيقارن بنتاج العقل؟ العقل عقل البشر، والبشر ناقص، والبشر يعتريه السهو والخطأ والنسيان والخلل والضلال والوساوس والشكوك، فكيف يكون عقله هو المُحكَّم؟ لكن -نسأل الله العافية- انطمست فطرهم، وزالت عقولهم عقول الهداية، فأصبحوا يجعلون العقل هو المقدّس، مع أن هذا لا يتأتى من أبسط الناس الذي ليس عنده عمق في التفكير، فلو قلت له: ما رأيك أيهما نصدّق ونكذّب ما في عقلك أو كلام الله وكلام رسوله؟ سيضحك عليك ويقول لك: هذا الكلام لا داعي له، وربما يقول: هذا كفر، كيف تقول لي هذا الكلام؟ ومع ذلك ضل العقلانيون وانتكست عندهم المفاهيم، حتى ظنوا أن كلامهم وأقوالهم أقدس من كلام الله ومن أقوال الله.
إذاً: الاعتماد المطلق على العقل عندهم هو القاعدة، والعقل هو المُحكَّم، فلذلك فرّعوا على هذه القاعدة المنكوسة تفريعات منكوسة، فقالوا مثلاً: دلالة النقل والشرع ظنية، من قال: إنها ظنية؟ أكلام الله ظني؟ هذا نابع عن تصورهم للقرآن حينما قالوا بأن القرآن مخلوق، وحينما قالوا بأن القرآن إنما عبّر عنه بشر، فتجرءوا على أن يقولوا في القرآن وفي كلام الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، فقالوا: دلالة النقل والشرع ظنية، ودلالة العقل قطعية، كيف تكون دلالة العقل قطعية؟ لو نسأل أحد هؤلاء العقلانيين عن عقله: أتدري ما عقلك؟ ما يدري ما عقله، هذا العقل الذي يستخدمه سلاحاً ضد الحق لو نقول له: أين عقلك؟ لقال: والله ما أدري أين عقلي، ولو نقول له: كيف تفكّر أنت؟ لقال: والله ما أعرف كيف أفكّر، وأين روحك؟ والله ما أدري أين روحي، على أي شكل تكون الروح؟ والله ما أدري، إذاً: إذا كنت لا تدري عن نفسك يا مسكين ولا تدري عن عقلك ولا أين عقلك ولا كيف تفكّر، فكيف تقول: العقل قطعي والنقل ظني؟ إنها الضلالة، نسأل الله العافية.
فالإنسان إذا قُدّرت له الضلالة انتكست مفاهيمه، وكما قلت لكم: لو كانت العقول والعبقرية تنفع والذكاء ينفع لما وجدنا الهندي قبل أن يخرج إلى عمله الرسمي، وربما يكون في مقاييس الناس عالم ذرة قبل أن يذهب إلى المعمل يسجد لبقرة منتنة، ثم يذهب ليشتغل في محل عمله، وتجده إذا مر من عند بقرة بالسيارة في الشارع وقف، ولو حتى أدى هذا إلى الحادث تقديساً للبقرة، نسأل الله العافية! أهذا نفعه عقله؟
إذاً: إذا كان النقل بزعمهم ظني والعقل قطعي، وتعارض ما في أذهانهم مع كلام الله ورسوله فالمقدم ما في أذهانهم، كذا زعموا.
فمن هنا انتكست كل علومهم وكل أحكامهم، وجاءوا بما خالف منهج السلف وعقيدتهم، ووقعوا في أمور كبرى في الدين أخرجتهم عن السنة والجماعة، بل أخرجت بعضهم عن الدين، فأنكروا أسماء الله وصفاته بعقولهم.
نحن نقول: إن الله سبحانه وتعالى له أسماء وصفات في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نؤمن بها كما جاءت على ما يليق بجلال الله سبحانه، لكن العقلانيون لم يسلموا، وقالوا: لا، نحن عقولنا لا تؤمن بهذا، فأنكروا الأسماء والصفات، وبعضهم لم ينكر الأسماء والصفات وإنما أولها، ومعنى التأويل أن يقول: أنا لا أفهم قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فلابد أن أؤولها، مع أن هذا كلام الله عن نفسه، والله سبحانه وتعالى يستوي على العرش استواء يليق بجلاله لا نعلم كيفيته؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فهو سبحانه وتعالى ليس مثل مخلوقاته ولا مخلوقاته مثله، ولا يتوهم ولا يخطر على البال أن نتصور لله صورة أو هيئة، وما نتصوره في أذهاننا ليس هو الله، وليس هو من صفات الله؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فهم عكسوا القضية فجعلوا ما في أذهانهم هو الصفة، فلذلك أولوا الصفة، هذا بناء على هذه القاعدة، ثم تجرءوا على إنكار الرؤية، فقالوا: أن المؤمنين لا يرون ربهم في الجنة يوم القيامة، لماذا؟ قالوا: لا يُعقل هذا.
وأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، بل أنكروا شفاعات الأنبياء والمؤمنين والصالحين، وأنكروا الشفاعات التي ستحدث يوم القيامة بعد إذن الله ورضاه، قالوا: لا شفاعة؛ لأنه لا يُعقل أن الذي يدخل النار يخرج منها، ينبغي أن يأخذ جزاءه إلى الأبد، كل ذلك بعقولهم فقط.
ثم اعترضوا على دين الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور كثيرة، صار ميزانهم عقولهم، ما حلا لهم من التشريع والأحكام والعقائد أخذوا به، وما لا يحلو لهم ردوه، ولذلك هم لا يتورعون عن تكذيب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءتهم شبه من الشيطان، فالشيطان دائماً يدخل على أوليائه بمداخل ليس فيها مصادمة مباشرة للحق؛ بل فيها لبس الحق بالباطل، أو لبس المعقولات بغير المعقولات، فقال لهم الشيطان بأن الذين رووا السنة بشر، وهم الصحابة، والبشر قد يخطئون، فانطلت عليهم هذه الشبه، فقالوا: إذاً: السنة لعلها تكون صحيحة، فلما قيل لهم: إن رؤية المؤمنين ربهم في الجنة ثبت في أحاديث عن أكثر من ثلاثين صحابياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لا، الصحابة بشر! مع أننا نعلم قطعاً أن الدين إنما نُقل لنا عن طريق الصحابة، والصحابة كلهم عدول ثقات بالضرورة الدينية؛ لأن الله سبحانه وتعالى تكفّل بحفظ دينه، وهذا يعني: أنه لا بد أن يكون الذين نقلوا الدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم العدول الثقات، وإلا نكون قد أدخلنا الشك في الدين كله، كما دخل الشك على الرافضة، فالرافضة حينما طعنوا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم الشيطان بعد ذلك وقال لهم: ما دام الصحابة كفروا وارتدوا وطعنتم فيهم فلماذا تأخذون الدين عنهم؟ فرفض الرافضة أخذ الدين عنهم، وأخذوا بالدين الذي وضعه لهم الوضّاعون، وهذه هي البلية والشبهة العقلانية التي دخلت من خلال العقلانيين.
ثم تكلموا بعقولهم في جميع أمور الغيب، تكلموا في كلام الله تعالى، وفي الوحي، وفي القرآن، وفي السنة، وفي الصحابة، وفي النبوة، وفي أصول الدين جميعاً، وفي الأحكام الشرعية جملة وتفصيلاً، وحينما انفتح باب العقلانية تجرأت الفرق على الدين كله قديماً وحديثاً.
المصدر الثاني عند العقلانيين هو متفرع عن المصدر الأول، لكن له بعض الخصائص، وهو تقديس آراء الرجال وكلام الزعماء والمقدسين فيهم، وتقديمهم على كلام الله وكلام رسوله.
فأهل الفرق وأهل الهوى إلى الآن إذا جاءتهم آية من كلام الله أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما يقول بعضهم: نعم هذا حق، لكن لابد أن أرجع إلى رأي الزعيم فلان أو الشيخ فلان ماذا يقول في الآية أو في الحديث؟ أو لابد أن يرجع إلى القواعد والمناهج التي وضعها الزعماء والرؤساء الذين يرجع إليهم، فمثلاً: أصحاب الطرق الصوفية إذا جاءتهم آية أو حديث يرجعون إلى الولي وإلى شيخ الطريقة ماذا يقول في الآية والحديث؟
والمعتزلة إذا جاءتهم آية أو حديث رجعوا إلى قول النظام أو المريسي أو القاضي عبد الجبار أو نحوهم ليروا ماذا يقولون؟ فإن كان قولهم يوافق الكتاب والسنة أخذوا به، وإن عارض الكتاب والسنة ردّوا نصوص الكتاب والسنة، هذا منهجهم، يعني: تقديم آراء الرجال، ولا يزال هذا المنهج في العقلانيين من العلمانيين والحداثيين حتى الآن، يأخذون من النصوص والأصول الشرعية ما يوافق القواعد والاتجاهات التي هم عليها، وما يعارضها إما يصرفون النظر عنه، أو يقولون فيه قولاً يؤدي إلى الرد.
أيضاً هناك مصادر مشتركة بين العقلانيين القدامى والمحدثين، وهناك مصادر انفتحت على المسلمين أخيراً وهي مصادر جديدة يأخذ بها العقلانيون، ولم يتوصل إليها القدامى، وهي زيادة في الضلالة.
المصدر الثالث: الأهواء والأمزجة والرغبات الشخصية، أغلب العقلانيين إنما دينهم هواهم، خاصة فيما يتعلق بالأحكام الشرعية، أحكام الحلال والحرام، وأغلب الأمور العملية في الشرع إنما ميزانهم فيها الأهواء، ما يهوونه يعملون به ويأخذون به، وما لا يهوونه يردونه بوسائل الرد التي ردوا بها أمور العقائد، وهذه دعوى شيطانية عند من يروجون المحرمات، وهذه البلية مع الأسف بدأت تظهر جلياً بين المسلمين الآن، بمعنى أن الناس أصبحوا يجعلون الدين خاضعاً لأهوائهم ورغباتهم، ويخضعون نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف لما يهوونه وما يرغبونه، وما لا يهوونه ولا يرغبونه يردونه بأي صارف من الصوارف التي يرفضون بها النص، ونجد الآن هذا الاتجاه ظاهراً في الصحف وأجهزة الإعلام، وفي كثير من التوجهات والاتجاهات المعاصرة، فهم يعوّلون على رغبات الناس، فحين تشيع فاحشة من الفواحش أو تصرف خاطئ من التصرفات يقولون: هذه رغبات الناس، وهذا ما يهواه الناس وما يريدونه، فيجعلون رغبات الناس والأهواء هي الميزان، والله سبحانه وتعالى يقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116] والناس لو استفتوا لهلكوا وأهلكوا، فلذلك الآن كثيراً من العلمانيين والحداثيين يضربون على هذا الوتر، يقولون مثلاً: من الضروري الخروج عن التقاليد، فهم يسمون أحكام الشرع: تقاليد، هذه مسألة ينبغي أن تفهموها، ويسمون أحكام الشرع بما يتعلق بتعدد الزوجات وقوامة الرجل، وما يتعلق بالحشمة والفضيلة والسلوك الحسن والسنن، وحتى ما يتعلق بالسنن العملية كإعفاء اللحى والسواك.. يسمونها: عادات وتقاليد.
ويقولون: الآن تطور الناس وأغلبهم يرفض العادات والتقاليد، ويجعلون رغبات الناس وأهواءهم ميزاناً؛ ولذلك يضربون على هذا الوتر ويضغطون على المجتمع، بل حتى ويضغطون على المؤسسات الرسمية، يقولون: لماذا نحجر رغبات الناس؟ إلى متى الكبس؟
هذا من أعظم مصادر العقلانيين وهو الضغط من خلال الأهواء، ودفع الناس إلى الشر؛ لأنهم يهوونه، وكما تعلمون أن أهواء الناس ليست مصدراً للتشريع أبداً، بل العكس التشريع في الغالب يصرف الناس إلى الخير، وإن لم يهووه، ويصد الناس عن الشر وعما فيه مضرتهم، وإن لم يهووا ذلك.
ومن خلال هذا الاتجاه أصبح أصحاب هذه التوجهات الشيطانية يسلكون مسلكاً خطيراً، حيث أضفوا الآن على اتجاهاتهم ورغباتهم مسحة من الدين، فقالوا: الدين لا يحجر على حريات الناس، الدين يأخذ برغبات الناس، يأخذ بالرأي الغالب، وأخذوا يستدلون من النصوص بما يوافق أهواءهم، وعلى منهج الزنادقة قديماً الذين أخذوا بمثل قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] يأخذون بجزء من النص أو بالنص الذي يريدونه ويقولون: هذا كلام الله، مع أن أصول الاستدلال كما تعرفون عند أهل السنة والجماعة: أنهم يوازنون بين النصوص، النصوص كثيرة، والنصوص فيها الناسخ والمنسوخ، وفيها المطلق والمقيد، وفيها الخاص والعام، والنصوص أيضاً لا بد في استنباطها من رد بعضها إلى بعض، ولا يمكن أن نأخذ نصاً وحده ونقف عنده، لا؛ لذلك الله سبحانه وتعالى أرشد المسلمين إلى أن يأخذوا الدين عن أهل الذكر الذين يحيطون بنصوص الكتاب والسنة وقواعد الاستدلال ولغة العرب، فلا يجوز لأي إنسان أن يأخذ أي دليل ويقول: هذا دليلي، لا؛ لأن الاستدلال له منهج سليم عند أهل السنة، وهو المنهج المستقيم والطريق المستقيم الذي هو الوسط لا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير، وهذا لا يمكن أن يهتدي إليه أي إنسان بمجرد أن يأخذ النصوص من القرآن والسنة، لا، بل لا بد من الإلمام بأصول الاستدلال، وهذا لا يدركه إلا أهل الفقه في الدين، لكن الآن العقلانيون يخبطون في هذا المسلك، ولا يبالون بقواعد الاستدلال وقواعد الشرع، يأخذون من النصوص ما يعجبهم، وأكثر الناس يُفتن من خلال الجرائد والمجلات في هذه المسألة، يسمع بالدليل ويقرؤه ويظن أن هذا هو الحق، وما يدري أن هذه من شبه الشيطان وأعوانه؛ لصد الناس عن دين الله.
والله سبحانه وتعالى نبّهنا إلى هؤلاء في آيات كثيرة، منها: قوله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان:43].
وقوله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
وقوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50].
وقوله تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71].