شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والثلاثون


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله:

[عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر حديث حسن، رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين].

هذا الحديث يعتبر أساساً وأصلاً في علم القضاء، والحديث مع إيجازه يبين واقع العدالة والإنصاف في الإسلام، وأن كل دعوى ليس عليها بينة فهي مرفوضة.

وقوله: (لو يعطى) يقولون في علم العربية: (لو) حرف امتناع لوجود (لو يعطى الناس بدعواهم) الدعوى بألف مقصورة، والدعوة بالتاء، والفرق بينهما: أن الدعوى المقصورة هي الادعاء والتقاضي، والدعوة بالتاء: هي الدعوة إلى الوليمة ونحوها.

الدعوى تجمع على دعاوى، والدعوة للطعام تجمع على دعوات.

يبين صلى الله عليه وسلم أنه لولا البينة ولولا العدالة، وأنه لا يعطى كل إنسان ما ادعاه؛ لتقدم أناس بالدعوى في أموال أشخاص ودمائهم أي: كل يدعي ما يشاء، وليس الأمر كذلك، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر.

يقول علماء العربية: (لكن) للاستدراك، ودائماً تأتي بين نفي وإثبات، تقول: ما جاء زيد لكن جاء عمر ، ما جاء زيد صباحاً ولكن جاء مساءً، وهنا كذلك واقعة موقعها؛ لأن المعنى لا يعطى الناس كل ما ادعوه، وإنما يعطون بمقتضى البينة، فوقعت (لكن) بين النفي والإثبات في المعنى.

أما ألفاظه فقوله: (لو يعطى الناس بدعواهم) أي: فيما يدعون به، (لادعى رجال)، وهل الحديث خاص بالرجال فقط دون النساء أو أن النساء كذلك؟

الجواب: النساء داخلة فيه كذلك، ولكن ذكر الرجال هنا للتغليظ؛ ؛لأن أكثر ما تكون الدعاوى بين الرجال.

(لادعى رجال أموال قوم ودماءهم)، هنا جاء لفظ القوم بعد لفظ الرجال، فهل القوم هم الرجال أم أن كلمة القوم تعم الرجال والنساء معاً؟

يقولون في العربية: لفظ القوم خاص بالرجال ولا يدخل فيه النساء، واستدلوا بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [الحجرات:11]، قالوا: لو أن كلمة (قوم) تشمل الجنسين لكانت تكفي عن إعادة ذكر النساء، واستدلوا بقول الشاعر:

وما أدري ولست أخال أدري أقوم آل حصن أم نساء

فقابل بين النساء وبين القوم.

واستدل الآخرون بألفاظ وردت تدل على أن القوم يشمل الرجال والنساء معاً، ولكن قالوا: يشمله بقرينة التكليف في الشرع.

وقوله صلى الله عليه وسلم: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي- جاء لفظ الحديث باسم الفاعل- واليمين على من أنكر كان مقتضى السياق واليمين على المنكر، لكن قال في الأول: (البينة على المدعي)، واليمين على من يقابل المدعي بالإنكار.

نرجع إلى قوله: (ولكن البينة) ما هي البينة؟

ابن القيم رحمه الله له كتاب نفيس جداً في هذا الباب وهو: الطرق الحكمية، وينبغي لطالب العلم أن يقرأ هذا الكتاب ولو لم يكن قاضياً، ولكن من باب العلم.

البينة مأخوذة من البيان، والبينة كل ما يبين الحق ويفصله عن الباطل، وليست قاصرةً على الشهود أو الإقرار فقط، فقد تكون قرينة من القرائن أقوى من مائة شاهد، وقد يتواطأ الشهود على شهادة الزور، وقد يقر الإنسان إقراراً غير واقع، ومن هنا ندعو جميعاً للقضاة: أن ينور الله بصائرهم، ويريهم الحق حقاً، ويرزقهم اتباعه؛ لأن الأمر دقيق جداً، وفي القرآن الكريم والسنة اعتبار القرائن، ومن ذلك ما يلي:

قصة يوسف وما وقع فيها من قرائن معتبرة

في كتاب الله قصة نبي الله يوسف، ونحن نعلم القضية بكاملها، ولما حصل له الاتهام والسجن برأه الله بما أيده به من القرائن، ومنها: أن شهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت، فمجرد شق القميص قرينة على الذي بدأ بالمراودة.

وقبل هذا كانت هناك قرينة كاذبة قابلتها قرينة أقوى منها، وذلك أن إخوة يوسف ألقوه في غيابت الجب، وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ [يوسف:16-17]سبحان الله العظيم! بكاء.. وجاءوا على قميصه بدم كذب ليخبروا أباهم بأن الدم قرينة على أن الذئب أكله، لكن أباهم كان أفقه منهم، فأخذ القميص ونظر فيه فرأى فيه الدم، ولكن فات عليهم أن يمزقوا القميص وقال: يا سبحان الله! متى كان هذا الذئب حليماً كيساً يأكل يوسف ولا يشق قميصه؟! فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:18]، فهم وضعوا في القميص دماً كذباً، وما كان عندهم مختبرات في ذاك الوقت لتحلل هذا الدم، ليروا هل هو دم شاة أم دم إنسان؟ لأنه بإجماع الطب أن دم الإنسان لا يتفق مع أي حيوان من الحيوانات الأخرى، ولا دم حيوان مع أي حيوان آخر، وهذه من حكمة المولى سبحانه، بل دماء البشر مختلفة فيما بينهم، وفيها فصائل مختلفة، وما كل إنسان دمه يتفق مع دم الآخر.

قصة المرأتين اللتين ذهب الذئب بابن أحدهما

من تاريخ الأمم والأنبياء ما يرويه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: (أن امرأتين ولد لكل واحدة منهما ولد، فغفلتا عن ولديهما، فجاء الذئب وخطف واحداً من الولدين، فاختلفتا في الولد الموجود، وكل واحدة منهما تدعيه لنفسها، فجاءتا إلى نبي الله داود، وسمع منهما، فحكم به للكبرى، فمرتا على سليمان، فسألهما عن خبرهما، فقالت: هذا ولدي حكم به داود لهذه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما نصفين، فقالت الصغرى: لا تفعل، هو لها، ولا تشق الولد، فانتزعه من الكبرى ودفعه إلى الصغرى)؛ فالكبرى لم تمنع من شقه؛ لأنها وترت في ولدها وتريد أن توتر الأخرى مثلها، ولما رأى شفقة الصغرى من أن يشق الولد نصفين واختيارها أن يبقى حياً في يد الغير أولى من أن يكون ميتاً، فعرف من قرينة عاطفة الأم أن الولد لها، وعرف من تساهل الأخرى أنها لا تبالي، فانتزعه من الكبرى، ودفعه للصغرى.

عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالقرائن مع حُيي بن أخطب وغيره

أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير إلى خيبر، وبعد سنة أو سنتين حاصر النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، وجاء حُيي بن أخطب وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل إليه ليكلمه، وفاوضه على الصلح بأن يخرجوا، وليس معهم إلا الثياب التي يلبسونها، ويتركون السلاح والمال والحيوان وكل شيء بشرط ألا يخونوا المسلمين، وإذا خانوا برئت منهم ذمة الله ورسوله، فوافقوا على هذا الشرط، فلما خرجوا سأل رسول الله حُيي بن أخطب عن الذهب، وكان قد خرج من المدينة عند الإجلاء بجلد ثور مليء بالذهب والحلي، فقال: الذهب فني، وأكلته الحروب، فقال صلى الله عليه وسلم: (العهد قريب، والمال كثير)، يعني: المال كثير، وهذا الوقت القصير لا يأكل هذا المال الكثير، فمعنى هذا أنهم أخفوا المال، فأنكر فدفعه إلى الزبير فمسه بعذاب، وقيل: جاءت امرأة إلى الزبير وقالت: كنت أرى حُيياً يحوم حول تلك الخربة، فذهبوا إلى تلك الخربة، وفتشوا فيها، فوجدوا الذهب مدفوناً هناك، ويقولون في نظام التحقيق والمباحث: المجرم يحوم حول مكان الجريمة، فيراقبون مكانها، ولابد أن يدفعه أمر بدون شعور إلى أن يذهب إلى محل الجريمة ليرى فيها، فجيء به وضربت عنقه.

يهمنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم (العهد قريب، والمال كثير) فهذه قرينة على أن المال لم يصرف، بل هو باق، وهم قد جحدوا المال، ثم تبين أنه موجود.

من أخبار القضاة

يذكر وكيع -صاحب أخبار القضاة- من فراسة القضاة ما يحار فيه العقل، ومما ذكر عن بعض القضاة أنه جاءه اثنان، فقال أحدهما: كنا في سفر، ونزلنا المنزل الفلاني، وأودعته مالاً، فلما جئنا أنكر المال، فراجعته فيما أودعته إياه ليحمله معه فإذا به ينكر، فسأله القاضي: هل لك بينة؟ قال: ليس عندي بينة، فقال له القاضي: لعلك نسيته في المكان الذي أودعته إياه، وذهب ولم يأخذه! قال: لا أنا متأكد أنه أخذه، وذهبنا والمال معه، فقال القاضي للمدعى عليه: اجلس، وقال للمدعي: اذهب إلى ذاك المكان، وفتش تحت الشجرة التي نمت عندها، وانظر لعلك تجد المال هناك، فذهب بناءً على أمر القاضي، واشتغل القاضي بقضايا الناس عنده، وبعد فترة فاجأ المدعى عليه وقال: صاحبك تأخر، ألم يكن قد وصل حتى الآن؟ فقال: لا، المحل بعيد، فقال: إذاً: أنت تعرف المكان! وحصل بينكما ما حصل، فسلمه للشرطة، وحكم عليه بدفع المال. ويقولون: الإنسان إذا شاور اكتسب عقلاً إلى عقله، وإذا قرأ اكتسب عقلاً إلى عقله.

ما وقع للشيخ من قضايا وعمل فيها بالقرائن

وللمناسبة، رفعت إليَّ قضية أربعة غير سعوديين، ادعى أحدهم على شخص منهم بخمسة وثمانين ألف ريال -والقضية طويلة، وانظروا -يا إخواني- ما يعانيه القاضي-، وفيها اعتراف وتوقيع فلان، وكتابته: تكلفت بدفع مبلغ كذا.. لفلان، هو موقع، ويشهد عليه اثنان، والشهود كانوا غير موجودين، فالمدعى عليه أنكر وقال: هذا أنا لا أعرفه، وهذا ليس اسمي، وأخرج إقامة له فيها اسم غير الاسم المكتوب في السند، لو كنتم كلكم قضاة ماذا تقولون؟ ادعى على إنسان، واسم الإنسان ليس موجوداً، وهذا الشخص يحمل إقامة رسمية باسم غير الاسم الموجود في السند، ويقول: هذا الشخص عمري ما رأيته ولا أعرفه، فهل بقي للقاضي شيء بعد هذا يا جماعة؟! ما بقي له شيء، إلا أن الله يحق الحق، فقلت: أخبرني -يا فلان- كيف كتب هذا السند؟ وكيف كتب باسم غيره؟ فضحك شخص، فقلت: لماذا تضحك؟! وراء هذا شيء! فقال: اسمه الحقيقي هو الذي في السند، وسُفر سابقاً وجاء إلى المحل الفلاني، ودخل بهذا الاسم الجديد الذي في الإقامة، وهذه جريمة ثانية! قلت: وهل تعرفه؟ قال: أعرفه من كذا.. سنة، ونحن بالمملكة يعرف بعضنا بعضاً، قلت: يا فلان! ماذا تقول؟ قال: أبداً. لا أعرفه.

وبعد أن تركت القضية وجلسنا جلسة ثانية، والشهود لم يأتوا، وهذا الرجل في السجن، وتجري -قدراً من الله- مناقشة فيما بينهم في كتب السند، فإذا بهم يسكتون، فسألت المنكر- سؤالاً مباغتاً: أين كتب هذا السند في الرياض أو في المدينة؟ فالذي كان يقول: لا أعرف، وليس هذا اسمي قال: كتب هذا السند في المدينة.

إذاً: السند صحيح، فأراد أن يتراجع، ولكن قد أنطقه الله بالحق، ثم اعترف وقال: نحن أربعة التزمنا بالمال، فلماذا يدعي عليّ وحدي ويترك البقية؟

فهذا القاضي لما اختصم إليه اثنان، وليس عند المدعي بينة، هل قال: ليس لك عنده شيء، واحلف أنت أيها المنكر؟! لأنه إذا كان عنده استعداد أن يأكل مال الناس فما الذي يمنعه من أن يحلف؟ ولذا ابن القيم يقول: من حصر البينة على شاهدي عدل ربما أضاع حقوق الناس.

وكذلك من اعتمد على مجرد الفراسة ربما ظلم الناس، والفراسة تخطئ وتصيب، وإقامة البينة على الدعوى ليس مبدأً في كتاب الله وسنة رسوله فحسب، ولكن رب العزة سبحانه يعامل عباده بالبينة والإقرار قال سبحانه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وقال: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، فرب العزة لا يخفى عليه شيء، وإذا حكم لا معقب لحكمه، ولكن يأتي العبد يوم القيامة فيقول: ربي! لم أفعل هذا! قال سبحانه: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65]؛ لأن الكافر ينكر، فإذا أنكر وكذّّب الملائكة ينطق الله جوارحه، كما قال الله: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21].

إذاً: كان رب العزة وهو سبحانه هو القائل عن نفسه: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، ولا تخفى عليه خافية، وهو مع ذلك يعامل الناس بالبينة، فيجب على القضاة أن يحكموا بالبينة.

قصة الجارية التي رض يهودي رأسها بين حجرين

الرسول صلى الله عليه وسلم جاءته قضية وهي مشهورة عند العلماء في باب الجنايات، وهي أن جارية وجدت وقد رُضّ رأسها بين حجرين، فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لها: (من فعل بك هذا؟ وهي لا تتكلم؛ لأنها في حالة لا تسمح لها بالنطق، فأخذوا يعرضون عليها: فلان! فلان! فلان! حتى نطقوا باسم شخص يهودي، فأومأت برأسها: أي نعم)، فهذه قرينة على حصر الدعوى في فلان.

يقول مالك : التدمية لوثٌ، فإذا وجد إنسان يتشحط في دمه، وسئل: من فعل بك هذا؟ وقال: فلان، فـمالك يعتبر هذا لوثاً، ويبني عليه القسامة، والآخرون يقولون: كيف نأخذ قول إنسان على خصمه؟ فنقول: هذا شخص في آخر لحظات من الدنيا، وأول قدومه على الآخرة، فالأصل أن يرجو فضل الله، ويتجنب الكذب والظلم، فمظنة الصدق منه موجودة.

ويهمنا في هذه القضية أن اليهودي وجد جارية عليها ذهب وحلي، فأخذها إلى خربة وأخذ الحلي ورضَّ رأسها بين حجرين.

ونقف وقفة ونقول: يا أصحاب الذهب والفضة والأموال! لا تقتلوا صبيانكم بأن تضعوا عليهم من الذهب ما يزيد عن الحاجة.

فالطفلة الصغيرة يكفيها شيء يسير جداً تفرح به؛ لأن الذهب أغرى ذاك اليهودي على قتلها، فأهلها شاركوا في قتلها، ومثل هذا تجد ولداً عمره اثنتا عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة، يشتري له أبوه سيارة، ويذهب الولد بدون رخصة فرحاً بالسيارة يلعب بها، ثم يرتكب حادثاً، فمن الذي تسبب في هذا الحادث؟ الذي تسبب هو أبوه، ولو مات الولد في الحادث فأبوه هو الذي ساعد على قتله؛ لأنه أعطاه شيئاً ليس كفؤاً له.

وتلك الجارية عرض عليها أسماء أشخاص من أصحاب السوابق، ولم يعرضوا عليها أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، بل عرضوا عليها من هم مظنة لهذا العمل.

إذاً: السوابق لها أثر، وصحيفة السوابق عند الشرطة لها أثر في التحقيق الجنائي، ولما قالت: فلان، هل بمجرد ادعائها أُخذ بذلك مع أنه يهودي؟ لا، وإنما جيء به فاعترف، فرضَّ رأسه بين حجرين، أي: عومل بمثل ما فعل بالجارية، ولو قتلها بسلاح لقتل به.

ويهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأخذ اليهودي بادعاء الجارية، وإن كان يهودياً فله حق الدفاع عن النفس، فلما أقرَّ أخذ بإقراره، وكان من الممكن أن ينزل وحي على رسول الله بذلك، ولكن لو جاء وحي إلى رسول الله فسيكون الحكم بمقتضى علم رسول الله، والقاضي لا يحكم بعلمه أبداً.

فرب العزة لا يخفى عليه شيء، وهو لا يحكم على العبد بعلمه حتى يقيم البينة عليه، مع أنه لا تخفى عليه خافية.

وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لو جاءه الوحي وأخبره فمن للقضاة بعد ذلك، وهم لا يأتيهم وحي؟

ولذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة : (إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر! أقضي نحو ما أسمع، فلعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر، فمن أقطعت له شيئاً من حق أخيه فإنما أقتطع له قطعةً من النار ) سبحان الله العظيم! أقضي لكم على نحو ما أسمع.

فإذا جاء رجل يدعي على شخص آخر، والقاضي يعلم القضية، فينبغي على القاضي أن يقول للمدعي: لا تحتكم إليَّ، وتحاكم عند غيري، وادعني للشهادة، أما أن أكون شاهداً وقاضياً فلا يمكن؛ لأن القاضي لا يحكم بعلمه، ولو حكم بعلمه فسيقول المدعى عليه: القاضي والخصم عليَّ، لكن يذهب إلى القاضي، ويبحث عن شهود آخرين غير القاضي.

وفي هذا الباب جُعلت البينة على المدعي؛ لأن القاضي لا يحكم بعلمه، ولابد من تقديم البينة وإقامة ما يبين الحق، وهل البينة مجرد الشهود أو كل ما يبين الحق؟

يجوز للقاضي أن يحكم بالقرائن إذا اطمأن للقرائن، يقول ابن القيم : قد تكون القرينة أقوى من عدة شهود.

وقد وجدنا في كتاب الله أن القرينة قد تبطل بقرينة أقوى منها، فقرينة الدم في قميص يوسف بطلت بقرينة سلامة القميص.

إذاً: المسألة مسألة إقامة أدلة على صدق الدعوى، وإعمال القرائن لها منزلة كبيرة في الشرع، حتى لا تضيع حقوق الناس.

في كتاب الله قصة نبي الله يوسف، ونحن نعلم القضية بكاملها، ولما حصل له الاتهام والسجن برأه الله بما أيده به من القرائن، ومنها: أن شهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت، فمجرد شق القميص قرينة على الذي بدأ بالمراودة.

وقبل هذا كانت هناك قرينة كاذبة قابلتها قرينة أقوى منها، وذلك أن إخوة يوسف ألقوه في غيابت الجب، وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ [يوسف:16-17]سبحان الله العظيم! بكاء.. وجاءوا على قميصه بدم كذب ليخبروا أباهم بأن الدم قرينة على أن الذئب أكله، لكن أباهم كان أفقه منهم، فأخذ القميص ونظر فيه فرأى فيه الدم، ولكن فات عليهم أن يمزقوا القميص وقال: يا سبحان الله! متى كان هذا الذئب حليماً كيساً يأكل يوسف ولا يشق قميصه؟! فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:18]، فهم وضعوا في القميص دماً كذباً، وما كان عندهم مختبرات في ذاك الوقت لتحلل هذا الدم، ليروا هل هو دم شاة أم دم إنسان؟ لأنه بإجماع الطب أن دم الإنسان لا يتفق مع أي حيوان من الحيوانات الأخرى، ولا دم حيوان مع أي حيوان آخر، وهذه من حكمة المولى سبحانه، بل دماء البشر مختلفة فيما بينهم، وفيها فصائل مختلفة، وما كل إنسان دمه يتفق مع دم الآخر.

من تاريخ الأمم والأنبياء ما يرويه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: (أن امرأتين ولد لكل واحدة منهما ولد، فغفلتا عن ولديهما، فجاء الذئب وخطف واحداً من الولدين، فاختلفتا في الولد الموجود، وكل واحدة منهما تدعيه لنفسها، فجاءتا إلى نبي الله داود، وسمع منهما، فحكم به للكبرى، فمرتا على سليمان، فسألهما عن خبرهما، فقالت: هذا ولدي حكم به داود لهذه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما نصفين، فقالت الصغرى: لا تفعل، هو لها، ولا تشق الولد، فانتزعه من الكبرى ودفعه إلى الصغرى)؛ فالكبرى لم تمنع من شقه؛ لأنها وترت في ولدها وتريد أن توتر الأخرى مثلها، ولما رأى شفقة الصغرى من أن يشق الولد نصفين واختيارها أن يبقى حياً في يد الغير أولى من أن يكون ميتاً، فعرف من قرينة عاطفة الأم أن الولد لها، وعرف من تساهل الأخرى أنها لا تبالي، فانتزعه من الكبرى، ودفعه للصغرى.

أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير إلى خيبر، وبعد سنة أو سنتين حاصر النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، وجاء حُيي بن أخطب وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل إليه ليكلمه، وفاوضه على الصلح بأن يخرجوا، وليس معهم إلا الثياب التي يلبسونها، ويتركون السلاح والمال والحيوان وكل شيء بشرط ألا يخونوا المسلمين، وإذا خانوا برئت منهم ذمة الله ورسوله، فوافقوا على هذا الشرط، فلما خرجوا سأل رسول الله حُيي بن أخطب عن الذهب، وكان قد خرج من المدينة عند الإجلاء بجلد ثور مليء بالذهب والحلي، فقال: الذهب فني، وأكلته الحروب، فقال صلى الله عليه وسلم: (العهد قريب، والمال كثير)، يعني: المال كثير، وهذا الوقت القصير لا يأكل هذا المال الكثير، فمعنى هذا أنهم أخفوا المال، فأنكر فدفعه إلى الزبير فمسه بعذاب، وقيل: جاءت امرأة إلى الزبير وقالت: كنت أرى حُيياً يحوم حول تلك الخربة، فذهبوا إلى تلك الخربة، وفتشوا فيها، فوجدوا الذهب مدفوناً هناك، ويقولون في نظام التحقيق والمباحث: المجرم يحوم حول مكان الجريمة، فيراقبون مكانها، ولابد أن يدفعه أمر بدون شعور إلى أن يذهب إلى محل الجريمة ليرى فيها، فجيء به وضربت عنقه.

يهمنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم (العهد قريب، والمال كثير) فهذه قرينة على أن المال لم يصرف، بل هو باق، وهم قد جحدوا المال، ثم تبين أنه موجود.