الحرمان
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
للأستاذ علي الطنطاوي
كتب الأديب المكي الغيور السيد أحمد علي، في الرسالة السابعة والخمسين: (يظهر الأسف الزائد إذ لم تقع عينه - وهو يراجع
الفهرس للسنة الأولى، ويتتبع أعداد الثانية، على أسم كاتب حجازي، يكون قد اشترك مع إخوانه وزملائه المعاصرين في الأدب، على صفحات هذه الصحيفة الغراء. ويؤمل من مديرها المفضال الأستاذ الزيات، إذا أراد، أن يشيد بذكر أبناء الرافدين والنهرين، ألا ينسى الحرمين، كذلك) فأحببنا أن نلحق بكلمته هذه الكلمة: ألم يشد أستاذنا الزيات بذكر الحرمين يا سيد أحمد علي؟ فما هو إذن عدد الهجرة الممتاز، وما هي تلك المقالات الإسلامية العربية؟ أما إن الرسالة إذا نظرت إلى أمر، فإنما تنظر إليه نظرة سامية فيها حكمة وفيها جلال، ولا يعنيها من (الحرمين) أخبار دائرة الصحة، ورسوم الحج، ولكن يعنيها حياة محمد (ص) وظهور الإسلام، وعظمة الفتوح، وجلال حكومة الراشدين؛ ولا يهمها من (النيربين) تنظيم الميزانية، ومناقشات المجلس البلدي، ولكن يهمها تاريخ بني أمية، وسعة الفتوح، وعز العروبة؛ ولا تحفل من (الرافدين) بقرارات الغرفة التجارية، وأخبار الجند، ولكن تحفل بحضارة الإسلام، ومجد المنصور والمأمون، ونهضة العلوم والفنون. وتحفل بعد هذا كله، بالصورة المشرقة الوضاءة، صورة هذا الماضي الجليل، حين تظهر في صفحة الأمل الجميل، ذلك لأنها (تصور مظاهر العبقرية للأمة العربية) ولأنها ليست جريدة يومية أخبارية. فهل تراها بعد.
لم تشد بذكر الحرمين؟ وهل نسي أستاذنا الزيات الحرمين يا سيد أحمد علي؟ وهل يستطيع مسلم واحد على وجه الأرض أن ينسى الحرمين، وهو يستقبل الحرم خمس مرات كل يوم؟ يستقبله إذا سمع المؤذن يشق سكون الليل، بهذا النداء العلوي الجليل: (حي على الفلاح، لا إله إلا الله) فينهض من فراشه، يستأنف الحياة والليل يولي ساكناً خاشعاً، والنهار يقب مشرقاً زاهياً، والأطيار تتلو بلغة الطير سورة الحمد والشكر، فيتوضأ، ويحس في نفسه السمو والجلال - ذلك السمو الذي حالت الحضارة الغربية.
بيننا وبينه، فقطعنا مذ لبسناها أجمل مراحل الحياة نياماً، وغفلنا عن داعي السماء، حين ينبعث في تلك الساعة هاتفاً بالنفوس المؤمنة الطاهرة: ألا من مستغفر فاغفر له؟ ألا من داع فأستجيب له؟ ألا من سائل فأعطيه؟ يتوضأ، ثم يستقبل (الحرم) وينسى كل شيء إلا (الحرم)، ثم يخشى أن يشغله الحرم عن الصلاة، والصلاة انقطاع الدنيا الفانية، واتصال بجلال الله الباقي، فيرفع يديه ويقول: الله أكبر، ويدخل في الصلاة فينسى كل شيء، إلا الله الذي يقوم بين يديه. ويستقبله إذا زال النهار، وقامت الدنيا على قدم وساق، تدعو أبناءها وعبادها، إلى ما أعدت لهم من اللهو واللعب، فاستبقوا إليه، واقتتلوا عليه.
معرضاً عن نداء الدنيا، مجيباً داعي الله، فيقوم بين يدي رب العالمين، مولياً وجهه شطر المسجد الحرام، تاركاً وراء ظهره الدنيا وما فيها! ويستقبله إذا أخذت نفسه حظها من طعامها وشرابها وراحتها وقنعت من الدنيا بما نالت منها - وما الدنيا إلا ما يملأ بطناً، ويكسو جسماً، ويريح نفساً.
يستقبله حامداً شاكراً. (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، (يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم) إياك نعبد وإياك نستعين (لا نعبد غيرك، ولا نخشى سواك، ولا نرجو النفع إلا منك، ولا نخاف الضر ممن دونك.
أنت الضار وأنت النافع، وأنت المعطي، وأنت المانع؛ لا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا يجير عليك من نبي ولا ولي، ولا يشفع عندك إلا بأذنك ملك ولا رسول) ويستقبله إذا أطفئ المصباح الأعظم، وغطى الليل بسواده الفاحم على بهاء الدنيا وجمال الأصيل، فلا تشغله الرياض والجنان، ولا الورود والثمار، عن واد غير ذي زرع، عند بيت الله المحرم. ويستقبله إذا عم الظلام ونام الكون، وأقبل على الفراش يسلم روحه إلى خالقها.
لا يدري أتعود أم تبقى في عالم الخلود، فيكون (الحرم) آخر ما يقبل عليه ويذكره من هذه الدنيا. فهل ينسى مسلم (الحرمين).
أو هل ينساهما أستاذنا الزيات وهو الذي يذكر الناس؟! أولم تر يا سيد أحمد علي كاتباً حجازياً في الرسالة؟ أين أنت يا سيدي؟ وأي شيء يكون كتاب الرسالة إذا لم يكونوا مسلمين عرباً حجازيين؟ أهم روم؟ أهم يونان؟ أهم فينيقيون؟ أهم فرس؟ أليس أهل مصر وأهل العراق وأهل الشام من أبناء الحجاز اللذين خرجوا من الجزيرة تحت راية محمد، ففتحوا العالم واستقروا فيه؟ أليس عمرو وجيشه من أهل الحجاز؟ أليس سعد وجنده من أهل الحجاز؟ أليس أبو عبيدة وخالد وأصحابهما من أهل الحجاز؟ أليس بنو أمية حجازيين؟ أليس بنو العباس حجازيين؟ كأني بك تريد أن تقول: هاك كتاب الرسالة السابعة والخمسين: إن مختار الوكيل مصري، وطوقان فلسطيني، وعباسي أردني، وفتاة الفرات عراقية، وباكثير حضرمي.
ولكن لا.
ليس في قاموسنا مصري ولا شامي! ولكن فيه مسلم، وفيه عربي. وأي مسلم لا يرى الحجاز وطنه الأول من جهة النسب ومن جهة الدين؟ وأي عربي (كائناً ما كان دينه) لا يرى الجزيرة محتده وأصله، ومحمداً سيد العرب فخره؟ وهل ينسى مكة مسلم يتلو قول الله: (لتنذر أم القرى وما حولها) (والتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين) (لا أقسم بهذا البلد، وأنت حل بهذا البلد) (وليطوفوا بالبيت العتيق) (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس) (رب أجعل هذا البلد آمناً وأجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام) (ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم) ويتلو قول رسول الله (ص) حين فارق مكة مهاجراً: (إني لأعلم أنك أحب البلاد إليّ، وأنك أحب أرض الله إلى الله، ولولا أن المشركين أخرجوني منك ما خرجت) ومن ينسى مكة وفيها تاريخ أشرف أمة.
وهي أشرف مدينة: لم تدن مذ خلقها الله لملك أجنبي عنها، ولم يؤد أهلها أتاوة لأحد، كانت تحج إليها ملوك حمير وكندة ولخم وغسان، فيدينون للحمس من قريش، ويرون تعظيمهم والإقتداء بآثارهم فرضاً مفروضاً، وشرفاً لهم عظيماً، وكان أهلها آمنين، يغزون الناس ولا يغزون، ويسبون ولا يسبون: أبوا دين الملوك فهم لقاح ...
إذا هيجوا إلى حرب أجابوا وكان أهلها في جاهليتهم حلفاء متآلفين، ومتمسكين بكثير من شريعة إبراهيم عليه السلام، ولم يكونوا كالأعراب الأجلاف، ولا كمن لا يوقره دين، ولا يزينه أدب، وكانوا يختنون أولادهم، ويحجون البيت، ويقيمون المناسك، وكانوا يتزوجون أي القبائل شاءوا، ولا شرط عليهم في ذلك، ولا يزوجون أحداً حتى يشرطوا عليه بان يكون متحمساً لدينهم، يرون أنه لا يحل لهم ولا يجوز لشرفهم حتى يدين لهم وكان العرب منذ الجاهلية يحجون البيت، ويعتمرون ويطوفون.
فإذا أرادوا الانصراف أخذ رجل منهم حجراً من حجارة الحرم، يتذكرها به ويجله.
هذا ولك الحق يا سيدي الأديب، في أن تأسف إذ لم تر لواحد من سكان بلدك بحثاً أو مقالة في الرسالة، ولكنما هم الملومون يا سيدي لا الرسالة.
وما أحسب الرسالة تنشأ (لتسجل ظواهر التجديد في الأدب العربي، وتكون ديوان العرب المشترك) ثم تسد بابها في وجه قوم هم خلاصة العرب، وبنو خلاصتها، فانشروا فيها يا سيدي، ونقرأ لكم، ونستفد منكم، ونشكركم.
وعليك يا سيدي الأخ الأديب السلام ورحمة الله. دمشق علي الطنطاوي