أرشيف المقالات

عبادة السر «الصوم لي وأنا أجزي به»

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
الحمد لله الواحدِ الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولَد ولم يكن له كفوًا أحد، الحمد لله قامت بربِّها الأشياء، وسبَّحت بحمده الأرضُ والسماء، ولا زال الكون محكومًا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، فما من شيء إلا هو خالقه، ولا من فضلٍ إلا هو سائقه، ولا من رزقٍ إلا هو رازقه، ولا من أمر إلا هو مدبِّره، يدبر الأمر يفصِّل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد، يُحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، ونشهد أن سيدنا ونبينا وقدوتنا محمد رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، اعتز بالله فأعزَّه، واستنصر بالله فنصره، وتوكل على الله فكفاه، وتواضع لله فرفعه، وذلَّل له رقابَ الكافرين.
 
أيها المسلمون عباد الله، ها هي مدرسة الايمان تفتح أبوابها، وها هي جامعة الأخلاق تفتح قاعاتها، وها هي مراتع الذكر تستقبل زوارَها، وها هي مجالس القرآن تتلألأ بنورها وضيائها، في شهر الصيام والقيام شهر القرآن والإيمان، شهر الإحسان والغفران، شهر العتق من النيران، شهر الدخول من باب الريان في الفردوس الأعلى من الجنان، إنه موسم للانقياد لا للعناد، موسم الإقبال لا الإدبار، موسم السمو والعلو لا التسفل والدنو، شهر الإخبات والتواضع لا الصخب والمواجع، شهر والشكر والذكر لا البطر والكفر، أوقات للصفاء والنقاء لا للكدر والشقاء.
 
شهر رمضان شهر العزة والشرف والكرامة، كيف؟!
 
شهر الكرامة:  {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [ الحج : 18] شهر العزة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
 
عندما ينتسب المكان أو الزمان أو العمل إلى ذاته العلية، وصفته الجلية، فإنه يحوز على كل معاني الشرف والعزة والكرامة، والعظيم لا ينسب إليه إلا عظيم، والكريم لا يضاف اليه الا كريم كيف؟!
 
تكريم المكان: من مواضع الشرف والكرامة للمكان؛ قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].
 
كل المساجد بيوت الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [ الجن : 18].
 
لكن في موضع معين ومكان معين يقول فيه الله سبحانه وتعالى: "وطهِّرا بيتي" تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا لهذا المكان، الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، فنسب بيته الحرام إلى ذاته تشريفًا له وتعظيمًا، لذلك من دعوات الحج عندما يدخل إلى هذا البيت وينظر الكعبة: "اللهم زد هذا البيت تعظيمًا وتشريفًا ومهابة وبِرًّا، وزد مَن زاره ممن حج أو اعتمر تعظيمًا وتشريفًا ومهابة".
 
تكريم الإنسان: بالنسبة للعباد يقول الله عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
 
عباد الله عز وجل ينسبهم كذلك إلى نفسه تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا لهم، هناك عباد للرحمن وهناك عباد للشيطان، هناك عباد الكاس والطاس، وهناك عباد ركَّع سجَّد، هناك عباد للدينار والدرهم، وهناك عباد للعفاف والكفاف، هناك عباد للبذل والإنفاق، وهناك عباد الشح والإمساك، عباد الرحمن يشرفهم الله عز وجل بأن ينسبهم إلى نفسه، ويقول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
 
رغم أنهم يذنبون ويغفلون وعنه يبتعدون، إلا إنهم ما زالوا في زمرة عباده إذا ناداهم لبَّوْا وإذا دعاهم أجابوا إذا أمرهم أطاعوا، وإذا نهاهم اجتنبوا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}، فرحمة الله أوسع من ذنوبكم، وعفو الله أقوى من إثمكم، أنتم عبادي ما دمتم تستغفرون، وأنتم أحبابي ما دمتم تعودون، مهما كان لكم من أخطاء، مهما كان لكم من ذنوب، إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه الغفور الرحيم.
 
تكريم الزمان: لقد كرَّم الله شهر رمضان دون الشهور كلها، فذكره باسمه صريحًا دون غيره: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
 
وضمنه بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، إنه تكريم وتشريف وتعظيم لهذا الوقت من العام، فمن أراد أن يأخذ من هذه الأوقات، فليأخذ الشرف والكرامة والعزة والقرب من الله تعالى.
 
تكريم العمل (الصوم): يقول سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: " «كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» ".
 
نعم الصوم عبادة السر، خالصة لوجه الله تعالى، بعيدة عن السمعة والرياء، الصوم يربي النفوس على التقوى والخشية، وينمي فيها الإخلاص وهو سرٌّ بين العبد وربه، لا يطَّلع عليه إنسان فيحسده، ولا ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده، ولا حاسب غير الله فيحسبه، ذلك هو إخلاص في حد ذاته.
 
الصلاة مثلًا يراك الناس وأنت تصلي، أنت مرئي لمن حولك، والزكاة تقع في يد الفقير أو المسكين، وربما تكون أمام الناس، والحج أيضًا أمام الناس قد يتطرق إلى السمعة والرياء، وربما يصير فيه طبل وزمر، هالة وحفلة في الذهاب والإياب، إلا ما رحم ربي، أما الصوم فمن يراك وأنت صائم إلا ربُّك! من يعرف أنك صائم أو مفطر إلا الله سبحانه وتعالى، هو وحده المطلع عليك، لذلك كان جزاء الصوم عظيم عند الله، أن تصوم العين عن النظرة الحرام وتتبُّع عورات الناس، ويصوم اللسان عن الغيبة والنميمة، وقول الزور وأكل لحوم الناس، وينطلق بقراءة القرآن وقول المعروف، ويظل رطبًا بذكر الله، وتصوم اليد عن السرقة والبطش، وتكون ممرًّا لعطاء الله، وأن تصوم الرجل عن إتيان الأماكن المشبوهة من خمارات وحانات وملاهٍ، وأن تسعى إلى بيوت الله والصلح بين الناس، أن تصوم البطنُ عن أكل الحلال في رمضان؛ لتمتنع عن الحرام في غير رمضان، أن يصوم العقلُ عن المكر السيئ والوقيعة بين الناس، ويتفكر فيما خلق الله من شيءٍ.
 
ذلك هو الصوم الكامل الذي يجزي الله عليه خير الجزاء، ذلك الصوم الذي ينسبه الله إلى ذاته، أما الصوم الآخر، فيقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه"؛ رواه البخاري في الصحيح.
 
وأنت أيها الصائم تكون في قمة العزة والكرامة والمهابة والشرف الكبير عندما يضيفك الله عز وجل إليه، وينسب عملك إلى ذاته، شرف عظيم لعباده المؤمنين، فمن أراد الكرامة والشرف يصح صومه، ومن أراد العزة والمهابة يكثر من الصيام في رمضان وبعد رمضان.
 
نسأل الله عز وجل أن يشرِّفنا بالانتساب إليه والعمل لمرضاته، وأن يرفع درجاتنا بالعودة لجنابه والأوبة إلى رحابه.
____________________________________________
الكاتب: خميس النقيب

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣