أرشيف المقالات

إبطال الدين النصراني بكلمة من القرآن

مدة قراءة المادة : 28 دقائق .
إبطال الدين النصراني بكلمة من القرآن

قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 116].
 
المقصود بقولي: (كلمة من القرآن)، قوله: (ابن مريم) من الآية، وفيها الإبطال للدين النصراني من أوجه..
 
الوجه الأول:
بيان النسبة الحق التي تجب نسبته إليها، وهي أنه ﴿ ابن مريم ﴾، لا الذي يقوله النصارى، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87].
 
قال ابن جزي في (النور المبين ص ٤٤): واختلفت النصارى في عيسى عليه السلام؛ لأنهم لم يكن لهم علم بحقيقة أمره، ولا عندهم فيه دليل يعوَّل عليه، وإنما أخذوا دينهم الفاسد عمن لا يوثق به، وبنوه على أكاذيب ومنامات، وأمور لا تصح، ولذلك سماهم الله تعالى ضالين.
 
وقال: والدليل على بطلان قولهم: (إن عيسى ولد الله) من أربعة أوجه:
١- أن الله تعالى قادر على أن يخلق ولدًا من غير والد.
 
٢- أن الولد لا بد أن يكون من جنس والده، والزوجة من جنس زوجها، والله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، وقد كان عيسى وأمه من جنس بني آدم.
 
٣- أن كل موجود سوى الله فهو غيره؛ لأنه خلقه وأوجده، فلا يكون ولدًا له؛ انتهى ملخصًا.
 
الوجه الثاني:
في النسبة له إلى الأم: التصريح بأن له أصلًا، وهو من البشر، وهو على الضعف المذكور في قوله: ﴿ وخُلِقَ الإنسانُ ضَعيفًا ﴾، فأفاد القطع بعدم حصول النفع منه للعلة المذكورة، فعلم من ذلك أن له ضعفين:
الأول: الذي صرح به القرآن من الضعف الذي خُلق عليه الإنسان، فأفاد منع حصول النفع منه.
 
الثاني: النسبة له إلى الأم، وهو بعينه مقرر لعدم استحقاقه العبادة؛ إذ فيه أنه مخلوق لله، فكيف يستحق العبادة مخلوق؟
 
وعلم منه عجزه عن الخلق بالأولى، إذ هو مخلوق بحد ذاته، فكيف له الخلق لمن هو مثله أو دونه من الخلق؟
 
والقول بعدم القدرة له على الخلق: عام في الحق جميعًا، فلا يمكنه الخلق لمثقال ذرة، أو الخلق لحبة من الحبات، أو لغير المذكورين؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ﴾ [الحج: 73].
 
وإذا علم ذلك، علم منه أنه لا يستحق أن يكون ربا؛ إذ المخلوق القاصر عن الخلق والنفع، عن الربوبية أبعد من بُعد الشمس من المغرب؛ إذ من الباطل القول بأنه ثمة رب لا يخلق أو يملك، فكيف وُصِفَ بكونه الرب وهو لا يخلق، وكيف وصف بكونه الرب وهو لا يملك، فمثل القول بنسبة المسيح إلى الربوبية، كالقول بنسبة غير الطبيب إلى الأطباء، فهو ليس بطبيب، فكيف يكون طبيبًا، والمسيح ليس برب، فكيف يكون ربا؟
 
الوجه الثالث:
التقرير لأحد النعم الربانية، وهو خلقه وإيجاده، فشَهِدَ الرب بأنه الذي خلقه، ما يوجب الإذعان له فيه، والشكر له عليه، وأداء الحق الذي من أجله خلقه، فيُخْلَص بذلك إلى أن في قوله: ﴿ ابن مريم ﴾ الإبطال للدين النصراني الباطل، من أصله وفصله، ففيه الإذعان لله الخالق بأنه الخالق، وفيه التصريح بعجز المسيح عن النفع، وعن الخلق، وبيان أن الرب هو الله الذي خلق المسيح وأمه والناس جميعًا، وفيه الرد على القول الذي على الضد منه، ما يدفع الكفرة إلى الإذعان للحق، وإلى الدخول في الدين الذي جاء به النبي لنا محمد صلى الله عليه وسلم، إن كانوا ذا عقل وصدق في اتباع عيسى، فإن من الطاعة لعيسى الطاعة لمحمد، ومن لم يدخل في الإسلام الذي به جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه قد كفر بالله والأنبياء جميعًا، فلله الحمد والمنة على ما أنعم وألْهَم.
 
وقد شهِد له بذلك الأوَّلون من النصارى، فهذا الرجل الصالح - الذي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل الوحي -: ورقة بن نوفل، يقر له بأنه الذي اختاره الرب بأن يكون النبي الذي يعقب النبي عيسى، فأخرج البخاري في الصحيح عن الأم الطاهرة عائشة رضي الله عنها في قصة جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: فانطَلَقَتْ به خديجة حتى أَتَتْ به وَرَقَةَ بن نَوْفَل - ابن عم خديجة - وكان امْرَأً قد تَنَصَّرَ في الجاهلية - إلى أن قالت - فقال له ورقة: هذا النَّامُوس الذي نَزَّلَ الله على موسى، يا لَيْتَنِي فيها جَذَعٌ، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إذ يُخْرِجُك قَوْمُكَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ))؟ قال: نَعَمْ، لَمْ يأتِ رَجُلٌ قَطْ بِمِثْلِ ما جِئْتَ به إلا عُوْدِيَ، وإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك أنصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثم لم يَنشب ورقة أن تُوُفِّي وَفَتَرَ الوَحْي[1].
 
فإذا أقر له الذي لم يبلغ الرسالة، فما الذي منع الذين حضروه، وعملوا منه الصدق والأمانة، والتَّدَيُّنَ والصيانة، وما له من الشرف الذي بلغ العلم به الاضطرار، وهو منهم وفيهم، ففيهم ولد، وفيهم نبت، وأخبر النبي المسيح بأنه يأتي بعده، رسولًا لهم، مبشرًا الذين أطاعوه، ومنذرًا الذين عصوه، بل نعته لهم بنعوت منها: أن اسمه أحمد، وأحمد هو نفسه النبي صلى الله عليه وسلم، بل ضَمَّنَ الخبر البشارة به، فهو بحد ذاته بشرى، وهو بحد ذاته نعمة، وهو بحد ذاته رحمة: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، فما الذي منع النصارى من الإيمان به، وامتثال الذي أمر به النبي المسيح، كما فعل ورقة؟!لا ريب في أنهم بذلك، قد كفروا بالله والمسيح، وقد تشبه به الجم الغفير من المعاصرين، منهم:
أولًا: توماس كارليل: قال: فمحمد هو الذي قال: إنه رسول من عند الله، وبرهن على صدق قوله بدين نشره في الناس، أخذه مئات من الملايين، ومضى عليهم في ذلك قرون طويلة، وهم يحبون دينهم هذا، ويتحمسون له أكبر تحمُّسٍ[2].
 
ثانيًا: ويليام: قال: امتاز محمد بوضوح كلامه، ويسر دينه[3].
 
ثالثًا: غوستاف: قال: محمد هو أعظم الرجال الذين عرَفهم التاريخ[4].
 
رابعًا: واشينجتون: لقد كان محمد عادلًا في تعاملاته، وعامل الأصدقاء والأجانب: الأغنياء والفقراء، الأقوياء والضعفاء، بالسوية، وكان محبوبًا من العامة لدماثته معهم، واستماعه لشكاويهم[5].
 
خامسًا: الفيلسوف الفرنسي الشهير روجيه جارودي:
قال في كتابه «الإسلام وأزمة الغرب»: «إن الإسلام أنقذ العالم من الانحطاط والفوضى، وإن القرآن الكريم أعاد لملايين البشر الوعي بالبعد الإسلامي ومنحهم روحًا جديدة»؛ منقول.
 
سادسًا: برنارد شو:
قال: «لو تولى العالم الأوروبي رجل مثل محمد لشفاه من علله كافة، بل يجب أن يُدْعى منقذ الإنسانية..
إنني أعتقد أن الديانة المحمدية هي الديانة الوحيدة التي تجمع كل الشرائط اللازمة، وتكون موافقة لكل مرافق الحياة، لقد تنبأت بأن دين محمد سيكون مقبولًا لدى أوروبا غدًا، وقد بدا يكون مقبولًا لديها اليوم، ما أحوج العالم اليوم إلى رجل كمحمد يحل مشاكل العالم»
[6].
 
وكذا النجاشي وغيره، فعلم من ذلك أن العبرة بقبول الحق، والتوفيق له، وأن الذين أقروا له بالرسالة، وآمنوا به، كانوا على التجرد للحق، وقبوله ممن كان، وأن الذي امتنع عن الإذعان للحق والقول به، إنما المستند له التعصب الذميم، وعلى فَرْضِ القول بأن الذي عليه الكفرة الآن، هو طِبْقُ الذي جاء به المسيح، فإنه لن يفيدهم التدين بدين المسيح؛ لتصريح النبي صلى الله عليه وسلم ببطلان الدين النصراني بعد الرسالة المحمدية، وإخبار المسيح نفسه به؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6].
 
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِن هذِه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به، إلَّا كانَ مِن أصْحابِ النَّارِ))؛ أخرجه مسلم.
 
وقال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158]، وقال جل ثناؤه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28].
 
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وكان النبي يُبْعَثُ إلى قومه خاصة وبُعِثْتُ إلى الناس عامة))؛ أخرجه البخاري؛ قال شيخ الاسلام (الجواب الصحيح ٣٦٨/١): والمقصود هنا: أن الذي يدين به المسلمون من أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رسول إلى الثقلين: الإنس والجن، أهل الكتاب وغيرهم، وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله.
 
قلت: تَوَهَّمَ النصارى أن الذي هم عليه من التثليث والقول بأن المسيح ابن الله، قائد لهم إلى الجنان، والظفر بنعيم الرحمن، في حين أن الذي صرح به القرآن خلافَ ذلك، وأن الدين الذي رضيه الله للخلق: هو الذي جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم لا غير، وأن الذي هم عليه، ضلال لا غير؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴾ [البينة: 6].
 
قال شيخ الإسلام (١/٣٦٨): ولهذا كان كفر النصارى لما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - مثل كفر اليهود، لما بعث المسيح - عليه السلام.
 
وقال أيضًا (١/٣٦٩): فهذا كما أن من كان متبعًا شرع التوراة عند مبعث المسيح، كان متمسكًا بالحق، كسائر من اتبع موسى، فلما بعث المسيح صار كل من لم يؤمن به كافرًا، وكذلك لما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - صار كل من لم يؤمن به كافرًا.
 
والحق الذي يقول به المسلمون أن الله الذي خلق المسيح، إله واحد أحد، لا شريك له، ولا مثيل له من الخلق، بل للخلق من الصفات اللائقة بهم، وله الذي يليق به منها، وهو الذي أوجد الذي لهم منها بالصفة التي أرادها، وبالوضع الذي أراده، فهو من خلقها، وهو من يملكها، فلا لأحد التصرف فيها التصرف الذي منع منه، بل الإثم على الذي أتلف أحد أعضائه، أو تخلص منه من دون الموجب لذلك، بل الوعيد على الذي تخلص من نفسه، فهم له، تحت ملكه، خاضعين لما أمر، فاعلين له؛ قال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].
 
وقال: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180].
 
قال الإمام الشافعي (العلو ص١٢١):
لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه أمته لا يسع أحدًا من خلق الله قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، أما قبول ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية والفكر، ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها.
 
وقال في الرسالة (ص/٦): ولا يبلغ الواصفون كُنهَ عظمته الذي هو كما وصف نفسه وفوق ما يصفه به خلقه.
 
وقال القحطاني في (النونية):






551- لا تفتكر في ذات ربك واعتبر
فيما به يتصرف الملوان


552- والله ربي ما تكيف ذاته
بخواطر الأوهام والأذهان


553- أمرر أحاديث الصفات كما أتت
من غير تأويل ولا هذيان


554- هو مذهب الزهري ووافق مالك
وكلاهما في شرعنا علمان






 
وقال أيضًا:






565- لسنا نشبه ربنا بعباده
ربٌّ وعبدٌ كيف يشتبهان










 
قال شيخ الإسلام (الواسطية مع شرح الرشيد ص٧١): ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل.
 
فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه وتعالى لا سمي له، ولا كفء له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلًا، وأحسن حديثًا من خلقه، ثم رسله صادقون مصدقون، بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون؛ انتهى.
 
وقال: وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنة عما جاءت به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم؛ انتهى.
 
فوائد:
الفائدة الأولى:
قال أبو سليمان الخطابي: ومن علم هذا الباب، أعني الأسماء والصفات، ومما يدخل في أحكامه ويتعلق به من شرائط، أنه لا يتجاوز فيها التوقيف، ولا يستعمل فيها القياس، فيلحق بالشيء نظيره في ظاهر وضع اللغة ومتعارض الكلام.
 
فالجواد لا يجوز عليه السخي، وإن كانا متقاربين في ظاهر الكلام، وذلك أن السخي لم يرد به التوقيف كما ورد بالجواد؛ انتهى.
 
الفائدة الثانية:
قال ابن القيم (بدائع الفوائد ١٦٢/١): إن أفعال الرب تبارك وتعالى صادرة عن أسمائه وصفاته، وأسماء المخلوقين صادرة عن أفعالهم، فالرب تبارك وتعالى فعاله عن كماله.
 
الفائدة الثالثة:
قال ابن القيم في بدائع الفوائد (١/١٦٦): الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر، ولا تُحَدُّ بعدد، فإنَّ لله تعالى أسماءً وصفاتٍ استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمُها مَلَكٌ مقرَّب ولا نبيٌّ مرسَل.
 
خاتمة الفوائد:
قال ابن القيم في (الكافية الشافية):






أسماؤه أوصاف مدح كلها
مشتقة قد حملت لمعان


إياك والإلحاد فيها إنه
كفر معاذ الله من كفران


وحقيقة الإلحاد فيها الميل
بالإشراك والتعطيل والكفران






 
والغريب: إقرار الكفرة بقتل المسيح، بل والقول به، ثم إيمان القوم بأنه الرب بعد الإيمان بقَتْلِهِ، فأيُّ رب يقُتُله الذين خلقهم، بل ويوطئوا له بأن يصلبوه، ويضعوا المسمار على يده، وهو منهم بالقرب، خاضع لهم، عاجز عن القيام بما يدفع به الشر الذي جلبوه له، بل انقاد لهم إلى القتل والتخلص منه، فأي رب هذا؟ وأي إله هذا؟؟






أعُبَّادَ المَسِيحِ لَنَا سُؤَالٌ
نُرِيدُ جَوَابَهُ مَّمِنْ وَعَاهُ


إذا ماتَ الإِلهُ بِصُنْع قومٍ
أمَاتُوهُ فَما هذَا الإِلهُ؟


وَهَلْ أرضاه ما نَالُوهُ مِنْهُ؟
فبُشْرَاهمْ إذا نالُوا رِضَاهُ


وَإِنْ سَخِطَ الّذِى فَعَلُوهُ
فيه فَقُوَّتُهُمْ إِذًا أوْهَتْ قُوَاهُ


وَهَلْ بَقِى الوُجُودُ بِلاَ إِلهٍ
سَمِيعٍ يَسْتَجِيبُ لَمِنْ دَعَاهُ؟[7]







ومن الذي يقول به المسلمون: (أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه)،
وأن الرب الذي خلق المسيح وأمه، قد جعلهما آيتين: ﴿ وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 91]، وأن له القدرة والإمكان على كل شيء أراده، بحيث إن قال للشيء: كن كان؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82].
 
وقال الشاعر:






إِذَا مَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا فإنَّما
يَقُولُ لَهُ كُنْ قَوْلَةً فيكونُ










 
ومن فروع الأصل هذا، (كُنِ) المتعلقة بالمسيح، فلم يكن ليكون، لولا كن الصادرة من الرب وقال تعلى: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء: 171].
 
قال الحافظ ابن كثير معلقًا:
أي إِنَّمَا هُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وخَلق مِنْ خَلْقِهِ، قَالَ لَهُ: كُنْ فَكَانَ، وَرَسُولٌ مِنْ رُسُلِهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، أَيْ: خَلقَه بِالْكَلِمَةِ الَّتِي أَرْسَلَ بِهَا جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى مَرْيَمَ، فَنَفْخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَكَانَ عِيسَى بِإِذْنِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، قال الإمام أحمد: بالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: ((كن))، فكان عيسى بكن، وليس عيسى هو ((كن))، ولكن بكن كان، فكن من الله تعالى قول، وليس ((كن)) مخلوقًا، وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى[8].
 
وقال تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 171]، قلت: قوله: ﴿ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ﴾.
 
١- أجمع التعريفات للمسيح، ففيه بيان النسبة الحق له، والذي به خلق: وهو تحديدًا في قوله: (ابن مريم)، وقوله: (وروح منه).
 
٢- وفيه بيان الموقع الشرعي له، وهو أنه ﴿ رسول الله ﴾، وكل قول له الحظ من المخالفة للآية، فهو باطل عاطل، صارخ بالشهادة بالبطلان على نفسه، بنص الآية.
 
قياس:
وهو الذي خلق الطِّباق السبع، والأرضين السبع كذلك، والخلق لذين المخلوقين، أشد من الخلق للناس: ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾ [النازعات: 27]، ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ [غافر: 57].
 
ولو أراد الخلق لهما في لحظة لفعل، فكيف بالذي دون السماء بالمرات الكثيرات؟ أليس الذي خلق السماوات هو نفسه الذي خلق النبي المسيح؟ ثم إن الرب جل ثناؤه: شبه الخلق لعيسى بخلقه للنبي آدم عليه السلام، وسبق القول بأن الخلق لآدم كان من التراب، ﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، فعُلم أن الأصل له التراب، والنبي المسيح أصله البشر، وما تفرع منهم من الأنثى، وهي الطاهرة مريم، فكان الخلق له منها، في حين أن النبي آدم لم يكن له أصل من البشر، إنما الأصل له التراب فقط.
 
فعلم الفرق بينهما في الخلق، وأن خلق النبي آدم أعجب من خلق النبي المسيح، إذ النبي المسيح له أصل من البشر، والنبي آدم أصل البشر، وهو الذي منه تفرع البشر، ولم يكن له منهم أصل، فكان الخلق له من التراب، فصار التراب الأصل له وحده..
 
فإذا تقرر هذا، وعلم أن له القدرة على كل شيء، وعلم أن له القدرة على خلق الطباق السبع في لحظة، علم بالاضطرار إمكان الخلق للبشر الذين هم دون الطباق السبع، وبالأولى الخلق للمسيح الذي هو أحد البشر.
 
الوجه الرابع:
في قوله: (ابن مريم) إشعار بأن لها الفضل عليه؛ من حيث التربية والعناية اللذين هما فرض الأمهات، ومنه يتفرع الحق لها عليه، وفرض الإله أن يكون له الفضل على غيره، وأن يكون له الحق على الغير، لا العكس؛ قال تعالى: ﴿ وبرًّا بوالدتي ﴾، ولا يمكن القول بأن الذي نطق به المسيح وهو في السن هذه: لغوًا، أو حشوًا، أو كذبًا، إذ الذي أمكنه من النطق وهو في السن هذه: ربه الذي خلقه، وهو كما أنه لا يقول إلا الحق، فكذا لا يُنطِقُ أحدًا من الخلق إلا بالحق.
 
الوجه الخامس: في (ابن) التصريح باحتياج المسيح إلى الذي يضاف إليه من الأصل له، وهو (مريم)، وفرض الإله الافتقار إليه من قبل الخلق، لا الافتقار له للخلق، فهو الذي احتاج إلى الحمل، فالرضاع، فالعناية المفروضة على الصغير حتى لا يهلك..






وَيَأْكُلُ ثمَّ يَشْرَبُ ثمَّ يَأْتِي
بِلاَزِمِ ذَاكَ هَلْ هذَا إِلهُ؟


تَعَالَى اللهُ عَنْ إِفْكِ النَّصَارَى
سَيُسأَلُ كُلَّهُمْ عَمَّا افْترَاهُ[9]







الوجه السادس: شهادة المسيح لنفسه بالإضافة إلى الأم، ما يقرر الذي قررناه ﴿ وبرًّا بوالدتي ﴾.
 
الوجه السابع: في (ابن مريم) إشعار بأن ما للأم من الرتبة والمكان، دون الذي للولد الذي تفرع عنها؛ من حيث الفطرة، والسنن الكونية، ما يقضي بانخفاض الرتبة له، وارتفاع الرتبة لها، وهذا الانخفاض وإن لم يكن على الإطلاق في الأمور كلها، بل في الفطرة الربانية فحسب، إلا أنه نقص في الإله، وليس ذلك بخاف؛ إذ الإله الحق أعلى من كل شيء، في كل شيء: ﴿ ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1].
 
قال شيخ الاسلام: فإن الإله هو المعبود المحبوب الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له، وتذل له، وتخافه، وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده[10].
 
وقال ابن القيم:
الإله: هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالًا، وإنابة وإكرامًا، وتعظيمًا وذلًّا، وخضوعًا وخوفًا، ورجاءً وتوكلًا[11].
 
فالحاصل: أن مجرَّدَ كون المسيح ابن لها: نقص، يوجب القول بأنه ليس بإله..
 
ختامًا:
قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
 
وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
 
وقال: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ﴾ [القصص: 86]، وقال: ﴿ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [إبراهيم: 1].
 
من الأغراض العَلِيَّة للبَعْث: الرحمة بالعالمين: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]،
فالدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: دين الخير والبركة، والسلامة والرحمة، قام على الشهادة الحق، والأخذ بيد الخلق إلى الحق، وما ذكر من النصوص أعلى: كاف لبيان ذلك، والشهادة له، والرد على القول المخالف له، إلا أن الذي أردت الإفصاح به: هو أنه إن أراد أحدٌ من الخلق نعت الدين، فعليه به، والدراسة لما تضمنه، وأنصح بدراسة السيرة العطرة، ومعرفة الأحوال له صلى الله عليه وسلم، وليعلم الناس بأن مناط الحب والبغض، هو الإسلام والاستقامة عليه، فمن كان عليه، أحبه المسلمون، وقرَّبوه، ومنحوا له الذي يستحقه، من العناية والاهتمام به، برد السلام واستجابة الدعوة الصادرة منه، وغسله ودفنه حال مفارقة الحياة، إضافة إلى ما له من الموقع في القلوب...
 
ومن كان على العكس منه، كان له العكس من ذلك، لا لأجل الدنيا، بل لأجل الله - الذي خلق الدنيا - ومن كان له الحظ منه دون الاستقامة، بأن قارف الذي لا يحل له بحال، وفرط في بعض ما هو فرض عليه، فله الذي يليق به من الحب والبغض..
 
فانظر إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس، فإنه قد قرب البعيد، وأبعد القريب لأجل أمر واحد، وهو الدين...
 
وعلم من ذلك أن نسبة أحدِ الأمور إلى الدين يجب أن تكون على الضابط المذكور، وهو ورود الذي نسب إليه فيه، بمعنى أن يكون مما شرع فيه لا الذي عليه أحد الأفراد!
 
والجزم على أن الشريعة كاملة عادلة، صالحة لكل أحد، في كل زمن، وفي أي وطن...
وهذا التنبيه مهم جدًّا، وعلنا نفرد له مقالًا بإذن الله.
 
وليعلم النصارى أن الدين الإسلامي لم يأتِ إلا لجلب السعادة لهم، ودرء الشقاء الأبدي عنهم، وعن الأمم الأخرى، فالحذر الحذر من الرد لما جاء به الدين هذا، أو الطعن فيه، أو الطعن في الذي جاء به، أو محاولة الصد عنه، ومنع الخلق منه، فذلك كله طريق إلى الهلاك والشقاء، فالواجب اعتناقه، واللازم عليه، فإنه الملائم للخلق؛ من حيث الفطرة، ومن حيث الذي فرضه الرب عليهم، بخلاف الدين النصارى، ففيه المخالفة الظاهرة للفطرة.
 
هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.



[1] أخرجه البخاري في (الجامع الصحيح) (برقم ٣).


[2] محمد صلى الله عليه وسلم أعظم عظماء التاريخ ص٥٣٠، للأستاذ أحمد ديدات.


[3] حياة محمد (ص٣١).


[4] حضارة العرب (ص٦٧).


[5] الصحيح المصفى (ص٥٤٥)، و (mohamet And His successor 1850)


[6] (م) http://www.mltaq.com/forums/showthread.php?t=85838


[7] قطعة من قصيدة ابن القيم في الرد على النصارى.


[8] الرد على الجهمية والزنادقة (ص/٢٠).


[9] قطعة من قصيدة ابن القيم في الرد على النصارى.


[10] مجموع فتاوى شيخ الإسلام، ١٣/٢٠٢، لابن قاسم النجدي.


[11] مدارج السالكين، ١/٣٢، لابن القيم.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢