ذنوب الخلوات: المقال العاشر
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
نأتي للكلام العملي لتحقيق شرط الإقلاع عن ذنوب الخلوات و معصية السر الإقلاع هو ببساطة ووضوح " انتهاء "
" {فهل أنتم منتهون} "
هكذا كان السؤال الرباني عندما قُضي الأمر وحُرمت الخمر
لقد صارت ذنبا
معصية
رجس ينبغي أن يُجتنب
فماذا أنتم فاعلون
عندئذ صاح المجيبون: انتهينا يا رب انتهينا يا رب
والأهم من الإجابة القولية كانت الإجابة الفعلية
كان الإقلاع والانتهاء العملي
سالت الخمر في شوارع المدينة أنهارا
هكذا ينبغي أن تكون الخطوة الأولى مع الذنب عموما ومعصية السر خصوصا
القرار الحاسم بقطع العلاقة بها وتجفيف منابعها بالكلية
المشكلة أن ثمة هاجس يظل يدور في آفاق النفس معطلا صاحبها عن اتخاذ القرار الحاسم
هاجس العودة
حين يغلب على الظن أن هذه العودة وتلك السقطة قادمة لا محالة ولو بعد حين فإن صاحب معصية السر يكسل أو لا تقوى عزيمته على اتخاذ ذلك القرار إذ يقول لنفسه ضمنيا: وما الطائل من وراء تلك القرارات التي لا أقوى على تنفيذها
وإلى متى سأظل أخدع نفسي وفي كل مرة أثبت عجزي وهل من الأدب أن أجرؤ على خداع ربي؟!
هكذا يترجم ضعفه المتوقع مستقبلا إلى عجز واقع حاليا ولا يعطي لنفسه الفرصة أصلا لعلها تصيب هذه المرة ويستطيع الإكمال
والحقيقة أن النصوص تتضافر للقضاء كلية على مثل هذه الهواجس
في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبّهِ عَزّ وَجَلّ قَالَ: " «أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْباً.
فَقَالَ: اللّهُمّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي.
فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْباً، فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذَ بِالذّنْبِ.
ثُمّ عَادَ فَأَذْنَبَ.
فَقَالَ: أَيْ رَبّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي.
فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْباً.
فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذّنْبِ.
ثُمّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي.
فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبَاً.
فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذّنْبِ.
اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ» " أي: ما دمت تتوب توبة نصوحاً، مستوفية الشروط، سالمة من موانع القبول.
قال النووي: وفي الحديث أن الذنوب ولو تكررت مائة مرة بل ألفا وأكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته، أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته.
وقوله في الحديث: اعمل ما شئت.
معناه: ما دمت تذنب فتتوب غفرت لك
«وروي أن رجلا قال يا رسول الله أحدنا يذنب الذنب قال يكتب عليه قال ثم يستغفر ويتوب قال يغفر له ويتاب عليه قال ثم يعود فيذنب قال يكتب عليه قال ثم يستغفر ويتوب قال يغفر له ويتاب عليه ولا يمل الله حتى تملوا» "
قال الهيثمي إسناده حسن وقال ابن حجر العسقلاني حسن صحيح
وقد قيل للحسن البصري: ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود ثم يستغفر ثم يعود؟
فقال: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذا..
أي باليأس من معاودة التوبة والإصرار عليها مهما تكرر نقضها واخترقت شروطها
هذا التصور يزيل هواجس المستقبل المظلم الذي يزيد الشيطان من حلكته بينما تأتي هذه النصوص ومثيلاتها لتفتح باب قبول التوبة وضرورة ملازمتها بغض النظر عن المستقبل القريب أو البعيد فالحل دائما موجود حتى تأتي ساعة الموت أو تحل علامات القيامة
معاودة التوبة
حتى في المثال الذي استفتحت به - تحريم الخمر وانتهاء الصحابة وإقلاعهم الفوري - هل يظن ظان أن هذا لم يشبه زلات وأنه كان إقلاعا دائما من الجميع؟!
الإجابة = لا
منهم من وقع بعدها في الذنب ومنهم من حُدَّ فيه وليست مرة بل مرات حتى قال رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ
تأمل الكلمة
ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم عليه حد شرب الخمر وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ قبلها، فلم تكن هذه مرته الأولى ورغم ذلك قال
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ إنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» "
وكذلك ما ورد من شأن أبي محجن الثقفي وما كان عليه من تكرار الوقوع في ذات الذنب حتى كانت المرة التي أتوا به إلى سعد بن أبي وقاص ليحده في الخمر في مشهد مختلف
إنه مشهد جهاد وفداء وهو معهم بين المجاهدين في موقعة القادسية الشهيرة
ورغم ذلك غلبه ضعفه وشربها
ثم كانت التوبة
إذاً فالإقلاع لا يرتبط بغلبة الظن وإلا كان كل من عرف عن نفسه تكرار الزلات والسقطات محروما من المحاولة ومطرودا من رحمة الله
ومن يجرؤ أن يقول ذلك؟
بل الباب مفتوح والتكرار متاح بلا عدد محدد
فقط الشرط المرافق هو العزم
إقلاع وعزم على الثبات وعدم العودة
حينئذ تصح التوبة بغض النظر عما بعده فإن ما بعد له ما بعده والله لا يمل
حتى تملوا