خطب ومحاضرات
شرح الأربعين النووية - الحديث السادس والعشرون [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) رواه البخاري ومسلم ].
هذا الحديث يمكن أن يجعل له عنوان: شكر النعمة، أو صدقة البدن، ويمكن الربط بينه وبين الحديث الذي قبله : (ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم) فيأتي النووي رحمه الله بعد هذا ليبين أن كل الصلوات وكل الصيام وكل الصدقات وما زاد عليه من الأعمال لا يؤدي شكر نعم الله على العبد.
وفي هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى) لفظة : (كل) يسميها علماء المنطق والبيان سور كلي، يشمل كل سلامى في بدن الإنسان، ويختلف العلماء في تفسير السلامى، والمفصل والعضو والعظم كل ذلك جاء في الحديث النبوي، تارة (بمفصل)، وتارة (بسلامى)، وعلماء الطب القدامى كـابن سيناء في القانون يقسم العظام إلى ثلاثة أقسام: منها ما عليه بناء الجسم كالخشبة المعترضة في بناء السفينة يقام عليها بناؤها، وهو العمود الفقري وعظام الظهر، وهناك عظام جانبية قد تكون مساعدة وقد تكون مستقلة، وعقد ثلاثاً وثلاثين باباً في شرح العظام في جسم الإنسان، وقسمها أيضاً إلى السلاميات والسمسميات وهي عظام دقيقة بين المفصل والمفصل، أو بين العظم والعظم.
والمتأمل في خِلقة الإنسان يجد الآيات الباهرات لا سيما من العظام التي تستخلص من كل عاقل الاعتراف بقدرة الخالق سبحانه: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].. يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6-7] وفي بعض القراءات: (فعدَّلك) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8].. لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4].
إذاً: خلق الإنسان من أعظم آيات القدرة الإلهية.
ومن أعظمها دلالة على القدرة الإلهية، والعلم الأزلي المحيط بكل شيء، اختلاف صورة هذا الإنسان، تجد آلاف الملايين من البشر لكل شخص طابع في وجهه خاص، مع أن القالب واحد، عينان وأنف وفم، وكل في موضعه، ولا تجد صورتين متحدتين تماماً تماماً، فلابد من المغايرة، فتلك الأشكال وتلك الصور آلاف الملايين، وعدم اختلاط بعضها ببعض؛ يدل على القدرة حقاً.
قوله هنا: (كل سلامى) معناه باتفاق العلماء: عظماً أو مفصلاً، وجاءت الأحاديث: (ثلاثمائة وستون مفصلاً)، وجاءت: (ست وثلاثون سلامى) على أنها السمسميات كما يقول علماء العظام.
وقوله: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس) يذكرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بواجب حفظها وصيانتها، وبأي شيء تكون تلك الصيانة؟ هل يكون بإدخالها الورش والمستشفيات والمعامل؟ لا. ولكن بالصدقات شكراً لله على تلك النعمة، ومهما يكن من شيء في هذا الموضوع فلا ولن يستطيع إنسان أن يؤدي شكر هذه النعمة، كما جاء في بعض الآثار، وقد جمع منها ابن رجب في شرح الأربعين نصوصاً كثيرة عديدة جداً، منها: (يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول المولى سبحانه للملائكة: زنوا عبدي بعمله وبنعمي عليه، فتقوم نعمة واحدة، نعمة البصر أو السمع تطالب بحقها من حسناته، فتستغرق جميع أعماله، فلم يبق له شيء) وعن وهب بن منبه : قال: كان رجل ممن كان قبلكم عبد الله في جزيرة في البحر خمسين سنة، فإذا كان يوم القيامة قال الله: )أدخلوه الجنة برحمتي فقد غفرت له، فيقول: يا رب! بل بعملي، وأي ذنب لي؟ فيقول: زنوا نعمي عليه بعمله، فتقوم نعمة السمع وتطالب بحقها فلم يبق له شيء، فيؤمر به إلى النار، فيقول: يا رب! أدخلني برحمتك، ثلاث مرات، فيدخله الله تعالى الجنة برحمته)وهذا الأثر في سنده كلام.
ويذكرون أن رجلاً أوتي مالاًكثيراً ثم أخذه الله عنه، فحمد الله وشكره، فجاء شخص آخر وقال: تحمد الله على أي شيء وقد أخذ جميع ما عندك؟ قال: أحمده على نعم له عندي، لو أعطاني ملوك الأرض عوضاً عنه لا يجزئ فيه، قال: وما هو؟ قال: سمعي وبصري وحمدي لله.
ويذكرون أن رجلاً بات ليلة نائماً هادئاً، فإذا بعرق ينبض عليه بالألم فمنعه النوم، فقيل له: كم يوازي نعمة سكون هذا العرق عليك؟ فقال: بكل ما أوتيت من مال، كأن يثور عليه ضرس أو تضرب عينه، أو أي وضع من هذه الأوضاع فيتمنى أن يسكن هذا الألم بكل ما أوتي من مال.
ولذا أول شكر النعمة: حفظ الجوارح من معصية الله، ثم زيادة على ذلك أن يصرفها في طاعة الله، في أداء الواجبات، ثم مرتبة ثالثة وهي: أن يصرفها في نوافل العبادات، سواء كانت في شخصه أو متعدية إلى غيره على ما سيأتي توضيحه من النبي صلى الله عليه وسلم.
على كل إنسان كل يوم أن يتصدق بعدد أعضاء جسمه، وتلك الصدقة هي صدقة شكر، وأي نعم أعظم على الإنسان من ذاته وشخصه؟!!
وإذا اعترف الإنسان بنعم الله عليه كانت معرفته شكراً لها، كما جاء عن نبي الله موسى عليه السلام أنه قال: (يا رب! إن صليت فمن قبلك صليت، وإن صمت فمن قِبَلك صمت، وإن بلغت رسالتك فمن قِبَلك بلغت، فكيف أشكرك على نعمك؟ فأوحى الله إليه: الآن -يا موسى- شكرتني) يعني: عرفت أن صلاتك من قِبَلي، وأنا الذي أعنتك ووفقتك إليها، وعرفت أن صيامك من قِبَلي، وأن قيامك وتبليغك من قِبَلي، فإذا عرفت أن تلك النعم من الله فقد شكرت: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]، ولذا جاء في الأثر: (من قال إذا أصبح: اللهم! ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر النعم)
. (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم) (كل يوم) اليوم هو الزمن المحدد بأربع وعشرين ساعة في هذا العرض، أو ليلة معها نهار.
قوله صلى الله عليه وسلم: (كل يوم تطلع فيه الشمس)، معروف أن اليوم هو من طلوع الشمس إلى طلوع الشمس، وهو اليوم الحقيقي الفلكي ولكنه قال: (تطلع فيه الشمس) لرفع توهم اليوم اللغوي، كما تقول العرب: يوم ذي قار، وهو يوم حرب في الجاهلية، نبت فيه أجيال، أو تقول: يوم اليرموك، أي: وقعة اليرموك، وهي لم تكن في يوم واحد من مطلع شمس إلى مطلع شمس.
إذاً: يحدد النبي صلى الله عليه وسلم اليوم هنا بطلوع الشمس ليرفع توهم اليوم اللغوي، ولعل التنصيص على طلوع الشمس بتحديد الوقت الفلكي الحقيقي، يبرز لنا نعمة عامة: وهي طلوع الشمس من مشرقها على عادتها، وإلا لو حجبت عن الطلوع، وجاءت من مغربها قامت الساعة، فمجيء الشمس وطلوعها كل يوم فيه إنعام على الكون كله، نباته وحيواناته وإنسه؛ لأن في طلوعها حركة وحيوية وانتشار، فيذكر بأن هذه من النعم العظمى.
ولعله يبين لنا: أننا لا نستطيع أن نأتي بالشمس فتشرق، كما قال الله : وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام:38]، ليس هناك طائر يطير إلا بجناحين، ولكن هذان الجناحان لو تركا للطائر ما طار، ما يمسكهن إلا الله سبحانه وتعالى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور:41]، من الذي يمسك الطائر وهو صاف هكذا؟ المولى سبحانه، فيبين أن القدرة الإلهية وراء الأسباب المادية، وقد يكون لبيان عظم الفعل كقوله تعالى : كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [الكهف:5]، لا يوجد كلمة إلا وتخرج من الفم، ولكن إكباراً واستنكاراً؛ لأنهم تجرءوا عن مجرد تفكير في الخاطر حتى تكلموا به، وخرجت من أفواههم مع عظمها فقالوا: اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً [مريم:88]. سبحان الله!
فقوله: (كل يوم تطلع في الشمس) بيان لنعمة الله على الخلق في هاتين الآيتين الكونيتين الليل والنهار.
قال صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس)، وبين أن في الجسم ثلاثمائة وستين مفصلاً، أي: في كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة، لو تصدق بثلاثمائة وستين تمرة لصارت كذا كيلو، وكذا صاع، وليس كل الناس يجد تمرات يأكلها في النهار، فضلاً عن التصدق بهذا.
وهنا صلى الله عليه وسلم وجه الأمة إلى أفعال من الخير والبر عوضاً عن تلك الصدقات المادية، كما في حديث أهل الدثور، وهنا يشترك هذا الحديث مع ذاك في بيان نوعية عمل الخير، فبين صلى الله عليه وسلم أن الصدقة ليست قاصرة على المادة، بل هناك من الصدقات المعنوية ما تفوق المادة في عظمها وفي أجرها قال الله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]، فليس كل نفقة في المال قد تنفع صاحبها.
شرح قوله: (تعدل بين اثنين صدقة)
والمسئولية واقعة على صاحب الإدارة والمدرس في الفصل، والوالد مع أولاده.
إذاً: كل إنسان مسئول في جانب ما، فيعدل بين من هو مسئول عنهم، فهذا العدل صدقة.
وفي الحديث الآخر: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: علمنا كيف ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: كفه عن ظلمه نصرة له)؛ لأنك تنصره على نفسه، وإذا لم تفعل بات ظالماً، والظالم لا يكون على خير، (الظلم ظلمات يوم القيامة)، فأنت بنصرتك إياه، وكفك إياه عن الظلم أخرجته من ظلمات الظلم إلى نور العدالة.
وفي الأثر: (إن الملائكة نظرت إلى أعمال العباد التي تصعد من الأرض إلى السماء فاستعظمت عملين، وتمنت لو تنزل إلى الأرض وتعمل بهما: العدل بين الناس وسقي الماء)، فهذان العملان لا يعادلهما عمل؛ ولذا جاء في الأثر: (عدل ساعة خير من عبادة ستين عاماً)؛ لأن عدل الساعة الواحدة تحقيق للحق في الأرض.
قال: (تعدل بين اثنين)، والعدل بين الاثنين ليس مجرد إعطاء كل ذي حق حقه، بل تشمل العدل في الخطاب، والعدل في السماع، والعدل في التعامل، حتى في بشاشة الوجه، ذكر العلماء هذا في آداب القضاء، وذكروا: أنه يجب عليه حتى العدل في قسمات الوجه بين الخصمين، فيجب أن يساوي القاضي بينهما، فلا يبتسم لهذا، ويكشر لذاك: (تعدل بين اثنين صدقة).
شرح قوله: (تعين الرجل في دابته فتحمله عليها صدقة)
وباب الصدقة المعنوية باب واسع جداً: تحمل الرجل على دابته، تعينه عليها، تساعده على رفع الحمل عليها؛ كل ذلك من باب الصدقة، وجاء في الأثر: (تهدي الرجل الطريق، تساعد العيي في القول، تسمع الأصم، ترشد الضال، تهدي الزقاق -أي: الطريق-، وتهدي الورق؛ (كل ذلك صدقة)، وقالوا: القرض إلى زمن الأجل كل يوم للدائن فيه حسنة، وإذا جاء الأجل وأنظرته كأنك تتصدق عليه كل يوم بقدر دينك الذي عليه، فتكون الصدقة حسنة واحدة، والقرض حسنتان.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أمر بمعروف صدقة، نهي عن منكر صدقة، تميط الأذى عن الطريق صدقة... إلخ) ، وإن لم يستطع فأبواب الخير كثيرة، وفي الحديث: (ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)، وفي حديث آخر: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة)، وكل ذلك من باب الصدقة على نفسك وعلى أخيك، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر هنا أمهات أبواب الخير، فالعدل يشمل عدل الراعي إلى عامة الرعية، وتعاون الناس حتى على الدابة، جاء في الماعون: (لا تمنع ماعونك عن غيرك) وكما جاء في الحديث: (إذا لم أجد؟ قال: تعمل بقوتك فتتصدق) أي: تحمل بقوة زنديك متاع غيرك، وتسعى بعظمي ساقيك في إغاثة ملهوف استغاث بك، وكل ذلك ذكره صلى الله عليه وسلم.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة
والمجتمع إذا اختفى فيه المنكر، وتفشى فيه المعروف، كان مجتمعاً مثالياً؛ لأن النهي عن المنكر درء للمفاسد، والأمر بالمعروف جلب للمصالح، وإذا كان المجتمع متعاوناً على ذلك كان كالأسرة الواحدة، وأعتقد أن كبار السن الموجودين كان الواحد منهم إذا وجد ولد جاره على خطأ نهاه وضربه، فإذا ذهب الولد يبكي إلى أبيه ضربه أبوه وقال: هذا مثل أبيك، فتعاون المجتمع كله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو أن جاراً رأى امرأة جاره تخرج في الطريق لردها، وشكره جاره على ذلك، أما الآن إذا كلمت ابن جارك: قال لك أبوه: ليس لك دخل، ولو أنك تكلمت مع زوجة جارك في نهي عن منكر لاتهمت بكل ما لا يرضي.
وإليك مقارنة قرآنية بين أمتين في هذا الباب، يقول المولى سبحانه في أمم ماضية: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:78]، لماذا؟ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79]، كانوا لا يتناهون ولا يتناصحون أي: لا ينهى بعضهم بعضاً، حتى ظهرت المنكرات.
وانظر في المقابل في هذه الأمة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، ما هي مسوغات هذه الخيرية؟! وهل هي منحة بدون مقابل؟ وهل هي هبة من الله بدون شيء؟ لا، بل لها سبب، وكما يقول القضاة: حيثيات الحكم، فاستحقت الأمة الحكم لها بالخيرية بأمرها بالمعروف، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] سبحان الله! ما قال: أخرجت في الوجود، لا، بل قال: (أخرجت للناس) يعني: أخرجتم لغيركم، في أي شيء؟ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، فبسبب عدم تناهي بني إسرائيل كانت تلك النتيجة، وبسبب قيام هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت هذه الشهادة.
إذاً: خيرية الأمم وقوام المجتمعات والحفاظ عليها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومهما كان المعروف الذي أمرت به أو كان المنكر الذي نهيت عنه قليلاً ففضل الأمر والنهي موجود ولك الأجر، والدال على الخير له كأجر فاعله، فلو أمرت إنساناً بمعروف كان يجهله وعمل به وأخذه غيره عنه؛ فلك أجر ذلك إلى يوم القيامة، وإذا نهيت إنساناً عن منكر يفعله، وكف عنه؛ فلك أجر ذلك إلى يوم القيامة، وفضل الله كبير، ونعمه على العباد عظيمة، يجزل العطاء في أقل شيء. (وأمر بمعروف صدقة) أي: مطلق المعروف.
شرح قوله: (الكلمة الطيبة صدقة)
وليعلم الإخوة أن تعود اللسان على الكلمة الطيبة منحة من الله؛ ولهذا ينبغي على المسلم أن يعود لسانه اللفظ الطيب، ويتجنب اللفظ القبيح ولو كان حقاً؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوا الشيطان، واستعيذوا بالله من شره)، لماذا لا نلعنه وقد لعنه الله في كتابه؟
قالوا: لئلا يتعود اللسان على اللعن، فإذا كنت في كل وقت تلعن إبليس وتلعن الشيطان، فبعدها وقد تلعن والدك، وبعدها تلعن الناس وصار لسانك متعوداً على اللعن، فينبغي على العبد أن يعود لسانه على الكلمة الطيبة، وتجد بعض الناس عود نفسه على الكلمة الطيبة، فلا يقول كلمة تحتاج إلى اعتذار، والله سبحانه وتعالى ضرب المثل لكلمتين إحداهما طيبة والأخرى خبيثة، فقال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ [إبراهيم:24-25] ليس من السنة إلى السنة، أو موسم وموسم، كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم:25]، والخبيثة لا حول ولا قوة إلا بالله! نعوذ بالله منها! : اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:26].
يقول العوام: الكلمة الطيبة تبقى ويبقى أثرها، والكلمة السيئة يذهب بها الغضب، ويبقى أثرها في النفس.
إذاً: (الكلمة الطيبة صدقة)، والله سبحانه وتعالى بين لنا ذلك في الآية التي أشرنا إليها: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يدلنا عليها في معاملته مع الذين يأتون ويسألونه.
وتنبغي الكلمة الطيبة في تعامل الإنسان مع الآخرين، إن كان في مرتبة المسئولية أو المساواة والزمالة أو الأخوة أو بأي حالة من الحالات، فتعامل الناس بالكلمة الطيبة خير، يقول الناس: لو كان لإنسان عندك حاجة ولم تقضها له، وقابلته بكلمة طيبة رجع من عندك، وقد طيبت خاطره بالكلمة الطيبة، ولذا يقول الإمام علي رضي الله عنه: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن سعوهم بأخلاقكم).
إنسان جاء يطلب منك قرضة حسنة، فلم تعطه مخافة أن تعطيه فلا يردها عليك، وهذا -والله- هو شح النفس، وقد جاء عن ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد أنه قال: (جاء علينا زمان ما كان أحدنا يرى له فضلاً في درهمه على أخيه -يعني: كانوا يؤثرون غيرهم على أنفسهم- ونحن في زمان -هذا كلام ابن عمر ، في الصدر الأول، في خير القرون- الدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه).
فيا سبحان الله! ولا حول ولا قوة إلا بالله! إذا كان هذا في ذاك الزمن، فكيف حالنا الآن?!
لو جاءك إنسان يطلب منك قرضاً أو عارية وأنت في حاجة إليها، كأن يطلب منه آنية أو ماعوناً، أو جاء ليطلب منك دابتك أو سيارتك وأنت في حاجة إليها، فتقول: والله -يا فلان- أحب أن أعطيك إياه، ولكن أنا الآن بحاجته، أو أنا الآن أريد أذهب مشواراً، لكن بعد أن أرجع، فأنت منعته ولكن قابلته بكلمة طيبة.
وكما أشرنا: الصدقة بحسنة واحدة، والقرض بحسنتين؛ لأن الذي يتصدق يتصدق بغلبة ظنه على من يراه محتاجاً، وقد يتصدق عليه غيره، ولكن المقترض يأتي بدافع الحاجة المحققة، فأنت تسد حاجته، فإن أعطيته فالحمد لله، وإلا اعتذرت إليه بمعروف.
الكلمة الطيبة تكون بينك وبين ولدك، وزوجك، وجارك، وزميلك، وصديقك، وأي شخص لك معه علاقة فكلمه بكلمة طيبة، فتكون صدقة لك؛ لأنك طيبت خاطره بهذه الكلمة.
الخطى إلى الصلاة صدقة
إذاً: الخُطوة أو الخَطوة إلى المسجد فيها صدقة، وجاء في بعض الروايات: (فإذا أتى إلى المسجد، وصلى الفريضة كانت له نافلة، أو قام إلى الصلاة ولا ذنب له).
أيهما أفضل: البيت الذي يبعد عن المسجد، وتكثر الخطى في الإتيان إليه للبعد أو القريب من المسجد وتقل الخطى إليه؟
في كل خير، ومن العلماء من يقول: البعيد؛ لأن الأجر على قدر المشقة، ولكن هذه القاعدة يجب أن يتنبه إليها، فالأجر على قدر المشقة لا أن تحمل نفسك مشقة لتحصل على أجر.
بل الأجر على قدر المشقة في التكليف الذي كلفت به من الشارع لا منك أنت، كما قالوا: الفضيلة الذاتية خير من الفضيلة الإضافية، ففي الطواف بالبيت إن كنت تطوف محاذياً للبيت في محيط الدائرة فقد تكون الطوفة خمسمائة خطوة، وإن ابتعدت عن محاذاة البيت حوالى عشرة أمتار عن محيط الدائرة فستكون المسألة ضعف هذه الخطوات، فما هو الأفضل: أن تدنو من البيت مع قلة الخطى أو تبعد من البيت لكثرة الخطى؟
يقول النووي رحمه الله: الفضيلة الذاتية خير من الفضيلة الإضافية، فالطواف من خصائص البيت، فأيهما يكون ألصق من الطواف بالبيت: إذا اقتربت أم إذا ابتعدت؟ إذا اقتربت.
فذاتية الطواف ألصق بجدار الكعبة من كثرة الخطى.
إذاً: الاقتراب من الكعبة أفضل مع قلة الخطى، وكذلك صلاة الجماعة بالنسبة للفريضة، إن صليت في أي مسجد من مساجد البلد في جماعة حصل لك سبع وعشرون درجة، وإن كنت في المدينة، وجئت إلى المسجد النبوي، وفاتتك الجماعة وتصلي فرداً، (فصلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة فيما سواه) فإذا خرجت من بيتك من الحرة أو زقاق الطيار وقد أصبح الآن على حافة المسجد النبوي، فإذا جاء إنسان من أطراف المدينة يريد الصلاة في المسجد النبوي، ولكنه تعطل في الطريق، وكانت الجماعة في المسجد النبوي انتهت، ولكنه مر في طريقه بمسجد فيه جماعة: فهل يدخل ويصلي ويدرك الجماعة معهم أم يمشى إلى أن يأتي إلى المسجد النبوي؟ أيهما أحق وأولى: أن يؤديها جماعة ولو في مسجد في طرف البلد أم يترك الجماعة ويأتي ليحصل على فضيلة ألف صلاة في المسجد النبوي؟
هذه المسألة قامت فيها مشكلة وخصومة عند باب المسجد في الثمانينات، أشخاص يريدون الصلاة في المسجد النبوي ولو فاتتهم الجماعة، وآخرون يريدون الجماعة، وهم طلبة علم.
المهم: يؤكد النووي رحمه الله أن صلاتك الفريضة في مسجد مع الجماعة أفضل من أن تترك الجماعة وتأتي تصليها فرداً في المسجد النبوي، لماذا؟
يقول: كونك توقع الفريضة في جماعة أفضل؛ لأن الجماعة من اختصاص الصلاة، فهي فضيلة ذاتية، ولكن إذا جئت إلى المسجد النبوي فهل حصلت على (ألف صلاة) من أجل الصلاة أم من أجل المسجد؟
الجواب: من أجل المسجد، وفضيلة المسجد بالنسبة للصلاة ليست ذاتية ولكنها تبع (إضافية).
إذاً: قرب البيت من المسجد أو بعد فبكل خطوة لك حسنة: فهل ندنو ونقترب من المسجد أو نبعد من أجل أن تكثر الخطى؟
يتفقون على أن قرب البيت من المسجد من الفضائل؛ لأنه يعين الإنسان على أداء الجماعة، فإذا كان بطبيعة الوضع جاء من بعيد، وتحمل المجيء، فهذا أمر لم يتكلفه هو، وفي الصدر الأول أراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى جوار المسجد، وقد كانوا يسكنون عند مسجد القبلتين، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (دياركم تكتب آثاركم)، أي: (الزموا) اسم فعل الأمر (الزموا دياركم تكتب آثاركم) أي: مجيئكم، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبقى هؤلاء في أماكنهم حماية للمدينة؛ لأنه إذا أراد قوم أن يغيروا عليها وما وجدوا أحداً، فاجئوا الناس في المسجد، لكن حينما تكون كل قبيلة في منازلها حول المدينة فلا يمكن أن يفاجأ أهل المسجد بإغارة، فأمرهم أن يبقوا في أماكنهم لما لهم في ذلك من أجر لهم بكثرة الخطى، ولما في وجودهم من مصلحة.
إذاً: إذا أكرم الله العبد بدار قريبة من المسجد فهذه نعمة من الله، وأقرب بيت للمسجد كان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خوخة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وقد كانت موجودة في الأمام، فردوها إلى الوراء حينما توسع المسجد إلى الغرب،، وكنا نتمنى لو وضعت في محلها الأساسي إشارة لها، ولكنهم كلما وسعوا المسجد إلى الغرب نقلوا خوخة أبي بكر .
وكانت أبواب الخلفاء قريبة من المسجد، فــعمر كان في بيت حفصة وهو في قبلة المسجد، واشتري منها عند توسعة المسجد، وهكذا بيت عثمان كان في الجهة الشرقية، إذاً: القرب من المسجد فضيلة، والرسول صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع، وجاء إلى منى، ونزل في مسجد الخيف، خط للمهاجرين بالجهة الشرقية أو الغربية بجوار المسجد، وخط للأنصار من الجهة الثانية بجوار المسجد، وأمر كل القبائل أن تنزل من ورائهم.
يأتي مبحث آخر: صلاة المرء في بيته ليس فيها خطى تحسب له، فهناك حديث: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد). فهل قوله: (لا صلاة) بمعنى لا صحة أم لا فضيلة؟
الكلام في هذا كثير، وهل الجماعة شرط في صحة الصلاة أو شرط مستقل في كمالها؟ قال بعض العلماء: لو كان بيته قريباً من المسجد فليمش بخطى صغيرة صغيرة حتى يكثر الخطى! وهذا تكلف ليس له محل.
إذاً: (وبكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة)، وجاء في بعض الروايات: (تخطوها في ظلام الليل)؛ لأن المشي في الظلام ليس كالمشي في النور؛ ولذا صلاة العتمة وصلاة الفجر بين صلى الله عليه وسلم أنه لا يتخلف عنهما إلا منافق؛ لأنه لا يرى في مجيئه إلى المسجد، أما الظهر والعصر فإنه يشاهد، لكن العشاء والفجر إنما يأتي من يصلي لله.
إماطة الأذى عن الطريق صدقة
إذاً: نتمدح بالحضارة الغربية، وعندنا هذا الأصل من السنة النبوية، ونقول لأولئك الذين يلقون بفضلات بيوتهم في قارعة الطريق، ونقول لأولئك الذين يبنون العمارات ويرمون النفايات في قارعة الطريق، نقول لأولئك الذين يحفرون الحفر من بيارات وغيرها ولا يضعون حواجز ولا علامات عليها، نقول لكل من يلقي قذارة في طريق المسلمين: إنك خالفت سنة رسول الله، فخذ السنة.
ينبغي أن تكون البلدية أحرص ما تكون على تطبيق هذه السنة، والمناداة بتطبيقها لا بنظام كذا، ولا بقانون كذا، ولا بعرف كذا، بل نقول: هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكلمة (الأذى) لا حد لها، جاء في الحديث: (ترفع العظم عن الطريق)، وفي بعض الآثار أن الأذى حينما ترفعه يشكرك ويقول: حفظت الناس من أذاي، أو ترفع حجراً عن طريق المسلمين يشكر لك أنك جنبت الناس شره، وإذا جئت إلى كلام الفقهاء تجدهم يقولون: من ألقى أذى في الطريق وتسبب بذلك في جناية على إنسان أو حيوان فهو مسئول ويضمن، ويمثل الحنابلة، لذلك فيقولون: لو أنك سكبت الماء مع الصابون في الطريق فجاء بعير وانزلق فكسرت رجله فأنت ضامن، فالطريق ليس حقك وملكك لوحدك، بل الطريق لجميع المسلمين؛ ولذا نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على قارعة الطريق، وليس للنجاسة كما يظن البعض، ولكن لأنك تغتصب حق المسلمين، وتمنع من يريد أن يمشي، فالطريق جعلت للمشي لا للصلاة، فلا تحتكر شيئاً لعامة الناس لمصلحتك أنت، فلا يجوز لك أن تصلي على قارعة الطريق، واتفق العلماء على أن من حفر حفرة بيارة أو غيرها، ولم يجعل عندها نوراً أو شبكاً يمنع الإنسان من السقوط في ظلام الليل، ويمنع الأطفال من السقوط فيها، فسقط أحد الناس فتلف فصاحبها ضامن.
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان بضعاً وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى، ويستحب بعض العلماء حينما تميط الأذى عن الطريق أن تتلفظ بقولك: لا إله إلا الله؛ لتجمع بين طرفي شعب الإيمان، فأمطت الأذى وهو أدناه، وذكرت أعلاها: لا إله إلا الله، فتكون بذلك قد جمعت بين طرفي شعب الإيمان.
هذا الحديث جزئياته لا تنتهي، وطرق الخير كثير، وحينما قال الرجل: إذا لم أستطع ذلك، قال: (تكف شرك عن الناس فإنها صدقة)، صدقة عليك وصدقة عليهم، تريحهم من الأذى، وتريح ملائكتك من التسجيل عليك، فكف شرك عن الناس صدقة.
وبالله التوفيق.
استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر | 3524 استماع |
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] | 3212 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] | 3186 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون | 3135 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] | 3117 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر | 3068 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] | 3045 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] | 2995 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] | 2891 استماع |
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] | 2877 استماع |