شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس والعشرون [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبيه محمد الأمين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد ورد في دبر الصلوات أذكار عديدة لا يتعارض بعضها مع بعض، كما أن بعض الصلوات خصت بأذكار مختصة بها، فمما جاء في دبر كل صلاة: (من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من الجنة إلا الموت) .

وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (يا معاذ ! إني أحبك، فقال معاذ : والذي بعثك بالحق يا رسول الله! إني لأحبك، فقال صلى الله عليه وسلم: أوصيك أن تقول دبر كل صلاة: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) .

وجاء في خصوص المغرب والصبح: (اللهم أجرني من النار سبع مرات) ، وجاء في خصوص التسبيح والتحميد والتكبير المذكور هنا: (من قالها غفرت له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر).

فضل الذكر وبم يكون؟

وباب الأذكار -كما يقول النووي وغيره- باب واسع، والذي يهمنا في حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الفقراء إلى ما يدركوا به الأغنياء من ذكر الله، وفي هذا تنبيه لفضل الذكر والدعاء، وخاصة عقب الصلوات، وبعض العلماء قال: الذكر أعم العمومات في العبادة، بل إن الذكر عبادة جميع الكائنات من إنس وجن وملك وجماد ونبات وحيوان وطير: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، وهو عبادة غير مؤقتة، وجميع العبادات تكاد تكون مؤقتة: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، والصيام: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، والحج: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، والزكاة عند رأس الحول، أما الذكر فقد بيّن سبحانه صفة عباده المؤمنين: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191] ، وقال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم:17] .

وذكر الله سبحانه تارة يكون باللسان، وتارة يكون بالقلب، وهو التفكر في ملكوت السماوات والأرض، وإذا نظرنا إلى علاقة ذكر الله بآياته سبحانه نجد ما يلفت النظر في تلك الآية الكريمة: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ)، يقول علماء الأصول: إن خطاب الله للعباد ينقسم إلى قسمين: خطاب تكليف، وخطاب وضع، فخطاب التكليف هو الذي فيه أمر بفعل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43].. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183].. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97].. لا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32].. لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ [الإسراء:33].. كل هذه من باب خطاب التكليف أمراً أو نهياً.

أما خطاب الوضع: فهو بيان إما لشرط أو لسبب أو لزمن، لإيقاع ذلك الواجب الذي كلف به العباد، فمثلاً: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] متى نصوم؟ شَهْرُ رَمَضَانَ [البقرة:185]، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ [آل عمران:97] متى نحج؟ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:110] متى نقيمها؟ (( لدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ))[الإسراء:78]، وقوله تعالى: َأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، فكأن الصلاة ما أقيمت إلا لذكر الله، وكذلك قال في الحج بعد قضاء المناسك: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198].

التفكر في الكون من ذكر لله

العبادات كلها إنما وجدت لذكر الله، فنجد خطاب الوضع في تحديد أوقات الصلوات يربطنا بالقدرة الإلهية، ويربط العبد بربه في حياته، ورزقه، ومماته، وكل شئونه، وإذا نظرنا إلى هذه الآية الكريمة التي تثير النظر والتفكير والتذكر بآيات القدرة الباهرة، وعند كل آية تستخلص منك ذكراً لله: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)، والحال أن الصلاة تقام لذكر الله، ودلوك الشمس على التحقيق هو زوالها عن كبد السماء، (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) الغسق الظلام، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) الفجر: انفجار نور النهار من ظلام الليل، فهذه الحركة الكونية آية، تبدأ الشمس من مشرقها والظل في مغربها، فإذا استوت في كبد السماء زالت إلى المغرب، وهي تسير بسير لطيف لا يدركه البصر، وهذه آية من المولى سبحانه، فيتحول الظل من غرب إلى شرق، ولا تزال تأخذ في الدنو إلى مغيبها حتى تتضيف إلى الغروب فيعتريها الاصفرار والاحمرار، ثم تغيب جارّة معها ضوء النهار عن الكون ويعقبها غسق الليل، فتتغير حركة الكون من سعي وحياة إلى سكون وهدوء: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ:10-11]، ويتغير حال الكون من ضوء ساطع إلى ليل غاسق، من الذي أذهب الشمس؟ ومن الذي حركها؟ ومن الذي كسا هذا العالم كله بهذا الظلام؟ ومن الذي يعيدها مرة أخرى من المشرق؟ ومن الذي يجعل الضوء ينفجر من ظلام الليل، ويبدأ الضوء شيئاً فشيئاً حتى تشرق الشمس وينتشر الضوء فيعم العالم كله؟

هذا المسجد كم فيه من مئات اللمبات! وهل تغني عن الشمس؟! انظر إلى ضحى النهار في هذا المكان الذي أنت فيه، مع أن الشمس خارج المسجد، كم فيه من قوة الإضاءة! والعالم كله بجباله وبحاره وصحاريه ووديانه كلها يغمرها هذا الضوء، فإذا غربت الشمس انحسر هذا الضوء، وجاء مكانه الظلام، آيات، فهذا ذكر بالقلب وهذا ذكر باللسان، فإذا كنت في فلاة من الأرض، وكنت في وضح النهار ورأيت الشمس قد بدأت، ثم إذا بها تصل إلى منتصف السماء وأنت لا ترى حركتها، كعقرب الساعة في يدك يتحرك ويدور وأنت لا ترى حركته؛ لأنها حركة لطيفة تدق عن إدراك البصر، وهكذا الشمس فإذا بها في برهة ولحظة تتحول إلى جهة الغرب، ويتحول وضع النهار كله، فإذا رأيت هذه الآية استعجبت وأكبرت خالق هذا الكون! فإذا تأملتها وتابعت النظر معها، حتى إذا تضيفت للمغيب واختفى ذاك الضوء الأبيض الساطع، وتلون بقريب من الصفرة، ثم إذا بقرص الشمس يميل إلى الاحمرار، ثم إذا بها تغيب في الأفق، أنت بفكرك تسبح وتتساءل: من وراء هذه الحركة؟ وإذا كنت في استغراق الفكر في هذه الحالة تستيقظ على نداء المؤذن: الله أكبر.

يقول لي بعض الدعاة إلى الله: إنه كان يعرف شخصاً من كبار الشخصيات المسيحية، وكان متعصباً للمسيحية، وكان كاتباً وشاعراً أديباً، وفي ذات ليلة جلس في الشرفة يتابع النجوم، وينظر إليها نظرة أديب أو شاعر ذا خيال مجنح، فإذا به يستغرق في تلك النظرة ويسبح بفكره في هذا الكون، وبينما هو في عمق تفكيره انبثق ضوء الفجر، وإذا به يصحو ويفيق على كلمة المؤذن: الله أكبر، فينطقها مع المؤذن: الله أكبر الله أكبر، حتى أتى إلى الشهادتين فنطق: أشهد أن محمداً رسول الله، فظل يومه مبهوتاً ومدهوشاً، ثم جاء المساء وجلس في مكانه، ورأى الشمس تتضيف إلى المغيب، فأخذ يسبح ويتفكر في ماضٍ عجيب ومستقبل غريب، وبينما هو في هذا التفكير العميق يستيقظ على صوت المؤذن للمغرب: الله أكبر الله أكبر، فيتابعه في الأذان، وينزل حالاً إلى المسجد، ويعلن إسلامه!

الذكر غذاء للروح

قال الله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، حقاً إن ذكر الله هو غذاء العبد، وخاصة لطالب العلم، ويذكرون عن الإمام ابن تيمية رحمه الله: أنه كان يصلي الصبح ويجلس في مكانه يذكر الله حتى تشرق الشمس ويصلي ركعتين وينصرف، فقالوا له في ذلك مع علمه وبحثه واشتغاله فيقول: هذه الجلسة هي غذائي طول يومي! وكان أحمد رحمه الله يقول: عجبت لطالب علم لا ورد له في الليل! ويكفي قوله سبحانه: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [المزمل:5-7].

ثم إننا نجد أن الإسلام بتعاليمه ومنهجه ينظم ذكر الله عند المؤمن في كل حركاته، ويجعل حياته فعلاً تحت هذا المنهج الإلهي الكريم.

إذا نظرنا إلى ما كانت عليه الأمم الماضية؛ نجد أن اليهود قد غلبت عليهم المادة، وغفلوا عن ذكر الله حتى كانوا كما قال الله: قسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] ، ونجد النصارى قد اخترعوا رهبانية ابتدعوها، لكن لم يستطيعوا أن يحافظوا عليها، ولا أن يؤدوا واجبها؛ لأنها زادت عن حد طاقة الإنسان، فكل منهما فشل في طريقه، ثم جاء الإسلام فراعى ظروف الإنسان من مادة وروح، فتأتي في سورة الجمعة في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، والسعي إلى ذكر الله هو غذاء الروح، والبيع هو مادة الحياة في الكسب المادي، فأنت تعمل، فحينما ينادى للصلاة أجبت داعي الله، وجئت لذكر الله، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]، يبتغي من فضل الله، ولا يجلس بمسبحته في مكانه، ولا يجلس في وادٍ يذكر الله فقط، بل ينتشر في الأرض ليطلب ويبتغي من فضل الله بأسباب الرزق والمعيشة، ومع ذلك فهو يذكر الله بلسانه، وبقلبه، وبمعاملته، فإذا انتشروا في الأرض، ورجع الزارع إلى مزرعته، فحرث الأرض ووضع البذر، وقال: باسم الله اللهم! أنبتها وارزقني ثمرتها، وإذا رجع التاجر إلى متجره، وجاء يتعامل مع الناس، وأخذ الكيل والوزن تذكر قوله سبحانه: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين:1-2]، وهكذا إذا جاء بسلعة تذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) ، وإذا رجع إلى مصنعه تذكر كيف يتقن الصنعة ويتجنب الغش، وهكذا يكون ذاكراً لله بأقواله وأفعاله، ولا يمنعه الذكر أن يسعى في الأرض ويأكل من رزق الله.

الذكر وظيفة الكون

أيها الإخوة! ذكر الله وظيفة الكون كله، وقد ذكروا، عن سعيد بن المسيب : أنه كان يقوم الليل، وكثيراً ما يقرأ سورة ص، فقيل له في ذلك، فقال: روي (أن رجلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قام الليل، وقرأ سورة ص وسجد، وعنده شجرة فرآها تسجد بسجوده، وتقول: اللهم اجعلها لي عندك ذخراً، وأعطني بها أجراً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأقره على ذلك) ، والله يقول : وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:6] .

إذاً: الكون كله مسخر لذكر الله سبحانه وتعالى، وقد أشرنا إلى عموم الآية الكريمة: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وأشرنا إلى قضية الهدهد، وكيف أنه ذكر عن بلقيس وقومها أنهم يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل:24]، والحيوانات تؤمن بالبعث، كما ذكر مالك حديثاً في الموطأ في فضل يوم الجمعة: (فيها خلق آدم، وفيها سكن الجنة، وفيها أسجد الله له الملائكة، وفيها أهبط إلى الأرض، وفيها تاب الله عليه، وفيها ساعة لا يصادفها عبد مؤمن قائم يسأل الله حاجته إلا أعطاه إياها، وفيها تقوم الساعة، وما من دابة إلا وتصيخ بسمعها من فجر يوم الجمعة حتى مشرق الشمس فرقاً من الساعة) ، الدواب تؤمن بالله، وتدرك الحساب، وتؤمن بالبعث، وتعلم أن القيامة ستقوم يوم الجمعة، وتميّز بين الجمعة وبين الخميس والسبت، و(تصيخ بسمعها فرقاً من الساعة) أي: من النفخ في الصور لقيام الساعة.

والآيات والأحاديث في هذا الباب واسعة جداً، وأوصي كل طالب علم وكل مسلم أن يعتني بذكر الله؛ لأن ذكر الله سبحانه هو الذي يحيي موت القلوب: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] ، وأي سعادة للإنسان إلا بطمأنينة قلبه؟! والله! لو جمع له ملك العالم كله، وجمع له أضعاف ما كان لقارون من مال، وما كان لملوك الأرض من عز، وقلبه مضطرب وهو قلق، والله! لا قيمة له في هذا كله، وإذا كان يجد القوت الضروري والكساء العادي والمأوى في أي مأوى، وهو قرير العين، مطمئن النفس؛ لكان أسعد خلق الله، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] ، ويكفي في الصلاة أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن أنها غذاء فقال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة).

شمول الذكر لكل العبادات

إن الباب هذا باب واسع، وأوصي بالعناية بكتب الأذكار الواردة، التي هي مأمونة من الوضع أو مأمونة من الغلو، وأحسن ما وضع في ذلك كتاب الأذكار للإمام النووي ؛ فقد رتبه ونظمه، وجاء بالأذكار الواردة المؤقتة في الصباح والمساء وبعد الصلاة وعند لباس الثوب والنوم واليقظة وتناول الطعام وخلع الثياب.. وكل حركات الإنسان وردت السنة فيه بذكر الله والدعاء.

وهذا يشرح لنا معنى قوله سبحانه : قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:161-162]، محياي ومماتي لله، صحيح كل لله، وموقن على وفق منهج الله الذي يريده ويرتضيه، ولذا جاء في الحديث : (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)، إذا كان العبد مع الله، وإذا كان العبد حقاً أخلص نفسه لله، لم لا يجعله كذلك؟ وكم من عبد كان مستجاب الدعوة! الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي عمر بن الخطاب فيقول: (إذا رأيت أويساً القرني فاطلب منه أن يدعو لك، ويستغفر لك) ، من أويس ؟ رجل من اليمن، فكان عمر يتتبع الوفود اليمنية: أفيكم أويس؟ أفيكم أويس؟ حتى قيل له: نعم هو فينا، قال: ائتوني به، فجاء وكان قد أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته، وبأن له أماً كان باراً بها، فلما سأله عن أمه أخبره بها، وأن في رجله علامة كذا، فقال: استغفر الله لي، ادع لي! قال: كيف وأنت أمير المؤمنين؟! قال: لقد أخبرني رسول الله بكذا وكذا.

فلما سمع أويس هذا لم يغتر به، ولم يأته شيء في نفسه، بل قال: أستأذنك -يا أمير المؤمنين- أن أخرج إلى العراق، أي: ما دام قد عرف أمري، فيريد أن يبعد عنه هذا الجو الذي عُرف فيه، وكان شخصاً من عامة الناس، فقال: إذا أردت الذهاب فمرني أعطيك خطاباً لعامل العراق، قال: لا، فإني أحب أن أكون في عامة الناس!

فذهب إلى العراق وأخذ عمر يسأل عن حاله في العراق، وكلما جاءه وفد من العراق يسأل عنه، فإذا به كان خادماً عاملاً عند رجل من عامة الناس في الحجارة والطين، فإذا بالرجل يقول لـعمر: إني أعرفه، فقال: إذا استطعت أن يستغفر ويدعو الله لك فافعل، فذهب الرجل إلى أويس فطلب منه الدعاء، فقال: ألقيت عمر؟! قال: نعم لقيته، فإذا به من الغد يخرج من العراق.

أيها الإخوة! إن ذكر الله يعلي منزلة العبد بما لا يعلم قدر ذلك إلا الله، ويكفي أن الإنسان في حالة ذكره لله جليس وقرين، وما ذكرنا يكفي لهذا الباب، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لذكره كما قال الله: وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ [طه:130].

وباب الأذكار -كما يقول النووي وغيره- باب واسع، والذي يهمنا في حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الفقراء إلى ما يدركوا به الأغنياء من ذكر الله، وفي هذا تنبيه لفضل الذكر والدعاء، وخاصة عقب الصلوات، وبعض العلماء قال: الذكر أعم العمومات في العبادة، بل إن الذكر عبادة جميع الكائنات من إنس وجن وملك وجماد ونبات وحيوان وطير: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، وهو عبادة غير مؤقتة، وجميع العبادات تكاد تكون مؤقتة: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، والصيام: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، والحج: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، والزكاة عند رأس الحول، أما الذكر فقد بيّن سبحانه صفة عباده المؤمنين: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191] ، وقال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم:17] .

وذكر الله سبحانه تارة يكون باللسان، وتارة يكون بالقلب، وهو التفكر في ملكوت السماوات والأرض، وإذا نظرنا إلى علاقة ذكر الله بآياته سبحانه نجد ما يلفت النظر في تلك الآية الكريمة: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ)، يقول علماء الأصول: إن خطاب الله للعباد ينقسم إلى قسمين: خطاب تكليف، وخطاب وضع، فخطاب التكليف هو الذي فيه أمر بفعل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43].. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183].. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97].. لا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32].. لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ [الإسراء:33].. كل هذه من باب خطاب التكليف أمراً أو نهياً.

أما خطاب الوضع: فهو بيان إما لشرط أو لسبب أو لزمن، لإيقاع ذلك الواجب الذي كلف به العباد، فمثلاً: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] متى نصوم؟ شَهْرُ رَمَضَانَ [البقرة:185]، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ [آل عمران:97] متى نحج؟ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:110] متى نقيمها؟ (( لدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ))[الإسراء:78]، وقوله تعالى: َأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، فكأن الصلاة ما أقيمت إلا لذكر الله، وكذلك قال في الحج بعد قضاء المناسك: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198].

العبادات كلها إنما وجدت لذكر الله، فنجد خطاب الوضع في تحديد أوقات الصلوات يربطنا بالقدرة الإلهية، ويربط العبد بربه في حياته، ورزقه، ومماته، وكل شئونه، وإذا نظرنا إلى هذه الآية الكريمة التي تثير النظر والتفكير والتذكر بآيات القدرة الباهرة، وعند كل آية تستخلص منك ذكراً لله: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)، والحال أن الصلاة تقام لذكر الله، ودلوك الشمس على التحقيق هو زوالها عن كبد السماء، (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) الغسق الظلام، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) الفجر: انفجار نور النهار من ظلام الليل، فهذه الحركة الكونية آية، تبدأ الشمس من مشرقها والظل في مغربها، فإذا استوت في كبد السماء زالت إلى المغرب، وهي تسير بسير لطيف لا يدركه البصر، وهذه آية من المولى سبحانه، فيتحول الظل من غرب إلى شرق، ولا تزال تأخذ في الدنو إلى مغيبها حتى تتضيف إلى الغروب فيعتريها الاصفرار والاحمرار، ثم تغيب جارّة معها ضوء النهار عن الكون ويعقبها غسق الليل، فتتغير حركة الكون من سعي وحياة إلى سكون وهدوء: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ:10-11]، ويتغير حال الكون من ضوء ساطع إلى ليل غاسق، من الذي أذهب الشمس؟ ومن الذي حركها؟ ومن الذي كسا هذا العالم كله بهذا الظلام؟ ومن الذي يعيدها مرة أخرى من المشرق؟ ومن الذي يجعل الضوء ينفجر من ظلام الليل، ويبدأ الضوء شيئاً فشيئاً حتى تشرق الشمس وينتشر الضوء فيعم العالم كله؟

هذا المسجد كم فيه من مئات اللمبات! وهل تغني عن الشمس؟! انظر إلى ضحى النهار في هذا المكان الذي أنت فيه، مع أن الشمس خارج المسجد، كم فيه من قوة الإضاءة! والعالم كله بجباله وبحاره وصحاريه ووديانه كلها يغمرها هذا الضوء، فإذا غربت الشمس انحسر هذا الضوء، وجاء مكانه الظلام، آيات، فهذا ذكر بالقلب وهذا ذكر باللسان، فإذا كنت في فلاة من الأرض، وكنت في وضح النهار ورأيت الشمس قد بدأت، ثم إذا بها تصل إلى منتصف السماء وأنت لا ترى حركتها، كعقرب الساعة في يدك يتحرك ويدور وأنت لا ترى حركته؛ لأنها حركة لطيفة تدق عن إدراك البصر، وهكذا الشمس فإذا بها في برهة ولحظة تتحول إلى جهة الغرب، ويتحول وضع النهار كله، فإذا رأيت هذه الآية استعجبت وأكبرت خالق هذا الكون! فإذا تأملتها وتابعت النظر معها، حتى إذا تضيفت للمغيب واختفى ذاك الضوء الأبيض الساطع، وتلون بقريب من الصفرة، ثم إذا بقرص الشمس يميل إلى الاحمرار، ثم إذا بها تغيب في الأفق، أنت بفكرك تسبح وتتساءل: من وراء هذه الحركة؟ وإذا كنت في استغراق الفكر في هذه الحالة تستيقظ على نداء المؤذن: الله أكبر.

يقول لي بعض الدعاة إلى الله: إنه كان يعرف شخصاً من كبار الشخصيات المسيحية، وكان متعصباً للمسيحية، وكان كاتباً وشاعراً أديباً، وفي ذات ليلة جلس في الشرفة يتابع النجوم، وينظر إليها نظرة أديب أو شاعر ذا خيال مجنح، فإذا به يستغرق في تلك النظرة ويسبح بفكره في هذا الكون، وبينما هو في عمق تفكيره انبثق ضوء الفجر، وإذا به يصحو ويفيق على كلمة المؤذن: الله أكبر، فينطقها مع المؤذن: الله أكبر الله أكبر، حتى أتى إلى الشهادتين فنطق: أشهد أن محمداً رسول الله، فظل يومه مبهوتاً ومدهوشاً، ثم جاء المساء وجلس في مكانه، ورأى الشمس تتضيف إلى المغيب، فأخذ يسبح ويتفكر في ماضٍ عجيب ومستقبل غريب، وبينما هو في هذا التفكير العميق يستيقظ على صوت المؤذن للمغرب: الله أكبر الله أكبر، فيتابعه في الأذان، وينزل حالاً إلى المسجد، ويعلن إسلامه!

قال الله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، حقاً إن ذكر الله هو غذاء العبد، وخاصة لطالب العلم، ويذكرون عن الإمام ابن تيمية رحمه الله: أنه كان يصلي الصبح ويجلس في مكانه يذكر الله حتى تشرق الشمس ويصلي ركعتين وينصرف، فقالوا له في ذلك مع علمه وبحثه واشتغاله فيقول: هذه الجلسة هي غذائي طول يومي! وكان أحمد رحمه الله يقول: عجبت لطالب علم لا ورد له في الليل! ويكفي قوله سبحانه: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [المزمل:5-7].

ثم إننا نجد أن الإسلام بتعاليمه ومنهجه ينظم ذكر الله عند المؤمن في كل حركاته، ويجعل حياته فعلاً تحت هذا المنهج الإلهي الكريم.

إذا نظرنا إلى ما كانت عليه الأمم الماضية؛ نجد أن اليهود قد غلبت عليهم المادة، وغفلوا عن ذكر الله حتى كانوا كما قال الله: قسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] ، ونجد النصارى قد اخترعوا رهبانية ابتدعوها، لكن لم يستطيعوا أن يحافظوا عليها، ولا أن يؤدوا واجبها؛ لأنها زادت عن حد طاقة الإنسان، فكل منهما فشل في طريقه، ثم جاء الإسلام فراعى ظروف الإنسان من مادة وروح، فتأتي في سورة الجمعة في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، والسعي إلى ذكر الله هو غذاء الروح، والبيع هو مادة الحياة في الكسب المادي، فأنت تعمل، فحينما ينادى للصلاة أجبت داعي الله، وجئت لذكر الله، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]، يبتغي من فضل الله، ولا يجلس بمسبحته في مكانه، ولا يجلس في وادٍ يذكر الله فقط، بل ينتشر في الأرض ليطلب ويبتغي من فضل الله بأسباب الرزق والمعيشة، ومع ذلك فهو يذكر الله بلسانه، وبقلبه، وبمعاملته، فإذا انتشروا في الأرض، ورجع الزارع إلى مزرعته، فحرث الأرض ووضع البذر، وقال: باسم الله اللهم! أنبتها وارزقني ثمرتها، وإذا رجع التاجر إلى متجره، وجاء يتعامل مع الناس، وأخذ الكيل والوزن تذكر قوله سبحانه: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين:1-2]، وهكذا إذا جاء بسلعة تذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) ، وإذا رجع إلى مصنعه تذكر كيف يتقن الصنعة ويتجنب الغش، وهكذا يكون ذاكراً لله بأقواله وأفعاله، ولا يمنعه الذكر أن يسعى في الأرض ويأكل من رزق الله.